hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

يقولون إن العالم تغيَّر في الفترة بين عامَي ١٨٠٠ و ١٩٠٠ أكثر مما تغيَّر خلال الخمسمائة
عام التي سبقتها. كان القرن التاسع عشر فجر عهد جديد في تاريخ البشرية؛ حقبة المدن
الكبرى ونهاية النظام القديم للحياة في الريف.
في بداية ذلك القرن، كان أغلبية البشر ما زالت تعيش في الريف كما اعتاد من قبلهم
آلاف الأجيال. عاش البشر في العالم بأجمعه حينذاك في مدن وقرًى صغيرة، وعملوا إما
بشكل مباشر في الزراعة وإما في مهن ذات صلة بها. كانوا نادرًا ما يسافرون، وكانوا
يعيشون بالقرب من مكان العمل؛ لأنه لم تكن ثمة وسائل مواصلات سريعة قد ظهرت
بعد. والقلة القليلة من الناس الذين كانوا يسافرون كانوا يفعلون ذلك سيرًا على الأقدام أو
على متن السفن البطيئة أو الخيول التي لا تقوى على السفر أكثر من ستين ميلًا في اليوم!
تخيَّلوا، ستين ميلًا فقط في اليوم! في تلك الأيام التي تتسم بالبطء في كل شيء، كانت ثَمة
مدن في أماكن مُتفرِّقة تتزايد مساحتها على نحو يفوق جاراتها باعتبارها موانئ أو مراكز
للحكم، لكن جميع المدن حول العالم التي كان يقطنها أكثر من مائة ألف شخص كانت
تُعَد على الأصابع. هكذا كان الحال في بداية القرن التاسع عشر. أما في نهايته، فقد أدَّى
اختراع السكك الحديدية والتلغراف والسفن البخارية والآلات الزراعية مُعقَّدة التركيب إلى
تغيير كل هذا تغييرًا لا رجعة فيه. ففجأة أصبحت المَتاجر الكبرى والملذات المُتنوِّعة ووسائل
الراحة التي لا حصرلها متاحةً في المدن الكبرى، ولم يمرَّ وقت طويل على ظهورها حتى
أصبحت تُنافِس الموارد المنزلية في المراكز القروية. انجذب البشر إلى المدن أكثر وانخفض
الطلب على العمالة بسبب الآلات واختفت الأسواق المحلية تمامًا، وحدث نموسريع في المراكز
الكبرى على حساب الريف.
كان تدفُّق الناس إلى المدن هو دائمًا ما يشغل كُتاب العصر الفيكتوري باستمرار.
لُوحِظ هذا الأمر في بريطانيا العظمى ونيو إنجلاند، وفي الهند والصين كذلك. في كل مكان،
كان هناك عدد من المدن الآخذة في النمو تحل محل النظام القديم في العيش، وأصبح ذلك
شيئًا ملحوظًا. وكونُ هذا نتيجة حتمية لتحسُّن وسائل السفر والانتقال وظهور وسائل
انتقال أكثر سرعة شيءٌ لم يُدرِكه سوى القلة القليلة؛ وصُنِعت خُطط لا طائل من ورائها
للتغلُّب على الجاذبية الغامضة للمراكز الحضرية ومحاولة إبقاء الناس في الريف.
مع ذلك، فإن تطوُّرات القرن التاسع عشركانت مُجرَّد بداية نظام جديد. كان الجيل
الأول من المدن الكبرى غير مُريح على الإطلاق وكانت سماء تلك المدن مُعتِمة بسبب الدخان
والضباب ومليئة بالضوضاء وتفتقر إلى الجو الصحي، لكن كل هذا تغيَّر مع اكتشاف
طرق جديدة للبناء والتدفئة. بين عامَي ١٩٠٠ و ٢٠٠٠ ، كان إيقاع التغيُّر أسرع وتيرة من
ذي قبل؛ وأما بين عامَي ٢٠٠٠ و ٢١٠٠ فقد جعل التطوُّر البشري المُتسارِع عهد الملكة
فيكتوريا الفاضلة في النهاية كما لو كان مُجرَّد خيال صعب التصوُّر عن أيام شاعرية
هادئة.
كان ظهور السكك الحديدية أول خطوة في تطوُّر وسائل المواصلات التي أدَّت أخيرًا إلى
إحداث ثورة في حياة الإنسان. وبحلول عام ٢٠٠٠ ، اختفت السكك الحديدية والطرق تمامًا.
أصبحت السكك الحديدية بعد نزع القضبان منها مُجرَّد نتوءات وحُفَر مليئة بالحشائش
تُشوِّه وجه العالم. واستُعيض عن الطرق القديمة — تلك المساراتُ الغريبة البدائية التي
كانت تُصنَع من التراب وصخر الصوَّان والتي طُرِقت يدويٍّا أو سُوِّيت بأسطوانات حديدية
خشنة السطح وغطَّتها القذارات المختلفة، وحوَّلتها الحوافر الحديدية للحيوانات إلى حُفَر
وآثار في الأرض يبلغ عمقها بضع بوصات — بمسارات حديثة مصنوعة من مادة تُسمَّى
نسبة لاسم مُخترِعها، إيدهام، والتي تُعتبَر، بالإضافة إلى اختراع الطباعة « إيدهامايت »
والمُحرِّك البخاري، أحد الاكتشافات التي شكَّلت تلك الحقبة الجديدة من تاريخ البشرية.
عندما اكتشف إيدهام هذه المادة، كان على الأرجح يظن أنها مُجرَّد بديل رخيص
للمطاط حيث كانت تبلغ تكلفة الطن بضعة شلنات فقط. لكن لا يمكن التكهُّن بمزايا أي
اكتشاف. كان الفضل في اكتشاف إمكانية استخدام تلك المادة يرجع لرجل عبقري يُسمَّى
وورمينج ليس فقط من أجل إطارات السيارات بل كمادة لصنع الطرق؛ وهو الشخص
الذي وضع نظامًا للشبكة العملاقة من الطرق العامة التيسرعان ما غطَّت العالم.
كانت تلك الطرق العامة مُقسَّمة طوليٍّا لعدة مسارات؛ كان أبعدها للخارج مُخصَّصًا
للسائرين على أقدامهم ووسائل النقل التي تسير بسرعة تقل عن ٢٥ ميلًا في الساعة،
أما الوسطى فكانت مُخصَّصة للسيارات التي يمكن أن تصل سرعتها إلى مائة ميل، وأما
المسارات الداخلية فخصَّصها وورمينج للمركبات التي تسير بسرعات تصل إلى مائة ميل
في الساعة أو تزيد عن ذلك (معرِّضًا نفسه بذلك لقَدرٍ هائل من السخرية والتهكُّم).
لمدة عشر سنوات، كانت المسارات الداخلية التي صنعها وورمينج شاغرة، لكن قبل
موته، أصبحت أكثر المسارات ازدحامًا، وكانت تسير فيها السيارات ذات الهياكل الكبيرة
الخفيفة والإطارات التي يصل قطرها إلى عشرين أو ثلاثين قدمًا بسرعات زادت تدريجيٍّا
كل عام لتصل إلى مائتَي ميل في الساعة، وبانتهاء هذه الثورة، حدثت ثورة مُوازية غيَّرت
وجه المدن التي لم يتوقف اتساعها. قبل تطوُّر العلوم التطبيقية، كان الضباب والقذارة
المُميِّزان للعصرالفيكتوري قد اختفيا. حلَّت التدفئة بالكهرباء محل النار (كان إشعال نار
عام ٢٠١٣ تبعث دخانًا تهمة يُعاقِب عليها القانون)، كما كانت كل طرق المدينة والميادين
والساحات العامة مُغطَّاةً بمادة اختُرعت حديثًا تُشبِه الزجاج. ازداد ارتفاع أسطح المنازل
في لندن على نحو مُستمِرٍّ وألُغِيت قوانين حمقاء وضيقة الأفق كانت تمنع بناء الأبنية
المرتفعة، وامتلأتْ سماء المدينة بالأبنية المرتفعة بعد أن كانت مليئة بالبيوت القصيرة
الصغيرة ذات التصميمات غير المُميَّزة التي عفا عليها الزمن. وأضُيفَ مرفق آخر لمرافق
الماء والإنارة والصرف الصحي وهو مرفق التهوية.
لكن سرد كل التغيُّرات التي حدثت في وسائل الراحة للبشر خلال هذَين القرنَين،
واختراع الطائرات الذي كان مُتوقَّعًا منذ زمن طويل، ووصف الكيفية التي حلَّت بها الحياة
في الفنادق التي لا حصرلها محل الحياة في المنازل، وكيف أن أولئك الذين كانوا لا يزالون
مُهتمِّين بالعمل في الزراعة انتقلوا للعيش في المدن وكانوا يذهبون ويعودون يوميٍّا من
عملهم إلى مكان سكنهم، وكيف أنه لم يتبق في إنجلترا كلها سوى أربع مدن فقط تحوي
ملايين البشر، وكيف أنه لم تعد هناك بيوت مأهولة في الريف؛ كل هذا من شأنه أن يُبعِدنا
عن قصتنا الرئيسية المُتعلِّقة بدينتون وإليزابيث. لقد تفرَّقا ثم التقَيا مرة أخرى، لكنهما لم
يقدِرا على الزواج لأن دينتون لم يكن يملك المال الكافي؛ وكذلك فإن إليزابيث التي كانت في
الثامنة عشرة لم تكن لتملك المال إلا حينما تبلغ سن الحادية والعشرين عندما ترث جميع
ممتلكات والدتها كعادة ذلك الزمن. لم تكن إليزابيث تعلم أن هذا ممكن، وكان دينتون
خجولًا لدرجة لا يستطيع معها ذكر أمر كهذا؛ لذا أصبحت العلاقة بينهما يائسة.صرَّحت
إليزابيث بأنها غير سعيدة وأن دينتون هو الوحيد الذي يفهمها، وأنها عندما كانت بعيدة
عنه كانت حياتها بائسة، بينما قال دينتون إنه كان يشتاق إليها ليلَ نهار. وكان دينتون
وإليزابيث يلتقيان كلما استطاعا ليستمتعا بنقاش آلامهما معًا.
التقى دينتون وإليزابيث ذات يوم في المقعد الصغير الذي اعتادا الجلوسفيه في منصة
الطيران. كان مكان لقائهما المعتاد في العصرالفيكتوري هو بالتحديد نقطة اتجاه شارع
ويمبلدون إلى الحديقة العامة، لكنهما كانا يجلسان فوق سطح الأرضبنحو خمسمائة قدم
وكان مقعدهما يُطِل على لندن. من الصعب أن تصف هذا المنظر لقارئ ينتمي إلى القرن
التاسع عشر، حيث سيتعيَّن عليك أن تطلب منه أن يتخيل قصر الكريستال أو الفنادق
الهائلة التي بُنِيت مُؤخَّرًا أو محطات السكك الحديدية الكبرى وقد تضخَّمت هذه الأبنية
بنسب هائلة وأن تطوفا معًا على نحو مُستمِر فوق المنطقة الحضرية في لندن. فإذا سمع
أحد مُواطِنِي لندن في القرن التاسع عشر أن أسطح تلك البنايات تحمل غابة ضخمة من
دوَّارات الرياح، كان بالكاد سيبدأ في إدراك شيء مما كان يُمثِّل لدينتون وإليزابيث منظرًا
مألوفًا في حياتهما.
بالنسبة للعاشقَين، كان المنظر يُمثِّل سجنًا بطريقة ما أو بأخرى، وكانا يتحدثان كما
تحدَّثا من قبلُ مئاتِ المرات، وكيفأنهما ربما يهربان من هذا السجن ليعيشا معًا في سعادة
قبل أن تنتهي السنوات الثلاث المُتبقِّية لإليزابيث لترث ممتلكات والدتها. كانا مُتفِقين على
أن الانتظار مدة ثلاث سنوات ليس أمرًا مُستحيلًا فحسب بل أمر فظيع أيضًا. قال دينتون
«! ربما لا نعيش حتى تنتهي تلك السنوات الثلاث » : بصوت يُوشيبالصحة والفتوة
تشبَّثت يدا كل من العاشقَين الشابَّين بيدَي الآخر، ثم تدفَّقت الدموع من عينَي
إليزابيث الواسعتَين على خدَّيها المُشعين بالحيوية عندما فكَّرت في أمر أكثر إثارة للمشاعر،
ثم اختنقصوتها ولم تقدر على قول الكلمة الفظيعة «… أحدنا. ربما يكون أحدنا » : وقالت
للغاية بالنسبة لعاشقَين شابَّين.
لكن في ذلك الوقت كان الزواج والفقر في آن واحد — بالنسبة لأي شخصاعتاد العيش
المُترَف— أمرًا مُروِّعًا للغاية. في الأزمنة الغابرة التي كان يعمل فيها البشرفي الزراعة بنهاية
القرن الثامن عشر، كان ثَمة مَثل معروف عن الحب في الكوخ، وبالفعل، فإن فقراء ذلك
العصرممن كانوا في الريفكانوا يعيشون في أكواخ مُغطَّاة بالزهور ونوافذها مُعيَّنة الشكل
ومصنوعة من الجِصِّ والقش وكان يُحيط بهم النسيم العليل والأرض تمتد من حولهم
في كل اتجاه تتوسَّطها الشُّجَيرات المُتشابِكة حيث يستمعون إلى زقزقة العصافير وتعلوهم
السماء المُتغيِّرة دائمًا، لكن كل هذا تغيَّر (كان التغيير قد بدأ بالفعل في القرن التاسع عشر)،
وظهر نوع جديد من الحياة بالنسبة للفقراء في الأحياء الوضيعة في المدينة.
في القرن التاسع عشر، كانت الأحياء الفقيرة لا تزال في العراء، وكانت عبارة عن
مساكن بسيطة بُنِيت على طين أو أي نوع آخر من التربة غير المناسبة؛ لتكون بذلك عرضة
للانهيار بفعل الفيضانات أو عرضة للدخان من الأحياء الأوفر حظٍّا، كما كانت لا تمتلك
ما يكفي من المياه، وكانت معايير النظافة تتوافر فيها بقدر ما يسمح به خوف الأغنياء
من الأمراضالمُعدِية فقط. رغم ذلك، في القرن الثاني والعشرين، أدَّى ازدياد عدد طوابق
الأبنية في المدينة ومُتاخَمة تلك الأبنية بعضها بعضًا إلى ترتيبات مختلفة. أصبح الأغنياء
المُترَفون يعيشون في سلسلة مُترامِية الأطرافمن الفنادق الفخمة في الأدوار العليا والقاعات
المرتفعة التي تُكوِّن المدينة، بينما عاشعمال المصانع في الطابق الأرضيوما تحت الأرضي،
أو في قبو المدينة إن جاز التعبير.
في ظل هذا التحسُّن في أسلوب الحياة والسلوكيات، لم يختلف أفراد الطبقات الدنيا
تلك اختلافًا كبيرًا عن أسلافهم من سكان الطرق الشرقية في لندن في عصرالملكة فيكتوريا،
لكن أصبح لهم لهجتهم الخاصة بهم. عاش ومات من ينتمون لتلك الطبقات الدنيا تحت
الأرض ولم يصعدوا إلى سطح المدينة إلا نادرًا عندما كان يقتضي العمل ذلك. وبما أن
معظمهم وُلِد في هذه الظروف، لم يجدوا مشكلة في عيشهذه الحياة لكن بالنسبة لدينتون
وإليزابيث، فإن هذا الانحدار بدا أسوأ من الموت ذاته.
«؟ هل ثمة سبيل آخر » : سألت إليزابيث
اعترف دينتون بأنه لا يدري. فبغضِّ النظر عن كياسته، فإنه لم يكن مُتأكِّدًا كيف
ستنظر إليزابيث لفكرة الاقتراضبضمان الميراث الذي سيئول إليها.
قالت إليزابيث إن السفر من لندن وحتى باريسيفوق إمكانياتهما؛ كما أنه في باريس،
مثل أي مدينة أخرى في العالم، ستكون الحياة مُكلِّفة ومُستحيلة مثل لندن.
ليتنا كنا نعيشفي تلك الأيام يا عزيزتي! » : أوشك دينتون على الصراخ بأعلىصوته قائلًا
فيشرق لندن « وايت تشابل » حتى إنهما كانا ينظران إلى حي «! ليتنا كنا نعيش في الماضي
في القرن التاسع عشر بمنظور رومانسي.
أليس هناك من حل؟ هل يجب علينا حقٍّا » : صرخت إليزابيث فجأة ثم بدأت تنتحب
لم يزِدصبر البشربتقدُّم الزمن! «! الانتظار لثلاثة أعوام؟ تخيَّل الانتظار ستة وثلاثين شهرًا
كان دينتون على وشك الإفصاح عن أمرٍ كان يجول في ذهنه. كان ما يُفكِّر فيه قد
خطر بباله؛ وبدا له اقتراحًا جامحًا لدرجة أنه لم يُعِره انتباهه الكامل، لكن التفوُّه بفكرة
دائمًا ما يجعلها أكثر واقعية ومُحتمَلة الحدوث أكثر مما كانت تبدو عليه من قبل. وهو ما
حدث مع دينتون.
«؟ ماذا لو انتقلنا للعيش في الريف » : قال دينتون
نظرت له لتتأكَّد مما إذا كان جادٍّا في هذا الاقتراح.
«؟ الريف »
«. نعم. بعيدًا في الريف خلف التلال »
«؟ كيف يمكننا العيش؟ وأين سنعيش »
«. الأمر ليس مُستحيلًا. اعتاد البشر العيش هناك »
«. لكن كانت هناك بيوت »
يُوجَد الآن أطلال القرى والبلدات القديمة. لقد اختفت في الأراضيالطينية بالطبع. »
لكنها ما زالت موجودة على الأراضيالعشبية؛ إذ إنه من غير المُفيد لشركة الأغذية إزالتها.
أنا مُتأكِّد من هذا، ناهيك عن أنه يمكن رؤيتها من نوافذ الطائرات كما تعرفين. يمكننا
اتخاذ مأوًى في أي من تلك الأطلال وترميمه بأنفسنا. الأمر ليس غريبًا كما يبدو. يمكن
دفع المال لبعض من يخرجون كل يوم من أجل الاعتناء بالمحاصيل وقطعان الماشية كي
«. يجلبوا لنا الطعام
«! سيكون أمرًا غريبًا بحق إذا أمكننا فعل هذا » : وقفت إليزابيث أمام حبيبها
«؟ ولمَ لا »
«. لا أحد يجرؤ على فعله »
«. هذا ليس سببًا كافيًا »
«! كم سيكون هذا رومانسيٍّا للغاية وغريبًا. ليته كان ممكنًا »
«؟ ولمَ لا يكون كذلك »
«. هناك العديد من الأسباب. فكِّر في كل ما لدينا حاليٍّا، وما سنفتقده »
ما الذي سنفتقده؟ رغم كلشيء، حياتنا الحالية غير حقيقية؛ » : ردَّ دينتون مُستنكِرًا
ثم بدأ في تفسير فكرته أكثر. ومع ازدياد حماسه في شرح ما لديه، «. حياة زائفة للغاية
زالت الغرابة المبدئية عن اقتراحه.
«. لكني سمعت أن الريف مليء باللصوصوالمُجرِمين الهاربين » : فكَّرت إليزابيث قائلة
أومأ دينتون برأسه، ثم تردَّد قبل أن يُجيب حتى لا يبدو ما سيقوله صبيانيٍّا؛ ثم قال
«. يمكنني أن أطلب من شخصأعرفه أن يصنع لي سيفًا » : وقد احمَّرت وجنتاه
نظرت إليزابيث له بنظرات ازداد فيها الحماس. لقد سمعت بالسيوف ورأت أحدها
في متحف، فكَّرت في تلك الأيام الغابرة عندما كان من المعتاد للرجال حمل السيوف. بدا
اقتراح دينتون حلمًا مُستحيلًا بالنسبة لها وربما هذا ما جعلها مُتشوِّقة لمعرفة المزيد من
التفاصيل. وباختلاق دينتون لمعظم التفاصيل أثناءشرحه لاقتراحه، أخبرها بأنه يمكنهما
العيش في الريف كما كان يعيش الناس قديمًا. نما حماس حبيبته مع كل تفصيلة يذكُرها
حيث إنها كانت من تلك الفتيات التي كانت المغامرة والرومانسية تُثير خيالهن.
يمكنني القول إن اقتراح دينتون بدا كحُلم مُستحيل الحدوث ذلك اليوم، لكن في اليوم
التالي تحدَّثا بشأنه مرة أخرى وبشكل غريبٍ بدا الاقتراح أقل استحالة.
في البداية، يمكننا اصطحاب كمية من الغذاء تكفينا لعشرة أيام أو » : قال دينتون
في ذلك العصر، انتشر الطعام الصناعي المُعلَّب وكان هذا أمرًا ممكنًا على «. اثنَي عشر يومًا
عكس ما كان سيُصبِح عليه الحال لو كان دينتون اقترح شيئًا كهذا في القرن التاسع عشر.
«؟ لكن أين سننام حتى يكون بيتنا جاهزًا » : تساءلت إليزابيث
«. إنه فصل الصيف »
«؟ ماذا تعني »
«. مرَّ وقت لم يكن فيه أي بيوت وكان البشر ينامون في العراء »
«! لكن بالنسبة لنا … العراء! لا جدران أو أسقف »
عزيزتي، لندن بها العديد من الأسقف الجميلة زخرفها فنانون ورصَّعوها بالأضواء، »
«. لكني رأيت سقفًا أجمل من أي سقف في لندن
«؟ أين »
«. السقف الذي يمكن أن يكون تحته شخصان بمفردهما »
«؟… أتعني »
«. إنه أمرٌ نسيه العالم يا عزيزتي. هذا السقف هو السماء والنجوم التي تحويها »
كانا عندما يتحدثان كل مرة يبدو الأمر أكثر احتمالية وجاذبية بالنسبة إلى العاشقَين.
وفي خلال أسبوع أو ما يُقارِبه، أصبح الأمر ممكنًا إلى حد كبير. بعد مرور أسبوع آخر،
أصبح انتقالهما إلى الريف أمرًا حتميٍّا يجب القيام به. استحوذ عليهما حماس شديد
للانتقال إلى الريف، قائلين بأن ضوضاء وقذارة المدينة أصبحتا فوق احتمالهما. وتعجَّب
دينتون وإليزابيث بأن هذه الطريقة البسيطة لحل مشكلاتهما لم تخطر على بالهما من
قبل.
في صباح أحد أيام منتصف الصيف، ترك دينتون العمل في منصة الطائرات وحلَّ
موظف جديد صغير الرتبة مكانه.
تزوَّج بطلانا الشابَّان سرٍّا، ومضيا قدمًا في شجاعة في تنفيذ خطتهما بترك المدينة
التي عاشا فيها وعاش فيها أسلافهما من قبلهما. ارتدَت إليزابيث فستانًا جديدًا بتصميم
قديم، بينما كان دينتون يحمل مجموعة من علب الأطعمة على ظهره ويُخفي تحت عباءته
القرمزية في خجل سلاحًا قديم الشكل مقبضه على شكل صليب ومصنوع من الفولاذ.
تخيَّلوا هذا! ضواحي لندن في العصر الفيكتوري المُمتدة بشكل عشوائي بطرقها
المُتَّسِخة، والبيوت الصغيرة، والحدائق المُهمَلة المليئة بالشجيرات، ونباتات إبرة الراعي،
والخصوصيات التافهة الزائفة لمن فيها قد اختفت؛ أما الأبنية الشاهقة الحديثة والطرق
الآلية ومرافق المياه والكهرباء فقد انهارت فجأة كانهيار جدار أو مُنحدَر يبلغ ارتفاعه
أربعمائة قدم. كانت تنتشر حول المدينة حقول الجَزر واللفت السويدي واللفت التقليدي
التابعة لشركة الأغذية حيث كانت الخضراوات أساسًا للآلاف من أنواع الأغذية كما
استُؤصِلت الحشائش النباتية تمامًا. قضَت شركة الأغذية على التكلفة التي لا تتوقَّف
عامًا بعد عام جرَّاء إزالة الحشائش الضارة في أيام الزراعة القديمة التي كانت تتَّسم
بالفوضى والهدر والبُدائية عن طريق حملات الإبادة. وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك
صفوف مُرتَّبة من شجيرات العليق وأشجار التفاح بسيقان مُورِقة تقطع الحقول، كما
كانت هناك مجموعة هائلة من نباتات الممشقة بأشواكها المُميَّزة. كان هناك أيضًا آلات
« واي » زراعية ضخمة تقبع تحت أغطية مُضادَّة للمياه. وكانت المياه المُمتزِجة لأنهار
تجري في قنوات مُستطيلة الشكل؛ وحيثما كان يسمح ارتفاع بسيط في « واندل » و « مول » و
الأرض كانت نافورة من مياه الصرف التي أزُيلت رائحتها الكريهة تروي مختلف أجزاء
الأرضالزراعية وتصنع قوس قزح عند التقائها بضوء الشمس.
بجوار أحد الطرق المُقنطَرة الكبيرة في الحائط العظيم للمدينة، بزغ طريق مصنوع
من الإيدهامايت يُؤدِّي إلى بورتسموث. كان هذا الطريق يعجُّ في الصباح بأعداد كبيرة من
عمال شركة الأغذية ذوي الملابس الزرقاء المُتجِهين إلى عملهم. كانت حركة المرور سريعة
حتى بدا بطلانا بجانبها كنقطتَين تتحرَّكان بالكاد. وفي المسارات الخارجية من الطريق،
كانت تسير السيارات العتيقة البطيئة تطنُّ وتقعقع بينما هي مُتجِهة لمهمات ضمن نطاق
عشرين ميلًا أو ما يُقارِبها من حدود المدينة؛ وأما المسارات الداخلية فكانت مليئةً بآلات
سير أضخم عبارة عن دراجات سريعة أحادية العجلات تحمل مجموعات من الرجال،
ودراجات رفيعة مُتعدِّدة العجلات، ودراجات رباعية العجلات تنوء بأحمال ثقيلة، وعربات
محاصيل ضخمة فارغة تعود ملآنة قبل غروب الشمس؛ وكان جمعيها يسير بمُحرِّكات
تخفق بقوة وعجلات صامتة لا تُحدِث ضجيجًا وسط ضجيج مسعورسرمدي من أصوات
الأبواق والنواقيس.
كان بطلانا الشابان المُتزوِّجان حديثًا يمشيان في صمت على حافة الطريق الخارجي،
خَجِلين من صحبة بعضهما بعضًا على نحو يُثير الاستغراب. كان مظهرهما وهما يسيران
على قدمَيهما في طريق إنجليزي شيئًا غير مألوف بالنسبة لمن يعيشون في عام ٢١٠٠ مثلما
كانت ستُثير السيارة استغرابًا لدى من كانوا يعيشون في عام ١٨٠٠ ، مما جعل الناس
يصيحون فيهما بأشياء كثيرة، لكنهما مضَيا بنظرات مُصمِّمة تجاه الريف غير عابئَين بما
يُقال.
وبينما هما يتجهان جنوبًا، ظهرت المنحدرات أمام دينتون وإليزابيث حيث كانت
زرقاء في البداية ثم تحوَّلت إلى اللون الأخضر كلما اقتربا منها، يعلوها صفٌّ من دوَّارات
الرياح العملاقة مُكمِّلة لدوَّارات الرياح التي تعلو أسقف بنايات المدينة، وبدَتْ تلك
المنحدرات كما لو كانت ضجِرةً ومُتملمِلةً من الظلال الطويلة التي ترميها تلك الدوَّارات
في الصباح. وبانتصاف اليوم، كانا قد اقتربا، حتى إنه كان يمكنهما رؤية رُقَع صغيرة من
النقاط الشاحبة هنا وهناك؛ وهي الخِراف التي كان يمتلكها قسم اللحوم فيشركة الأغذية.
مرَّت ساعة أخرى تجاوَزا فيها الأرضالطينية والخضراوات الجذرية والسياج الوحيد الذي
كان يُطوِّقها، كما لم تعد علامة التحذير من المشي على الأرض الزراعية موجودة، وكان
الطريق المُمهَّد بكل ما يحتويه من سيارات ينتهي عند مرج، بدآ المشيفوقه إلى منحدر التل
المُمتد أمامهما.
لم يحدث من قبل أن أصبح فتًى وفتاة من تلك العصور الحديثة بمفردهما في مثل
هذا المكان المهجور.
كان كلاهما جائعًا ومُتقرِّحَ القَدم من المشي — حيث كان المشي تمرينًا قلَّما يُمارِسه
أحد — وجلس كلاهما على أرض قُصَّت الأعشاب فيها حتى أصبحت قصيرة جدٍّا وأزُيلت
منها الحشائش الضارة، ونظرا إلى الوراء ناحيةَ المدينة لأول مرة منذ أن تركاها حيث بدَت
شاسعةً ولامعةً على نحو رائع وسط الضباب الأزرق لوادي التيمز.
كانت إليزابيث خائفة نوعًا ما من الخِراف التي ترعى بحريتها على المنحدر — إذ
لم تقترب قبلًا من حيوانات طليقة كبيرة الحجم — لكن دينتون طمأنها. وفوق رأسَيهما
رفرف طائر أبيضالجناحَين في السماء الزرقاء.
لم يتحدث العاشقان معًا إلا قليلًا حتى تناوَلا الطعام، لتنفكَّ عقدة لسانهما. تحدَّث
دينتون عن السعادة التي كانا يشعران بها بكل تأكيد وعن مَدى حمقهما لعدم هروبهما
سريعًا من سجن الحياة الحديثة وعن الأوقات الرومانسية التي اختفت من العالم للأبد،
ثم انتابت دينتون نوبة من التباهي وأخرج سيفه ووضعه جانبه أرضًا لتأخذه إليزابيث
وتُمرِّر إصبعًا مُرتعِشًا على امتداد نصله.
«؟ أيمكنكَ رفع هذا وضرب أحدهم به »
«. ولمَ لا؟ إذا دعَت الحاجة إلى هذا »
«. لكن يبدو هذا مُروِّعًا. سيقطع، ستسيل الدماء » : قالت وقد انخفضصوتها
«… في الحكايات الرومانسية القديمة التي قرأت منها الكثير »
نعم أعرف. في تلك الحكايات، نعم. لكن هذا أمرٌ مختلف فالكل يعرف أنه » : قاطَعته
«! ليس دمًا بل نوعًا من الحبر الأحمر. أما أنت فستقوم بالقتل
ثم نظرت له بارتياب، وأعادت له السيف.
بعد أن تناوَلا الطعام وحصلا على قسط من الراحة، نهضا ليستكملا طريقهما ناحية
التلال، مارَّيْن بالقرب من قطيع من الخراف التي نظرت لهما، ثم أصدرت ثُغاءها بسبب
عدم اعتيادها على رؤية أشخاص غير مألوفين مثل هذَين؛ كما لم تكن إليزابيث قد رأتْ
خرافًا من قبل وارتجفت لما فكَّرت أن هذه المخلوقات الرقيقة تُذبَح من أجل الغذاء. نبح
كلب يحرس الغنم من بعيد ثم ظهر راعٍ من بين دعامات دوَّارات الرياح نازلًا نحوهما.
عندما اقترب الراعي من بطلَينا صاح سائلًا إلى أين يتجهان.
تردَّد دينتون وأخبره بكلمات مُقتضبة أنهما يبحثان عن بيت مُتهدِّم في المنحدرات
يمكن أن يعيشا فيه معًا. حاوَل دينتون أن يبدو غير مُتوتِّر كما لو كان ما يفعلانه أمرًا
معتادًا. حدَّق الرجل فيهما في رِيبة.
«؟ هل ارتكبتما شيئًا » : ثم سألهما
لا شيء. فقط لم نعُد نُريد العيش في المدينة. لماذا يجب علينا العيش » : ردَّ دينتون
«؟ فيها
«. لا يمكنكما العيش هنا » : ازداد الارتياب في نظرات الراعي وقال
«. سنُحاوِل »
ستعودان غدًا؛ فالمنظر هنا جميل في الصباح » : تنقَّلت نظرات الراعي بينهما قائلًا
فقط. أأنتما مُتأكِّدان أنكما لم ترتكبا أي جريمة؟ نحن — معشرَالرعاة — لسنا على وفاق
«. مع الشرطة
لا. لكننا فقيران ولا نقدر على العيشفي المدينة ولا نقدر » : نظر إليه دينتون بثبات قائلًا
«. على ارتداء الملابس الزرقاء والعمل الشاق. نريد أن نحيا حياة بسيطة هنا مثل القدماء
ألقى الراعي الملتحي ذو الوجه المُستغرِق في التفكير نظرةً سريعةً على إليزابيث ذات
«. لقد كان القدماء بسطاء » : الجمال الهش، وقال
«. ونحن كذلك »
إذا مشَيتما بمُحاذاة القمة التي تقع تحت دوَّارات الرياح، » : ابتسم الراعي قائلًا
فسترَيان مجموعةً من الروابي والأطلال على يمينكما. كانت هذه يومًا ما مدينة تُسمَّى
لا يُوجَد أي منازل هنا كما استُخدمت قِطع الحجارة في بناء حظائر الأغنام. .« إبسوم »
استمِرَّا في المشي؛ وستجدان كومة أخرى على طرف حقل الخضراوات الجذرية وهي مدينة
تُسمَّى ليذرهيد، بعد ذلك ينعطف التل بمحاذاة حد الوادي حيث أشجار الزان. ابقيا
بمحاذاة القمة وستمرَّان بأماكن مُقفِرة. في بعضالأماكن، ورغم إزالة الحشائش الضارة،
ما زالت هناك نباتات تنمو مثل السرخس والجُرَيس وغيرها من النباتات عديمة الجدوى.
وخلال كل هذا، وتحت دوَّارات الرياح، ثَمة طريق مستقيم مرصوف بناه الرومان منذ
ألفَي عام. اتجِها يمينًا أسفل الوادي وتتبَّعاه بمحاذاة ضفة النهر. ستصِلان بعد قليل إلى
«. شارع به منازل ما زال معظمها له أسقف. ربما تجدان ملاذًا لكما هناك
قدَّما إليه الشكر.
لكنه مكان هادئ ولا يوجد به ضوء بعد الغروب. كما سمعتُ بوجود لصوص. » : قال
إنه مكان مُوحِش وخامل. لا يوجد به آلات الفونوغراف التي تروي الحكايات، ولا مُشغِّلات
ثم توقف. «. الصور المتحرِّكة والآلات الحديثة، كما أنه لا يوجد به غذاء أو دواء
ثم طرأ له خاطرٌ ما واتفق مع الراعي «. سنُجرِّب » : قال دينتون وهو يبدأ في التحرُّك
على معرفة مكانه لشراء وإحضار أيشيء يحتاجانه من المدينة.
في المساء، وصل دينتون وإليزابيث إلى القرية المهجورة وبدت بيوتها صغيرة وغريبة
الشكل بالنسبة لهما ووجداها تلمع بلون ذهبي في غروب الشمس لكنها كانت ساكنة
ومُقفِرة. تنقَّل العاشقان اليافعان من بيت مهجور لآخر وهما مُندهِشان من البساطة
الغريبة ويتجادلان حول أي بيت يجب عليهما اختياره. وفي النهاية، وفي إحدى الزوايا
المُضيئة في غرفةٍ انهار جدارها الخارجي في أحد المنازل، رأيا زهرة برية زرقاء صغيرة
أغفلها من يقتلعون الحشائش الضارة لصالحشركة الأغذية.
قرَّر دينتون وإليزابيث البقاء في ذلك المنزل لكنهما لم يبقيا فيه كثيرًا تلك الليلة؛
لأنهما كانا عازمَين على الاستمتاع بالطبيعة، علاوة على ذلك، فإن المنازل أصبحت كئيبة
ومُوحِشة بعد اختفاء ضوء الشمس من السماء؛ لذا وبعد أن حصلا على قسط من الراحة،
ذهب العاشقان إلى قمة التل مرة أخرى ليشهدا بنفسَيهما السماء الهادئة المُرصَّعة بالنجوم
والتي حكى عنها قدماء الشعراء الكثير والكثير. كان منظرًا رائعًا وتحدَّث دينتون بحماس.
وأخيرًا، عندما نزلا من المنحدر، كانت السماء قد بدأت في الاكتساء بضوء الفجر الشاحب.
ناما قليلًا، وفي الصباح، عندما استيقظا، كان أحد طيور السُّمنة يُغرِّد داخل شجرة.
وهكذا بدأ هذان الشابان المُنتمِيان إلى القرن الثاني والعشرين الحياة في مَنفاهما
الاختياري. كانا ذلك الصباح مشغولَين باستكشاف موارد المنزل الجديد الذي سيعيشان
فيه حياتهما البسيطة. لم يقوما بالاستكشاف السريع ولم يتوغَّلا في استكشافهما لأنهما
ذهبا إلى كل مكان يدًا بيد، لكنهما عثرا على بعض ما يمكن أن يُعتبَر أثاثًا. فوراء القرية
المهجورة، كان هناك مخزن لأعلاف الشتاء مُخصَّصًا لماشية شركة الأغذية سحب منه
دينتون الكثير مما استطاع حمله ليصنع سريرًا من القش، كما كان هناك في العديد من
المنازل طاولات وكراسي قديمة تآكلت بفعل الفطريات. بدا لهما الأثاث الخشبي بُدائيٍّا
وخشنًا وغير مُتقَن الصنع. كرَّرا العديد من الأمور التي تناقشا بشأنها اليوم السابق،
وبحلول المساء وجدا زهرة أخرى من الجريس مُستديرة الأوراق. وفي وقت مُتأخِّر بعد
الزوال، نزل بعضالرعاة العاملون لدىشركة الأغذية من وادي النهر راكبِين درَّاجة كبيرة
مُتعدِّدة العجلات. اختبأ الشاب والفتاة منهما لأن وجودهم يُفسِد الرومانسية التي تملأ
هذا العالم القديم بالكامل كما قالت إليزابيث.
عاشبطلانا أسبوعًا بهذه الطريقة حيث كانت السماء خالية من الغيوم نهارًا، وكانت
مُضاءة بالنجوم ليلًا التي كان يحجب تألُّقَها قليلًا هلالٌ بدأ يظهر رويدًا رويدًا.
لكن اختفى جزء من الروعة الأولية لقدومهما للعيشفي الريف يومًا بعد يوم، وأصبح
حديث دينتون مُتقطِّعًا ومُفتقِدًا لموضوعات مُلهمة جديدة. وظهر الإرهاق والتعب بسبب
رحلتهما الطويلة من لندن في شكل تيبُّس في الأطراف، كما عانى كلاهما من زكام طفيف
دون سبب واضح. علاوة على ذلك، أصبح لدى دينتون الكثير من وقت الفراغ. وذات يوم،
عثر على مِجرفة صدِئة وسط كومة قديمة من الخشب المُهمَل، وحملها ليستعملها من آن
لآخر في حديقة مُتهدِّمة نمت فيها الحشائش رغم أنه لم يكن لديه ما يبذره أو يغرسه؛ ثم
عاد إلى إليزابيث بوجه يسيل منه العرَق بعد نصف ساعة من هذا المجهود.
وهو لا يُدرِك ما يمكن أن يُحقِّقه «. كان هناك عمالقة في تلك الأيام » : قال دينتون
التدريب والتعوُّد. قادَهما السير عبر التلال لرؤية المدينة وهي تلمع من بعيد في الوادي؛
«؟ تُرى كيف تسير الأمور الآن هناك » : ليتساءل قائلًا
حيث كانت تلك الغيوم «. تعالَ وشاهِد الغيوم » : تغيَّر الطقسوصاحت إليزابيث قائلة
القرمزية الداكنة في الشمال والشرق تنساب نحو أعلى نقطة في السماء حاجبةً ضوء غروب
الشمس أثناء اتجاهها نحو قِمَم التلال. وفجأةً هبَّت الرياح عاصفة بأشجار الزان يمنةً
ويسرة بينما بدأت إليزابيث ترتجف، ثم لمع البرق بعيدًا كسيفٍ قد سُحِب فجأة، وتلاه
الرعد، وبينما هما واقفان مشدوهان، بدأت أولى قطرات المطر في الهطول فوق رأسَيهما.
وفي لحظات، اختفى آخر شعاع لغروب الشمس وراء ستار من المطر المُتساقِط، ولمع البرق
مرة أخرى، وتصاعَد زئير الرعد وأصبح العالم من حولهما مُظلِمًا وكئيب المنظر.
وبينما أمسك كلٌّ منهما بيد الآخر، بدآ في هبوط المنحدر بسرعة تجاه منزلهما وهما
في دهشة لا حدود لها، وقبل أن يصلا إلى المنزل، كانت إليزابيث تبكي في فزع، بينما كانت
الأرض السوداء حولهما تلمع بلون أبيض وتتفتَّت تحت أقدامهما بينما يتساقط المطر
بشدة.
بدت ليلة غريبة ومُروِّعة بالنسبة لهما؛ فلِأول مرة في حياتهما المُتمدِّنة يُجرِّبان الظلام
الدامس. كانا مُبتلَّين ويشعران بالبرد ويرتعدان؛ بينما كانا يسمعان صوت هطول المطر
حولهما. أما مياه الأمطار فقد تساقطت من خلال الأسقف المرتفعة المهملة للبيت القديم
مُصدِرة صوتًا عاليًا ومُكوِّنة بِركًا وجداول صغيرة في الأرضية التي تُصدِرصريرًا بسبب
هطول الأمطار. وضربت العاصفة البيت البالي مما جعله يهتز ويئن ثم انزلقت كتلة جص
من الجدار لتتحطم على الأرض؛ كما ارتجَّت بعضقِطع القرميد غير المُثبَّتة جيدًا لتسقط
وتتحطم في الدفيئة الفارغة في الأسفل. استمرَّت إليزابيث في الارتجاف بينما لف دينتون
عباءته الرقيقة الزاهية التي كان يرتديها في المدينة حولها، ثم جثم كلاهما في الظلام.
استمر صوت الرعد في التصاعُد والاقتراب بينما ظل البرق يلمع على نحو أكثر توهُّجًا
فيُضيء الغرفة المليئة بالماء والرياح والتي كانا يحتميان بها من المطر في لمحات خاطفة.
لم يكن دينتون وإليزابيث قد خرجا إلى العَراء من قبل إلا في الأوقات التي كانت
الشمسفيها ساطعة، وكانا يقضيان كلَّ وقتهما في الطُّرق والغُرف والقاعات الدافئة جيِّدة
التهوية في المدينة الحديثة. كانت تلك الليلة المَطيرة العاصفة التي قضياها في البيت المُتهدِّم
كما لو كانا في عالم آخر من الفوضىوالاضطراب والتوتُّر، كما كادا يفقدان الأمل في رؤية
المدينة مرة أخرى.
بدا أن العاصفة ستستمر للأبد لكن النوم كان يغلبهما بين مرات هزيم الرعد الذي بدأ
في الخفوت ثم انقطع بسرعة؛ وبتوقُّف آخر الأمطار عن الهطول، سمعا صوتًا غير مألوف.
«؟ ما هذا » : صاحت إليزابيث
سمعا الصوت مرة أخرى وكان صوت نباح كلاب تمرُّ؛ بينما سطع ضوء القمر الذي
أخذ في النمو مُضيئًا الحائط أمامهما ومُلقيًا عليها الظل الأسود لإطار نافذة وشجرة.
وبينما بدأ ضوء الفجر الشاحب في إضاءة العالم من حولهما، سمعا نباح الكلاب
المُتقطِّع مرة أخرى ثم توقَّف النباح فجأة. أرهفا السمع. وبعد فترة من التوقُّف، سمعا
صوت خطوات سريعة تدور حول المنزل ونباح قصير شبه مكتوم، ثم عاوَد كل شيء
السكون.
همست إليزابيث مُشيرة إلى باب الغرفة التي يُقيمان بها. «! صَه »
قطع دينتون نصف المسافة إلى باب الغرفة ثم وقف مُنصِتًا؛ ثم عاد بوجه حاوَل أن
لا بد أن هذه هي الكلاب التي تحرس الماشية التي تمتلكها شركة » : يظهر مُطمئِنًا وقال
«. الأغذية. لن تُلحِق بنا أذًى
ليُخفي كم كان يُرهِف السمع. «! يا لها من ليلة » : ثم جلسبجانبها مرة أخرى مُضيفًا
«. أكره الكلاب » : قالت إليزابيث بعد صمت طويل
«. الكلاب لا تُؤذي أحدًا. في القرن التاسع عشر، كان الجميع يمتلكون كلابًا »
«. في إحدى قصصالمغامرات التي سمعتها ذات مرة، قتل كلب رجلًا »
ليس هذا النوع من الكلاب؛ كما أن بعض هذه الحكايات تنطوي على شيء من »
«. المبالغة
فجأة سمعاصوت نباح مُقتضَب وصوت خطوات تصعد السُّلم ثمصوت لُهاث. وقف
دينتون على قدمَيه بسرعة وسحب سيفه من فراش القش الذي كانا ينامان عليه، ثم ظهر
في الباب كلب هزيل من الكلاب التي تحرسالأغنام وظل ساكنًا. كان هناك كلب آخر خلف
الأول. حدَّق الكلب ودينتون بعضهما في بعضللحظات وبدا مُتردِّدَين.
ثم خطا دينتون، الذي يجهل كل شيء عن الكلاب، للأمام على نحو مُفاجئ وحرَّك
«! ابتعد » : سيفه حركة خرقاء مُخاطِبًا الكلب
«! كلب جيد » : تحرَّك الكلب مُدمدِمًا مما جعل دينتون يتوقف فجأة قائلًا
لكن الزمجرة تحوَّلت إلى نباح.
أعاد دينتون ما قاله، لكن الكلب الثاني بدأ في الزمجرة والنباح أيضًا، كما ظهر كلب
ثالث فجأة عند بيت السُّلم وبدأ في النباح كذلك، ونبحت كلاب أخرى في الخارج وبدا
لدينتون أن عددها كبير.
هذا مُثير للضيق. » : قال بدون أن يُحوِّل عينَيه عن الحيوانات الشرسة التي تُواجِهه
بالطبع لن يأتي الرعاة من المدينة لساعات قادمة. هذه الكلاب لن تجعلنا نخرج من
«. المنزل
«! لا أستطيع سماعك » : صاحت إليزابيث مُقترِبة منه
كرَّر دينتون كلامه لكن النباح غطَّى على صوته وكان له أثر غريب عليه؛ حيث بدأت
تُثار لديه مشاعر عديدة غير مُتجانِسة لم يشعر بها منذ فترة طويلة وتغيَّر صوته بينما
كان يصيح. حاوَل مرة أخرى لكن النباح كان يبدو كما لو كان يسخر منه، كما خطا
كلب للأمام مُنتفِشًا في شكل عدواني. وفجأة، استدار دينتون ونطق كلمات بلهجة من
يسكنون تحت سطح الأرض في المدينة الحديثة. لم تفهم إليزابيث ما قاله لكنه كان قد
تفوَّه بتلك الكلمات إلى الكلاب كي تتوقف عن النباح، ثم سمعتْ زمجرة ورأت الكلب يهجم.
شاهدت إليزابيث رأس الكلب المُزمجِر وأنيابه البيضاء وأذناه المشدودتان للخلف ولمعان
نصل السيف. قفز الكلب في الهواء لكن دينتون دفعه بالسيف للخلف.
ثم كان دينتون يدفع الكلاب أمامه وهو يصيح، ولمع السيف فوق رأسه مُلوِّحًا به في
كل مكان بحُرِّية، ثم اختفى في بيت السُّلم. نزلت إليزابيث ست درجات تابعة إياه، لتجد دمًا
يُغطِّي الأرضية. توقَّفت وعندما سمعت ضجيج الكلاب وصيحات دينتون تتردد في المنزل،
هرعت إلى النافذة. كان هناك تسعة كلاب مُفترِسة من تلك التي تحرس الأغنام تتفرق
هاربة وكلب يتلوَّى ألمًا أمام مدخل المنزل وكان دينتون، الذي ذاق اللذة الغريبة للقتال
الكامنة حتى في دم أكثر الرجال تحضُّرًا، يصيح ويركض في أرجاء الحديقة، ثم لاحَظت
إليزابيث أمرًا لم يلاحظه دينتون، أخذت الكلاب تتحرَّك في دوائر في اتجاهات مختلفة ثم
عادت من جديد. لقد أحاطت بدينتون في العراء.
للحظة، فكَّرت إليزابيث في الأمر حيث كان من الممكن أن تُناديه. وللحظة، شعرت
بالغثيان والعجز، ثم، وبدافع غريب، رفعت أطراف تنُّورتها البيضاء وهرعت نازلة السلم.
كانت المجرفة الصدئة تقبع في رَدهة المنزل، فحملتها وخرجت من المنزل.
وصلت إليزابيث إلى دينتون في الوقت المناسب تمامًا حيث كان هناك كلب يتلوَّى أمامه
وقد شُطِر إلى نصفَين تقريبًا، بينما كان هناك كلب ثانٍ أنشب أنيابه في فخذه وثالث يشدُّه
من ياقته للخلف ورابع يعضُّعلى نصل السيف بأنيابه مُتذوِّقًا دمه، بينما تفادى دينتون
قفزة خامس بذراعه.
كان الأمر يبدو بالنسبة لها كما لو كانا يعيشان في القرن الأول وليس القرن الثاني
والعشرين؛ فقد تلاشت رقة السنوات الثماني عشرة التي قضَتها إليزابيث في المدينة أمام
هذه الحاجة البدائية. اندفعت المجرفة الصدئة بقوة وعزم تجاه الكلاب المُتوحِّشة لتشقَّ
جمجمة أحدها؛ بينما عوى آخر كان يستعد للانقضاضمرة أخرى، في رعب أمام الخصم
غير المُتوقَّع الذي ظهر فجأة. أهُدرت لحظتان ثمينتان في ربط التنورة.
انقطعت ياقة عباءة دينتون وسقطت بينما كان يقف مُترنِّحًا، في الوقت الذي انشغل
فيه الكلب الذي كان يجرُّه منها بالمجرفة التي أصابته، وتوقَّف عن مضايقة دينتون. أغمد
دينتون سيفه في فخذ الكلب.
وانتهى القتال في غضون ثلاث ثوانٍ حيث كان «! إلى الحائط » : وبينماصاحت إليزابيث
يقف بطلانا جنبًا إلى جنب بينما فرَّت الكلاب الخمسة المُتبقِّية من موقع القتال يجرون
أذيال الهزيمة والخزي.
وقف بطلانا للحظة وهما يلهثان شاعرَين بالانتصار؛ ثم تركت إليزابيث المجرفة
لتسقط من يدها وانهارت على الأرض في نوبة بكاء. نظر دينتون حوله ثم غرس طرف
سيفه في الأرضحتى أصبح في مستوى اليد وانحنى ليُواسيها.
وفي النهاية، خفتت عواطفهما الأكثر حِدَّة، وجلسا يتحدثان مرة أخرى. استندت
إليزابيث إلى الجدار بينما اعتلاه دينتون ليُراقِب أي كلاب عائدة؛ فيما ظل كلبان ينبحان
على جانب المنحدر على نحو مُزعِج.
كانت آثار الدموع ظاهرة على وجه إليزابيث لكنها كانت أكثر هدوءًا لأن دينتون ظل
لنصف ساعة يُكرِّر كم كانت شُجاعة وأنها أنقذت حياته. لكن خوفًا من نوعٍ آخر كان
ينمو في ذهنها.
«. إنها كلابشركة الأغذية. ما حدث سيتسبَّب في مشكلات »
أخشى أن يحدث ذلك. هناك احتمال كبير أن يُلاحِقونا قضائيٍّا بسبب تعدِّينا على »
«. ممتلكات الشركة
مرَّت فترة من الصمت.
«. في العصور القديمة، كان هذا النوع من الأمور يحدث يوميٍّا » : ثم قال
«. ليلة أمس! لا يمكنني عيش ليلة مثل هذه مرة أخرى » : ردَّت إليزابيث
نظر إليها ليجد وجهها شاحبًا بسبب الحاجة للنوم كما بدا عليها الإنهاك والإجهاد،
«! يجب علينا العودة » : ثم قرَّر أمرًا مُفاجئًا
«! لا يمكننا البقاء هنا » : نظرت إليزابيث إلى الكلاب الميتة شاعرة برجفة
كرَّر دينتون كلامه وهو ينظر من فوق كتفه ليرى ما إذا كانت الكلاب اقتربت أم لا:
يجب علينا العودة. لقد استمتعنا بجزء من وقتنا هنا لكن العالم مُتحضِّرأكثر من اللازم. »
«. زمننا هو زمن المدن الكبرى. لو واصلنا العيش هكذا سنموت
«؟ لكن ماذا سنفعل؟ كيف يمكننا العيش في المدينة »
ثَمة أمر لم أذكُره من » : تردَّد دينتون ثمضرب بكعبه الحائط الذي كان يستند إليه
«… قبل، لكن
«؟ ما هو »
«. يمكنكِ الحصول على مال بضمان ما تتوقَّعين أن ترثيه »
«؟ حقٍّا » : قالت بلهفة
«! بالطبع يمكنكِ. يا لكِ من طفلة »
لماذا لم تقُل هذا من قبلُ خلال كل هذا الوقت » : وقفت وقد انفرجت أساريرها وسألته
«؟ الذي قضيناه هنا
ظننت أنه يجب أن يكون أنتِ » : نظر إليها مُبتسمًا للحظة، ثم اختفت ابتسامته قائلًا
من يقول هذا؛ ولم أشَأ أن أطلب مالكِ. بجانب ذلك، ظننت في البداية أننا سنكون على ما
«. يُرام هنا
ثم مرَّت فترة صمت أخرى.
لقد كانت الأمور على ما يُرام حتى حدث » : استطرد دينتون مُلقيًا نظرة من فوق كتفه
«. ما حدث
«. نعم، تلك الأيام الثلاثة الأولى »
قضيا برهة من الزمن يُحدِّق بعضهما في وجه بعض ثم ابتعد دينتون عن الحائط
هناك حياة مناسبة لكل جيل. يمكنني إدراك هذا الآن بوضوح. » : وأمسك بيدها؛ قائلًا
لقد وُلِدنا للعيش في المدينة. العيش بأي طريقة أخرى … مَجيئنا إلى هنا كان حلمًا وقد
«. استيقظنا منه
«. لقد كان حلمًا جميلًا في البداية » : قالت إليزابيث
صمت كلاهما لفترة طويلة.
يجب أن نتحرك الآن إذا أردنا الوصول إلى المدينة قبل وصول الرُّعاة. » : ثم قال دينتون
«. يجب علينا جمع الطعام وتناوُله أثناء القيام برحلتنا
تلفَّت دينتون حوله مُجدَّدًا ثم مشيا عبر البستان مُحافِظَين على مسافة كبيرة بينهما
وبين جُثَث الكلاب ودخلا المنزل. وجدا حقيبة الطعام خاصتهما ونزلا السُّلم المُلطَّخ بالدماء.
ثم تقدَّمت إلى الغرفة «. مهلًا. ثَمة شيء ما هنا » : ولما وصلا الردهة، توقَّفت إليزابيث قائلة
حيث كانت هناك الزهرة الزرقاء الصغيرة المُتفتِّحة. انحنت إليزالبيث لتلمسها بيدها ثم
«! لكني لا أستطيع الحصول عليها » : واستدركت «. أريدها » : قالت
ثم انحنت إليزابيث بسرعة وقبَّلت بتلات الزهرة.
سار العاشقان جنبًا إلى جنب في صمت عبر البستان الفارغ ليصلا إلى الطريق العام
القديم، ويمَّما وجهَيهما بعزم تجاه المدينة البعيدة؛ المدينة المُعقَّدة الآلية التي تنتمي
للعصور الحديثة، المدينة التي ابتلعت البشر
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.