Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

السبع الموبقات

عن أبي هريرة أن رسول الله قال:
"اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟
قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ".
أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).
الموبقات: هي كبائر المعاصي، لأنهن مهلكات.
ذكر الرسول الشرك بالله في المرتبة الأولى لأنه أعظم الكبائر، هو المهلك الذي ليس معه رجاء إذا مات الإنسان عليه.
والسحر من الشرك، لأنه عبادة للجن والاستعانة به في إلحاق الأذى بالآخرين.
وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق: والحق هنا كالزاني المحصن الذي أوجب الشرع قتله بالرجم حتى الموت، وكقاطع الطريق.
أكل الربا: وهو من يتعاطى الربا المحرم كربا النسيئة وربا الفضل وهو تقاضي ثمن الشيء مضاعفًا عن سعره إلى أجل مسمى.
ثم ذكر أكل مال اليتيم، الذي يتوجب علينا الإحسان إليه وحفظ ماله.
والتولي يوم الزحف: وهو هجر المسلم ميدان المعركة وقت الحرب.
وأخيرًا قذف المحصنات الغافلات المؤمنات: مَن ادعى كذبًا على امرأة صالحة بالزنا أو سوء السمعة وهو كاذب.
هؤلاء السبع مصيرهم الهلاك في الآخرة، عذاب جهنم وبئس المصير.
فما هو مصيرهم في الدنيا؟
إن الله يبعث لهؤلاء مؤشراتٍ يوجه بها من ارتكب تلك الكبائر حتى يتسنى له الوقت ليتوب ويعود عن فعلته، إن الله غفورٌ رحيم، فمنهم من يرجع إلى رب العباد، ومنهم من يتمادى في فعلته فتظلم دنياه ويسلب منه الكثير من الخيرات، كالصحة والبركة والرضا، وصحوة الضمير، يظل في عتمته إلى يوم البعث والحساب الأعظم.
وهناك فرق بين السبع الموبقات وبين الخطايا السبع المميتة أو (الذنوب الكاردينالية) التي استخدمت للتوعية منذ ظهور المسيحية، فالخطايا السبع هي كل ما يدفع بالإنسان للوقوع في الخطيئة فهي نابعة من داخل الإنسان ومتصلة بمشاعره وأخلاقه وسميت بالخطايا المميتة لأنها تؤدي إلى الهلاك وتدمر حياة النعيم.
والخطايا السبع هي: الغرور، الجشع، الشهوة، الحسد، الشراهة، الغضب، والكسل.
مَن منا بلا خطيئة؟!
لا يوجد من هو معصوم من الخطأ، ولكن ما هو حجم هذا الخطأ؟!
وهل تاب وأقلع عنه أم كرره مرات عديدة؟!
هل زال أثره عن الآخرين أم ما زال مستمرًّا؟!
نعم "الآخرين" الذين ارتكبت في حقهم تلك الموبقات أو الخطايا، علمنا مصير مرتكبيها فماذا عن من ارتكبت ضده تلك الأفعال، ماذا عن أهل المشرك؟
ماذا عن من أصابه الضرر نتيجة ممارسة السحر الأسود عليه؟!
ماذا عن تلك المرأة المحصنة التي طعن أحدهم في شرفها وأخلاقها؟!
ماذا عن من قتل غدرًا؟!
ماذا عن اليتيم الذي أصابه الخذلان والألم نتيجة استباحة حقه من قبل شخص يثق به وهو كل ما تبقى له من أهله؟!
ماذا عن تارك أرض معركته خائفًا ولحق به وبأهله العار؟!
ماذا عن المرابي؟!
*****

أزمة ثقة


الظلام حالكٌ بتلك الغرفة الضيقة التي تفوح منها رائحة العفن، تمر الأيام بها بثقلٍ وبطءٍ فلم أعد أحسب عدد الأيام والساعات التي أقضيها بداخلها، جدرانها السوداء طبعت ذلك اللون داخل قلبي فأصبحتُ أشعر بالبؤس واليأس دون أمل، أكاد ألتقط أنفاسي بصعوبة وكأنني أعيش على كوكبٍ آخر انعدم فيه الهواء وكل مظاهر الحياة، أصبحت الحياة قاسية وبلا معنى، وأنتظر كل يوم شعاع الشمس الخافت الذي يتسرب من بين فتحات النافذة الحديدية في الأعلى لأعبث قليلًا بكتبي وأوراقي لتجاوز بعض الوقت، أكتب والقلم ينزلق من بين أصابعي من شدة التعرق الذي أغرق فيه طوال الوقت من أول خصلة بشعري حتى إصبع قدمي، وكل لحظة أمسح نظارتي حتى يتسنى لي رؤية ما أدونه بين سطوري.
بدايةً أحب أن أعرفكم بنفسي وعن طبيعة عملي.
أنا د.يونس، طبيب أمراض نفسية، أعمل في مستشفى كبيرٍ بعيدٍ عن ضجيج المدينة، في العقد الخامس من العمر، أقطن في مدينة القاهرة بحي الزمالك وحيدًا، أضعت أعوامي في الدراسة والانخراط في العمل ومعالجة المرضى فعزفت عن الارتباط، يمكنكم قول إنني من كثرة ما واجهت من مشكلات، أصبحت معقدًا من تكوين أسرة، أراكم تبتسمون وتقولون: "طبيب أمراض نفسية وهو مريض ولا يقوى على علاج نفسه"، أوافقكم الرأي فأنا لا أستطيع علاج نفسي، لكنني متمكنٌ في علاج الآخرين، ففاقد الشيء يعطيه، يعطيه وبكثرة يا سادة.
كانت حياتي تسير على ما يرام طوال الأعوام الماضية، أعالج مرضاي بكلّ حبٍّ، وأتفانى في ذلك، كنت أشعر أنهم أهلي وجزءٌ مني، لم أكتب يومًا لشخص منهم أدوية لتحسن حالته، كنت ألجأ دائمًا لجلسات الدردشة العادية وكأنني صديقٌ مقربٌ إليهم، أحيانا الفضفضة من وقتٍ لآخر تخفف ألم الحياة وتشعرنا بالراحة ولو بشكلٍ مؤقت.
في الآونة الأخيرة لاحظت شيئًا ما، وهو أن أكثر المرضى الوافدين إلى المشفى يعانون من اكتئابٍ حادٍّ ناتجٍ عن انعدام الثقة في كل من حولهم.
حالات بالعشرات وكان علاجهم هو الأصعب من وجهة نظري، فانعدام الثقة تجعلك تعيش وحيدًا داخل بؤرةٍ تخصصها لنفسك ولا يحق للمحيطين بك الاقتراب منها.
انعدام الثقة في الآخرين لا يعود مجددًا، مهما حاولنا تجاوز الخيبات، مهما تعاملنا مع أشخاصٍ رائعين، فلن نغامر بالإصابة بالخذلان والخيبة مرة أخرى.
لا أخفي عليكم سرًّا، أنا أيضًا ممن يعانون من تلك الأزمة "أزمة ثقة"، لا تسخروا مني مرةً أخرى، أصبح شيئًا طبيعيًّا في مجتمعنا الآن، مَن منا لم يخذله أحدهم ويخيب أمله؟!
أنت يا من تقرأ.. نعم أنت.. أتحداك أن تكون مثلنا، وأن أحدهم خذلك وخيب ظنك فيه، ونحر قلبك بسكينٍ باردٍ فجعلك مفتقدًا لمعنى الثقة مرة أخرى فيمن حولك.
أتحداك أنك تسيء الظن بالآخرين حتى يثبت العكس، فلا تسخر مني مرة أخرى.
شعوري بهؤلاء المرضى جعلني أخصص وقتي كله لهم، وزاد شغفي بالبحث عن طرق علاج مناسبة تعيد إليهم رغبتهم في الحياة والتعايش مع الآخرين والاقتراب منهم دون خوف ولكن (بكل حذر).
يزداد عدد الحالات، لا يريدون سوى شيءٍ واحد، هو الابتعاد... الابتعاد والصمت بعيدًا عن وجوه الحياة المزيفة، تفاديا للصدمات التي يبقى أثرها مميتا بداخلنا.
كنت أجلس معهم وأسمعهم جيدًا وهم يقصون قصصًا متنوعة عن الكذب والخداع.
بعض المرضى كان رد فعلهم إيجابيًّا في تلك الجلسات وشعرت أنه يمكنني علاجهم بسهولة، والبعض الآخر كانوا لا يتحدثون معي بصدق، كانوا يبتكرون قصصًا أخرى غير التي تعرّضوا لها حتى يوحي أحدهم لنفسه أن هذا ما حدث وأنه لم يتعرض لتلك الصدمة.
لكن سرعان ما كنت أكتشف كذبتهم ومن الوهلة الأولى، فكانت رسالة الدكتوراه الخاصة بي موضوعها عن (كيفية اكتشاف الشخص الكاذب) وبمجرد النظر إلى عينيه وحركة الشفاه، أرى الفضول قد أصابك أيها القارئ الآن، أتريد معرفة كيف تكشف صدق أو كذب من يتحدث معك؟!
بالتأكيد تريد معرفة ذلك... حسنا سأخبرك.. ولكن أولًا دعنا نتفق أننا جميعًا نلجأ إلى الكذب أحيانًا، ولكن تختلف كذبة عن الأخرى، فهناك كذبة تدمر حياة إنسان وهناك كذبة تعيد له الحياة.
هناك أمثلة كثيرة لن أتطرق إلى ذكرها الآن، فلدي ما هو أهم لأقصه عليكم.
لكن في البداية سوف أذكر بعض العلامات التي تثبت صدق أو كذب من يتحدث:
1- اطرح على أحدهم سؤالًا.. فإذا قام بالإيماء برأسه يمينًا ويسارًا أو في أي اتجاه، تأكد أنه سيكذب بعدها.
2- التوتر والخوف يزيد من سرعة ضربات القلب فيجعل من يجلس أمامك يشعر بالاختناق ويلتقط أنفاسه بصعوبة فيبتلع ريقه أحيانًا أو يلتقط نفسًا عميقًا قبل الإجابة، وعندما يجيبك يكون مستوى صوته منخفضًا تمامًا وكأنه يهمس، وإما أن يصيح في وجهك ليثبت عكس موقفه الضعيف.
3- ثابت الحركة.. يكون الشخص الكاذب ثابتًا في حركة جسده، بل إنه لا يستخدم لغة (body language) لأن لغة الجسد تدل على زيادة معدل الثقة بالنفس والتعبير التلقائي عما يدور بداخل هذا الشخص، وثبات الحركة لا يمت بصلة للثبات الانفعالي فشتان بينهما.
4- تكرار الإجابة على السؤال أكثر من مرة، محاولا تأكيد كذبته لنفسه أولًا ليصدقها ومن ثم يستطيع إقناع الآخرين بها.
5- يميل الشخص الكاذب عادةً بملامسة أنفه أو فمه للحظة أو يغطي جزءًا من جسده بشكلٍ لا إرادي أو يلوح بيده بشدة نتيجة التوتر الذي يصيبه من الداخل ويحاول أن يبدو أقوى مما هو عليه.
6- كرر سؤالك نفسه وستتفاجأ بتغير الإجابة، لأنه ببساطة ينسى كذبته فيبتكر أخرى، كما يقولون في الأمثلة الشعبية (الكذاب نساي) وذلك صحيح مائة بالمائة.
7- انظر إلى عينيه جيدًا وستجده لا يرمش إلا قليلًا وتكون حدقة العين في وضع ثابت.
لقد انتهيت من ذكر بعض العلامات ولكن إثباتها ليس بأمرٍ سهل، فتحتاج الكثير من الدراسة والممارسة، ولكن مبدئيًّا إذا وجدتموها جميعًا في شخصٍ يتحدث معكم، فاعلموا أنه كاذب.
دعونا نعود إلى المرضى المصابين بأزمة الثقة أو الاكتئاب الناتج عنها، أجلس معهم واحدًا تلو الآخر، العشرات منهم ولكن استوقفني ست حالات رفضوا التفوه بكلمة، حاولت معهم مرارًا وتكرارًا ولكن دون جدوى، أصبت بالحيرة من أمرهم.
ترى ماذا حدث معهم ليفضلوا العزلة والصمت هكذا؟!
ليس أمامي الآن سوى طريقةٍ واحدة وهي تحديد جلسة جماعية معهم في آنٍ واحدٍ لعل أحدهم يشجع الآخر على سرد حكايته.
بالفعل فعلت ذلك وجلست معهم في غرفةٍ واسعةٍ وهادئةٍ ووضعت سبعة مقاعد لكل منا على شكل دائرة، وقررت أن أقضي يومي كله محاولًا حثهم على التحدث. ثم استجوبتهم بالترتيب، من يجلس أول الصف بجواري ثم من يليه.
الأول رجل في مثل عمري تقريبا، يدعى حامد.. يمسك بيده مسبحة كبيرة ويسبح عليها بشكل سريع دون أن يحرك فمه، يحدق بنظره إلى الأرض وتمتلئ عيناه بالدموع ولكنه يأبى أن يبكي أمامنا.
*****

الــشــــرك بالله

نظرتُ إلى حامد ثم تحدثت إليه بهدوء قائلًا:
- حامد.. جميعنا بداخلنا ألم، نحن سبعة أفراد، كل منا بداخله قصة حزينة، صدقني سيفيدك كثيرًا التحدث وأيضًا ستكون خطوة إيجابية تدفع الآخرين للتحدث، أرجوك حاول أن تساعدني في علاجك وعلاج أصدقائك، تحدث يا حامد ولا تخشَ شيئًا.
ارتجف جسد حامد بشدة، وتوقف عن تحريك المسبحة في يده ونظر إليّ بعينيه الدامعتين ثم نظر إلى بقية المرضى بتمعن.
كررت جملتي بهدوء:
- هيا يا حامد تحدث، نحن جميعًا مُصغون لك باهتمام.
ثم وجهت حديثي للآخرين قائلًا:
- ألستم تريدون معرفة قصته وستحاولون تقديم المساعدة له معي، هيا أجيبوني!
أومأ الجميع برأسه ونظرنا جميعنا إلى حامد منتظرين أن يتفوه بكلمة.
وبعد لحظاتٍ قليلةٍ سقطت دموعه بشدةٍ ثم بدأ حديثه بصوتٍ حزينٍ مرتجف:
- "الجميع يلقبونني بالشيخ حامد، فأنا إمام مسجد الحي الخاص بنا، ومن تلامذة الأزهر الشريف، تخصصت في أصول الدين والدعوة وتفوقت على نفسي حتى أصبحت معيدًا بجامعة الأزهر، ودرست للطلبة، أعلمهم مبادئ ديننا الإسلامي، وأزرع بهم أخلاقيات تربوية لتكون سمة الشاب المسلم.
تزوجت زواج الصالونات كما يقولون، رشحها لي أحد أخوتي فكانت هي جارة لهم في قريةٍ بالأرياف.
كانت من أسرة ملتزمة، وعلى خلقٍ وترتدي النقاب فلم يتسنَّ لي رؤيتها إلا في يوم الزفاف، كان جمالها مقبولًا ورضيت بها زوجة لي وأمًّا لأبنائي فيما بعد.
كانت حياتنا مستقرةً هادئةً وكانت ترضى بالقليل معي وشكرتُ الله كثيرًا عليها.
بعد عامٍ من زواجنا رزقنا الله بطفل، وبعدها بعامين رزقنا بالآخر وأصبح لدي ولدان هما محمود ومحمد، منذ نعومة أظافرهما حاولت توجيههما إلى الطريق المستقيم بقدر علمي.
كنت أرتل القرآن الكريم أمامهما بصوتٍ عال، ثم أطلب منهما تقليدي بنفس التجويد والترتيل.
علمتهما أحكام القرآن الكريم وكان أملي أن يصبحا مثلي في يومٍ من الأيام حاملين لكتاب الله وسنة رسوله.
الأكبر هو محمود كان مطيعًا لي ويحاول كسب محبتي وثقتي به بشتى الطرق وعندما طالبته بالالتحاق بالجامعة نفسها التي درست بها لم يتردد لحظة وبالفعل أصبح طالبًا أزهريًّا متميزًا عن باقي الطلبة في خلقه وتفوقه وسعة صدره، كنت أكاد أطير من فرط السعادة والفخر به.
أما محمد فكان عنيدًا مدللًا، كان قريبًا من أمه عني، كنت دائم التوبيخ له لإصراري الشديد على أن يكون مثلي ومثل أخيه محمود، كان يثير غضب محمود دومًا متعمدًا ذلك، فكانت نظراته إليه لا تحمل أي محبة، وكانت تصرفاته مستفزة لدرجة أن "محمود" كان يتهرب من البقاء في المنزل حتى لا يراه ويعود في وقتٍ متأخرٍ حتى ينام مباشرة، ولم يسلم حتى منه بعد أن فعل ذلك.
رفض أن يلتحق بالجامعة نفسها ولكنني أرغمته على ذلك آملًا أن ينصلح حاله مع الوقت.
ومن أول عام بالجامعة كان فشله فاجعة بالنسبة لي ولوالدته، وكان يحملني أنا نتيجة فشله، فأنا السبب في التحاقه بجامعةٍ لا يرى مستقبله بها.
قطعت عنه سبل الترفيه كلها، وأرغمته على المكوث في المنزل مع والدته وحذرتها من إعطائه أي نقود أو أن يخرج من المنزل دون علمي.
ظل الوضع على هذا الحال قرابة شهر في الأجازة الصيفية حتى عاد معتذرًا في يومٍ ما وأقسم على أن يحاول تغيير نفسه إلى الأفضل.
سعدت كثيرًا؛ وفرحت باستجابة ربي لدعائي بالهداية له، وسمحت له مرة أخرى بالخروج مع أصدقائه وسلمته الهاتف الخاص به وجهاز اللاب توب.
شعرت بهذا التغيير بالفعل حينما ابتعد عن إثارة غضب أخيه كالسابق، وكان يتركه يجلس في هدوء وحيدًا في أثناء تلاوته القرآن الكريم فكان لمحمود وردٌ يوميٌّ لا ينساه أبدًا.
محمد ومحمود هما الزخر والكنز والسند في هذه الحياة، لا أملك سواهما، الجميع تلهيه الحياة مع أهل بيته وعمله، الأقارب توقفوا عن الزيارات العائلية، توقفوا عن السؤال عبر الهاتف حتى، ثم توقفوا عن إرسال بعض الرسائل لتكون ذلك نهاية لعلاقتنا بهم.
الأصدقاء منشغلون دائمًا، وليس بينهم من يتفانى بوقته لأجلك، طغت المجاملات الكاذبة على الجميع، أصبح الجميع يعيش داخل عالم خاص به ولا يشارك به أحدًا.

توقف حامد عن الحديث فتعجبتُ قائلًا:
- حسنا حامد، هذا كل شيء؟ أين المشكلة؟ لماذا كل تلك التعاسة والأسى؟ لا شيء يدعو للحزن والاكتئاب مما قصصته الآن؟
عاد حامد للحديث مجددًا بعد أن شرب كوبًا من الماء ليحاول أن يهدأ قليلًا ثم قال:
- ليس هذا كل شيء، فالقادم مؤلم، مؤلم إلى حد الموت.
ارتبكت قليلًا ولكن أومأت له بتكملة حديثه.
ساد الصمت للحظات ثم قال:
- "كان محمد يجلس وحيدًا بالساعات، وحينما أسأل عنه كانت والدته تقول: الحمد لله يجلس وحيدًا متأملًا أحيانا أو يقرأ بعض آيات القرآن الكريم وأحيانًا أخرى يقرأ بعض الكتب الخاصة بالجامعة لعله يجتاز اختبار المرحلة القادمة.
طرقت الباب ودخلت غرفته ووجدته بالفعل يقرأ آيات القرآن الكريم، كاد قلبي يخرج من صدري من فرط السعادة ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أضمه بين أحضاني.
تقرب إليه أخوه محمود وأصبحت علاقتهما مترابطة كأخين مثاليين، عادت السعادة والاستقرار إلى المنزل.
مرت الأعوام وتخرج كل منهما في الجامعة.
تقاعدت من مهنة التدريس بالجامعة نظرًا لتدهور حالتي الصحية بصورة مفاجئة فكان قلبي ضعيفًا ولم أكتشف ذلك منذ أعوام وتركت أبنائي للعمل لتكملة مسيرتي واكتفيت بإمامة أحد المساجد وتعليم أصول الدين به لمن يرغب لوجه الله تعالى.
ساعدني كل من محمود ومحمد في سد متطلبات المنزل، وفي يوم جاء محمود ليتحدث معي عن إمكانية السفر والعمل بإحدى الدول العربية في نفس مجاله في التدريس، لم أقوَ على الرفض إذ كان ذلك سيحسن من مستوى معيشته ويساعده على بناء أسرة مستقلة خاصة به، كنت لا أخشى عليه من شيءٍ فهو صاحب عقل كبير وأخلاق عالية لا يمكن لأحد المساس بها.
عارضه أخوه كثيرًا طالبًا منه عدم تركه وحيدًا أو إمكانية الذهاب معه ولكنه رفض حتى يكون باله مطمئنا علينا وهو يراعي شؤوننا.
بالفعل سافر محمود وحزنت كثيرًا على فراقه فلن أراه إلا شهرين في العام، افتقدته كثيرًا فيزال هو الأقرب والأفضل لديّ، واستمر محمد في العمل بل إنه تطرق إلى الدراسات العليا وتقدم للحصول على درجة الماجستير، كنت فخورًا به وكم أنه خيب ظني على اعتباره الابن العاق في يومٍ من الأيام.
مر عام وحان الوقت للقاء محمود فقد عاد لقضاء عطلته السنوية معنا، وما إن دخل المنزل رأيته وكأنه شخصٌ آخر؛ تغير كليًّا فبعدما كان يرتدي زي الأزهر كان مرتديا قميصًا حريرًا على بنطال جينز ضيق وغيّر طريقة تصفيف شعره. أصبت بالضيق والدهشة ولكن لهفتي عليه طغت على هذا الشعور.
كان يتهرب من الجلوس معنا وحتى تناول الطعام معنا فضاق بي صدري وأسرعت إلى غرفته للتحدث معه.
= ماذا حل بك يا بني؟! فجأة انقلب حالك بعد عودتك من الخارج، نزعت عنك زي الأزهر الذي يتباهى به الكثيرون، أصبحت غريبًا معنا رغم تعلقك الشديد بنا، لا تتحدث ولا تأكل، ماذا حل بك أخبرني بحق الله؟!
نظر إليّ بغضبٍ قائلا:
- كفاكم جهلًا يا أبي.
صدمت مما قال وعدت متسائلًا:
- ماذا تقول؟ كيف تتحدث معي هكذا؟!
نظر إليّ بعينين باردة المشاعر منزوعة الرحمة قائلًا:
- تستحق تلك الطريقة بل أكثر.
صحت به بصوتٍ عال سمعه أخوه ووالدته فدخلا مسرعين وأنا أقول: إذا كنت لا تطيق العيش معنا فلماذا عدت إلى هنا؟!
- جئت لمدة قصيرة حتى يدبر أصدقائي مكانًا أعيش فيه بعيدًا عنكم وقررت عدم المغادرة مرة أخرى فلدي رسالة هنا يجب عليّ إتمامها.
زادت حدة حديثي وغضبي وأمسكته من قميصه بشدةٍ قائلًا:
- ماذا تقول؟! هل تجندت مع الإرهابيين، هل غواك أحدهم تحت شعار الجهاد في سبيل الله؟!
ضحك بسخريةٍ قائلًا:
- الجهاد في سبيل ماذا؟ هاهاهاها؟! مساكين، ليس هناك ما يسمى الله، والخالق، لقد تربيت معكم على أكذوبة كبيرة اسمها الخوف منه، أضعت سنين عمري في الدراسة والعمل في علوم الدين الإسلامية وبالنهاية اكتشفت أن كل ذلك وهم كبير، والحياة أجمل وأبسط من ذلك.
بكيت بشدةٍ ووقعت على المقعد المجاور ممسكًا بقلبي الذي كاد يتوقف من الصدمة.
صرخ محمد في وجهه:
- ماذا تقول؟ أكفرت بالله؟ كيف خدعوك هكذا وأنت حامل لكتابه؟ من أنت؟!
ضحك بسخريةٍ مرةً أخرى:
- من أنا أيها التافه البائس؟ انظر حولك، إذا حدث معك شيء مبهج يقولون هذا رضا وفضل من الله، وإذا وقع بك مكروه يقولون إنه منك، نعم منك والمبهج منك، كل شيء منك، أنت الذي تتحكم في مستقبلك ومصيرك بل أنت الذي حددت ماضيك أيضًا، أين الإثبات المادِّي لوجود معبودك؟ أين الإثبات لوجود حياةٍ أخرى بعد الموت؟ تلك خرافات مبتدعة من قبل المصريين القدماء، لا يوجد ما يسمى البعث، لا يوجد حساب، نحن خلقنا هكذا من أب وأم منذ بدء العالم، أب وأم مثلنا وهما أوْلى بالعبادة وكل نوع من المخلوقات أوْلى بالعبادة نحن تكاثرنا من بعدهما وبفضلهما وبالتأكيد يراقباننا من السماء وعلينا أن ننعم بالحياة كما هي ولا نخشى شيئًا بها.
لكمه محمد بقوةٍ على وجهه وصرخ قائلًا:
- استغفرِ الله وتبْ إليه لعله يتقبل منك، من الذي ذهبت إليه وفعل بك كل ذلك؟ من؟!
مسح محمود بيده الدم المتساقط من فمه ثم قال:
- ذهبت لمن يستحقون العيش معهم، أصدقائي الأعزاء الذين أناروا بصيرتي بالحق وسأذهب للعيش معهم للأبد بعيدًا عنكم، وسنكمل المسيرة معًا لنشر الحقيقة بين جميع الشباب.
أسرع محمد خارج الغرفة ودخل مرةً أخرى ممسكًا بيده سكينًا حادًّا طعن به محمود وهو يصرخ باكيًا:
- لن تستطيع فعل ذلك يا محمود، لتمت وأنت كافر، لتنل جزاءك في الدنيا وفي الآخرة، لتذهب الآن إلى جحيمك لتتأكد من وجود الله، ومن وجود الثواب والعقاب، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.

قتل محمد أخاه "محمود" الذي وثقت به وأتى إليّ بتلك الخيبة، بل بتلك الفاجعة، لم يترك لي بعض الوقت حتى أعيده إلى رشده، كان من الممكن إصلاح ما حدث ولكن بهدوء وتريث، ولكنّ "محمد" أفسد كل شيء بغضبه من أخيه ظانًّا أن لن يقدر عليه أحد، خسرت الاثنين، فأحدهما قُتل والثاني سُجن إلى وقتٍ غير معلوم، ووالدتهما ماتت من الحزن بعدها بشكلٍ مفاجئ.
خسرت كل شيء، خسرت من كرست حياتي لأجلهما ولتربيتهما، لمن لا أملك سواهما في هذه الحياة، لمن وثقت بهما وكيف لا أثق في فلذة كبدي.
حاولتُ الانتحار بعدها ولكن تذكرت الله فخشيت عذابه، والآن أعيش ولا أعيش، جسدٌ بلا روح، دمعٌ بلا طعم، حياةٌ دون حياة، فكيف لي أن أستمر هكذا وليس لدى الأطباء علاج لما أنا فيه، سيعجز الجميع عن ترميم جراحي، فأين المفر؟!".


اجهشّ حامد بالبكاء وأبكانا جميعًا معه..
عجز الكلام عن الكلام.....
كيف لأقرب الناس أن يخذلونا هكذا وبمنتهى الأريحية.
ولماذا تأتي الضربة دائمًا من أقرب الناس إلى قلبنا؟!
وكما قيل "حين أصاب السهم قلبي لم أمت، ولكني مت حين رأيت من رماه".
كيف لي أن أضمّد جراحه وأعيد إليه الحياة والثقة بمن حوله مرة أخرى.
كيف لي أن أنتشله من كل هذا الحزن؟!
أخجل من قول الحياة بها الكثير لتعيشه فقد عاش أسوأ ما بالحياة.

"الثـــــــــــقة كــالإنــــسـان، سنـــــوات لـــتكبر وثـــــــوان لتـــــموت"
مالكوم إكس
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.