Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

أشرقتِ الشمس بنورها وبديع نسيجها الذي يطرق الشوارع والحارات، ويهبط على أسطح الأبنية ليداعب الفراشات والطيور فتظفر القلوب بذلك النهار الجميل.
تسمع خطواتٍ بسيطةٍ تدق على بساط الأرض، أُولئك الذين يعشقون النهوض مبكرًا إلى أعمالهم متوكلين على الخالق، لطلب الرزق.
هناك في تلك القرية البسيطة في بلاد المغرب تتكئ "مليكة" مستندة بيديها الصغيرتين على حافة النافذة، تتأمل غصن الريحان وهو يزفُّ بشراه بتلك الرائحة العطرة، فتهفو يرقات الأمل بشوقٍ وحنينٍ لتستقي الحياة بضفائرها الغنَّاء.
تلك الفتاة الهادئة، ساكنة الطباع والحركة، ذات الجمال الفتان كجوهر برّاق والعيون الزرقاء كسماء صافية.
حرة كالطير الرقراق في مشيتها، وكأنها تتوق لفك قيود الوثاق، فهي لا تحب الثرثرة كمثيلاتها الفتيات.
تُجيدُ فن الإنصات، تشتهي العزلة بنفسها كثيرًا في غرفتها في الدور العلوي في ذلك المنزل الصغير، المطل على الجبل الكبير في أطراف القرية.
كانت أم "مليكة" تمل من كثرة الصياح عليها، فهي تسكن عالمها الخاص، تتحرر فيه الروح من الجسد، وتسبح في عالمٍ خيالي.
مملكة من العواطف الجياشة، جنودها الورق والكتب، وأميرها القلم، وشعبها كلمات.
هائمة بعينيها تترقب القادم من شباك الغرفة المطل على الجبل، سائلة نفسها دائما السؤال نفسه: "تُرى.... ماذا ينتظرني خلف هذا الجبل؟"، وكأن شيئًا يناديها حتى إنها لا تشعر بمن حولها.
الجبل وما وراءه، هو الملاذ لبعض الناس وخاصة النساء اللواتي يلجأن إلى السحر والعرافين، ولكن "مليكة" لم تكن ممن يستمعون إلى هؤلاء المنجمين.
الحاج عرفة والد "مليكة" رجل يحفظ كلمات الله، ويعمل بها ويتخذ من تدينه الصد المتين والحائط المنيع لتلك الأسحار.
بينما انجرفت الأم وراء تلك الخرافات وآمنت بها، وتتردد عليهم من وقتٍ لآخر.
كانت "مليكة" تشرد بذهنها كثيرًا، وتصمت في أغلب الأوقات. بل تعاني من الإغماء أحيانًا. عرضها الحاج عرفة على العديد من الأطباء، ولكن الاتهام الأوحد كان لمرض فقر الدم (الأنيميا).
وبعد تناول العديد والعديد من الأدوية، واتباع أنظمة غذائية كثيرة، لا فائدة منها، لم يصلوا إلى شيء.
ربما كانت الأسباب من الناحية النفسية، وليست العضوية أدت إلى هذه الأعراض، لذا قرر والدها الحاج عرفة أن يعرضها على طبيبٍ نفسيٍّ لمعالجتها.
فهي تقف دائمًا صامتة، شاردة الذهن لا تستطيع التركيز في أي شيء، حتى إنها لا تسمع من يناديها. تسمرت أرجلها أمام النافذة وكأنّ قوى خفية تسيطر على جسدها ولسانها.
أخذت الأم في طرق الباب مرارًا وتكرارًا حتى تعبت يداها، و"مليكة" واقفة مستسلمة لشيء ما لا تعرفه؛ فقررت الأم كسر باب الحجرة لتطمئن على ابنتها فوجدتها قد تسَمَّرَت مكانها دون حراك. فأمسكت بكتف ابنتها تهزها هزًّا لتستفيق مما هي فيه. فوقعت "مليكة" على الأرض مغشيًا عليها، فحاولت الأم أن تحملها لترفعها فوق الفراش، ولكنها لم تقوَ على ذلك. فنادت على الحاج "عرفة" والد مليكة:
- أسرِع يا حاج عرفة، أسرع؛ مليكة ملقاة على الأرض ولا أعلم ما بها!
فصعد الحاج عرفة قائلًا:
- ما بها؟! هل هو إغماء آخر؟ لم أعد أعرف ماذا أصابها، لقد سئمت البحث عن السبب. منذ سنين ونحن على هذا الحال، فلتقرئي لها بعض الآيات من القرآن؛ كل الأطباء أكدوا لنا أنه ما من سبب طبي لذلك.
فردت أم مليكة:
- لا أعلم ما السبب؟ غدًا سوف أفعل شيئًا لم أكن أنوي فعله من قبل.
فانتبه الأب لكلامها قائلًا:
- ماذا ستفعلين؟
صمتت الأم وأخفت كلامها بسرعة قائلة:
- لا شيء.. لا شيء.. كنت أتمتم فقط.
وبدأت "مليكة" تستفيق قائلة:
- ماذا حدث؟ ماذا حدث؟ أنا لا أتذكر شيئًا سوى أنني كنت هناك أنظر من الشرفة إلى ذلك الجبل ولم أشعر بشيء بعدها.
وبكت قائلةً:
- لماذا يحدث لي هذا؟ لماذا؟
فطبطبت الأم عليها وضمتها إلى حضنها لكي تهدأ قائلة:
- أنت أجمل البنات وليس في جمالك فتاة أخرى في هذه البلدة، لا تبكي، غدًا سأجد الحل، غدًا إن شاء الله، لا تقلقي يا حبيبتي.
فتلقت "مليكة "كلمات أمها براحة الابنة التي قد سلمت أمرها لأمها وهي على يقينٍ أنها ستؤازرها.
*****

استغرقت "مليكة" في نومها لتبدأ معاناة جديدة في أحلامها؛ فهي تحلم بمكان ليس هو المكان الذي تعيش فيه، وترى دائما أناسًا لا تعرفهم وكأن روحها تطير إلى مكان آخر لتعيش أوقاتًا وحياة لم تكن تعرفها من قبل.
نامت "مليكة" وقتًا طويلًا، يكاد يكون يومًا كاملًا حتى بدأ صباح اليوم التالي بنفحاته... بدأت الأم تستنهض همتها بنشاط بالغ، وصعدت إلى غرفة "مليكة"، ففتحت الباب في هدوء، تكاد لا تسمع همسًا سوى أزيز الباب. وعينها على فراش "مليكة"، فلم تجدها إلا شاخصة البصر تنظر من النافذة كعاداتها بصورة مخيفة كأنها مسمّرة في الأرض فحدثت نفسها قائلة: "لا! لن أصبر أكثر من ذلك". فلحفتها برداءٍ أسودَ طويلٍ وأمسكت بيدها بشدة واتجهت مسرعة إلى عرافة الكهف التي تستوطن أطراف الجبل.
كانت الأم تتنافس مع الطريق في العدو وكأنها في حلبة سباق. حتى وصلت أخيرًا إلى مرادها مع ابنتها البالغة من العمر الثامنة عشر ربيعًا. فنادت على العرافة من الخارج، فقد كانت تخشى الاقتراب، ولكن دون جدوى، فلم تكن العرافة لتسمعها عن بعد؛ فحاولت الدخول رويدًا رويدًا، ولكن الكهف كان مظلمًا بشدة. حتى كادا أن يسمعا أنفاسهما، قالت الأم:
- أين ذهبت تلك العرافة؟ أين هي؟
حتى فوجئت الأم بمن تضع يديها على كتفها فارتعشت وصرخت صرخةً قوية أرعبت "مليكة" وأبكتها بشدة، وكانت العرافة تشبه الساحرات اللواتي نراهن في القصص الخيالية.
هدأت الأم قليلًا وما إن بدأت تقُصُّ ما يحدث لمليكة حتى استوقفتها العرافة فجأة بشدة فأرهبتها قائلة:
- اصمتي! اصمتي! ألم تتنبهي يومًا لعينيْ مليكة! ألم تلاحظي أن عيونها تشبه عيون قطة!
وطلبت العرافة من الأم العودة إلى بيتها وترك "مليكة" معها، ولا تسأل عنها إلا بعد يومين وأمرتها بالخروج فورًا.
استسلمت الأم للخروج بسرعة، وعادت إلى البيت وهي تفكر، قائلة لنفسها: "ماذا أقول لأبيها؟ لا أعلم ماذا أفعل؟ وكيف تركتُ ابنتي معها ووثقتُ فيها بهذه السرعة؟ ماذا فَعلتْ بعقلي لأفعل ذلك؟ سأقول له إنني قد تركتها مع خالتها ليومين لتستريح قليلًا. نعم سأقول ذلك".
عادت الأم إلى المنزل وأخبرت الأب بما قد نوت عليه. ومر اليومان بصعوبةٍ شديدةٍ على الأم، وهي لا تعرف شيئًا عن "مليكة".
تُرى هل أصبحت بخير؟
وماذا تفعل مع العرافة؟؟
وهل تستطيع النوم في هذا المكان المظلم الذي لا يُضيئه إلا الشموع؟
وبمجرد انتهاء المدة التي أقرتها العرافة، حتى طارت الأم إلى الكهف لإحضار ابنتها، اقتربت وتحسست المكان على أطراف أصابعها لتصل إلى العرافة لتسألها، ففاجأتها من خلفها فأفزعتها.
أشارت العرافة إليها بالعودة إلى المنزل وسوف تجد ابنتها في فراشها، وعليها التعامل معها كأن شيئًا لم يحدث في حياتها.
استسلمت الأم لحديث العرافة مسرعة للعودة إلى البيت. وبالفعل ما إن وصلت إلى المنزل حتى وجدت ابنتها في فراشها، فتعجبت لما حدث وتساءلت في نفسها: "كيف وصلت ابنتي هنا إلى فراشها؟!"، ولكنها اعتقدت أنها عادت بمفردها، كما أخبرتها العرافة. وتركتها لتستريح قليلا ثم أيقظتها.
حين أيقظتها فوجئت ب "مليكة" أخرى تضحك وتمرح وتجري في المنزل وكأنها طفلة صغيرة لا تتجاوز السادسة من العمر.
فرحت الأم ولكن التساؤلات بداخلها تتسارع مع بعضها. تُرى ماذا حدث؟ ولكنها سرعان ما قررت عدم التواصل مع تلك الأفكار.
بدأت "مليكة" في التصرف كباقي الفتيات اللواتي يمرحن ويخرجن ويتعاملن مع أدوات العصر الحديث؛ فطلبت من أمها أن تشتري لها هاتفًا محمولًا كصاحبتها.
وبالفعل اشترت الأم هاتفًا محمولًا، وبدأت "مليكة" في استخدامه. وأنشأت حسابًّا خاصًّا بها على مواقع التواصل الاجتماعي وبدأت بإضافة أصدقاء جدد.
يومًا بعد يوم تعرفت على شاب مصري اسمه "خالد" وسيم الشكل، بهي الطلعة، يبدو كذلك من صورته على صفحته الشخصية.
وبدأ الحوار بينهما.
خالد: هل يمكننا الحديث معًا؟
مليكة: من أنت؟ أنا لا أعرفك؟
خالد: أنا شاب مصري، متابع لك على موقع التواصل الاجتماعي منذ مدة، أقرأ كتاباتك كلها، لا أعلم ما الذي يشدني للحديث معكِ كل يوم؟
مليكة: بهذه السرعة؟! أتحكُم على شخصي وحياتي من خلال كتاباتي وتعليقاتي.
تنهدت "مليكة " وصمتت كثيرًا؛ فهي لم تكن معتادة على الكلام مع الجنس الآخر، فكل تعاملاتها مع الجنس الآخر لم يتعدَّ ذلك التعامل اليومي مع أبيها.
خالد: لن أضغط عليكِ، سأكلمكِ غدًا.
مليكة: سأفكر....
خالد: سأنتظر، أنا واثق أنك ستجيبين......
تبسمت "مليكة" في سريرتها وقد ملأت وجنتيها الحيوية والبهجة، وجلست على أريكتها وشردت بذهنها بعيدًا، ولكن هذه المرة، لم يكن شرودًا كشرود الماضي، ولكنه ذلك الشرود الجميل، الذي يملأه الشجن اللذيذ.
شجن لا يحمل معاني الحزن بقدر ما يحمل من معاني الشغف، الشغف الممزوج بالخوف والرغبة معًا...
ترددت "مليكة" في اتخاذ القرار.
هل تتحدث معه؟
هل تعيش تلك اللحظات التي لم تكن تعرفها من قبل؟
وهل يقبل أبوها وأمها ذلك الأمر؟
هل ستخبرهما؟ أم ستحتفظ بذلك الأمر سرًّا؟
ظلت تتساءل حتى غلبها النوم.
استيقظت "مليكة" وفتحت عينيها على هاتفها المحمول لترى الكثير من الرسائل التي أرسلها خالد لها.
صور وورود جميلة وكلمات لطيفة، أشعرتها بالسعادة.
عبارة "صباحي اليوم أجمل مع "مليكة"".
أثرت فيها تلك الكلمات الحانية، فهي أول كلمات تطرق أذنيها.
أول كلمات تشعرها بأنوثتها، فاستسلمت لتلك الكلمات، والمشاعر التي اختطفتها.
ووجدت نفسها تتحدث معه:
مليكة: على الرغم من أني لا أعرفك، إلا أنني أجد نفسي تواقة إلى الحديث معك... لا أعرف لماذا أتحدث إليك؟
خالد: لأنني خفيف الظل، أرسم البهجة على وجه كل من أحدثه، ولأنني أحب الحب نفسه، ولأنكِ تحبين الكلام معي.
مليكة: من أخبرك بأنني أريد الحديث معك؟ أنت إنسان مغرور!
خالد: وأنتِ جميلة.
احمرّ وجهها خجلًا...... وسألته:
- ما الذي أخبرك أني جميلة؟ أنا لم أضع أيّ صورٍ لي على حسابي الشخصي من قبل.
ضحك خالد وقهقه بصوتٍ عالٍ قائلًا:
- "لقد فتحتِ الكاميرا سهوًا، وأنت تتحدثين معي البارحة دون أن تشعري! ثم أغلقتِها بعد ذلك... صورتك وأنت تتحدثين بعفوية وخجل لا تفارقني أيتها الجميلة.
بالرغم من أنها لم تستغرق سوى ثوان؛ إلا أنها محفورة في قلبي أيتها القيثارة".
شعرت "مليكة" بسعادة لم تعرفها من قبل.
شعرت بالوخزة، تلك الوخزة التي تأتي فجأة، ليس لها سلطان، تقف الروح مكبلة، مقيدة بأغلال العشق والهوى، لا يعي معنى الشعور بتلك (الوخزة) إلا من أصابته، من يتذوقها فقط هو من يستطيع البوح بأسرارها.. من يتذوقها فقط هو من يستطيع وصف ملامحها، فهي هبة ومنحة لا تُعطى أو تُمنح لأي أحد.
أحاسيس فياضة تغمر جسدها، لا تستطيع التوازن أو السيطرة فهي لا تلتمس منه الاعتذار. هي تتحسس لتسمع ذلك الكلام، حلو المذاق. ذلك الكلام الذي تعده الترياق الذي يشفيها ويروي ظمأها.
أصبحت "مليكة" أشبه بالطير الرقراق؛ فقد نثر خالد لها في أروقة مملكتها الزهور، وفك قيود الوثاق، فالروح تسمو بالتراق... والجسد يهوى النفاق.
مليكة: أنا أيضًا أريد التحدث إليك طوال الوقت، دون أن أشعر ما السبب.
خالد: تمنيتُ الحوار عناقًا مفعمًا بكل معاني الاشتياق من زوجٍ إلى زوجته.
مليكة: ماذا تقول؟!
خالد: نعم، أقولها وبصدق، كلي أشواق وحنين تتلاحق حولي وتحفني لأطير إليك الآن حيث تكونين.
مليكة: أشعر بالخجل، فقد تلعثم لساني عن الكلام.
خالد: ظللتُ أبحث عنكِ سنوات طوال، أهفو لهذا الزواج منك.
مليكة: بهذه السرعة؟!
خالد: نعم، لم أكن يومًا ذلك الشاب، الذي يغوي فتاة، ويوقعها في شرك الحب، دون أن يتزوجها.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.