Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

في ذلك اليوم عندما كانت «ثنوة» في الطريق راجعة من مدرستها التي لم تكن تبتعد كثيرًا عن بيت أهلها المتواضع، وعلى الرغم من أنه كان منزلًا ضيقًا فقد كانت تشعر فيه مع أهلها بالسعادة، شأنهم شأن معظم الأسر العراقية التي هاجرت قديمًا من بعض المحافظات إلى العاصمة بغداد من أجل البحث عن فرصة حياة أفضل.
وكان أبوها يذهب إلى عمله في كل صباح، وكانت أمها ربة منزل، ولم يكن دخل أبيها يكفيهم حتى آخر الشهر، وحتى منزلهم كان أبوها يدفع إيجاره في نهاية كل شهر.
وكان مما أنعم الله به على «ثنوة» أنها كانت تدرس في مدرسة مجانية، ترتدي زيَّها الرسمي، وتذهب إليها لتجلس مع صديقاتها في الصف الخامس الابتدائي.
وكانت صديقتها بشرى هي الأقرب إلى قلبها، ربما لأنها من أسرة فقيرة مثلها وكانت تعاني من مرض السكريّ، ولأنها كانت من الديانة المسيحية فقد كانت ثنوة تناديها مريم!
وكانت تستنكر عليها مناداتها بغير اسمها وتقول لها: لست مريم؛ أنا بشرى.
فتردُّ عليها: لأنك تشبهين مريم العذراء.
ثم تضحكان معًا وينتهي الأمر.
وكانت بشرى بسبب السكري الذي ينهش جسدها يُغشى عليها وتسقط أحيانًا في الأرض، بسبب فقر ذويها وعدم قدرتهم على شراء علاجها.
ولهذا كانت ثنوة تبادر بجمع بعض المال من مصروفها المدرسي لتتداركها قبل أن تموت، فهي صديقتها العزيزة التي لم تكن تستغني عنها.
كان الفصلُ الدراسي الذي تدرس فيه ثنوة متواضعًا جدًّا، يحتوي على بعض الطاولات والكراسي المهترئة، ولوحة معلقة قديمة قد تحوَّل لونها من السواد إلى البياض من كثرة استخدام الطباشير عليها.
حتى إن بلاط دورات المياه في المدرسة تغيَّر لونه بسبب أنه قديم جدًّا، ولذلك كانت ثنوة تعاني عندما تريد قضاء حاجتها، مما أصابها ببعض الآلام في أسفل البطن والتهاب في المسالك البولية، وعالجتها أمها بعصير البقدونس.
ولم تكن أمها توقظها للمدرسة عكس كثير من طلاب وطالبات المرحلة الابتدائية، ومع أنها لم يكن لديها منبه يوقظها فإنها على الرغم من ذلك كله كانت تستيقظ وتذهب إلى المدرسة في كل صباح.
وكان في منزلها هاتف قديم، ولكن أهلها كانوا يخشون الفواتير العالية، ولذلك كانت أمها تنبهها دائمًا بقلة استخدامه، وكانت تذكرها بتلك المدة التي لم يستطع فيها أبوها سداد الفواتير، مما جعل الدولة تقطع عنهم الخدمة لثلاثة شهور قبل أن تعود لاحقًا بعد السداد.
كانت لديها مُدرِّسة للغة العربية تحبها كثيرًا لتميُّزها في إلقاء الشعر والخطابة، لذلك كان المسؤولون في المدرسة غالبًا يختارونها في يوم الخميس لتقديم النشاطات المدرسية.
ولفقر أهلها لم تكن توجد سيارة تقلها نحو المدرسة، فكانت تذهب إليها ومنها راجلة.

وفي أحد أيام الربيع وفي أثناء عودتها من المدرسة، صادفت شابًّا يقف عند باب دار أهله مرتديًا الكوفية والدشداشة، وبالصدفة تعثرت قليلًا أمامه وسقطت حقيبتها وتبعثرت كتبها على الأرض، ليهرع مسرعًا لمساعدتها قائلًا وعلى وجهه ابتسامة هادئة:
- اسم الله عليج.
ارتبكت حينها قليلًا وظلَّت صامتة تنظر إليه، ليتابع قائلًا:
- هل أنتِ بنت جارنا؟
كانت حينها في عمق حيرتها لأن أمها كانت توصيها دائمًا ألا تتحدث مع أي شاب في الطريق، وكان قانونهم المنزليُّ يمنع ذلك ويضعه في قائمة المحاذير الخطيرة، وعلى الرغم من ذلك كله فقد أجابته بخجل:
- نعم، بيتنا هو المنزل الثالث بجواركم.
فعلَّق قائلًا:
- ولكنني لم أرَكم من قبل!
فنهضت ولملمت حقيبتها مسرعة ومشت كأن شيئًا لم يكن، ومن شدة انهماكها في التفكير في المشهد، وجدت نفسها أمام باب منزلها، ذلك الباب القديم الذي ولت صبغته من أثر السنين.

كان منزلهم صغيرًا جدًّا، يحتوي على غرفة معيشة صغيرة لا تتجاوز اثْنَيْ عَشَرَ مترًا، فيها أثاث قديم مهترئ قد اشتراه أبوها عند زواجه من أمها من (سوق الهرج).
وكانت هي وإخوتها يسكنون وينامون في غرفة واحدة مشتركة بينهم، ولكن كانت الأسِرَّة منفصلة، ولذلك كانت ثنوة تشعر بالحرج عند تغيير ملابسها.
وعلى الرغم من صعوبة العيش فإنهم كانوا سعداء جدًّا ومتعاونين حقًّا، إذ كان أخوها يجلب لها من مصروفه المدرسي القليلِ بعضَ الأشياء مثل: (علك بوبي، جبس باز، وببيبسي في قنينة زجاج صنع في العراق) وكانوا يسمونها في العراق (النمنمات).
وكانت أمها سيدة نشيطة، إذ كانت لديها ماكِينة قديمة لخياطة الملابس، ومن نشاطها كانت تخيط لهم الملابس جميعها، حتى جعلتهم ليسوا بحاجة إلى شراء الملابس الجاهزة في كل وقت بما في ذلك وقت الأعياد.
كانت ثنوة تجمع من مصروفها المدرسي كي تشتري هدية عيد ميلاد الأم لأمها، التي كانت تحضنها وتضمها إلى قلبها الطيب، وكما قال شكسبير: «لا توجد وسادة أنعم من حضن أمي».
ومجددًا عند ذهابها إلى المدرسة في اليوم التالي، كان ابن جيرانهم واقفًا عند باب دار أهله، كانت ثنوة تمشي ولا تنظر إليه، ولكنها عندما اقتربت من مكان وقوفه، قال لها وبصوتٍ غير مرتفع:
- اسمي السراي.

لم تتوقف، واصلت طريقها ولكن حاصرتها الأسئلة عن سبب ذكره اسمه، وكان صوته يتردد في مسامعها إلى درجةٍ أفقدتها التركيز مع شرح المدرسات، بل حتى صديقتها بشرى انتبهت لها ولاحظت شرودها، فردت عليها ثنوة بأنها طبيعية وبأن الأمر لا يستحق القلق.
استمر صوت الشاب يتردد في مسامعها حتى في أثناء عودتها من المدرسة إلى المنزل، وحتى منظره سكن في ذهنها ووجدانها مما جعلها تعيش يومًا غريبًا لم تَشْتَهِ فيه الطعام، وسقط قدح الماء من يديها! لتنتبه أمها التي احتوت الأمر بحنانها الكبير، وقالت لها بلطف:
- إن الأمر لا يستحق ذلك كله، والمهم ألا تؤذي بقايا الزجاج من هم في المنزل.
وفي أثناء جمع ثنوة للزجاج جرحت إحدى القطع يدَها، لتضمده لها أمها، وكانت حائرة كيف ستكتب دروسها في اليوم التالي، إلا أنها قالت في نفسها: «صديقتي بشرى ستقوم بذلك».
وفي صباح اليوم التالي نهضت من نومها متأخرة، ثم أسرعت وغيرت ملابسها وحملت حقيبتها، ولم تتناول طعام الإفطار، وذهبت مهرولة إلى المدرسة التي وصلت إليها متأخرة، وعند الباب سألتها المعلمة عن أسباب التأخير وعن إصابة يديها، فبررت لها ذلك.
وعندما وصلت إلى الفصل نظرت إليها بشرى باستغراب:
- ماذا بك؟
فقالت لها:
- جرح بسيط، وأنت يا بشرى ستكتبين لي.
فردت عليها بشرى بالقبول.
وفي نهاية اليوم الدراسي، خرجت مع صديقتها بشرى من الصف كآخر اثنتين تغادران المدرسة، وعند بابها ألقتا السلام على حارسها، ثم ترافقتا معًا لأن بشرى كانت تسكن في الشارع الخلفي لمنزل ثنوة، فكانتا تمشيان وتتحدثان وتضحكان حتى نقطة الافتراق فتودع كل واحدة الأخرى، ثم تمضي إلى منزلها.
وعندما اقتربت ثنوة من منزل الشاب «السراي» التفتت بغير إرادتها، وإذا به يقف في المكان نفسه عند باب منزله، كأنه ينتظرها، وقال لها:
- لا تنْسَي، أنا فلان وسوف أحضر أمي إلى منزلكم، ولكن متى؟
مكررًا اسمه:
- أنا «سلمان مجيد فارس السراي»، لا تنسي اسمي.
ابتسمت ثنوة دون أن تركز في ملامحه، وهرعت راكضة نحو منزلها، كأنها ستطير من الفرح، لقد انتابتها مشاعرُ مختلطة لم تجد لها تفسيرًا، كانت مبتهجة كأن أمها ولدتها في تلك اللحظة، وضعت يديها على قلبها الذي شعرت بأن دقاته قد تحولت إلى طبول من الفرح والأمل.
وفي خضم هذه المشاعر الجياشة، دخلتْ إلى منزلها مسرعة فوجدت والدها جالسًا في وقتٍ ليس من عادته الوجود فيه، فسلمت عليه وقبلت يده فوضع يده على رأسها بلطفٍ أبويٍّ جميل.
ثم دخلت إلى المطبخ وقبلت رأس والدتها التي قالت لها:
- أراكِ سعيدة اليوم.
فردَّت عليها بأن سبب فرحتها حصولها على درجات ممتازة في مادة الإنكليزية التي طالما عانت فيها كثيرًا، فوعدتها أمها بهدية تليق بهذا النجاح، وكانت هدية فورية، إذ ذهبت وجاءت بعلبة مغلقة وفتحتها، وكانت المفاجأة أنها تحتوي على خاتمٍ جميلٍ ثم قالت لها:
- هو هبة لك.
وبينت أنها قد ادخرت بعض المال منذ زمن، واشترت الخاتم الذي كانت تنوي ادخاره لها حتى موعد زواجها.
توارت خجلا فبادرتها أمها بسؤال:
- أقرأ في وجهك كلامًا يستحق أن يقال.
فردت عليها ثنوة:
- نعم صحيح، ولكن متى سنتحدث؟
فقالت الأم:
- فورًا، الآن!
فارتبكت حينها قليلًا ثم قالت لها:
- هل تعرفين بيت أبي سلمان الجار رقم ثلاثة لنا؟
فقالت لها:
- ولماذا يا بنيتي؟
فأجابتها:
- لأن لديهم ابنًا يريد أن يتقدم لخطبتي.
استغربت أمها وقالت:
- وكيف عرفتِ ذلك؟
ردت عليها:
- ابنهم قال هذا.
حينها تغيرت ألوان وجه أمها وهي تتساءل عن كيفية ذلك، ثم قاطعتها -وهي تبرر عدم معرفتها بالشاب، وأنها رأته صدفة- وقالت لها بأنها ستتحدث لاحقًا معها في الموضوع بعد أن تتناقش فيه مع زوجها.
وعلى الرغم من أن ثنوة شعرت حينها بالخوف، فقد كانت تعي أن من حقها الطبيعي أن تختار الشخص المناسب لمستقبلها، وحينها هدَّأت أمها من خوفها، ووضعت طعام الغداء الذي كان عبارة عن وجبة (الدولمة)، واجتمعت الأسرة كلها على تلك الوجبة في يوم الخميس بكل حب ووئام.
اقترح أبوها أن يذهبوا إلى زيارة الإمام علي بن أبي طالب في النجف الأشرف، ثم زيارة ولديه الحسين والعباس في كربلاء، وحينها التفتت إليه الأم طالبة منه الاستشارة في موضوع الخطوبة.
وحينما همَّ بالحديث معها لم تكمل ثنوة تناول طعام الغداء وغادرت مسرعة إلى غرفتها خوفًا من الإحراج، وجلست تسترق السمع لتعرف رأي أبيها في الموضوع.
كان أبوها يصغي بتركيز في حين كانت أمها حائرة من أين تبدأ!
كان أبوها إنسانًا طيبًا وحنونًا، متوسط العمر، يرتدي الكوفية ذات اللون الأسود والأبيض، والعقال السميك، وأصله طيب، تمتد جذور نسبه من جنوب العراق.
قطع حينها أبوها حيرة أمها وترددها في الحديث طالبًا منها البدء في الموضوع، فقالت له:
- هل تعرف بيت حجي مجيد وابنهم سلمان؟
فأجاب:
- نعم، ونِعم الجار، ولكن ما بهم؟
فردت عليه:
- يريدون خطبة البنت «ثنوة» لابنهم «سلمان»، وأرسلوا خبرًا بذلك، ويريدون تحديد موعد يأتون فيه للخطوبة.
صمت حينها أبوها للحظة ثم قال:
- دعيني أسأل أكثر عنهم من بعض الأشخاص الذين يعرفونهم أكثر.
باركت أمها رأيه قائلة:
- هذه مهمتك، ولأنها هي ابنتنا الوحيدة يجب أن نتأكد من أخلاق هذا الشاب.
رد عليها بأنه سيبلغها بموعد الخطوبة من عدمه فور أن ينتهي من الاستفسار عن سلمان وعائلته.
كانت ثنوة تستمع إلى حوارهما بتلهف، وكانت دقات قلبها تتابع بسرعةٍ عاليةٍ، فلم تدرك أنها أحبَّت ذلك الشاب من نظرة! واقتنعت بأن نصيبها لن يتجاوز ابن جيرانها الذي تعلقت به.
شرع أبوها في مرحلة السؤال عن سلمان وعائلته، إذ كان يسأل جيرانه ومعارفه وحتى أصدقاءه، وكلهم أجمعوا على أنه شاب طيب، ملتزم، يحترم الآخرين، و«كافي خيره شره» كما يقال باللهجة الدارجة العراقية. ولقد حفزت تلك النتائج الإيجابية أباها لمصاهرة سلمان، الذي كان يكسب الحلال من سيارته الأجرة.
وكان أبوها -على الرغم من وضعه المادي الصعب- يقول لأبنائه:
- الفلس الحلال أفضل من مليون دينار من السحت الحرام.
وبعد أن حدد أبوها موعد الزيارة، كانت ثنوة في نهاية المرحلة الثانوية عندما جاءت أم سلمان وأخته لزيارتهم.

ولقد رحبت أمها كثيرًا بهما، وبعد حديث أخوي ممتع قالت أم سلمان:
- نحن نطلب يد ابنتكم ثنوة لابني سلمان.
ابتسمت أمها وقالت:
- لنا الشرف، فأنتم جيران السرور، ولم نسمع عنكم إلا الخير.
وبينت لها موافقتهم بشرط أخذ رأي ثنوة الأخير والمعتمد في ذلك.
ردت عليها أم سلمان وقالت:
- لكم الحرية في ذلك، وهذا ما يأمر به الدين.
كان حينها سلمان عند الباب ينتظر الأخبار على نار، وحينما جاءت أمه إليه سألها بلهفة:
- ها يمه وافقوا لو لا؟

فردت أمه:
- لحضة يا بني خلينا نجر نفس.
فقال لها:
- بشري يا أمي، أشوف بوجهج ريحة مذمة.
فقالت له:
- لا يا وليدي، الأهل ما عدهم رفض، لكنهم طلبوا بعض الوقت يأخذون فيه رأي الفتاة.
كان سلمان واقفًا، فجلس وأخذ نفسًا عميقًا وقال:
- إي هسا ارتَحِت.
علقت أخته قائلة:
- راح توافق عيني وين تلكا مثل ها الْشبشوب.
ضحك حينها سلمان فرحًا وبهجة، نزع كوفيته من رأسه وأخذ يرقص ويغني بعض الأغاني العراقية:
«جبناها وجت ويانا وبثوب العرس فرحانة»
ثم قبَّل رأس أمه ودعا لها برؤية أحفادها، وقال:
- بهذه المناسبة اليوم غداؤكم عليا، حاجيب لكم كباب من قدوري أبو الكباب، شتقولون؟
ردت عليه أمه وأبوه وأخته:
- ضم فليساتك يفيدنك، فأنت مقبل على زواج، والزواج يريد مصاريف، وعليك الادخار لكي نعمل لك حفلًا يليق بك.


اتصل حينها سلمان بصديقه حسن مقدمًا له دعوة على الشاي، فقال له حسن:
- أشعر بأن لديك كلامًا تريد أن تقوله لي.
فقال له سلمان: نعم.. عندما نلتقي.
وفي عصر اليوم التالي، التقيا في منزل سلمان بالأحضان، وجلسا في حديقة المنزل الصغيرة، وطلب من أخته سعاد إعداد الشاي لهما، ولم يكن حسن يعلم أن سلمان له أخت شابة، على الرغم من أنه كثير التردد عليهم في المنزل.
كان حسن أقرب إنسان إلى قلب سلمان، فهو صديق عمره منذ الطفولة، ويتذكر سلمان له موقفًا مشرِّفًا، وذلك عندما نزع سُترته في شتاء قارس وألبسها لسلمان في مرحلة الطفولة، ولقد شكَّل هذا التصرف موقفًا نبيلًا لم ينسَه له.
كانت سعاد تسمع دائمًا حديث أخيها عن صديقه حسن، ولذلك أعجبت بسلوكه رغم أنها لم ترَه قط، فهم أسرة ملتزمة بعاداتها وتقاليدها وهي كانت فتاة خجول ومحترمة.
ولقد تحدث سلمان وحسن كثيرًا، وقضيا معًا لحظات ممتعة، قبل أن يطلب سلمان من حسن الوقوف معه، ومن شدة إصغاء حسن إلى حديث سلمان لم يسمعا سعاد حينما كررت عدة مرات:
- الشاي يا جماعة!
وحينها قال له حسن:
- أنا جاهز لمساعدتك، ومن يدك اليمين إلى يدك اليسار، أؤمرني.
فبيَّن له سلمان بأنه مُقدِم على مشروع زواج، وأنه يريد منه أنه يحمله في الزفة مع زوجته إلى الإمام الكاظم لكي يتباركا به، ثم يذهب بهما إلى منتجع (الحبانية) لقضاء شهر العسل.
فرح حسن كثيرًا له، بارك له خطواته وبشَّره بالخير.
ليقدم سلمان الضيافة من عند أخته سعاد، والتي كانت تتضمن (قطع الكعك أو الكليجة العراقية التي عملتها بالتمر البرحي ولوز عين الجمل).
وفي أثناء تناولهما وجبة الضيافة، طلب سلمان أيضًا من حسن قرضًا حسنًا، وافق عليه حسن فورًا، فعلَّق سلمان قائلًا:
- ما تقصر وياي، دائمًا ما عندي غيرك سنايدي بالشدات، أخوي حزام ظهري.
شعر حينها حسن بالزهو والفخر، وواصلا الحديث مستذكرين ذكرياتهما الجميلة مع صديقهما أحمد طيب النفس والروح الذي كان يحب المزاح كثيرًا، إذ كانوا يلتقون في كل يوم خميس في ساحل أبو نواس، ويأكلون وجبة (السمك المسكوف) المشوي على الطريقة العراقية، كانوا يشترونه طازجًا من عند الصياد العم «أبو عباس» على ضفاف نهر دجلة ويشويه لهم.
ولكنهما كانا يتذكران هذه الذكريات بمرارة، لأن صديقهما أحمد استشهد في حرب العراق مع إيران في نهاية عام 1988 قبل نهاية الحرب بثلاثة أشهر، إذ كان جنديًّا مكلفًا بنداء الوطن، ولم يتجاوز عمره ثمانية عشر ربيعًا عليه رحمة الله.

كان حينها سلمان قد ترك الدراسة، واتجه إلى كسب لقمة العيش مساعدة منه لأهله.
وبعد صمت لبرهة من الزمن، طلب سلمان من حسن إخباره بمشاريعه المستقبلية، فردَّ عليه حسن بأنه يريد جلب (إطارات) قديمة من السليمانية مستعملة ويبيعها في سوق بغداد، ثم اتفقا على الشراكة فيما بينهما.
وبعد مغادرة حسن ذهب سلمان إلى أمه فوجدها تجلس على الأريكة التي اعتادت الجلوس عليها، فجلس بجانبها وأخبرها عن نيته في مشاركة صديقه حسن، طالبًا رأيها، فباركت له ذلك وأخبرته بأن لديها بعض القطع الذهبية التي ورثتها عن أبيها، ستبيعها وتهدي له المال بمناسبة زواجه.
استلقى سلمان على فراشه ولكنه لم يستطع النوم، لأنه يفكر في حبيبته ثنوة، وكلما أغمض عينيه تلوح صورتها أمامه، مما اضطره إلى الذهاب إلى المطبخ لكي يشرب كأسًا من اللبن التي ساعدته أن ينام نومة عميقة.

وفي أثناء نومه، حلم بطيرٍ أبيضَ جميلٍ، وظهرت ثنوة أمامه ترتدي بدلتها البيضاء، وإذا بهذا الطير يتحول إلى طفلٍ ذكرٍ جميلٍ يشع نورًا، حتى إن المكان أصبح مُشعًّا بالنور، فقالت له ثنوة:
- هذا صفاء.
أخذه وقبَّله ثم أعطاه إليها، وأدار ظهره لهما ومشى بعيدًا.

كان حينها في أثناء الحلم قد نام نومًا عميقًا، حتى إن صوت شخيره سمعته أخته عندما نهضت في منتصف الليل إلى غايتها!
أفاق من نومه العميق وإذا به في حلم، فصلى صلاة الفجر، وعاد مجددًا إلى نومه، ثم نهض لكي يذهب إلى عمله، وتذكر الحلم الجميل.

نهضت سعاد إلى عملها فهي تعمل مدرسة في المرحلة الابتدائية، وقالت له: لقد كان صوت شخيرك عاليًا، ما السبب؟
فقال لها سلمان:
- أضغاث أحلام.
شرب قهوته التي اعتاد أن يشربها في كل صباح، وأخذ ثلاث حبات من التمر من شجرة النخل التي زرعها أبوه منذ زمن بعيد عندما كان صغيرًا، إذ تخزن أمه ذلك التمر بطريقتها الخاصة وبخبرتها الواسعة، كونها من أهل جنوب العراق الذين تمتاز منطقتهم بزراعة النخل، شأنهم شأن أكثر البيوت العراقية التي يوجد النخيل في أفنيتها الخضراء، وتزرع أصناف كثيرة من التمر في مدينة البصرة بصفة خاصة والعراق بصفة عامة، يعتمد على تصدير التمر كمصدر اقتصادي كبير.
وكانت أمه تستفيد من التمر في استخراج الدبس والخل، وتلك العائلات لا تشتري التمر طوال العام، لأنها تزرعه وتخزنه عندها.
ولقد اعتاد سلمان أن يتناول التمر مع القهوة بصورة سريعة، ثم يأخذ أخته سعاد معه إلى مدرستها، وكان من عادة سعاد أنها تأخذ معها طعامها في علبة وتتناوله في المدرسة.
كان سلمان يمزج في عمله بين قيادة سيارة أجرة، وبين محله الصغير الذي كان يبيع فيه الأدوات الصحية، وكان سبب اتجاهه إلى التجارة يكمن في عدم حصوله على الشهادة الجامعية، وعدم توفيقه في الحصول على وظيفة.

وبعد ثلاثة أيام في يوم الإثنين اتصلت أم ثنوة، وأجابتها أخته سعاد التي رحبت بها كثيرًا، قبل أن تتحدث مع أم سلمان، وعند بدء الحديث دخل سلمان إلى المنزل ليسمع أمه تقول:
- مبارك لنا نحن الاثنان، ومتى نأتي لزيارتكم؟
لتقول لها:
- يوم الخميس القادم.
انتهت المكالمة، نظر سلمان إلى أمه ليجدها مبتسمة، وقد بشرته بردِّ أهل ثنوة الإيجابي وموافقتهم عليه، كاد حينها سلمان أن يطير من الفرح.
وفي عصر ذلك اليوم أخذ أمه وأخته لاختيار هدية العروسة من محل صائغ الذهب في سوق الكاظم، ولقد عرف صاحب المحل بخبرته أنهم قادمون لشراء هدية للعروسة، فبارك لهم وقال:
- شايفين الخير.
أكد سلمان لأمه بأنه لا يعرف ما تحبه النساء، طالبًا منها الاختيار، وقد اختارت له خاتمًا مكتوب عليه سلمان وثنوة وتاريخ الخطوبة، إضافة إلى سوار من ذهب مُطعَّم بالأحجار الكريمة، ووضعت الهدية في عُلبة جميلة.
كان حينها سلمان يشعر بسعادة غامرة، وكان جسمه نحيلًا، وشعره أسود كثيف، وله شارب، ويمتلك نبرات صوت عالية.
وعندما عادوا إلى المنزل كان أبوه كعادته جالسًا على الأريكة يشاهد الأخبار في التلفاز، وقال لسلمان: لقد اعتاد الشعب هذه المأساة منذ الاحتلال الفارسي للعراق، فلا جديد!
وتابع قائلًا:
- العراق بلد الثورات ولا يصبر على الضيم، فالأجداد في ثورة العشرين قد أعطوا الاحتلال الإنكليزي درسًا لا ينساه.
فردَّ عليه سلمان:
- ولكنني الآن بصدد مشروع إتمام الزواج.
فقال له أبوه:
- لا عليك.
ثم فتح عُلبة فيها بعض المال، وقال له:
- قد بلغت أمك بأن لديَّ بعض المال كنت قد ادخرته لليوم الأسود، ولكن جاءنا الآن اليوم الأبيض.
ثم وهبه المال ليكمل به تجهيزات زواجه.
شكره سلمان كثيرًا وقبَّل يديه ورأسه قبل أن يقول له أبوه مبشرًا:
- شايف الخير وتستاهلها.
وعندما ذهب سلمان لكي يرتاح قليلًا، استلقى على سريره ليتذكر وجه خطيبته مبتسمًا، ثم جلس ليكتب تكاليف الزواج التقديرية في دفتر، وقرر أن يعمل بدل الثماني ساعات المتواصلة اثنتي عشرة ساعة كي يغطي نفقات الزواج.
فركَت شمس الصباح عينيه، وصاح الديك الذي اشتراه هو وبعض الدجاجات لأمه ذات يوم، وأصبحت تعتني بهن، وتجني بيضهن في الوقت المناسب.
فنهض مسرعًا، وغيَّر بملابسه ملابسَ خاصة بالعمل، وركب سيارته المتواضعة، وذهب باحثًا عن الرزق كما يقول أهل العراق: «رايح على باب الله».
وفي طريقه لاحظ امرأة مسنة في نهاية السبعين من عمرها تلوح بيدها، وقف لها وصعدت في السيارة، لقد تركت السنون على وجهها آثارًا لم يمحُها الزمن، وبصوتها المرتجف قالت:
- أريد دائرة التقاعد يا بُني.
ثم تحدثت بتذمر، وبيَّنت أن مرتبها لا يكفي لشراء طبق بيض، فقال لها مستغربًا:
- لماذا؟
فنظرت إلى الأعلى، وقالت:
- ربما يساعنا الله ذات يوم على تحمُّل هذه الأعباء كلها.
وأوضحت أنها مدرسة متقاعدة، وزوجها عسكري متوفى، مؤكدة أن رواتب التقاعد لا تفي لحياة كريمة، حتى بيتها باعته لتغطي تكاليف نفقاتها رغم أنها وحدها، إذ لم يرزقها الله الذرية.
فعرض عليها سلمان خدماته، وقال لها:
- كلنا أبناؤك يا أمي.
ومنحها رقم هاتفه لتتصل عليه في أي وقت، وعلى الرغم من أنه أصرَّ على منحها المشوار مجانًا، فقد رمت المال على الكرسي الخلفي من السيارة، وذهبت بخطواتها البطيئة جدًّا.
كان يتأملها سلمان ليرى كيف ستصعد سلم تلك الدائرة القديم المُتعِب، إذ لم تكن الدوائر الحكومية والخاصة مزودة بطرق خاصة بكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى أنها كانت أبنية قديمة جدًّا.
وبعد أن غادر المكان بمسافةٍ قصيرةٍ، ركب معه رجل وامرأة قاصدَين الذهاب إلى مدرسة العقيدة للبنات، حاملين معهما بعض الأوراق، وتحدث الرجل عن واقع المدارس، وكيف بدأ التعليم يتغيَّر وأصبح يطغى التعليم الخصوصي من المنازل لزيادة الأرباح، خصوصًا المعلمين من الطائفة المسيحية، نظرًا إلى طموحهم في الهجرة إلى الغرب وأمريكا.
وبيَّن له أن هذا ما جعل عدد المدرسين والطلاب المسيحيين يتناقص كثيرًا بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية في نهاية عام 1989، إذ أعطى الشعب من دمه ضحايا كثيرة دفاعًا عن الوطن في تلك الحرب.
حينها قالت المرأة التي ترافق زوجها -ولا تبدو شابة رغم صغر سنها- لسلمان بتذمر:
- توقف هنا.
وطلبوا منه تحديد السعر، وعندما لم يحدد سلمان أي سعر أخرج الرجل من جيبه عملة ورقية عليها صورة صدام حاكم العراق آنذاك.
حينها قال سلمان في نفسه: «لقد أعطاني نصف ما أستحق، لكنني لن أبالي»، ووضعها في (دُرج) السيارة الذي يسميه أهل العراق (الجكمجة)، ثم مضى في طريقه باحثًا عن الأرزاق. وبعد بضع عشرات من الأمتار أوقفته امرأة في منتصف الأربعينيات، ومعها شابة جميلة حسنة المظهر ترتدي (البنطال) وطلبتا منه أن يذهب بهما إلى سوق (الشورجة) الكبير، وكان هذا السوق يجاور أيضًا سوق (العربي وسوق دانيال) وهم أسواق جملة يقصدها العراقيون عند المناسبات لشراء أغراضهم منها.
وبدأتا في الحديث فقالت الأم لابنتها:
- يوم الخميس ليلة الحنة، ويجب أن نشتري السبع بياضات، وشكر كلة والحنة.
فقاطعتها البنت:
- وعلينا أن لا ننسى ماء الورد والهيل التي سوف تغسل قدمي به خالتي، لأنها السعيدة والأكثر حظًّا.
وفي أثناء حديثهما تذكر سلمان خطيبته ثنوة، وتخيَّل كيف سيكون منظرها في يوم الحنة، وتخيَّل أصحابه وهم يذهبون به إلى حمام السوق، كما هي العادة البغدادية، والذي أصبح اليوم يسمى الحمام المغربي أو التركي. وتخيَّلهم وهم يضعون الحنة كخضاب على إحدى أصابعه، ويزفونه بالأهازيج مودعًا بذلك حياة العزوبية.
عندها قطعت الراكبة خيالاته بقولها:
- قف؛ وصلنا سوق (الشورجة).
لقد كان ذلك اليوم مُتعبًا جدًّا عليه إلى درجة أنه نسي تناول الغداء مكتفيًا بتفاحة وقهوة وقدح من الحليب. أو ربما تناساه لكي يجمع المال من أجل الزواج كما يقول في نفسه: «لعيون ثنوة كل شيء يهون».

فتح مذياع السيارة فسمع المذيع يقول إن هناك تصعيدًا كبيرًا ضد الكويت من الحكومة العراقية!
فقال في نفسه: «اللهم استر العراق من حرب أخرى لا يطيقها، فقد كسرت كاهلَ الشعب الحربُ الأولى مع إيران الطامعة في أرض العراق الثري، وخرج منها العراق سالمًا منتصرًا على أقوى قوى بالشرق الأوسط، على الرغم من تفاوت العدة والعدد فإن إرادة الشعوب تصنع المعجزات، والعراق وشعبه ليسوا على استعداد لمواجهة مشاكل جديدة مع الأشقاء العرب».
كان حينها صوت الشارع حذرًا، والسماء تنبئ بأن شيئًا سيئًا قابل للحدوث، ولكن لن يعلم الفقراء أن ما ينتظرهم أسوأ بكثير مما مضى!
كان سلمان شارد الذهن، إلى درجة أنه لم ينتبه أن الإشارة الحمراء قد أصبحت خضراء إلا بعد صراخ الناس، وأبواق السيارات من حوله، حتى إن أحدهم صاح عليه قائلًا:
- لا مكان للنوم عند الإشارة!
لكن سلمان لم يبالِ وضغط على مكبح البنزين، ومضى في طريقه بكل سلام حتى أوقفه رجل مسن يرتدي دشداشة وكوفية بيضاء وسوداء، وقال بصوته المرتجف:
- أوصلني إلى اليرموك يا ولدي.
فردَّ عليه سلمان:
- هل تقصد منطقة اليرموك أم مستشفى اليرموك؟
فقال:
- منطقة اليرموك، لأن لي أختًا هناك أودُّ زيارتها قبل الأجل.
وأخبره أن منطقة اليرموك بناها الرئيس عبد الكريم قاسم، ووزعها على العسكريين، ولذلك هي منطقة قديمة جدًّا، وجلُّ من يسكنها كانوا من منسوبي الجيش العراقي.
وتابع المسن حديثه قائلًا إن أخته تزوجها زميله الجنرال المتقاعد من العسكر، وله معه ذكريات قديمة منها مشاركتهما معًا في حرب الجولان.
كان سلمان يصغي إليه بكل إمعان عندما توقفت السيارة عند إشارة مؤدية إلى أربعة شوارع، واستغل الطريق الأيمن، وفي نهايته قال له المسن:
- قد وصلنا.
وأعطاه حسابه.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.