hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

1) أوج-لومي وأويا )
هذه القصة عن زمنٍ سبق ذاكرةَ الإنسان، قبل بداية التاريخ، زمن كان يسير فيه المرء
حافيَ القدمَين، من فرنسا (كما نُطلق عليها الآن) إلى إنجلترا، زمن كان يتدفَّق فيه نهر
التيمز الواسع والبطيء الحركة عبر مستنقعاته ليَلتقيَ بوالدِه نهرِ الراين، ويتدفَّق عبر
أراضٍواسعة ومُستويَة اختفَت الآن تحت سطح الماء، ونَعرِفها باسم بحر الشَّمال. في هذا
العصر السحيق لم يكن الوادي الذي يمتدُّ على طول سفح الداونز موجودًا، وكان جنوب
سَرِي مجموعةً من التلال، المكسوَّة بأشجار التنُّوب في المُنحدَرات الوسطى، المُغطَّاة قِمَمها
بالجليد في مُعظم أوقات السنة. وما تزال قِمَمها المركَزية باقية حتى الآن وتتمثَّل في تل
ليث هيل وبيتش هيل وهيندهيد. وعلى المُنحدَرات الأدنى في مجموعة التلال، والتي تقع
أسفل المساحات العُشبية حيث ترعى الخيول البرية، كانت ثمَّة غابات من شجر الطقسوس
والكَستناء الحُلو والدَّردار، وكانت الأجَمات الكثيفة والأماكن المُظلِمة تُخفي دِبَبةً شَهباء
وضِباعًا، وكانت القِرَدة الرَّمادية تَتسلَّق عبر فروع الأشجار. وفي الأماكن الأكثر انخفاضًا
وسط الغابات والمُستنقَعات والأماكن العُشبية المفتوحة على امتداد نهر وي وقعَت أحداث
هذه الدِّراما القصيرة التي سأَسردها حتى النهاية. حدَثَ هذا منذ خمسين ألف سنة،
خمسين ألف سنة إذا كانت تقديراتُ الجيولوجيين صحيحة.
في هذه الأيام كان وقتُ الربيع وقتًا مُبهِجًا تمامًا كما هو الآن، وكان يجعل الدم
يتدفَّق في العروق تمامًا كما يَفعل الآن. كانت السماء في فترة بعد الظهيرة زرقاء تُبْحِر
فيها مجموعات من السُّحُب البيضاء، والرياح الجنوبية الغربية تهبُّ بلُطف ورقَّة. وكانت
طُيور السنونو الصغيرة تَطير ذهابًا وإيابًا. وكانت حدود النهر مرصَّعة بزهور الحوذان
قصة من العصرالحجري
البيضاء، وكانت الأراضيالسبِخة تتألَّق بنبات الْحُرف الْمَرْجي، وتُضيئها أزهار الخَطْمية
أينما خفضت أفواج السَّعديات سيوفها، وكانت أفراس النهر المتَّجهة نحو الشمال، هذه
الوحوشالسوداء اللامعة، تلعَب بطريقة خرقاء، وتتخبَّط وتترنَّح عبر النهر، وهي مُبتهجة
بهجةً بالغةً، ولا تتملَّكها إلا فكرة واحدة واضحة، أن تُعكِّر صفوَ مياه النهر.
أعلى النهر، وعلى مرأًى مِن أفراس النهر، تلعب مجموعة من الحيوانات الصغيرة
العارية في الماء. لم يَكُن يوجد خوفٌ أو تنافُس أو عداءٌ بينها وبين أفراس النهر. ومع
اندفاع هذه الوحوش الضخمة عبر البُوص محطِّمةً صفحة المياه وناشرةً الرذاذ الفِضِّي،
كانت هذه الكائنات الصَّغيرة تتصايَح وتَصرُخ وتُومئ في مرح. كانت هذه علامةً أكيدةً على
كان هؤلاء أطفال «! بولووو! باياه، بولووو » : قُدوم الربيع السعيد. علَت أصوات الصياح
البشَر، الذين يتَصاعد الدخَان من مخيَّماتهم على الهضْبة الصغيرة عند مُنعطَفالنهر. كانت
نظراتهم جامحةً، وشُعورهم شعثاءَ، ووجوههم شيطانية صغيرة بأنُوف عريضة مُغطَّاة
(كحال بعض الأطفال حتى في عصرنا الحالي) بقليلٍ مِن الشعر المُنسدِل عليها. كانت
خُصورُهم هزيلةً وأذرُعُهم طويلة. ولم تكن لديهم شحمات في آذانهم، وكانت أطرافُهم
مدبَّبة قليلًا، وهو شكل يوجد حتى الآن، في حالات نادرة. كانوا غجَرًا صِغارًا عارِين تمامًا
ومُفعَمين بالحيوية، في نشاط القِرَدة الكثيرة الثرثرة، رغم افتقارهم إلى الكلمات نوعًا ما.
كان ذووهم الأكبر سنٍّا مُختبئين مِن أفراس النهر المُتخبِّطة عند قمة الهضْبة. وكان
مكان معيشة البشرمِنطقةً مُغطَّاةً بأوراق نبات السَّرخس الملكي الميِّتة البُنِّية اللون، ينتشر
فيها محصول هذا العام من النباتات المُلتوية الأوراق لتَربط الضوء بالدفء. وكانت النِّيران
تتصاعَد من كومة من الفحم، لونُه رَماديٌّ فاتح وأسود فاتح، وكانت العجائز يُزوِّدْنها
من حينٍ لآخر بأوراق الشجر البُنِّية اللون. كان معظم الرجال نائمين؛ إذ ناموا جالسين
واضِعين جباههم فوق رُكَبهم. فقد حصَلوا هذا الصباح على طريدة جيِّدة، تكفي الجميع؛
غزالٍ أصُيب في عراكٍ في موسم التزاوج؛ ومن ثم لم يحدث أيُّ شجار بينهم، حتى إن
بعض النساء ما زلن يَقضمْن اللحم العالق في العظام المُبعثَرة في كل مكان، بينما كانت
عندما « النار الشقيقة » أخريات يصنعن كومة من أوراق الشجر والعِصيِّمن أجل تغذية
يحلُّ الظلام مرةً أخرى، حتى تُصبِح أقوى وأطول وتحميهم من الوحوش. وكانت اثنتان
تُكدِّسان حجر الصوَّان الذي تَحملانه من مُنعطَف النهر حيث كان الأطفال يَلعبون على
ذراعَيهما.
لم يكن أيٌّ من هؤلاء الهمَج الشاحبين يَرتدي أيَّ ملابس، فيما عدا ارتداء البعض
على خصورهم أحزمةً بُدائية مصنوعة من جلد الأفاعي أو من بقايا جلد الحيوانات غير
المُكتمِل المعالجة، تدلَّت منها حقائبصغيرة، ليست مصنوعة بل مزَّقتها مخالب الحيوانات،
وتَحمل حجر الصوَّان المهذَّب ببُدائية والذي كان يُمثِّل أسلحة البشر وأدواتهم الأساسية.
تَرتدي عِقدًا رائعًا مصنوعًا من الحفريات ،« الرجل الماكر » ، كانت سيدة واحدة، زوجة أويا
المثقوبة — ارتداه غيرها من قبل. وبجوار بعضالرجال النائمين ثمَّة قرونضخمة للأيَائل،
نُحتَت أشواكُها لتُصبح ذات حواف حادة، وعِصيٌّ طويلة قُطعت أطرافها بحجر الصوَّان
لتُصبح حادَّة مُدبَّبة. لم يكن يوجد أكثر من هذه الأشياء والنار الخفيفة المُشتعلَة لتُميِّز
لم يَنم، بل جلس « الماكر » البشر عن الحيوانات البرية التي كانت تجوب البلدة. إلا أن أويا
مُمسكًا بعظمة في يده انهمَك في كشطها بحجر صوَّان، وهو أمر لم يكن ليفعله أيُّ حيوان.
كان أكبر الرجال سنٍّا في القبيلة، وكان كثيف الحاجبَين بارزَ الفكَّين طويل الذراعَين، لديه
لِحية، ووَجْنتاه مكسوَّتان بالشَّعر، وكان كثيف شَعر الصدر والذراعَين. وبفضل كلٍّ من
قوَّته ومكره أصبح زعيمًا للقبيلة، وكانت حصَّته دائمًا الأكبر والأفضل.
كانت أودينا مُختبئة بين أشجار جار الماء؛ لأنها كانت خائفة من أويا. كانت لا تزال
فتاةً يانعة، وكانت عيناها لامعتَين وابتسامتها تسرُّمَن يراها. لقد أعطاها قطعةً من الكبد،
وهي قطعة يَحصل عليها الرجال، وهدية رائعة لأيِّ فتاة، لكن عندما كانت تأخذُها نظرَت
إليها السيدة الأخرى ذات العِقد، بنظرة شرِّيرة، وأصدر أوج-لومي صوتًا من حنجرته.
عندها نظَر أويا إليه بثَبات ولفترة طويلة، وبدا التجهُّم على وجه أوج-لومي. ثم وجَّه
أويا نظَرَه إلى الفتاة، فأصُيبت بالخوف، وتسلَّلت خلسة بينما كانوا ما يزالون مُنهمكِين في
تناول الطعام، وكان أويا مُنشغلًا بنُخاع عظْمة. بعد هذا راح يتجوَّل كما لو كان يبحث
عنها. والآن هي جاثمة بين أشجار جار الماء، تتساءل جاهِدةً عما يفعله أويا بحجر الصوَّان
والعظمة، ولم يكن أوج-لومي في مجال رؤيتها.
والآن جاء سنجابٌ يَقفز بين أشجار جار الماء، فجلسَت في هدوء بالغ، حتى إن الفتى
لم يرَها إلا عندما أصبَح على بُعد ست أقدام منها. وعندئذٍ وطئ جذع شجرة وهو يُسرِع
ماذا تفعلين هنا بعيدًا عن » : نحوها، وبدأ يُتمتِم بكلمات غير واضحة موبِّخًا إياها. سألها
لكن لم يكن منه إلا أن ازداد في «. فلْتهدأ » : قالت أودينا «؟ الرجال المُتوحِّشين الآخَرين
التَّمتمَة، ثم بدأت في كسر حبات الصَّنَوْبر الصغيرة السوداء حتى تُلقيَها عليه. تفاداها
وتحدَّاها، فاشتدَّ حماسها ووقفَت حتى ترميَ على نحوٍ أفضل، ثم رأت أويا قادمًا إلى أسفل
الهضْبة. لقد رأى حركة ذراعها الشاحبَة اللون بين الأجمات؛ فقد كان حادَّ البصرللغاية.
عندها نسيَت أمر السنجاب، وانطلقَت بين أشجار جار الماء والبُوص بأسرع ما
يُمكنها. لم تهتمَّ بالمكان الذي ستذهب إليه ما دامت ستَهرب من أويا. خاضت في مُستنقَع
وصل فيه الماء إلى ركبتَيها تقريبًا، ورأت أمامها مُنحدَرًا من نبات السَّرخس، يزداد طولًا
واخضرارًا مع تخطِّيه مِنطقة الضوء ودخوله في ظلِّ أشجار الكَستناء اليافعة. وسرعان ما
أصبحت بين الأشجار؛ كانتسريعة جدٍّا في العَدْو، واستمرَّت في العَدو حتى شاخت الغابة
وزادت الأشجار ضخامة، وصارت جذوع أشجار الكروم — حيث يَصل الضوء — سميكةً
مثل أشجار يافعة، وأضحَت خيوطُ اللبلاب قوية ومَتينة. استمرَّت في العَدو، ضاعفَت من
سُرعتها مرارًا وتكرارًا، حتى استلقَت بين بعض نباتات السَّرخس في حفرة بالقرب من
أجَمة، وأنصتَت وهي تسمع نبضقَلبِها في أذنيها.
سمعتْ وقع خطوات بعيدة تُصدر حفيفًا بين أوراق الشجر الميتة، ثم تلاشىالصوت
وعاد كل شيء ساكنًا مرةً أخرى، باستثناء ما تُحدثه حشرات الذباب الأسود من ضجة
— فقد كان المساء يَقترب — والهمس المُتواصِل لأوراق الشجر. ضَحكتْ في صمتٍ عندما
فكَّرت في أن أويا الماكر سيمرُّ عليها دون ملاحظتها. لم تكن تَشعر بالخوف؛ ففي بعض
الأحيان عندما كانت تلعب مع الفَتيات والصبية الآخرين كانت تَهرُب إلى داخل الغابة، إلا
أنها لم تكن تبتعد على هذا النحو. كان من الممتع أن تَختبئ وحدها.
استلقَت لفترة طويلة في هذا المكان، سعيدة بهروبها، ثم جلست وأنصتَت.
كان ثمَّة وقع أقدام يَتعالى صوتُه قادمٌ نحوها، وبعد فترة قصيرة استطاعَت سماع
قِباع خنازير وصوت تَكسُّر غصون الأشجار. كان هذا قطيعًا من الخنازير البرية الهزيلة
المريعة. استدارَت مُبتعدةً عن المكان — إذ من الممكن أن تؤذيك الخنازير البرية إذا مرَّت
بالقرب منك بشدة على هذا النحو، بسبب الفتحة الجانبية التي تُخرِج منها أنيابها —
وفرَّت بين الأشجار. إلا أن وَقع الأقدام ازداد قربًا، فلم تكن تتناول الطعام أثناء تجوُّلها
هذا، بل كانت تتحرك بسرعة — وإلا ما كانت استطاعت اللحاق بها — فأمسكت بفرع
شجرة كبير وتعلَّقت به مُتأرجحةً حتى صعدت على جذع الشجرة برشاقة تُشبه رشاقة
القرد.
في الأسفل كانت ظهور الخنازير البرية ذات الشَّعر المُنتفِش الحاد تمر بالفعل عندما
نظرت إلى الأسفل. وعلمت أن صوت القباع القصير الحاد الذي تُصدره يعني الخوف. لكن
ما الذي تخاف منه؟ إنسان؟ لقد كانت سرعتها هائلة بما يوحي بأنها لا تهرب وحسب
من إنسان.
ثم فجأة ظهر ظبي صغير وركَضخلف الخنازير البرية؛ مما جعلها تُحكم قبضتها
على الفرع لا إراديٍّا. ومرَّ شيء آخر، صغير رَمادي اللون وجسمه طويل؛ لم تعلم ما هذا،
ففي الواقع لم تره إلا للحظة عبر الفجوات بين أوراق الأشجار الجديدة، ثم سكن كلشيء
للحظات.
ظلت مُترقِّبة ومُحكِمة قبضتها على فرع الشجرة، ومتصلبة كما لو كانت جزءًا من
الشجرة التي تتعلق بها، وهي تنظر إلى الأسفل.
ثم من بعيد بين الأشجار ظهر رجل يَعدو لبُرهة، ثم اختفى، ثم ظهر مُنغمسًا حتى
ركبتيه بين السراخس، ثم اختفى مرةً أخرى. علمت أنه الصبي أوج-لومي من لون شَعرِه
الأشقر، وكان ثمَّة لون أحمر على وجهه. بطريقةٍ ما جعَلها هروبه المذعور وهذه العلامة
القرمزية تَشعُر بالغثَيان. ثم على مسافة أكثر قربًا ظهر رجل آخر يَعدو أيضًا بقوة
ويتنفَّس بصعوبة. لم تَستطِع رؤيته في البداية، ثم رأته واضحًا وأقصرمن الطبيعي، لقد
كان أويا يَجري بخطوات واسعة وعيناه مُحدقتان. لم يكن يُلاحق أوج-لومي. إن وجهه
أبيض اللَّون؛ كان أويا خائفًا! لقد مرَّ بالفعل، وكان صوته ما يزال عاليًا مُرتفعًا، عندما
جاءشيء آخر،شيء ضخم ذو فرو رَمادي، يخطو بخُطًىسريعةٍ سَلِسة، مندفعًا يلاحقه.
تصلَّبت أودينا فجأة، وتوقَّفت عن التنفُّس، وتشنَّجت قبضتها، وحدَّقت بعينَيها.
فلم تكن قد رأت هذا الشيء من قبل، حتى إنها لم تَعُد تراه الآن بوضوح، لكنها علمت
كان اسمه أسطورة، وكان الأطفال يُخيفون بعضهم — وحتى .« رعب الغابة » على الفور أنه
أنفسهم — باسمه، ويَركضون صارخين لمكان المعيشة. لم يَقتل إنسانٌ أيَّ مخلوق مثله
من قبل. وحتى الماموث العظيم كان يَخشىغضبه. كان هذا هو الدُّب الأشهب، سيد العالم
كما كان يُطلَق عليه آنذاك.
الرجال في » : كان يُصدِر صوت زمجرة مستمرٍّا في أثناء ركضه، كما لو أنه يقول
هذا لأنه «! عَريني! عِراك ودماء. في قلب عَريني نفسه، رجال، رجال، رجال. عراك ودماء
كان سيد الغابة والكهوف.
بعد مُضيفترة طويلة على مروره ظلَّت الفتاة متحجِّرة، تُحدِّق إلى الأسفل عبر فروع
الشجرة؛ فقد فقَدت كامل قُدرتها على فعل أي شيء، وتمسَّكت بالشجرة غريزيٍّا بيدَيها
وركبتَيها وقدمَيها. مرَّ بعض الوقت قبل أن تستطيع التفكير، ثم اتَّضح شيء واحد في
أصبح بينها وبين القبيلة، وسيكون من المُستحيل أن تنزل عن « الرعب » ذهنها، أن هذا
الشجرة.
والآن عندما قلَّ خوفها قليلًا تسلَّقت لوضعٍ أكثر راحة، إلى حيث فرع ضخم يُشبه
« النار الشقيقة » الشوكة. كانت الأشجار مرتفعة من حولها، حتى إنها لم تستطع رؤية
المُشتعلة التي كانت مُطفأة خلال اليوم. بدأت الطيور تتحرَّك من حولها، كما بدأت الأشياء
التي اختبأت خوفًا من حركاتها بالزحف إلى الخارج …
بعد مُضيِّبعضالوقت تحوَّل اللون الأزرق فوق رأسها إلى لونٍ داكن، وبدأت فروع
الأشجار تبدو وكأنها تَشتعل ومِن ورائها الشفق الأحمر. وفي الأعلى ذهبت الغربان، التي
كانت أكثر حكمةً من الإنسان، تَنعق ذاهبة إلى أعشاشها بين شجر الدَّردار. وعند النظر إلى
الأسفل، كانت الأشياء أكثر وضوحًا وأكثر دُكنة. فكَّرت أودينا في العودة إلى مكان المعيشة،
مرةً أخرى. وبينما « رُعب الغابة » فنزلت إلى الأسفل بعضالشيء، ثم عاد إليها الخوف من
كانت متردِّدة أصدر أرنبٌصرخة حادَّة كئيبة، فلم تَجرؤ على النزول أكثر.
انسدَلت أستار الظلام، وبدأ النشاط يدبُّ في أعماق الغابة. عادت أودينا إلى أعلى
الشجرة مرةً أخرى حتى تكون أقرب إلى الضوء. وفي الأسفل خرَجَت الأشباح من مخابئها
ومشَت إلى الخارج. وأصبَح لون السماء الأزرق أكثر إعتامًا. ساد سكونٌ مُخيف، ثم بدأ
صوت حفيفِ أوراق الأشجار في التصاعُد.
.« النار الشقيقة » رجفَت أودينا وفكَّرت في
تجمَّعت الآن الظلال في الأشجار، وجلسَت فوق فروعها وراقبَتها. تحوَّلت فروع
الأشجار وأوراقُها إلى أشكالٍ سوداء ومشئومة قد تَهجُم عليها إذا تحرَّكت. ثم أتت البومة
البيضاء، تحوم في صمت، كالطيف عبر الظلال. وعم الظلام العالم أكثر فأكثر، حتى
أصبحَت الأوراق والغُصون بالقرب من السماء سوداء اللون، واختفت الأرض.
ظلَّت هناك طوال الليل، في مراقبة أبدية، مُنصتةً جيدًا بأذنَيها للأشياء التي تتحرك
في الأسفل في الظلام، وتُحاول البقاء دون حركة حتى لا يَكتشف مكانها أحد الوحوش
المُختبئة. فلم يكن المرء في تلك الأيام يبقى وحده قطُّ في الظلام، باستثناء مثل هذه الحالات
النادرة. وعصرٌبعد عصرتعلَّم الإنسان الدرسمن خوفه، وهو درسٌعلينا نحن — سلالتَه
المسكينة — نسيان تعلُّمه في العصر الحاليِّ على نحوٍ مؤلم. كانت أودينا فعليٍّا مثل طفل
صغير، رغم كونها في عمر امرأة. وقد ظلَّت ساكنة كحيوانٍ صغير مسكين، كأرنبٍ بريٍّ
قبل مباغتته.
اجتمعت النجوم وراقبتها، وكانت هذه هي الذرة الوحيدة التي تُشعرها بالراحة. ففي
واحدة لامعة منها تخيَّلت وجودشيء يُشبه أوج-لومي. ثم تخيَّلت أنه أوج-لومي، وبالقرب
منه، كان أويا، أحمر اللون وأكثر شحوبًا، ومع مرور الليل هرب أوج-لومي منه إلى أعلى
السماء.
التي تحمي مكان المعيشة من الوحوش، لكنها لم تكن ،« النار الشقيقة » حاولت رؤية
في مرمى بصرها. ومن بعيد سمعت أفيال الماموث تُصدر أصواتًا من خراطيمها وهي تَنزل
إلى مكان شُرب الماء، ثم سمعت شيئًا ضخمًا بخُطًى ثقيلة يركض مسرعًا، مُصدِرًا ضجة
مثل عِجلٍ صغير، لكنها لم تستطع رؤية ماذا كان. لكنها ظنَّت من صوته أنه وحيد القرن
الذي يَطعن بأنفه ويسير وحيدًا دائمًا ويَغضب دون سبب. ،« ياا »
أخيرًا بدأت النجوم الصغيرة تَختبئ، ثم تبعتها الكبيرة. كان الأمر يشبه اختفاء جميع
كانت الشمس آخذة في الظهور، وهي سيدة السماء، تمامًا .« الرعب » الحيوانات عند ظهور
مثل الدُّب الأشهب سيد الغابة. تساءلت أودينا: ماذا سيَحدث لو تخلف أحد النجوم؟ ثم
شحب لون السماء حتى بزوغ الفجر.
عندما حلَّ الصباح تجاوَزت خوفها من الأشياء المُختبئة، واستطاعت النزول. كانت
قوية، لكنها لم تكن بالقوة التي كنتِ ستُظهرينها، عزيزتي الشابة (بفضل نشأتكِ)، ونظرًا
لأنها لم تتعود على تناول الطعام مرة واحدة على الأقل كل ثلاث ساعات، بل بدلًا من ذلك
كانت دومًا ما تصوم ثلاثة أيام، لم يُؤرقها الشعور بالجوع. نزلت زاحفةً من الشجرة
بحذر بالغ، ومضت في طريقها خلسةً عبر الغابة، ولم تُخِفْها قفزة أرنب ولا حركة غزال،
بقدر ما جمَّد الرعب من الدُّب الأشهب الدِّماء في عروقها.
« الماكر » كانت تريد الآن العثور على قبيلتها مرةً أخرى؛ فقد غلب على خوفها من أويا
رعبٌ أكبر هو رعبُها من الوحدة. لكنها لم تَعُد تعرف الطريق. فقد ركضت دون اكتراث
طوال الليل، ولا يُمكنها تحديد ما إذا كان مكان المعيشة في اتجاه شروق الشمس أم من
حيث تَغرب. كانت من وقت لآخر تقف وتسمع، وأخيرًا، من مكان بعيد للغاية، سمعت
صوت رنين مُنتظم. كان صوتًا خافتًا للغاية حتى في سكون الصباح مما جعَلها تَستشِفُّ
أنه لا بد أن يكون بعيدًا للغاية، لكنها كانت تعلم أنه صوت إنسان يَشحذ حجرَ صوَّان.
بدأت كثافة الأشجار تقلُّ الآن، ثم وجدت فوجًا من نبات القُرَّاص يسدُّ الطريق.
فانعطفت جانبًا، ثم وصَلت إلى شجرة ساقطة على الأرض، كانت تُميِّزها بصوت النحل
الذي يَصدُر منها. وعليه، أصبحَتِ الآن ترى الهضْبة، بعيدة للغاية، والنهر الذي يجري
أسفلها، والأطفال وأفراسالنهر، تمامًا كما كانوا أمس، والطرَفالعلوي الرفيع من الدخَان
يَتمايل في نسيم الصباح. وبعيدًا على ضفاف النهر كانت توجد مجموعة من أشجار جار
الماء، حيث كانت مختبئة. وعند رؤيتها لهذا عاد إليها الخوف من أويا، وزحفت إلى داخل
أجَمة من نبات السَّرخس، ركضمنها أرنب مُسرعًا، ومكثَت لفترة تُراقب مكان المعيشة.
غاب معظم الرجال عن الأنظار، عدا فاو، قاطع الصوَّان، ولهذا شعرت بأمان أكثر.
لقد كانوا بعيدًا يَصطادون الطعام، دون شك. كانت بعضالنساء أيضًا في مجرى النهر في
الأسفل، وكن مُنحنِيات يبحثن عن بلح البحر وجراد البحر وحلزون الماء، وعندما رأت أودينا
انشغالهنَّ شعرت بالجوع. وقفت وركضت عبر السَّرخس عازمةً على الانضمام إليهن. وفي
أثناء ركضها سمعت صوتًا بين السَّرخس يُنادي عليها برقة، فتوقَّفت. ثم سمعت فجأة
صوت حفيف خلفها، وعندما التفتت رأت أوج-لومي يظهر من بين السَّرخس. كانت ثمة
خطوط من الدماء بُنِّية اللون والأتربة على وجهه، وكانت عيناه قاسيتَين، وكان حجر أويا
الأبيضالذي لم يَجرؤ أحدٌ على لمسه عدا أويا، في يده. أخذ خطوة « الحجر الناري » ، الأبيض
فأصبح بجوارها وأمسك بذراعها. جعَلها تلتفت إلى الأمام ودفعها أمامه نحو الغابة. قال:
ولوَّح بذراعَيه. سمعت صيحة ونظرت خلفها فرأت كل النساء منتصبات، واثنتَين «. أويا »
تَخرُجان من الماء. ثم سمعتصرخة أقرب، وكانت السيدة العجوز ذات اللحية، التي كانت
تُراقب النار على الهضْبة، تُلوِّح بذراعيها، ووقف فاو، الرجل الذي كان مُنهمكًا في تقطيع
الصوَّان، على قدميه. كان الأطفال الصغار أيضًا يتحرَّكون مُسرعين ويَصيحون.
وجرَّها من ذراعها. «! تعالَيْ » : قال أوج-لومي
لم تكن تفهم حتى الآن.
فنظرت إلى الخلفمرةً أخرى إلى حشد الأشخاصالصارخين، «. أويا » : قال أوج-لومي
وفهمت إلى حدٍّ ما.
كان فاو وجميع النساء والأطفال قادِمين نحوهما، مجموعة مُتفرِّقة من الأفراد العُراة
ذوي الشعر الأشعث، يَنتحبون ويَقفزون ويصرخون. وفوق الهضْبة أسرع شابان، وفي
الأسفل بين السراخس جهة اليمين جاء رجل، يُوجِّههما بعيدًا عن الغابة. ترك أوج-لومي
ذراعها، وبدأ الاثنان يرَكضان جنبًا إلى جنب، يَقفزان على السراخس ويَخطوان خطوات
واثقة وواسعة. ضحكت أودينا، التي كانت تعرفسرعتها وسرعة أوج-لومي، بصوتٍ عالٍ
على المُطارَدة غير المتكافئة؛ فقد كاناسريعَين للغاية مقارنة بأترابهما في تلك الأيام.
سرعان ما ابتعدا عن المساحة المفتوحة، واقتربا من غابة أشجار الكَستَناء مرةً أخرى،
ولم يكن أيٌّ منهما خائفًا الآن لأن كليهما لم يكن وحيدًا. خفَّفا من سرعتهما، التي لم
تكن بالفعل زائدة عن الحد. وفجأةً صاحت أودينا وانحرَفت جانبًا وهي تُشير وتنظر عبر
جذوع الأشجار. رأى أوج-لومي أقدام وسيقان رجال يركضون نحوه. كانت أودينا قد
هربَت بالفعل إلى الاتجاه المعاكس، وبينما استدار هو أيضًا ليلحق بها؛ سمعا صوت أويا
قادمًا عبر الأشجار يُزمجِر غاضبًا منهما.
دبَّ الرعب في قلبَيهما، ليس الرعب الذي يُخدِّر، بل الرعب الذي يجعل المرء صامتًا
وسريعًا. انفصلا الآن وأصبح كلٌّ منهما في جانب؛ فقد كانا في مطارَدة صعبة. فمن جهة
اليمين، وبالقُرب منهما، جاء الرجال مُسرِعين وبأعداد كبيرة، يقودهم أويا الملتحي، وفي يده
قرن أيَُّل؛ وفي جهة اليسار ظهَر فاو والنساء يَجرون متفرقين عبر السراخس والحشائش
وكأنهم حبوب ذرة صفراء منثورة على الأرض، وحتى الأطفال الصغار اندفعوا من المياه
الضحلة لينضمُّوا إلى المطارَدة. اقتربت المجموعتان منهما؛ فركَضا مُسرعَين، تتقدَّمُهما
أودينا.
كانا يَعلمان أن أحدًا لن يَرحمهما، فلم يكن ثمة نوعٌ من الصيد أحبَّ إلى هؤلاء
البشر القدماء من صيد البشر. فبمُجرَّد إشعال الشغف بالمُطارَدة، كانت الطلائع الواهية
للإنسانية فيهم تذهب أدراج الرياح. وقد وسَم أويا أوج-لومي في الليل بكلمة الموت، فكان
أوج-لومي طريدة اليوم.
ركَضا في خطٍّ مستقيم — فقد كانت هذه فرصتهما الوحيدة — وهما يَتخطيان أيَّ
مساحة من الأرض تَعترض طريقهما؛ مساحة يُغطِّيها نبات القُرَّاص الشائك، وأخرى
خالية تمامًا، ثم أجَمة من الحشائشهرَب منهاضبع مُزمجِر. ثم جاءت الغابة مرةً أخرى،
مساحات واسعة من الأوراق المُتساقطة الرطبة والنباتات الطحلبية الظليلة تحت جذوع
الأشجار الخضراء. ثم جاء مُنحدَر شديد مُغطٍّى بالأشجار، وأفُق مُمتد من الأشجار، ثم
مساحة فارغة، ومساحة خضراء نضرة من الطمي الأسود، ثم مساحة مفتوحة مرةً أخرى،
ثم أجَمة من شجيرات العليق الحادة، تحتوي على آثار لحيوانٍ بداخلها. ومن خلفهم اختفت
آثار المطارَدة وتفرَّقت، بينما ظل أويا يتعقَّبهم. حافظت أودينا على المركز الأول، حيث كانت
في يده. « الحجر الناري » تجري بخفة وتتنفَّس بسهولة؛ لأن أوج-لومي كان يحمل
لقد أثَّر على سرعته، ليس في البداية، لكن بعد بعض الوقت، ومن خلفها تباعدت
خطواته عنها فجأة. فعندما نظرت أودينا وراءها في أثناء اجتيازهما مساحة مفتوحة
أخرى، رأت أوج-لومي خلفها بالعديد من الياردات، وكان أويا يَقترب منه، رافعًا قرن
الأيَُّل بالفعل في الهواء ليَضربه به. أما فاو والآخرون فكانوا يَظهرون بالكاد من ظلال
الغابة.
عندما رأت أودينا أوج-لومي في خطر ركضت إلى جانب الطريق وهي تَنظر إلى
الخلف، ورفعت ذراعيها وهي تَصيح بصوت مرتفع، تمامًا في وقت قذف القرن. وما كان
من أوج-لومي الشاب، الذي توقَّع هذا وفهمصيحتها، إلا أن خَفَضرأسه، حتى إن القذيفة
لم تمسَّ إلا فروة رأسه، فسبَّبت جرحًا بسيطًا، وطارت من فوقه. التفت على الفور، ممسكًا
الكوارتزي في كلتا يدَيه، وقذفه مباشرةً على جسم أويا، وركضبحرية « الحجر الناري » ب
بعد هذه الرمية. صاح أويا، لكنه لم يَستطع تفاديه. ارتطم الحجر به أسفل ضلوعه،
كانتضربة ثقيلة ومُباشرة، فترنَّح وسقط على الأرضدون أيِّ صياح. أمسك أوج-لومي
بالقرن — الذي كان طرَف إحدى شوكاته مُلطَّخًا بدمائه — وواصل الركض مرةً أخرى
مع تساقُط قطرات الدم الحمراء من شعره.
تدحرَج أويا مرتين، واستلقى للحظة قبل أن يَنهض، ثم لم يركض بسرعة، وتغيَّر
لون وجهه. تخطَّاه فاو ثم آخرون، وسعل وتنفَّس بمشقة، لكنه واصل الركض.
أخيرًا وصل الهاربان إلى ضفَّة النهر، حيث كان مجرى الماء عميقًا وضيقًا، وكان
ما يزال بينهما وبين فاو — المُطارِد الأول؛ وهو الرجل الذي صنَع حجارة الضرب —
خمسون ياردة. وكان يحمل في إحدى يديه أحدَها؛ حجرَ صوَّانٍ ضخمًا، في شكل المَحار
لكن في ضِعف حَجمِه، مصقولًا بحيث يُصبِح كنَصل الإزميل.
انطلقا لأسفل علىضفة النهر المُنحدرة حتى وصلا إلى مجرى النهر، واندفعا سابحَيْن
عبرَ مياه النهر العميقة ليَعبُراه في ضربتَين أو ثلاث، وخرَجا منه مرةً أخرى، مُنتعشَيْن
ويقطر منهما الماء، ليتسلَّقا الضفة الأخرى من النهر. كان أمرًا مضنيًا؛ فمع نموِّ شجر
الصفصاف بكثافة هناك كان لا بد من تسلُّقِها بمشقة. وبينما كانت أودينا ما تزال بين
الفروع الفِضية وأوج-لومي في الماء — حيث أعاقه القرن — لاح فاو على الضفة المقابلة،
وجاءت حجارة الضرب، التي قُذفت ببراعة، بجوار ركبة أودينا. كافحت أودينا لتصل لأعلى
الضفَّة، وسقطت.
سمعا المُطارِدِين وهم يَصيح أحدهم إلى الآخر، فتسلَّق أوج-لومي إليها وهو يتحرَّك
في خطٍّ مُتعرِّج حتى يُفسد على فاو تصويبه، وشعر بحجر الضرب الثاني وهو يلمسأذنه،
وسمع الماء يَتناثر من تحته.
عندها أثبت أوج-لومي، الصبي، أنه قد أضحى في منزلة رجل؛ فعندما كان يُواصل
الركض، وجَد أن أودينا تتخلَّف عنه وتَعرج على قدمها، فاستدار وصاح بوحشية، وبوجه
مريع يقطر دمًا، وتظهر عليه علامات الغضب المفاجئ، ركضمسرعًا متجاوزًا إياها عائدًا
إلى الضفة، وهو يضع القرن حول رأسه. أما أودينا فقد استمرت تركض ببسالة، رغم
حاجتها إلى العرج في كل خطوة، وكان الألم حادٍّا بالفعل.
هكذا رأى فاو، عندما كان يصعد فوق الحافَة مُمسكًا بفروع الصَّفصاف المستقيمة،
أوج-لومي يتجاوزه طولًا، ويَبدو ضخم البِنية تحت السماء، ثم رأى جسده بالكامل
يَستدير، ورأى يدَيه مُمسكتَين بالقرن. اندفعت حافَة القرن نحوه في الهواء، ولم يرَ شيئًا
بعد ذلك. تحرك الماء تحت شجر الصفصاف وصنع دوامات، وتحول إلى اللون القُرمزي
لمسافة ست أقدام في النهر. أما أويا، الذي جاء فيما بعد، فقد توقَّف والماء يصل إلى ركبتيه
في منتصف مجرى النهر، فغيَّر الرجل الذي كان يسبح اتجاهه.
أما الرجال الآخرون الذين ذهَبوا في أعقابهما — لم يكن أيٌّ منهم قويٍّا للغاية (فقد
كان أويا ماكرًا أكثر من كونه قويٍّا، فلم يكن يتحمَّل أيَّ مُنافِسين أقوياء) — فقد تباطئوا
لبُرهة عند رؤية أوج-لومي واقفًا هناك فوق الصفصاف، مخضَّبًا بالدماء وشكله مريع،
ليَفصل بينهم وبين الفتاة العرجاء، حاملًا القرن الضخم وملوحًا به. فبدا كما لو أنه دخَل
الماء صبيٍّا، وخرج منها رجلًا مُكتمِل النمو.
كان يعلم ما يوجد خلفه؛ مساحة واسعة من العشب، ثم أجَمة يُمكن لأودينا الاختباء
فيها. كان هذا واضحًا في ذهنه، على الرغم من أن قدراته على التفكير كانت ضعيفة للغاية
لتُمكِّنه مِن توقُّع ما سيحدث بعد ذلك. وقَف أويا والماء يصل إلى ركبتِه، مُتردِّدًا وأعزل. بقي
فمه الضخم مفتوحًا، فظهرت أنيابه، وكان يلهث بشدة. كان جانبه داميًا، وتظهر عليه
كدمات تحت الشعر. كان الرجل الواقف بجانبه يَحمل عصًا مسنونة، أما بقية الصيادين
فصعِدوا واحدًا تلو الآخر إلى أعلى الضفة، وكانوا رجالًا يتَّسمون بالشعر الكثيف والأذرُع
الطويلة، ويُمسكون بأحجار صوَّانٍ وعِصي. ركَض اثنان منهم على طول الضفة في اتجاه
مجرى النهر، ثم انطلقا إلى أسفل إلى الماء؛ حيث ظهَر فاو على السطح يُناضل بضعف.
تحدَّثا إليه بكلام غير مفهوم دون إبداء أيِّ مُحاوَلة فعلية لمساعدته؛ فغاصعلى الفور مرةً
أخرى. وهدد آخران أوج-لومي من الضفة.
ردَّ عليهما، بصيحات وإهانات وإيماءات غير واضحة. ثم أصدَر أويا، الذي كان واقفًا
متردِّدًا، صوتًا غاضبًا كالزئير، وأدار قبضته وخاض الماء مُندفعًا، وتبعه أتباعه متسبِّبين
في تناثُر الماء من ورائه.
نظر أوج-لومي خلفه فرأى أودينا قد اختفَت بالفعل داخل الأجَمة. كان سيفضل أن
يَنتظر أويا، لكن أويا فضَّل أن يصارعه في الماء تحته حتى يُصبح الآخرون بجواره. كان
تكتيك البشر في تلك الأيام، في كل قتال جاد، يَعتمد على أسلوب الحشد. فكانوا يتجمَّعون
حول الفريسة الضعيفة ويَنقضُّون عليها. شعر أوج-لومي بأنهم على وشك الانقضاض
عليه، فرمى القرن على أويا، واستدار وركضهاربًا.
عندما توقَّف لينظر خلفه من داخل ظلال الأجَمة، لم يرَ إلا ثلاثة من مُطارديه هم
الذين تبعوه فقط عبر النهر، وكانوا عائدين مرةً أخرى. وكان أويا، بفمه الذي ينزف، على
الجهة البعيدة من مجرى النهر مرةً أخرى، لكنه كان في موقع أكثر انخفاضًا، وكان يضع
يده على جنبه. أما الآخرون فقد كانوا في النهر يَسحبون شيئًا إلى الشاطئ. وهكذا توقَّفت
المطاردة على الأقل لبعضالوقت.
وقف أوج-لومي يُراقب لفترة، وزمجر عندما رأى أويا، ثم استدار واندفع إلى داخل
الأجَمة.
وفي لحظة جاءت أودينا تُهرع للانضمام إليه، وانطلَقا يدًا بيد. أدرك الألم الذي تُعاني
منه بسبب ركبتها المجروحة، واختار الطُّرُق الأسهل. لكنهما استمرا في السير طوال هذا
اليوم، مِيلًا بعد ميل، عبر غابات وأجمات، حتى وصَلا أخيرًا إلى أرض الطباشير، وهي
مساحة مفتوحة من الحشائش بها غابات نادرة من شجر الزان، وشجر القضبان الذي
عن قرب، ومجموعات من الخيول « ويلدن » يَنمو بالقرب من الماء، واستطاعا رؤية جبال
ترعى معًا. واصَلا السير بحذر، مع البقاء طوال الوقت بالقرب من الأجَمة؛ إذ إن هذه
مِنطقة غريبة، وحتى طُرُقها كانت غريبة. كانت الأرض ترتفع باضطراد، حتى أصبحت
غابات الكَستَناء تمتدُّ تحتهما واسعة وزرقاء اللون، وتَبدو مُستنقَعات نهر التيمز فِضية
اللون، وعالية، وبعيدة. لم يَستطيعا رُؤية أيِّ إنسان؛ حيث كان البشَر، في تلك الأيام، حديثي
عهد بهذا الجزء من العالم، وكانوا يتحرَّكون ببطء على طول النهر. وعند اقتراب المساء
وصَلا إلى النهر مرةً أخرى، لكنه الآن يَجري في شِعب، بين مُنحدَرات عالية من الطباشير
الأبيض الذي كان يتدلَّى فوقَه أحيانًا. وفي أسفل المنحدرات كانت توجد أجَمة من أشجار
القضبان، وكان ثمَّة كثير من الطيور هناك. وفي أعلى الجُرف كانت توجد حافَة صخرية
عند شجرة، فتسلَّقا عليها لقضاء الليل.
لم يكن لديهما أيُّ طعام تقريبًا، ولم يكن التوت ينمو في هذا الوقت من السنة، ولم
يكن لديهما وقتٌ للذهاب من أجل الاصطياد بفخٍّ أو كمين. سارا في صمت يَغلب عليهما
فيه الجوع والإنهاك، يأكلان أغصان الشجر وأوراقه. إلا أن سطح الجُرف كان به عدد
وافر من الحلزون، وداخل شُجَيرة كان يوجد البيض الذي وضعه حديثًا طائر صغير، ثم
صوَّب أوج-لومي على سنجاب في إحدى أشجار الزان وقتله، وهكذا استطاعا أخيرًا تناول
طعام جيد. تولى أوج-لومي الحراسة طوال الليل، واضعًا ذقنه بين ركبتيه؛ وسمع صوت
نباح الثعالب الصغيرة، وضجة أفيال الماموث في أسفل الشِّعب، وصياح الضباع وعوائها
من مكان بعيد. كان الجو باردًا، لكنهما لم يَجرُؤا على إشعال نار. ومتى كان يغفو كانت
رُوحه تُغادره وتلتقي مباشرةً بروح أويا، وكانتا تتعارَكان. كان أوج-لومي يحلم دومًا بأنه
يُصاب بالشلل فلا يستطيع توجيهضربات أو الركض، ثم يستيقظ فجأة. حلمت أودينا
أيضًا بأشياءشريرة عن أويا؛ ومن ثم استيقظ الاثنان والخوف منه يَعتمل في قلبَيهما، ومع
بزوغ ضوء الفجر رأَيَا وحيد قرن ذا صوف يَسير مُتخبِّطًا في أسفل الوادي.
في أثناء النهار داعب كلٌّ منهما الآخر، وكانا سعيدَين بأشعة الشمس. وكانت ساق
أودينا مُتيبِّسة للغاية حتى إنها جلست على الحافَة طوال اليوم، أما أوج-لومي فقد عثَر
على أحجارصوَّانضخمة ناتئة من واجهة الجُرف، أكبر بكثير من أيِّ أحجار رآها من قبل،
وجرَّ بعضها إلى الحافَة الصخرية وبدأ في تقطيعها، حتى يكون مُسلَّحًا ضد أويا عندما
يأتي مرةً أخرى. وعند إمساكه بأحدها ضحك بشدة، وضحكت أودينا، وواصَلا الضحك
بسخرية. كان به ثقبٌ، وضعا فيه أصابعهما؛ فقد كان أمرًا مضحكًا حقٍّا. ثم نظر كلٌّ
منهما إلى الآخر من خلاله. بعد ذلك، أحضر أوج-لومي لنفسه عصًا وأدخلها بالصدفة
داخلَ هذا الحجر المضحك؛ فدخلت العصا وعلقت فيه؛ فقد أدخلها بقوة شديدة بحيث
أصبح من الصعب عليه سحبها. كان هذا لا يَزال غريبًا، بالكاد مُضحِكًا وشبه مخيف،
ولبعض الوقت لم يكن أوج-لومي يَرغب في لمس هذا الشيء؛ فكان الأمر كما لو أن حجر
الصوَّان قد قضَم العصا وأمسكها بأسنانه. لكنه اعتاد على هذا المزيج الغريب. بدأ يُلوِّح
بالعصا، وأدرك تقريبًا أن العصا مع الحجر الثقيل المُثبَّت في طرَفها تُوجِّه ضربة أفضل
من أيِّ شيء عرفه. ذهب جَيْئة وذهابًا وهو يُلوِّح بالعصا، ويَضرب بها، لكنه بعد فترة
سئم منها وألقاها جانبًا. وفي المساء، صعد إلى حافَة المُنحدَر الأبيض، وجلس يُراقب جُحر
أرنب حتى خرجت الأرانب للعب. لم يكن يوجد بشرٌفي الجوار، وكانت الأرانب غافلة. رمى
بحجرِضربٍ كان قد صنعه، وقتل واحدًا.
في هذه الليلة أشعَلا نارًا من شرارات حجر الصوَّان وسعف السراخس، وتحدثا
وتداعبا حولَها. وفي نومهما جاءت رُوح أويا مرةً أخرى، وفجأةً، بينما كان أوج-لومي
يُحاول عبثًا محاربتها، ظهر حجر الصوَّان المُضحِك المُلتصِق بالعصا في يده، وضرب أويا
به، ويا للعجب! فقد قتَله. لكن جاءت بعد ذلك أحلامٌ أخرى عن أويا؛ فالأرواح تتحمَّل كثيرًا
من القتل، وكان يتعيَّن قتله مرةً أخرى. ثم بعد ذلك، لم يبقَ الحجر في العصا. استيقظ
مُتعبًا ومكتئبًا إلى حدٍّ ما، وظل عابسًا طوال فترة ما قبل الظهيرة، على الرغم من حنان
أودينا معه، وبدلًا من الذهاب إلى الصيد جلس يَصنع حافَة حادَّة لحجر الصوَّان الفريد،
ويَنظر إليها على نحو غريب. بعد ذلك ربط حجر الصوَّان المثقوب فوق العصا بشرائط
من فروة الأرنب. بعد هذا سار ذهابًا وإيابًا على الحافَة الصخرية وهو يَضرب بها ويُتمتِم
لنفسه ويفكر في أويا. كان يشعر بحدَّتها الشديدة وثقلها في يده.
لعدة أيام، أكثر من قدرة أيِّ إنسان على العدِّ في تلك الأيام — خمسة أيام على الأرجح،
أو ستة — ظل أوج-لومي وأودينا على هذه الحافَة الصخرية في شِعب النهر، وتخلَّصا
من كل خوفهما من البشر، وكانت النار التي يُشعلانها تُصدر لهيبًا أحمر اللون في الليل.
كانا يَشعُران بسعادة بالغة معًا؛ فقد كان الطعام متوافرًا في كل يوم، وكان الماء عذبًا، ولم
يكن يوجد أعداء. تحسَّنت ركبة أودينا في غضون بضعة أيام؛ إذ كان جلد هؤلاء البُدائيين
القدماءسريع الالتئام. في الواقع كانا في غاية السعادة.
وفي أحد هذه الأيام، رغم أن هذا لا علاقة كبيرة له بهذه القصة، أسقط أوج-لومي
قطعة كبيرة من الصوَّان من على الجُرف. لقد شاهدها وهي تسقط، وتَثب عبر ضفة النهر
لتسقط في مائه، وبعد الضحك والتفكير في الأمر بعضالشيء حاول بقطعة أخرى. حطَّمت
هذه القطعة شُجَيرةً للبندق بأكثر طريقة ممتعة على الإطلاق. قضَيا طوال النهار في إسقاط
الحجارة من الحافَة الصخرية، وفي المساء اكتشفا أن هذه التسلية الجديدة والمُمتعة يمكن
ممارستها أيضًا من حافَة الجُرف. وفي اليوم التالي نسيا هذه المتعة، أو على الأقل بدا أنهما
نسياها.
إلا أن أويا جاء في الأحلام ليُفسد عليهما هذه الجنة؛ فقد جاء يُقاتل أوج-لومي
طوال ثلاث ليال. وفي الصباح بعد هذه الأحلام كان أوج-لومي يسير ذهابًا وإيابًا، يُهدِّده
ويلوِّح بالفأس، ثم أخيرًا أتى الليل بعدما قتل أوج-لومي ثعلب الماء بضربة على رأسه،
وأقاما مأدُبةً احتفالية عليه. ذهَب أويا بعيدًا للغاية، واستيقظ أوج-لومي مُقطِّبًا حاجبَيه
الكثيفَين، وأخذ فأسه ومد يده نحو أودينا وطلب منها انتظاره عند الحافَة الصخرية. ثم
تسلَّق إلى أسفل الجُرف الأبيض، ونظر إلى الأعلى مرة واحدة مِن أسفله ولوَّح بفأسه، ودون
النظر مرةً أخرى إلى أعلى سار يخطو بخطًى واسعة على طول ضفة النهر حتى اختفى
وراء المُنحدَر البارز عند المنحنى.
مكثَت أودينا يومين وليلتين وحدَها عند النار على الحافَة تَنتظر، وفي الليل كانت
الوحوش تعوي في كل مكان على المُنحدَرات وفي أسفل الوادي، وعلى المُنحدَر المقابل لها
كانت الضِّباع الحدباء تتجوَّل سوداء اللون تحت السماء. لكن لم يقترب منها أيُّ شيء
شرِّير إلا خوفها. ومن بعيد سمعت صوتَ زئير أسد، يتبع الخيول القادمة نحو الشمال
فوق الأراضيالعُشبيَّة مع قدوم الربيع. انتظرت طوال هذا الوقت، وكان الانتظار مؤلمًا.
وفي اليوم الثالث عاد أوج-لومي، أعلى النهر. كان بشَعره بعضٌمن ريشغراب، وكانت
فأسه ملطخة باللون الأحمر، وعليها شعرات سوداء طويلة، وكان يَحمل العِقد المعروفبأنه
المفضَّل لأويا في يده. سار في المناطق الرخوة، ولم يَكترث على الإطلاق لآثار أقدامه. وباستثناء
«! أويا » : جرحٍ مفتوح أسفل فكه لم تكن توجد أيُّ جروح بجسمه.صاح أوج-لومي متهلِّلًا
ورأت أودينا أن الأمر سار على ما يُرام. ألبس أودينا العِقد، وتناولا الطعام والشراب معًا.
وبعد تناول الطعام بدأ يُعيد عليها القصة بأكملها من البداية، عندما وقعَت عينا أويا
على أودينا، وعندما طارد أويا وأوج-لومي دُبٌّ وهما يَتعارَكان في الغابة، مُستعيضًا عن
الكلمات الوافية بكثير من الإيماءات التمثيلية، قافزًا على قدمَيه وملوِّحًا بفأسه الحجرية
عندما وصل إلى الحديث عن العراك. كان العراك الأخير عراكًا هائلًا؛ حيثضرَب الأرض
برجليه وصاح، ونفخ نفخة في النار أرسلت وابلًا من الشرر إلى الأعلى في ظلام الليل. احمرَّ
وجه أودينا فيضوء النار، وكانت تُحدِّق فيه، ووجهها متورِّدٌ وعيناها تلمعان، والعِقد الذي
صنَعه أويا حول عنقها. كان هذا الوقت رائعًا، وكانت النجوم التي تُطلُّ علينا الآن تَنظر
إليها، جدتنا هذه؛ التي مضىعلى وفاتها الآن نحو خمسين ألف سنة
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.