hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

دخل الرجل ذو الوجه الشاحب عربةَ القطار في بلدة رجبي. كان يتحرك ببطء على الرغم
من تعجُّل حمَّاله، وحتى حينما كان لا يزال على رصيف المحطة، لاحظتُ كَمْ بدا مريضًا.
هوى جالسًا في الركن قبالتي وهو يتنهد، وبذل محاوَلةً غير مكتملة لتسوية تَلْفيعة السفر
خاصته، ثم صار بلا حَراك، وأخذت عيناه تحدِّقان دون أن يبدو عليهما أيُّ تعبير. وما
لبث أن حرَّكه شعورُه بمراقبتي له، فرفع ناظريه إليَّ، ومدَّ يدًا هزيلةً نحو صحيفته، ثم
ألقى مجددًا نظرةًسريعةً ناحيتي.
تصنَّعت القراءة، وخشيت أن أكون عن غير قصدٍ مني قد سبَّبتُ له إحراجًا، وبعد
هنيهة فُوجِئت حين وجدتُه يتكلم.
«؟ عفوًا » : قلت
«. إن هذا كتابٌ عن الأحلام » : كرَّر قوله، مشيرًا بإصبع هزيلة
لفورتنام-روسكو، والعنوان « حالات الأحلام » إذ إنه كان كتاب «. هذا واضح » : رددتُ
كان على الغلاف.
نعم، ولكنهم لا » : لبث صامتًا لبرهة كما لو كان يلتمس الكلمات، وقال في النهاية
«. يقولون لك شيئًا
لثانيةٍ لم أدرك ما يقصد.
«. إنهم لا يعرفون » : أضاف قائلًا
نظرتُ إلى وجهه بقدرٍ أكبر قليلًا من الانتباه.
أنا لا أجادِل أبدًا طرحًا من ذلك النوع. ثم تردَّدَ في القول «. يوجد أحلام، وأحلام » : قال
«. أتصور … هل سبق لك أن حلمتَ؟ أعني أحلامًا واضحة » : واستطرد
حلمٌ بمعركة هرمجدون
إنني أحلم قليلًا جدٍّا. لا أظن أنني أرى ثلاثة أحلام واضحة في العام » : أجبتُ قائلًا
«. الواحد
وبدا للحظةٍ أنه كان يستجمع أفكارَه. «! آه » : قال
أَلَا تختلط أحلامك مع ذكرياتك؟ أَلَا تجد نفسك في شكٍّ: هل حدث هذا » : وسأل بغتةً
«؟ أم لم يحدث
هذا لا يكاد يحدث على الإطلاق. باستثناءِ تردُّدٍ لحظي بين حين وآخَر. أظن أن قليلًا »
«. من الناس يتعرَّضون لهذا
«… هل يقول المؤلف » : أشار إلى الكتاب قائلًا
يقول إنه يحدث أحيانًا، ويقدِّم التفسيرَ المعتاد بشأن شدة الانطباع وما شابَهَ؛ ليبيِّن »
«… أن الأمر لا يحدث كقاعدة. أتصوَّر أنك تعلم شيئًا عن هذه النظريات
«. النزر اليسير؛ ومع ذلك، فإنني أرى أنها خاطئة »
عبثت يده النحيلة بإطار النافذة لفترةٍ من الوقت. استعددتُ لكي أواصِل القراءة،
ويبدو أن ذلك عجَّلَ بملاحظته التالية؛ فمال إلى الأمام حتى بَدَا أنه سيلمسني.
«؟ أليس ثمةشيءٌ يُدعَى الأحلام المتعاقِبة؛ تلك التي تتوالى ليلةً بعد ليلة » : وقال
أظن أنه يوجدشيءٌ كهذا. ثمة حالاتٌ واردة في معظم الكتب التي تتناول الاضطرابَ »
«. العقلي
الاضطراب العقلي! نعم. أحسبها موجودة، إنه المقام المناسب لتلك الحالات. بَيْدَ أن »
هل هذا النوع من الأشياء هو » : ونظر إلى مفاصل أصابعه الهزيلة، وسأل «… ما أعنيه
حلم؟ أم هوشيء آخَر؟ أليس من المحتمل أن يكون شيئًا « هو » دومًا من قبِيل الأحلام؟ هل
«؟ آخَر
كان ينبغي أن أتجاهل حديثَه اللجوج لولا القلق المرتسِم على وجهه. أتذكَّر الآن نظرةَ
عينيه الذابلتين وجفنَيْه المحمَرَّين، ولعلك تعرف تلك النظرة.
إنني لا أجادل لمجرد الجدال بشأنِ مسألةٍ تحتمل أكثرَ من رأي. إن هذا الأمر » : قال
«. يوشك أن يقضيعليَّ
«؟ الأحلام »
إنْ كنتَ تدعوها أحلامًا. ليلةً بعد ليلة. وواضحة! شديدة الوضوح … هذا … (أشار »
إلى المنظر الطبيعي الذي مضىيَسْري من النافذة) يبدو زائفًا بالمقارَنة بها! بالكاد يمكنني
«… أن أتذكَّر مَن أكون، والشأن الذي أنا بصدده
«… حتى الآن » : صَمَت لبرهة، ثم أضاف
«؟ أتقصد أنه دائمًا الحلم نفسه » : تساءلت
«. لقد انتهى »
«؟ أتعني »
«. لقد مِتُّ »
«؟ مِتَّ »
دُمِّرتُ وقُتِلتُ، والآن جزءٌ كبير مني بحسب هذا الحلم أصبح ميتًا، ميتًا إلى الأبد. »
حلمتُ أنني رجلٌ آخَر، يعيش في ناحية أخرى من العالَم وفي زمن آخَر. حلمتُ بذلك ليلةً
بعد ليلة. ليلةً بعد ليلة أستيقظ لأجد نفسي في تلك الحياة الأخرى؛ مشاهد جديدة وأحداث
«… جديدة، حتى وصلتُ إلى النهاية
«؟ عندما مِتَّ »
«. عندما مِتُّ »
«… ومنذ ذلك الحين »
«… لا. حمدًا للرب! تلك كانت نهاية الحلم » : قال
كان جليٍّا أنه مقدَّرٌ لي الاستماع إلى قصةِ هذا الحلم. وعلى العموم، كان أمامي ساعة،
تعيش في زمن » : والضوء كان يذوي سريعًا، وفورتنام-روسكو يمتلك أسلوبًا مملٍّا. قلت
«؟ مختلف، أتعني في عصرمغاير
«. نعم »
«؟ في الماضي »
«. لا، في المستقبل … في المستقبل »
«؟ عام ثلاثة آلاف، مثلًا »
لا أعرف أيَّ عامٍ كان. كنت أعرف حينما كنت نائمًا، أعني حينما كنت أحلم، ولكن »
ليس الآن؛ ليس الآن وأنا مستيقظ. ثمة أمورٌ كثيرة نسيتها منذ استيقظتُ خارجًا من هذه
الأحلام، على الرغم من أنني كنت أعرفها وقتما كنت … أظن أن الأمر كان حلمًا. كانوا
«؟ يطلقون عليه « كانوا » يُسمُّون العامَ على نحوٍ مختلف عن طريقتنا في تسميته … ماذا
«. لا. إنني أنسى » : وضع يده على جبهته. ثم قال
جلس وهو يبتسم ابتسامة خفيفة. للحظةٍ خشيتُ أنه لم يكن ينوي أن يحكي لي
حلمه. إنني عادةً أكره الناسَ الذين يحكون أحلامهم، إلا أن هذا الأمر جذب انتباهي على
«… بدأ الأمر » : نحوٍ مختلف، حتى إنني قدَّمتُ له المساعدة؛ إذ اقترحتُ استهلالًا لكلامه
كان واضحًا من البداية. يبدو أنني كنت أستيقظ فيه فجأةً، والأمرُ المستغرَب أنني »
في هذه الأحلام التي أتحدَّث عنها لم أتذكَّر مطلقًا هذه الحياةَ التي أحياها الآن. بَدَا الأمر
وكأنَّ حياةَ الحلم كانت كافيةً ما دامَتْ مستمرة. ربما … لكنني سوف أقول لك كيف أجد
حالي حينما أبذل قصارى جهدي كي أسترجع الأمر كله. أنا لا أتذكر أي شيء بوضوح إلى
اللحظة التي وجدتُ نفسيفيها جالسًا فيما يشبه الرواق متجهًا بناظرَيَّصوبَ البحر. لقد
كنتُ في غفوة، وفجأةً استيقظتُ وأنا أشعر بالانتعاش والنشاط. ليس الأمر كالحلم مطلقًا؛
«. لأن الفتاة قد توقَّفت عن تَهْوِيتي
«؟ الفتاة »
«. نعم، الفتاة. يجب ألَّا تقاطعني وإلا فإنك سوف تُربِكني »
«؟ هل ستظن أنَّ بي جِنَّة » : توقَّفَ فجأةً، ثم قال
«. لا، إنك كنتَ تحلم. قُصَّعليَّ حلمَك » : أجبتُه قائلًا
استيقظتُ — حسبما أظن — لأن الفتاة قد توقَّفت عن تَهْوِيتي. لم أفُاجَأ إذ وجدتُني »
هناك، أو أيشيء من هذا القبيل، أنت تفهم ذلك. لم أشعر أنني قد دخلتُه فجأةً، كلُّ ما في
الحياةِ — حياةِ القرن « هذه » الأمر أنني تذكَّرتُه من تلك النقطة. أيُّ ذكرى كنت أملكها من
التاسع عشر هذه — تلاشت وأنا أستفيق، زالتْ كحلمٍ. كنت أعلم كلَّشيء عن نفسي، أعلم
أن اسمي لم يَعُد كوبر ولكن هيدون، وكل شيء عن منزلتي في العالَم. لقد نسيتُ الكثير
«. منذ أن استيقظت، ثمة افتقارٌ للترابُط، ولكنَّ كلَّشيء كان واضحًا وواقعيٍّا تمامًا وقتئذٍ
توقَّف ثانيةً، وهو يُمسِك بإطار النافذة، ويتجه بوجهه إلى الأمام، ويرفع نظره نحوي
مناشدًا:
«؟ أيبدو لك هذا هراءً »
«. لا، لا! تابِعْ. قلْ لي كيف كان يبدو هذا الرواق » : صحتُ قائلًا
لم يكن في واقع الأمر رواقًا، لا أعرفماذا أدعوه. كان مواجهًا للجنوب، وكانصغيرًا، »
كان كله في الظل عدا المساحة نصف الدائرية بأعلى الشُّرفة التي كانت تُظهِر السماء
والبحر والركن حيث كانت تقف الفتاة. كنت جالسًا على أريكة؛ كانت أريكةً معدنية عليها
وسائدُ بخطوط فاتحة، وكانت الفتاة مائلةً بجسدها تجاه الشُّرفة وظهرها ناحيتي. سقط
ضوء الشروق على أذنها وخدِّها. وكان عنقها الجميل الأبيض، والخصلات الصغيرة التي
استقرت هناك، وعاتقها الأبيض، في الجانب المشمس، وجسدُها بكل طلاوته كان في الظل
البارد الأزرق. كانت ترتدي ملابس … كيف يمكنني أن أصفها؟ كانت بسيطةً ومُنسابة
على جسدها. وبالإجمال هنالك وقَفَتْ، فتجلَّى لي كَمْ هي جميلة وجذابة، وكأنني لم أكن قد
رأيتُها مطلقًا من قبلُ. وحينما تنهَّدتُ أخيرًا وانتصبتُ بجسدي مستنِدًا على ذراعي، حوَّلتْ
«… وجهها نحوي
وتوقَّف عن الكلام.
لقد عشتُ ثلاثًا وخمسين سنة في هذا العالم. كان لي أم، وأخوات، وأصدقاء، وزوجة، »
وبنات؛ أعرف وجوهَهم جميعًا، وتعابيرَ وجوههم. لكن وجه هذه الفتاة … يبدو لي حقيقيٍّا
أكثر بكثير. أستطيع أن أسترجعه حتى تتسنَّى لي رؤيته ثانيةً، يمكنني أن أخُطَّه بالقلم أو
«… أن أرسمه بالريشة والألوان. وعلى الرغم من كل ذلك
توقَّف عن الكلام، لكنني لم أَقُل شيئًا.
هو وجه في حلم، وجه في حلم. كانت جميلة؛ ليس ذلك الجمال المروع، والبارد، »
والمقدس، كجمالِ قديسة، ولا ذلك الجمال الذي يلهب مشاعرَ جيَّاشة، لكنه نوعٌ من التألُّق؛
شفتان عذبتان دمِثَتان في هيئةِ ابتسامات، وعينان رَماديتان غامضتان. كانت تسير متمايلةً
«… بحركاتٍ رشيقة، وبَدَا كما لو أنها تمدُّك بكل الأمور المبهجة واللطيفة
توقَّفَ عن الكلام، وكان وجهُه متَّجهًا إلى أسفل وملامحه غير ظاهرة. ثم شخَصَ
ببصره إلى أعلى نحوي وتابَعَ حديثه، دون أن يبذل أيَّ محاوَلة أخرى لإخفاء إيمانه المُطلَق
بواقعية قصته.
لقد تخلَّيتُ عن خططي وطموحاتي، تخلَّيتُ عن كل ما عملتُ لأجله أو ابتغيته، من »
أجلها. لقد كنتُ سيدًا مطاعًا هناك في الشمال، ذا نفوذ وممتلكات وسُمْعة عظيمة، بَيْدَ أنه
لم يَبْدُ أن أيٍّا من هذا جديرٌ بحيازته بالمقارَنة بها. لقد جئتُ معها إلى ذلك المكان — هذه
المدينة ذات المُتَع البهيجة — وتركتُ كلَّ تلك الأشياء تتداعى وتنهار لمجردِ أن أنقذ على الأقل
ما تبقَّى من حياتي. وعندما كنتُ أحبها قبل أن أعرف أنها تُكِنُّ لي أي اهتمام، وقبل أن
أتصوَّر أنها قد تجرؤ — أننا ينبغي أن نجرؤ — على البوح بهذا الحب، بدت حياتي كلها
هباءً منثورًا. ليلةً بعد ليلة، وخلال الأيام الطويلة « كانت » . بلا قيمةٍ وفارغةً، هباءً منثورًا
التي كنت أشتاق فيها إليها وأبتغيها، كانت نفسي تَتُوق إلى الشيء المحظور!
بَيْد أنه مستحيلٌ على رجلٍ أن يخبر رجلًا آخَر هذه الأشياء بالضبط. إنها عاطفة،
إنها أثرٌ لا يُرى، ضوء يأتي ويذهب. فقط عندما تكون موجودة، يتغيَّر كلُّشيء، كلُّشيء.
«. المسألةُ هي أنني ابتعدتُ وتركتهم في أزمتهم ليفعلوا ما في استطاعتهم
«؟ تركتَ مَن » : سألته حائرًا
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.