hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

في شبابه، كان بيندون يُضارِب بأمواله في البورصة وحالفه الحظ ثلاث مرات، لكن لما
تبقَّى من حياته ظلَّ مُبتعِدًا عن القمار وتخلَّى عن الوهم القائل بأنه رجل ذكي جدٍّا. كانت
لديه رغبة في أن ينال النفوذ، والشهرة أثارت اهتمامه بالتجارة في المدينة العملاقة التي
حالفه الحظ فيها. وفي النهاية أصبح أحد أكثر المُساهِمين تأثيرًا في الشركة التي كانت
تمتلك منصات الطيران في لندن والتي تهبط فيها الطائرات من كل أنحاء العالم. كان هذا
ما يخص حياته العامة. أما حياته الخاصة، فقد كان رجلًا يسعى وراء المتعة. وفيما يلي
قصة قلبه.
لكن قبل المُضِي قدمًا لسرد مثل هذه الجوانب العميقة، يجب تخصيص القليل من
الوقت لوصفه من الخارج. كان في الأساس نحيل الجسم، قصير القامة، أسمر البشرة؛
وتنوَّعت تعبيرات وجهه الذي كان دقيق الملامح وتعلوه المساحيق، ما بين الرضا المُتزعزِع
عن الذات والتململ المشوب بالذكاء. كان قد أزال شعر رأسه ووجهه وفقًا لاتجاهات الموضة
والنظافة الشخصية في ذلك العصر، لذا كان اللون والإطار الخارجي لشعره مُختلِفَين عن
زيِّه الذي كان دائمًا ما يُغيِّره.
في بعض الأحيان، كان يرتدي ملابس منفوخة بالهواء على نحو مُبهرَج يُذكِّر بطراز
الروكوكو الفني ليبدو ضخم الهيئة. ومن بين التطوُّرات المُتلاحِقة لهذا الطراز، وأسفل
غطاء للرأس نصف شفاف ومُزخرَف بالألوان، كانت عيناه تبحثان في غيرة عن احترامِ مَن
هم أقل عصرية في الملابس. وفي أوقات أخرى، كان يُظهِر نحافته بوضوح عن طريق ارتداء
ملابس ضيقة من الساتان الأسود. ولاكتساب مظهر النبالة والشرف، كان يرتدي كتَّافات
عريضة منفوخة بالهواء يتدلَّى منها فستان ذو طيَّات مُرتَّبة بعناية ومصنوع من الحرير
الصيني؛ كما كان بيندون الكلاسيكي يرتدي أحيانًا رداءً ورديٍّا ضيقًا لإحدى الظواهر
العابرة في المهرجان الأبدي للقدر. في الأيام التي كان يودُّ فيها الزواج من إليزابيث، كان
يسعى لإثارة إعجابها وإبهارها، وفي نفس الوقت كان يُحاوِل أن يُخفِّف عن نفسه شيئًا
من عبء الأربعين عامًا الذي أثقل كاهله؛ وذلك بارتداء أحدث الصيحات الشبابية المُتمثِّلة
في زيٍّ من مادة مرنة تبرز منه قرون ونتوءات قابلة للانتفاخ، وتتغير ألوانها أثناء المشي
بواسطة خلايا مُتقلِّبة تحوي أصباغًا ومُرتَّبة ببراعة. وبلا شك، فإنه لو لم تكن إليزابيث
تُحِب دينتون العديم الجدوى، ولو لم يكن ذوقها يميل بالفعل إلى الطرق التقليدية في
الحياة، فإن هذا الأسلوب الأنيق للغاية في اختيار الملابس كان سيفتنها بكل تأكيد. استشار
بيندون والد إليزابيث قبل أن يُقدِّم نفسه لها في هذه الملابس — فقد كان دائمًا ممن تجلب
ملابسهم الانتقاد — وأخبره مورس بكل ما يتمناه قلب المرأة، لكن ما حدث مع المعالج
بالتنويم المغناطيسي أثبت أن معرفته بقلب المرأة منقوصة.
تبلوَرت فكرة بيندون عن الزواج قبل أن يضع مورس إليزابيث، التي كانت أصبحت
امرأة لتوِّها، في طريقه. كان أحد الأسرار التي يعتز بها كثيرًا امتلاكه قدرة كبيرة على
عيش حياة بسيطة وخالصة ومُفعَمة بالعاطفة. أضفى هذا التفكير نوعًا من الجدية المُثيرة
للشفقة على السلوك التبذيري المَقيت وغير المنطقي الذي لا معنًى له والذي كان يسرُّه
أن ينظر له كنوعٍ من الانغماس في الملذات المُثير للإعجاب؛ إذ كان عدد كبير من الناس
الذين يفتقرون إلى الحكمة يعتبرونه طريقة عيش مُحبَّبة للنفس. ونتيجةً للتبذير، وربما
بسببِ ميلٍ مَوْروثٍ للانغماس المُبكِّر في الملذات، فإن كبده تأثَّر تأثُّرًا خطيرًا كما عانى
مُشكِلاتٍ مُتفاقِمة عند السفر جوٍّا. في إحدى المرات، خلال تماثُله للشفاء من وعكة صحية
طويلة بسبب اختلال وظائف الكبد، خطر له رغم كل الفتن المُؤدِّية إلى الوقوع في الرذيلة؛
أنه إذا عثر على امرأة شابة طيبة وجميلة ونبيلة المَحتد وليست من النوع المُثقَّف المُفرِط
في عقلانيته والتي يمكنها أن تُكرِّس حياتها من أجله، وتُؤسِّس عائلة مُفعَمة بالحيوية
والنشاط على صورته حتى تُخفِّف عنه وطأة السنين الأخيرة من حياته، فربما ينقله هذا
إلى جانب الصلاح، لكن مثل العديد من الرجال أصحاب التجارب في الحياة، كان يشك في
وجود أي نساء طيبات المَعشر على ظهر البسيطة. بالطبع كان هذا بسبب القصص التي
سمعها حتى جعلته يشك ظاهريٍّا وينتابه الخوفسرٍّا إلى حد بعيد.
بدا لمورس الطَّموح عندما أنهى تقديم بيندون لإليزابيث أن حظه السعيد في أكمل
حالاته، فقد أغُرِم بها بيندون في الحال. ولمَ لا؟ فقد كان دائمًا ما يقع في الحب منذ أن كان
في السادسة عشرة من عمره، وفقًا للوصفات المُتنوِّعة للغاية التي يمكن العثور عليها في
الأدبيات المُتراكِمة لعدة قرون، لكن هذه المرة كان الأمر مُختلِفًا؛ لقد كان هذا حبٍّا حقيقيٍّا،
فبدا له أن يستجمع كل الخير الكامن في طبيعته. لقد شعر أنه، من أجلها، يمكنه التخلي عن
طريقة حياته التي تسبَّبت له بالفعل في إصابته بأخطر الآفات في كبده وجهازه العصبي،
وعرضله خياله صورة مثالية لحياة مُستقيمة لشخصٍ تاب من حياة المُجون والخلاعة!
لن يكون عاطفيٍّا أبدًا معها أو سخيفًا؛ بل سيكون دائمًا ساخرًا ولاذعًا بعضالشيء، كما
كان في الماضي، ولكنه مع ذلك كان على يقين من أنه سيكون لديها حَدس يخبرها بعظمته
الحقيقية وطيبته. وفي الوقت المُناسِب سيعترف لها بأشياء، وسيروي لها عمَّا يعتقد أنه
جانبه المُظلِم — ذاك المزيج الذي اجتمع فيه، بحيث أصبح يجمع ما بين جوته، وبينفنوتو
شيليني، وشيلي، وجميع الرفاق الآخرين — سيصبُّ كل ذلك في هاتين الأذنَين المصدومتَين
الرائعتَين والعاطفيتَين دون رَيب! وتمهيدًا لهذه الأشياء فقد استمالها إليه ببراعة واحترام
مُتناهِيَين. غير أن التحفُّظ الذي قابَلتْه به إليزابيث بدا كما لو أنه لا يربو عن كونه احتشامًا
مُتقَنًا يُعزِّزه شعور بالافتقار إلى الأفكار السوية المُشترَكة.
لم يكن بيندون يعلم شيئًا عن عواطفها غير المُعلَنة أو عن مُحاوَلة مورس استخدام
التنويم المغناطيسي لتصحيح ميلها القلبي؛ كان يُؤمِن بأنه وإليزابيث مُتفاهِمان تمامًا،
وقدَّم لها الكثير من الهدايا المُتنوِّعة والمُميَّزة من المجوهرات والكثير من مساحيق التجميل
الفاخرة، لكن هروبها مع دينتون للزواج قلب عالمه رأسًا على عقب. كان أول ما شعر به
هو الغضب بسبب جرح كبريائه، ونظرًا لأن مورس كان الشخص الأكثر قربًا منه، فقد
كان أول من صبَّ جام غضبه عليه.
ذهب بيندون على الفور ووجَّه إهانات فظيعة إلى الوالد البائس ثم قضىيومًا كاملًا
عازمًا على التجوُّل في أرجاء المدينة حيث يلتقي الناس في مُحاوَلة دائمة وناجحة بدرجةٍ ما
لإفشال زواجها. أمده ما فعله بابتهاج مُؤقَّت وذهب للمكان الذي كان يتناول فيه عشاءه
باستمرار أيام طيشه وفساده حيث كان خليَّ البال، وتناوَل العشاء بكل سعادة وبكميات
كبيرة مع رجلَين أربعينيَّين طائشَين. لقد قرَّر التخلي عن فكرة الزواج؛ حيث لم تكن هناك
أي امرأة تستحق أن يكون صالحًا من أجلها، واندهش كم نما لديه أسلوب السخرية
المشوبة بالتشاؤم. أحد رفيقَيْه الطائشَيْن اللذين أسكرهما الخمر لمَّح لخيبة أمل بيندون في
سخرية، لكن لم يبدُ هذا أمرًا مُزعِجًا حينذاك.
في صبيحة اليوم التالي، وجد أن مزاجه كان سيئًا للغاية وحالة كبده كذلك. ركل
فونوغراف الأخبار مُحطِّمًا إياه وصرف خادمه الخصوصي، وعقد العزم أنه سينتقم من
إليزابيث، أو دينتون، أو شخصٍ ما، أشدَّ انتقام. في كل الأحوال، سيكون انتقامًا رهيبًا،
وأما صديقه الذي سخر منه فلا بد أن يتوقَّف عن النظر إليه بوصفه ضحية لفتاة خرقاء.
كان يعرف القليل عن ميراثها الصغير الذي سيئول إليها وأن هذا سيكون الدعم الوحيد
الذي ستحصل إليزابيث ودينتون عليه إلى أن يرقَّ مورس لحالهما، لكن إذا لم يرق، وإذا
حدثت أمور لا تُبشِّربالخير في العلاقة التي تتوقع إليزابيث حدوثها، فستمرُّ عليهما أوقات
عصيبة وربما يُصبِحان ضعيفَين بما يكفي أمام الإغواء. كان خيال بيندون، الذي تخلَّى
تمامًا عن أي مثالية، قد ضاعَف من فكرة الإغواء ونظر لنفسه كرجل غني ذي قوة ونفوذ
عديم الصفح يُطارِد هذه الفتاة العذراء التي احتقرته، وفجأةً سيطرت على خياله صورة
واضحة لإليزابيث ولأول مرة في حياته أدرك بيندون القوة الحقيقية للعاطفة.
تنحَّى خياله جانبًا كما لو كان جنديٍّا أو خادمًا محترمًا أنهى عمله في تفجير العاطفة.
«… يا إلهي! سأحصل عليها! حتى لو مت في سبيل هذا! وذلك الآخر » : صرخ
وبعد مُقابَلة مع طبيبه وتكفيره عن إسرافه الليلي بتناوُل أدوية مُرة الطعم، سعى
بيندون بعزم شديد إلى مُقابَلة مورس ليجده مُحطَّمًا ومُحتاجًا وذليلًا ويُحاوِل باهتياجٍ
شديدِ الحفاظ على ذاته حتى لو كان هذا ببيع جسده وروحه، ونسيان أي شيء يتعلق
بابنته العاصية لأمره ليستعيد مكانته في العالم. خلال النقاش العقلاني الذي بدأ بينهما،
اتُّفق على ترك هذَين الشابَّين المُضلَّلَين ليغرقا في الأزمات أو ربما المساعدة في تأديبهما
باستغلال نفوذ بيندون المالي.
«؟ ثم ماذا » : قال مورس
«. سيأتيان إلىشركة العمالة وسيرتديان الخيش الأزرق »
«؟ ثم ماذا »
ثم جلس للحظة يُفكِّر في ذلك الاحتمال؛ وهذا لأنه في تلك «. ستطلب منه الطلاق »
الأيام كانت القيود الشديدة على الطلاق في العصرالفيكتوري قد أرُخِيت كثيرًا ويمكن لأي
زوجَين أن يفترقا لمئات الأسباب المختلفة.
ثم قفز بيندون واقفًا على قدمَيه فجأةً على نحوٍ أثار دهشة مورس، ودهشته هو
ستطلب منه الطلاق! سأحرص على حدوث هذا! سأعمل على حدوث » : شخصيٍّا، صائحًا
«! هذا! بحق الرب! سيحدث هذا! سيُوصَم بالخزي! وهي كذلك! سيُدمَّر ويُسحَق تمامًا
أثارت فكرة السحق والتدمير بيندون بشدة. وبدأ يذرع المكتب الصغير ذهابًا وعودة
«! ستكون من نصيبي! سأمتلكها! لن يقدر أي كائن على أن يحول بيني وبينها » : صائحًا
تلاشى غضبه بعد التنفيس عما بداخله وتركه هذا في النهاية ببساطة وقد بدا كمن كان
يُمثِّل دورًا ما. اتخذ جسده وضعًا مُعيَّنًا وحاوَل بكل عزم بطولي تجاهُل ألم شديد في بطنه،
وجلس مورس وقد انكمشت قبعته وظهر عليه التأثُّر الشديد.
وهكذا، وبقدرٍ مُناسِب من المُثابَرة والتصميم، بدأ بيندون ببراعةٍ ومهارةٍ العملَ على
تدبير الأمور السيئة لإليزابيث باستخدام كل ما يمتلك من أفضلية وميزات حبَتْه بها ثروته
في تلك الأيام عن بقية الناس. ولم تُعِقه سَلواه التي يجدها في الدين عن مُضِيه قدمًا في فعل
ذلك. كان يذهب للتحدُّث مع كاهن مُثير للاهتمام وخبير ومُتعاطِف من طائفة الهوسمانيين
المُتبِعين لعقيدة إيزيس بشأن كل الأمور غير العقلانية الصغيرة التي كان يستمتع بالنظر
إليها باعتبارها خطايا تُثير غضب السماء. هذا الكاهن المُثير للاهتمام والخبير والمُتعاطِف،
الذي كان يُمثِّل السماء، والذي كان يعلو وجهه تظاهُر بالرعب يبعث على السرور، يقترح
عليه الامتناع عن الأمور السهلة والبسيطة ويُوصيه بالذهاب إلى مُؤسَّسة تابعة للرهبان
كانت تتميز بهوائها المُعتدِل ونظافتها ولا يرتادها عامة الناس بل كانت للمُذنِبين التائبين
المُضطرِبين من الأغنياء الرفيعِي الشأن. وبعد تلك الرحلات، كان بيندون يعود إلى لندن
مُفعَمًا بالنشاط ومُتقِد العاطفة. كان يتصرف بحيوية كبيرة وكان يذهب إلى إحدى صالات
العرض الواقعة في مبنًى يُطِل على أحد مُفترَقات الطرق؛ حيث يمكنه من هناك أن يرى
مدخل بنايةشركة العمالة والجناح الذي يقبع فيه دينتون وإليزابيث. وفي أحد الأيام، رأى
إليزابيث وهي تدخل الشركة مما جدَّد عاطفته نحوها من جديد.
اكتملت الخُطط المُعقَّدة التي أعدَّها بيندون في الوقت المناسب، مما جعله يذهب إلى
مورس ليُخبِره بأن الشاب والفتاة أشرفا على الوقوع في حالة من اليأس.
حان الوقت لتستغل عاطفة الأبوة لديك. إنها ترتدي الخيش الأزرق » : قال لمورس
الخشن منذ شهور ويعيشان معًا في واحدة من الغرف الضيقة التي تُوفِّرهاشركة العمالة
كما ماتت طفلتهما الصغيرة. إنها تُدرِك الآن أن رجولة دينتون بالنسبة لها لا تعني إلا
حمايته لها وهي فتاة مسكينة. سترى الأمور الآن بصورة أوضح. اذهب إليها، فأنا لا أريد
«. أن أتدخَّل في الأمر بعد، وأوضِح لهاضرورة طلب الطلاق من دينتون
«. إنها عنيدة » : لكن مورس ردَّ مُتشكِّكًا
«! يا لروحها! إنها فتاة عظيمة! فتاة عظيمة »
«! سترفض »
بالطبع سترفض! لكن دع باب الاختيار مفتوحًا أمامها! ويومًا ما، وهما يمكثان في »
تلك الغرفة الخانقة التي يعيشان فيها تلك الحياة القذرة المُزعِجة سيُصبِحان غير قادرَين
«. على التحمُّل أكثر من ذلك وحينها سيتشاجران
ظل مورس يُفكِّر في الأمر مليٍّا وفعل ما أمره به بيندون.
ثم رجع بيندون حسبما اتفق مع مستشاره الروحي إلى مُعتزَل ديني. كان المُعتزَل
الخاصبالهوسمانيين مكانًا جميلًا ويهبُّ فيه ألطف هواء في لندن، ومُضاءً بضوء الشمس
الطبيعي، كما كان العشب به قد قُص على هيئة أفنية مُربَّعة الأضلاع في الهواء الطلق،
بينما يستمتع التائبون عن الملذَّات الدنيوية بالتسكُّع فيها وهم في حالة من الرضا التام
الذي يبعثه في نفوسهم حالة التقشُّف الشديد، وفيما عدا مُشارَكة الجميع تناوُل الطعام
والذي كان عبارة عن حمية غذائية بسيطة وصحية وإنشاد بعض الترانيم الجميلة، كان
بيندون يقضي كل وقته في التأمُّل والتفكير في إليزابيث وحالة الصفاء الروحي الشديد
الذي شعر به منذ أن رآها لأول مرة، كما كان يُفكِّر فيما إذا كان سيُصبِح قادرًا على نيل
الوشيكة المتمثِّلة « الخطيئة » تصريح من الكاهن الخبير العطوف كي يتزوج منها رغم
في طلاقها. أسند بيندون ظهره إلى عمود إحدى الباحات المُربَّعة ليغرق في أحلام يقظة
عن سُمو الحب العفيف على أي متعة أخرى. بدأ ينتابه إحساس غريب في صدره وظهره
أخذ يُشتِّت انتباهه، كان إحساسًا بالحرارة أو البرودة، إحساسًا عامٍّا بالسقم وعدم ارتياح
جلدي. بذل أقصى جهده ليتجاهله. كل هذا كان بالطبع بسبب الحياة القديمة التي كان
يُحاوِل التخلُّصمنها.
وعندما ترك المُعتزَل، ذهب من فوره إلى مورس مُستفسِرًا عن أخبار إليزابيث. كان
مورس يظن أنه أب مثالي وكان مُتأثِّرًا للغاية بتعاسة ابنته وقال له وقد تحرَّكت مشاعره:
كانت شاحبة اللون. عندما طلبت منها الرحيل والمجيء معي لتُصبِح سعيدة، أراحت »
«. ثم أخذت تبكي » : ثم تنهد وأكمل «. رأسها على الطاولة
كان حزنه شديدًا حتى إنه لم يستطع التفوُّه بالمزيد.
«! آه » : احترم بيندون حزن مورس ثم وضع يده على جنبه وبدأ يتأوَّه
وبدا عليه القلق. «؟ ما خطبك » : نظر مورس له وأجفل وقد نسي أحزانه
«. اعذرني! أشعر بألم شديد للغاية! كنتَ تتحدَّث عن إليزابيث »
استمر مورس في الكلام بعد أن أبدى تعاطُفه حيال الألم الذي يشعر به الرجل. كان
الأمر مُبشِّرًا على نحو غير مُتوقَّع. عندما اكتشفت إليزابيث أن والدها لم يهجرها بالكامل
صارحتْه بوضوح بكل أحزانها.
لكن الألم في جنبه «. نعم. ستكون من نصيبي » : قال بيندون وقد بدا عليه العظمة
اشتد مرةً أخرى.
كان اللجوء للكاهن بسبب هذه الآلام غير مُجدٍ نسبيٍّا؛ حيث كان يميل الكاهن إلى
اعتبار آلام الجسد أوهامًا عقلية يمكن التغلُّب عليها بالتأمُّل؛ لذا لجأ بيندون لرجل من
يجب أن » : طبقة يكرهها؛ طبيب فظ لكنه ذو صيت كبير. صارَحه الطبيب بكل اشمئزاز
هل » : ثم طرح عليه هذا الرجل المادي أسئلة وقِحة من بينها «. نفحص جسدك بالكامل
«؟ جلبت أطفالًا إلى هذا العالم
«. لا، على حد علمي » : ردَّ بيندون مُندهِشًا على نحوٍ منعه من الثأر لكرامته
استمر الطبيب في فحص جسده بالضغط على مواضع مختلفة منه إضافةً إلى إجراء
فحوصات طبية. كانت علوم الطب في تلك الأيام قد بدأت تصل إلى بدايات مرحلة الدقة. قال
«! يجب عليك الخضوع للقتل الرحيم فورًا. كلما كان هذا أسرع، كان أفضل » : له الطبيب
لهث بيندون. كان يُحاوِل ألا يفهم التفسيرات والتوقُّعات العلمية التي بدأ الطبيب في
سردها.
«… أتقصِد أن تقول … وعلمك ومعرفتك » : قال
ليس بمقدورنا فعلشيء. ستتناول بعضالمُسكِّنات. كل هذا نتيجة ما اقترفته يداك »
«. — إلى حد ما — كما تعلم
«. لقد تعرَّضت لإغراءات شديدة في شبابي »
ليس الأمر كذلك بالقدر الذي تتصوَّره. إنك تنحدر من نسل سيئ. حتى لو كنت »
اتخذت الاحتياطات اللازمة، كان سينتهي بك الحال هكذا أيضًا. الخطأ هو أنك جئت إلى
«. هذه الدنيا. إنه طيش وحماقة الأبوَين. كما أنك تجنَّبت مُمارَسة الرياضة، وهلمَّ جرٍّا
«. لم يكن هناك من ينصحني »
«. الأطباء مُستعِدون دائمًا لتقديم النصيحة »
«. كنتُ شابٍّا مُفعَمًا بالنشاط والحيوية »
لن نتناقش في هذا؛ فالضرر قد وقع بالفعل. لقد عِشتَ حياتك بالفعل ولا يمكننا »
«! البدء من جديد. كان يتعين عليك عدم البدء من الأساس.صدِّقني، القتل الرحيم هو الحل
لعنه بيندون فيسرِّه للحظات. كانت كل كلمة من الطبيب الفظ بمثابةصدمة لطباعه
الراقية وأخلاقه الحسنة. كان الرجل فظٍّا للغاية ولا يُبالي بمشاعر الآخرين وأبسط الأمور
عقيدتي تمنعني » : المُتعلِّقة بكينونة الإنسان، لكن من غير المُجدي بدء نزاع مع طبيب. قال
«. من الانتحار
«. لقد قضَيت حياتك كلها تفعل هذا »
«. حسنًا، على أي حال، لقد أتيتُ هنا لاكتساب أسلوب حياة جاد من الآن »
يجب عليك هذا إذا قررت الاستمرار في الحياة. سوف تتألم. ولكن من منظور عملي، »
فات الأوان، لكن إذا كنت تعتزم هذا بالفعل، ربما يمكنني أن أصنع شيئًا من أجلك. سوف
«. تُعاني كثيرًا. سوف تشعر بآلام مُبرِّحة
«! آلام مُبرِّحة »
«! مُجرَّد ملاحظات مبدئية »
«. إلى متى يمكنني العيش؟ أقصد، قبل أن تبدأ الآلام في الظهور؛ بحق »
«. ستنتابُك عمَّا قريب. ربما في غضون ثلاثة أيام »
حاوَل بيندون أن يحمله على تمديد المدة، وبينما هو في وسط مُناشَدته اللاهثة، أمسك
هذا » : جنبه بيده. وفجأةً أدرك بوضوح كبير كم هي حياته مُثيرة للشفقة الشديدة، ثم قال
أمر صعب. هذا أمر لا يُطاق! لم أعُادِ شخصًا في الحياة إلا نفسي. دائمًا ما كنت أعُامِل
«. الجميع بعدل وإنصاف شديدَين
حدَّق فيه الطبيب دون أي تعاطُف لبضع ثوانٍ وكان يُفكِّر كم سيكون من الممتاز ألَّا
يكون لبيندون أي ذرية قادمة تحمل هذا الكم من البؤس والشفقة في الحياة. كان يشعر
بالتفاؤل ورفع سماعة الهاتف ليطلب وصفة من الصيدلية المركزية.
«! بحق الرب، سأظفر بها » : قاطَعه صوت بيندون من خلفه
التفت الطبيب ونظر إلى ما ارتسم على وجه بيندون ثم غيَّر الوصفة.
وبمُجرَّد انتهاء هذه المُقابَلة المُؤلِمة، سمح بيندون لنفسه بالتنفيس عن غضبه. كان
قد اقتنع أن الطبيب ليس فقط فظٍّا ويفتقر إلى مشاعر التعاطُف وأدنى قدر من التهذيب،
بل إنه غير كفء تمامًا؛ لذا ذهب لأربعة أطباء آخرين مُصرٍّا على إثبات صحة رأيه. ولكي
يتقي أي مُفاجآت، احتفظ بهذه الوصفة الصغيرة في جيبه. وعند كل طبيب زاره كان يُعبِّر
عن شكوكه الكبيرة في خبرة ومعرفة وصدق الطبيب الأول، ثم يبدأ فيسرد أعراضمرضه،
كاتمًا بعضالحقائق في كل مرة، لكن كان الطبيب يكتشفها دائمًا. وبالرغم من التقليل من
شأن معالج آخر وهو ما راق للإخصائيين البارزين، لم يُعطِه أي منهم أملًا في التخلص
من الألم الذي بدأ يلوح في حياته. وعندما زار آخر طبيب، أفصح عن كل ما يحمله من
مرَّت قرون وقرون وما زلتم عاجزين عن فعلشيء » : كراهية مُتراكِمة للطب. وهتف بحِدَّة
«؟ سوى الاعتراف بقلة حيلتكم. أقول لك أنقِذني، وبماذا ترد أنت
«. أعلم أن الأمر مُؤلِم، لكن كان يجب عليك اتخاذ الاحتياطات » : ردَّ الطبيب
«؟ وكيف كان لي أن أعرف »
التقط الطبيب خيطًا من القطن من كمه الأرجواني، «. لم يكن من واجبنا مطاردتك »
لماذا يجب علينا إنقاذك بالذات؟ هناك وجهة نظر تقول بأن أصحاب الخيال » : ثم أكمل
«! والعواطف مثلك يجب أن يرحلوا
«؟ يرحلون »
«. أجل، يموتون. إنها وجهة نظر »
نحن » : كان الطبيب شابٍّا ذا وجه هادئ. التفت مُبتسِمًا إلى بيندون، واستطرد قائلًا
ماضون قدمًا في الأبحاث، وكما تعلم، نحن نُسدي النصيحة لمن يطلبها، ثم ننتظر إلى أن
«. تسنح الفرصة
«؟ تسنح الفرصة »
«. ليس لدينا المعرفة التي تكفي لأن نملك زمام الأمور »
«؟ زمام الأمور »
لا داعي لأن تُصاب بالقلق. ما زال أمام العلم شوط طويل. ويجب أن يستمر في »
النمو لعدة أجيال قادمة. نحن نُدرِك الآن أننا لا نعرف ما يكفي بعد، لكن الوقت المناسب
سيأتي على أي حال. لن تعيش لترى هذا، لكن لا أخُفيك سرٍّا، أنتم الأغنياء ورؤساء
الأحزاب بتلاعُبكم الفطري بالعواطف والوطنية والدين وغير ذلك أفسدتم كل شيء. أليس
هذا صحيحًا؟ انظر إلى العالم السفلي! وغير ذلك من الأمور. يتخيل بعضنا أننا في يومٍ
ما سنمتلك المعرفة الكافية لتولِّي ما هو أكثر من مُجرَّد أمور التهوية والصرف الصحي!
المعرفة تتراكم وتتزايد كما تعلم. ولا يوجد هناك أي عجلة. يومًا ما، ستُصبِح حياة البشر
لكن سيفنى الكثيرون قبل أن يأتي ذلك » : ثم نظر إلى بيندون مُفكِّرًا، وأكمل «. مختلفة
«. اليوم
حاوَل بيندون أن يُبيِّن للطبيب الشاب كم أن حديثه يبدو لرجل مريضمثله سخيفًا
وغير ذي صلة بالموضوع، وكيف أن هذا أمر وقِح وغير مُتحضِّربالنسبة إليه، وهو الرجل
العجوز الذي يشغل منصبًا في عالم القوة والنفوذ الشديدَين. أصرَّعلى أن الطبيب يتقاضى
ولا يحق له حتى التفكير « يتقاضى أجرًا » أجرًا ليُعالِج الناس، وشدَّد كثيرًا على عبارة
مُصرٍّا على «. لكننا نفعل هذا » : للحظات في تلك الأمور الأخرى. لكن الطبيب الشاب ردَّ قائلًا
ما يقول من حقائق ليُفقِد بيندون أعصابه.
عاد إلى منزله وقد بلغ به الحنق مبلغه. هؤلاء المُدَّعون الفشلة — الذين لا يقدرون
على إنقاذ حياة رجل ذي نفوذ كبير مثله — يحلمون بأنهم يومًا ما سينتزعون السيطرة
على المجتمع من أصحابها الحقيقيِّين وسيفرضون طغيانًا جديدًا على العالم لم يمر عليه
من قبل. اللعنة على العلم! ظل يُفكِّر بعضالوقت وقد استشاط غضبًا من هذا الأمر الذي
كان يفوق احتماله، ثم عاوَدته الآلام مرة أخرى مما جعله يتذكر الوصفة التي كتبها له
الطبيب الفظ والتي كانت ما تزال تقبع في جيبه. أخرجها وتناوَل جرعة منها على الفور.
هذا الدواء خفَّف وسكَّن آلامه كثيرًا حتى استطاع الجلوس في الكرسي الذي يُشعِره
بأكبر قدر من الارتياح بجانب مكتبته (من التسجيلات الفونوغرافية) وأخذ يُفكِّر في تقلُّبات
الأمور. تلاشى سخطه وانزوى غضبه وعاطفته أمام الأثر الخفي للوصفة الطبية، وأصبح
الرثاء والشفقة هما ما يُسيطِر عليه. حدَّق فيما حوله، في شقته الرائعة والمُؤثَّثة كأفخم ما
يكون، وفي صوره المنحوتة والمُغطَّاة بعناية، وفي كل ما يدل على خسته التي غلَّفتها الأناقة
والتهذيب. لمس زرٍّا ليملأ الصوت الحزين لمزمار راعي تريستان الأجواء. تجوَّلت عيناه من
شيء لآخر لتُشاهِدا الأشياء التي تملأ شقته؛ حيث كانت باهظة التكلفة كثيرة الزخارف
شديدة التكلُّف، لكنها كانت ملكه. كانت تلك الأشياء تُمثِّل مبادئه ونظرته للجمال والرغبة
وفكرته عما هو ثمين في الحياة. والآن سيتركها جميعًا ليُصبِح كغيره من البشر العاديين.
شعر بيندون كأنه لسان لهب ضئيل يخبو تدريجيٍّا، وفكَّر أنه لا بد أن كل كائن حي
مصيره الموت. واغرورقت عيناه بالدموع.
ثم فكَّر فجأةً كم كان وحيدًا. لم يكن هناك من يهتم لأمره ولا من يحتاج إليه! يمكن
أن ينتابه الألم الشديد في أي لحظة. وربما يدفعه للعواء كالكلب الجريح، ولن يأبه لحاله
أحد. وطبقًا لكل الأطباء سيكون لديه سبب وجيه للصراخ بسبب الألم في غضون يوم
أو أكثر. استدعى هذا لتفكيره ما قاله مُرشِده الروحي عن اضمحلال الإيمان والاستقامة
وانحلال العصر. نظر لنفسه على أنه مثال حي على هذا يُثير الشفقة وهو الذي كان حاذقًا
قويٍّا ساخرًا ذا نفوذ وغنًى ورُقِي، يصرخ من الألم ولا يجد تعاطُفًا من أي شخصبسيط
مخلصفي أي مكان من العالم. لم يكن ثمة أحد مُحب مخلصيرفق بحاله؛ لم يجد راعيًا
يعزفالمزمار له. هل اختفى كل البسطاء المخلصين من على ظهر الكوكب القاسيالعجول؟
تساءل ما إذا كان البشرالسوقيون البغضاء الذين يجوبون طرق المدينة ليلَ نهار يُدرِكون
ما تحمله نظرته إليهم من معنًى. كان مُتأكِّدًا أنهم إذا شعروا بهذا فسيُحاوِل بعضهم
أن يُغيِّر هذا الرأي للأفضل. لقد تحوَّل العالم بالتأكيد من سيئ إلى أسوأ. وأصبح العيش
فيه مُستحيلًا بالنسبة لأمثال بيندون. ربما يومًا ما … كان مُتأكِّدًا إلى حد كبير أن كل ما
يحتاجه في الحياة هو التعاطُف. وندم لفترة أنه لم يترك أي قصائد من تأليفه أو أي صور
غامضة أو أيشيء يحمل ذكراه حتى يأتي من سيتعاطف معه.
بدا من غير المعقول بالنسبة إليه أن نسله سينقرضلا محالة، لكن مُرشِده الروحي
المُتعاطِف كان يتناول هذا الموضوع بصورة غامضة ومَجازِيَّة على نحوٍ أثارضيق بيندون.
اللعنة على العلم! لقد قضى على أي إيمان وأي أمل. سيتلاشى من العالم وسيختفي من
قاعات العلم، ومن الشارع ومن المكتب، ومن المنزل، ومن الأعين الجميلة للنساء. ولن
يفتقده أحد! بل سيُصبِح العالم، بوجه عام، أكثر سعادة.
فكَّر أنه لم يسبق له من قبل إظهار عواطفه ومشاعره الحقيقية. هل أصبح هو أيضًا
لا يمتلك أي تعاطُف؟ القليل من الناس فقط يمكنهم إدراك كم كان يُخفي عمق مشاعره
ببراعة تحت قناع من السخرية. لن يدركوا ما خسروه. إليزابيث على سبيل المثال لم تُدرِك …
احتفظ بهذه الفكرة وظل يُفكِّر في إليزابيث لبعضالوقت. كم كانت لا تفهمه!
أصبح هذا الخاطر لا يُحتمَل. يجب عليه تصحيح هذا قبل أيشيء. أدرك أنه ما زال
هناك أمرٌ يجب عليه إنجازه في الحياة، وكانصراعه مع إليزابيث لم ينتهِ بعد. لم يكن قد
استطاع تجاوُز تفكيره فيها كما كان يأمل ويدعو لله، لكن ما زال يمكنه إثارة إعجابها!
بدأ التفكير من هذا المنطلق. سيُثير إعجابها. سيثير إعجابها حتى تندم على معاملتها
له للأبد. الأمر الذي يجب عليها إدراكه قبل أيشيء هو شهامته وأصالته! نعم! لقد أحبها
من كل قلبه. لم يُدرِك هذه الحقيقة بوضوح قبل هذا، لكنه بالطبع كان سيترك لها كل ما
يملك. أدرك هذا فورًا كأمر محسوم وحتمي. ستُدرِك إليزابيث كم كان طيبًا وكريمًا، وعندما
تجد نفسها مُحاطة بكل ما يجعل الحياة مُحتمَلة بسببه، ستتذكر احتقارها وفتورها معه
وستندم أشد الندم. وعندما تبحث عنه للاعتراف بندمها، ستكتشف أنه قد فات الأوان.
ستُقابِل بابًا مُوصَدًا وسكونًا مُزدريًا ووجهًا أبيضشاحبًا قد فارقصاحبه الحياة. أغمض
عينَيه وتخيَّل نفسه ميتًا وقد ابيضَّوجهه.
ثم انتقل تفكيره إلى جانب آخر من الموضوع، لكنه كان عاقدًا العزم. فكَّر جيدًا قبل
أن يُقدِم على فعل أيشيء لأن الدواء الذي كان يتناوله كان يُصيبه بقدر هائل من الكسل
والسوداوية. عدَّل بعضالتفاصيل في بعضالجوانب. إذا ترك لإليزابيث كل ما يملك، فهذا
سيعني أنها ستحصل على الغرفة الفخمة التي يُقيم فيها، ولأسباب عدة كان لا يُبالي بأن
يتركها لها. ومن ناحية أخرى، كان يتعين عليه أن يتركها لشخصٍ ما. كان هذا ما يُثير
قلقه الشديد حيث كان لا يدري ما يتعين عليه فعله.
في النهاية، قرَّر أن يترك الأمر لزعيم الجماعة الدينية العصرية المُتعاطِف الذي كان
سيفهم، فهو يعرف ما » : الحديث معه فيما مضىمُمتِعًا للغاية. تنهَّد بيندون بانفعال وقال
راق لبيندون أن «. يعنيه الشر؛ إنه يفهم معنى الإغراء الشديد للخطيئة. أجل، سيتفهم الأمر
يُحدِّث نفسه بهذا كي يخلعضربًا من الوقار والجلال على اتباعه لسلوكيات فاسدة وغير
أخلاقية وانحرافه عن السلوك القويم بعد أن وقع في هذا الشَّرَك بسبب غروره وفضوله
اللذين لم يملك القدرة على التحكم فيهما. جلس يُفكِّر لبرهة كيف بلغ سوء سلوكه كل
مبلغ. لمَ لا يُجرِّب أن يُؤلِّف سونيتة شعرية؟ قصيدة تحمل صوتًا حادٍّا سيتردد على مر
العصور؛ صوتًا حسيٍّا وحزينًا وشريرًا. نسيأمر إليزابيث لفترة. وخلال نصف ساعة، كان
قد حطَّم ثلاثة ملفات فونوغرافية، وأصابه الصداع، مما دفعه لتناوُل جرعة ثانية من
الدواء ليهدأ وعاد إلى شهامته وإلى هدفه السابق.
في النهاية، بدأ في مُواجَهة مُشكِلة دينتون المَقيتة، وتطلَّب تحمُّل هذه الفكرة كل هذه
الشهامة التي ظهرت لديه مُؤخَّرًا؛ لكن في النهاية، هذا الرجل الذي أسُيء فهمه كثيرًا تغلَّب
على المُشكِلة بمُساعَدة الدواء المُهدِّئ وقرب انقضاء الأجل. إذا قرَّر إقصاء دينتون وإظهار
أقل لمحة من عدم الثقة فيه وإذا حاوَل إقصاء هذا الشاب بأي طريقة كانت، فلربما تُسيء
إليزابيث فهمه. نعم، سيظل دينتون معها. يجب أن تدفعه شهامته إلى السماح بهذا. في
خِضم كل هذا، حاوَل بيندون التفكير في إليزابيث وحدها.
وقف مُتنهِّدًا، ومشىمُضطرِبًا نحو الهاتف الذي يُوصِله بمُحاميه. خلال عشردقائق،
ستصل وصية جرى التصديق عليها وتوقيعها ببصمة إبهامه؛ إلى مكتب مُحاميه الذي يبعد
عنه ثلاثة أميال، ثم جلس بيندون لفترة من الوقت ساكنًا تمامًا.
وفجأة، خرج من أحلام اليقظة وأمسك جنبه بيد مُتفحِّصة.
وبعدها قفز فجأةً على قدمَيه بحماس وهرع إلى الهاتف. لم يتصل أي عميل بشركة
القتل الرحيم بهذه العجلة من قبل.
في النهاية، وخلافًا لكل التوقعات، عاد دينتون وإليزابيث من استرقاق العمل الذي
كانا قد وقعا في شَرَكه، دون أن يفترقا. خرجت إليزابيث من الغرفة الضيقة التي تقع
تحت الأرض وتركت العمل في طرق الحديد وتخلَّصت من ارتداء الخيش الأزرق، كمن
خرج من كابوس مُزعِج. أخذتهما ثروتهما مُجدَّدًا نحو ضوء الشمس؛ وبمُجرَّد أن علِما
بأمر الوصية، لم يستطيعا تحمُّل التفكير في يوم آخر من العمل. صعدا بالمصاعد والسلالم
إلى مستويات لم يصعدا إليها منذ اليوم الذي بدأت فيه مأساتهما. في البداية، كان يملؤها
حماس شديد بسبب الهروب من العالم السفلي حتى إن مُجرَّد التفكير فيه كان لا يُطاق؛
لكن بعد مُضِي عدة أشهر، بدأت تتذكر بمشاعر الشفقة هؤلاء النسوة الشاحبات اللائي
ما زلْن يعملن تحت الأرض، ويتبادلْن أخبار الفضائح والذكريات والأمور الحمقاء، وهن
يكدحْن طوال ما تبقى من حياتهن.
كان اختيار إليزابيث للمَسكن الذي حصلا عليه يعكسمدى استحواذ مَشاعر الخلاص
عليها. كان المسكن يقع على أقصىأطراف المدينة، وكان به عُليَّة، وشرفة تُطِل على جدار
المدينة، مفتوحة لأشعة الشمس والخُضرة والسماء والرياح.
في هذه الشرفة، دار المشهد الأخير من قصتنا. كان هذا وقت غروب الشمس في أحد
أيام الصيف وكانت تلال مُقاطَعة ساري واضحة للعيان وقد اكتست باللون الأزرق. مال
دينتون على سور الشرفة ليُشاهِدها وجاءت إليزابيث لتجلس بجواره. كان المنظر فسيحًا
للغاية وكانتشرفتهما تقع على ارتفاع خمسمائة قدم فوق المستوى القديم للأرض. كانت
الأرضالزراعية المُستطيلة الشكل والتابعة لشركة الأغذية تتخلَّلها بعضأطلال الضواحي
القديمة — التي كانت عبارة عن بضع حفر وسقائف غريبة الشكل — وكانت تقطعها
مجاري مياه الصرف الصحي المُتلألئة. كانت تلك الأرضتصل في النهاية إلى مكان ناءٍ عند
سفح التلال البعيدة. كان هذا يومًا ما المكان الذي احتلَّه أبناء يويا. وعلى السفوح البعيدة
للجبال، كانت تربض آلات قديمة لا تُعرَف وظيفتها تعمل ببطء حيث اقتربت نهاية نوبة
عملها، وكانت هناك دوَّارات رياح مُتوقِّفة عن العمل تقبع فوق قمة التل. وبمحاذاة الطريق
الجنوبي الكبير، كان عمال الحقل التابعون لشركة العمالة يركبون مركبات آلية ضخمة
ذات عجلات، عائدين بسرعة لتناوُل وجبات الطعام بعد انتهاء نوبة العمل. وفي الهواء، كان
هناك العشرات من الطائرات الصغيرة الخاصة تتجه نحو المدينة. كان هذا المشهد المألوف
لأعين دينتون وإليزابيث سيُثير دهشة عظيمة لدى أسلافهما. اتجهت أفكار دينتون نحو
المُستقبَل في مُحاوَلة فاشلة لتخيُّل ما سيكون عليه هذا المشهد بعد مائتَي عام، لكن أفكاره
ارتدَّت نحو الماضي.
تحدَّث عنشيء من معرفته المُتزايدة بذلك الزمن؛ كان يمكنه تخيُّل المدن الفيكتورية
القديمة الطراز التي تراكَم السُّخام على أبنيتها وطرقها الصغيرة الضيقة غير المُمهَّدة
وأراضيها المَشاع الواسعة وضواحيها غير المُنظَّمة والمُتهالِكة والأسوار غير المُنتظِمة. تخيل
الريف القديم في زمن آل ستيوارت بقُراه الصغيرة ومدينة لندن عندما كانت مدينةصغيرة.
تخيل إنجلترا التي كانت تملؤها الأديرة، ثم تخيل إنجلترا في زمن الرومان، ثم قبل ذلك
عندما كانت بلدًا بربريٍّا حيث كانت تتناثر أكواخ القبائل المُتناحِرة. لا بد أن هذه الأكواخ
بُنِيت ثم تهدَّمت ثم بُنِيت مرة أخرى خلال عدة سنوات جعلت الفيلا والمعسكر الرومانيَّين
يبدوان كما لو كانا بالأمس القريب، وقبل تلك السنوات وقبل حتى ظهور تلك الأكواخ،
كان هناك بشرٌ يعيشون في الوادي. حتى في ذلك الزمن الذي يبدو حديثًا للغاية إذا نظر
إليه المرء بمقاييس الزمن الجيولوجي، كان هذا الوادي موجودًا، وتلك التلال البعيدة التي
كانت ربما أعلى ارتفاعًا من الآن وكانت قِمَمها مُغطَّاة بالثلوج ما زالت بعيدة، ونهر التيمز
الذي يتدفق من تلال كوتسوولدز إلى البحر. لكن البشركانوا أشباه بشر؛ مخلوقات تعيش
في الظلام والجهل؛ كانوا يقعون ضحايا للحيوانات المُفترِسة والكوارث الطبيعية مثل
الفيضانات والعواصف والأوبئة والمجاعات المُتكرِّرة. استطاع البشر أن يتخذوا لأنفسهم
موضعًا مُتقلقِلًا ومحفوفًا بالمخاطر بين الأسُود والدِّبَبة وكل أشكال العنف الوحشي التي
كانت تُميِّز الحياة في الماضي. لقد تغلَّب الإنسان بالفعل على بعضهؤلاء الأعداء على الأقل.
ظل دينتون لفترة يُفكِّر في المشهد الفسيح أمامه يُحاوِل بدافع من غريزته أن يعثر
على مكانه وقدره في الكون.
كل شيء كان مُصادَفة وحظٍّا. لقد خرجنا من الأمر سالمين. لقد تجاوزنا الأمر » : قال
«. ليس بسبب قوتنا، ومع ذلك … لا … لا أعلم
ثم صمت لوقت طويل قبل أن يتحدَّث مرة أخرى.
برغم كلشيء، ما يزال هناك وقت طويل. لقد وُجِد البشرمنذ نحو عشرين ألف عام »
فقط، بينما عمر الحياة عشرين مليون سنة. وماذا عن الأجيال؟ ماذا عن كل هذه الأجيال؟
الحياة هائلة ونحن جزءضئيل للغاية منها، لكننا نُدرِك ونشعر، لسنا مُجرَّد ذرَّات ساكنة،
بل نحن جزء من الحياة بقدر ما تسمح لنا قوتنا وإرادتنا، لكن حتى الموت جزء من الحياة
وسواءٌ عشنا أو متنا، نظل في مُعترَك الحياة، ربما يُصبِح البشر أكثرَ حكمة بمرور الزمن.
«؟ فهل سيفهمون
ثم سكت مرة أخرى. لم تردَّ إليزابيث بأيشيء على ما قاله، لكنها ظلَّت تُشاهِد وجهه
الحالم بحب لا حدود له. لم يكن عقلها نشِطًا بدرجة كبيرة ذلك المساء فقد استحوذت
عليها حالة من الرضا الشديد. بعد فترة وجيزة، وضعت يدها على يده برقة ولطف. داعَب
يدها بهدوء ولين بينما ظل نظره مُنصبٍّا على المشهد الفسيح الذي غمرته أشعة الشمس
الذهبية. جلسا حتى غَرَبت الشمس. ارتجفت إليزابيث من البرد؛ وأفاق دينتون فجأة من
هذه الأفكار الكثيرة التي استبدَّت به ودخل ليُحضِرلها الشال كي تتقي برودة الجو
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.