hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

كان السيد موريس رجلًا إنجليزيٍّا رائعًا وعاش في عصر الملكة فيكتوريا الفاضلة. كان
والذهاب إلى « ذا تايمز » رجلًا ثريٍّا ورشيدًا للغاية. اعتاد السيد موريس قراءة جريدة
الكنيسة. وفي الوقت الذي بلغ فيه منتصف العمر، ارتسم على وجهه تعبير هادئ بالازدراء
عن قناعة تجاه من هم ليسوا مثله. كان أحد هؤلاء الأشخاص الذين يفعلون كل ما هو
صحيح وملائم ومعقول على نحو روتيني لا يمكن الحيد عنه. كان دائمًا ما يرتدي الملابس
المناسبة اللائقة، بأسلوب يتوسط المسافة بين ما هو أنيق وما هو دنيء، ودائمًا ما يشارك
في الجمعيات الخيرية المناسبة، ويمتلك الحصافة ليوازن بين التباهي والدناءة، كما أنه كان
يقصشعره دائمًا بنفس الطول.
كان السيد موريسيحرصعلى أن يحوز كلشيء يناسب رجلًا في مثل مكانته ويليق
به، وكان يتحاشىأيشيء يرى أنه لا يناسبه ولا يليق بمكانته.
من بين الأشياء التي كان يملكها وتليق به زوجته وأطفاله. كانت زوجته تلائمه تمامًا،
كما كان أطفاله يناسبونه تمامًا كيفًا وعددًا. لم يكن هناكشيء غير تقليدي أو غير معتاد
بشأنهم على حد اعتقاد السيد موريس؛ فقد كانوا يرتدون الملابس المناسبة، لم تكن أنيقة
على نحو لافت أو واقية أو معاصرة للموضة، كانت مناسبة وحسب. علاوة على ذلك، كانوا
يعيشون في منزل مناسب على طراز الملكة آن المعماري الذي ميَّز أواخر العصرالفيكتوري؛
حيث كانت أسقف المنزل المُثلَّثة مصنوعةً من الجِصِّالمُلوَّن باللون البني بينما كانت الأطُر
مصنوعةً من الخشب، كما كان يحوي ألواحًا من خشب البَلُّوط مُغطَّاةً بزخارف بارزة على
طراز لينكراستا والتون، كانت الشرفة مصنوعة من الطين الناضج لتحاكي الصخر، أما
الباب الأمامي للمنزل فكان مُغطٍّى بزجاج كالذي يُستخدم في الكاتدرائيات. كان أولاد السيد
موريس يرتادون مدارس جيدة، وعملوا في وظائف مرموقة، أما البنات، فرغم اعتراضهن
الشديد، فإنهن تزوَّجن جميعًا من شباب صالحين تقليديِّين هادئين، لهم مستقبل جيد.
وعندما صار الموت أمرًا مناسبًا ويليق به أن يفعله، مات السيد موريس. كانت مقبرته من
الرخام وكانت تتسم بالهيبة الهادئة من غير نقوش أو عبارات إطرائية فارغة، حيث كان
ذلك هو الطراز السائد في زمانه.
مر السيد موريس بتغييرات عديدة طبقًا لما هو معتاد في هذه الحالات، وقبل أن تبدأ
القصة، كانت عظامه قد تحلَّلت ونُثِرت في أرجاء السماء الأربعة. أما أولاده وأحفاده وأولاد
أحفاده وأولاد أولاد أحفاده فقد تحللوا كذلك إلى رماد نُثِر أيضًا. كان أمرًا لم يكن ليتصوره؛
أنه سيأتي يوم وسيُنثَر فيه رماد ابن ابن حفيده. لو كان أحد أخبره بأن هذا سيحدث
لرفضه بشدة. كان السيد موريس من الأشخاص البارزين الذين لم يكن لهم أي اهتمام
بمستقبل البشرية مُطلقًا؛ بل كان لديه شكوكه الكبرى بشأن ما إذا كان سيظل للبشرية
مستقبلٌ بعد موته من الأساس.
بدا من المستحيل وغير المُثير للسيد موريس تخيُّل حدوث شيء بعد موته، لكن كان
هناك مستقبل بالفعل، فبعد موت حفيده الأكبر وتحلُّله ونسيانه وبعد زوال المنزل المُؤطَّر
وبعد أن ،« ذا تايمز » بالخشب كزوال كل الأساليب والطرازات المعمارية واختفاء جريدة
أصبحت القبعة الحريرية أثرًا سخيفًا من الماضي وحُرِق حجر الرخام الذي صُنعت منه
مقبرة السيد موريس ليُستخدم كجير في مِلاط البناء، وزوال وفناء كل ما كان يعتبره
حقيقيٍّا ومهمٍّا، فإن العالم لم يتوقَّف وما زال الناس مُستمرِّين في عيش حياتهم غافلِين
وغير مُنتبهِين للمستقبل أو أيشيء آخر بخلافأنفسهم وممتلكاتهم؛ كما كان يفعل السيد
موريس.
ومن الغريب كذلك، ومما كان سيغضب السيد موريس لو أنذره به أحد، أن هناك
الكثير من البشر المنتشرين في جميع أنحاء العالم تتردَّد فيهم نفس الحياة وتتدفَّق في
عروقهم دماء ذلك الرجل الإنجليزي. ومثلما يمكن أن يحدث في يوم من الأيام، يمكن
للحياة التي ينبضبها الآن قارئ هذه القصة أن تتبعثر وتُنثر في العالم من حولنا لتختلط
بآلاف السلالات الغريبة التي لا يمكن الإحاطة بها علمًا أو تتبُّعها.
من بين أحفاد السيد موريس كان يوجد شخص عاقل وذكي مثله تقريبًا. كان ذلك
الرجل يمتلك نفس الجسد القصير المتين الذي كان يُميِّز جده الذي عاش في القرن التاسع
عشر والذي سمي تيمنًا باسمه — وكان ينطقه ويكتبه مورس — كما كانت تعلو وجهه
نفس النظرة التي بها قدْرٌ من الازدراء، وكان شخصًا مُوسِرًا كسَلَفه. بمرور الوقت بدأ
مورس يكره كل ما هو مُستحدَث، وكان المستقبل والطبقات الدنيا في المجتمع يشغلان
ولم يكن يعلم من الأساسبوجود مثل هذه الجريدة « ذا تايمز » تفكيره. لم يكن يقرأ جريدة
التي انهارت خلال الفجوة الزمنية الفاصلة من السنوات بينه وبين سلَفه، لكن ربما كانت
آلة الفونوغراف — التي كان يستمع لها أثناء ارتدائه للملابس في الصباح — هي إعادة
تجسيد للصحفي البوهيمي هنري بلوويتز عندما كان يناقش أمور العالم. كانت هذه الآلة
في حجم ساعة الحائط الهولندية، وفي مقدمتها كانت هناك مُؤشِّرات بارومترية كهربائية
وساعة وروزنامة إلكترونية ومُذكِّرات أوتوماتيكية. أما الساعة فكانت تقع في فُوَّهة البُوق.
«! جالوب! جالوب » عندما كانت هناك أخبار، كان البوق يُصدِرصوتًا كصوت الديك الرومي
ثم يتلو ما لديه بصوت يُشبِه صوت أي بوق. كان يُخبِر البوق مورس بصوتٍ أجشَّ وغني
وواضح عن الحوادث التي وقعت خلال الليل للحافلات العمومية الطائرة التي تذرع سماء
العالم ذهابًا وإيابًا، كما يُخبِره كذلك بأحدث المنتجات في المُنتجَعات العصرية في التبت،
وبالاجتماعات الكبرى المُؤيِّدة للاحتكار التي حدثت في الشركة في اليوم السابق وكل هذا
أثناء ارتدائه للملابس. وإذا لم تحُز الأخبار على إعجاب مورس، لم يكن عليه سوى لمس
زر ليُغيِّر ما يُلقى على أسماعه.
كانت ملابس وزينة مورس مختلفة بالطبع عن سلَفه. من غير المُؤكَّد أيهما كان
سيُصدَم أكثر عندما يرى نفسه في ملابس الآخر، لكن بالتأكيد كان مورس الابن سيُسرِع
بالخروج إلى الشارع عاريًا تمامًا؛ إذ سيرى أن ذلك أفضل له من أن يرتدي القبعة الحريرية
والِمعطف الطويل الذي يصل للركبتَين والبنطال الرمادي والساعة المُتدلية من السلسلة؛
تلك الأشياء التي كانت تُكسِب السيد مورس احترامًا للذات لدرجة تصل إلى حد التجهُّم
في الماضي. لم يكن مورس الابن يحتاج للحلاقة؛ فقد أزال جرَّاح ماهر منذ وقت طويل
أي جذور للشعر من وجهه، كما أن ساقَيْه كانتا مكسوَّتَين في ملابس جميلة المنظر بلون
الورود والكهرمان ومصنوعة من مادة لا تُنفِذ الهواء، ملأها مورس بالهواء بمساعدة
مضخة ليبدو كما لو كان يمتلك عضلات ضخمة. فوق تلك الملابس، كان يرتدي ملابس
مليئة بالهواء المضغوط تحت رداء من الحرير الأصفر حتى يكون مُحاطًا بالهواء ليحميَه
هذا من الحر الشديد أو البرد القارس. وفوق هذه الملابس كان يرتدي عباءة قرمزية اللون
وقد صُمِّم طرفها بشكل مُقوَّس في منظر رائع. كانت تعلو رأسَه، الذي أزُيل منه بمهارة
أي أثر للشعر، قبعةٌ صغيرة جميلة المنظر ذات لون قرمزي فاتح وكانت منتفخة ومليئة
بالهيدروجين وتبدو مثل عرف الديك في منظر غريب. انتهى طقس ارتداء الملابس لمورس
الذي استعد لمواجهة البشر بثقة، بعد أن أدرك أنه أصبح أنيقًا على نحو لائق ومناسب.
الدالُّ على التحضرمنذ زمن بعيد — « سيد » كان مورس— الذي اختفى من عالمه لفظ
وهو اتحاد شركات « ويند فين آند ووترفول تراست » أحد الموظفين العاملين في شركة
احتكاري عملاق كان يمتلك كل دوارة رياح وشلال مياه في العالم؛ حيث كان يمد الناس
بالطاقة الكهربائية والمياه التي كانوا يحتاجونها في ذلك العصر الحديث. كان مورس
وكان بالفندق شقق ،« سيفنث واي » يعيش في فندق ضخم في جزء من مدينة لندن يُسمَّى
سكنية واسعة للغاية ومُريحة في الطابق السابع عشر. في ذلك الوقت، كانت فكرة الحياة
الأسرية قد اختفت منذ وقت طويل مع زيادة تهذيب العادات والسلوكيات؛ وبالتأكيد بسبب
الارتفاع المُتزايد في أسعار الإيجارات والأراضي واختفاء الخدم وتزايُد تعقيد الطبخ؛ مما
أدَّى لاستحالة وجود منازل مُنفصِلة بعضها عن بعض، كما كان عليه الحال في العصر
الفيكتوري، حتى لو كان هناك من يرغب في هذا الانعزال القاسي. عندما انتهى مورس
من تأنُّقه، اتجه إلى أحد بابَين لشقته، كان كل منهما يقع في جانب منها ويحمل سهمًا
يُشير في اتجاه مُعاكِس للآخر، ولمس زرٍّا فيه ليفتحه خارجًا لمساحة واسعة كان مركزها
يحوي مقاعد ويتحرك بإيقاع ثابت إلى اليسار، وكان يجلس في بعضالمقاعد رجال ونساء
في ملابس مُبهِجة المنظر. أومأ مورس برأسه لأحد معارفه — فلم يكن من قواعد الإتيكيت
في ذلك الوقت أن يتحدث مع شخص قبل أن يتناول الإفطار — وجلس في أحد المقاعد.
وفي غضون ثوانٍ، تحرَّك المقعد إلى باب مصعدٍ هبط به لقاعة كبيرة ومُبهِرة سيُقدَّم فيها
الإفطار آليٍّا.
كانت وجبة الإفطار مختلفة تمامًا عن نظيرتها في العصر الفيكتوري. كانت قِطع
الخبز العديمةُ الشكل التي يجب غمسها أولًا في دهن الحيوان حتى تكون مستساغة،
وقِطع الحيوانات التي ذُبِحت منذ فترة قصيرة وقُطِّعت وتفحَّمت على نحو جعلها بشعة
المنظر، والبيضالذي انتُزع بقسوة من تحت دجاجة ساخطة؛ تُمثِّل النمط العام في العصر
الفيكتوري، لكن في ذلك العصرالحديث لم يكن هذا ليُثير رعب أحد سوى أصحاب العقول
المُثقَّفة. وبدلًا من ذلك، كانت هناك مُعجَّنات وكعك ذات تصميمات مُتنوِّعة وجذابة من غير
أن تدل على الحيوانات السيئة الحظ التي اشتُقت مكوناتها منها. أتى الطعام في أطباق
صغيرة تنزلق على قضيب يُشبِه قضبان القطارات من صندوق صغير يقع في جانب من
جوانب الطاولة. كان سطح الطاولة مُغطٍّى بطبقة من المعدن المؤكسد تبدو في ملمسها
ومظهرها لمن عاشوا في العصرالفيكتوري مثل الحرير الدمشقي الأبيض، ويمكن تنظيفها
فورًا بعد أن يفرُغ المرء من تناوُل الطعام. كان هناك المئات من هذه الطاولات في القاعة
وكان يجلس إلى كل منها شخصبمفرده أو ضمن مجموعة. وبينما جلس مورس ليتناول
وجبته، استأنفت الأوركسترا الخفيَّة التي كانت في استراحة عزْفَها لتملأ الأجواء بالموسيقى.
لكن مورس لم يُبدِ أي اهتمام بالموسيقى أو الطعام بل جالت عيناه باستمرار في
أرجاء القاعة، كما لو كان يتوقَّع وصول ضيف متأخر. وأخيرًا، نهضمن مقعده بحماس
ولوَّح بيدَيه في نفس الوقت الذي ظهر فيه شخص طويل أسمر اللون يرتدي زيٍّا يجمع
بين اللونَين الأصفر والأخضرالزيتوني. وبينما كان يقترب ذلك الشخصشاقٍّا طريقه بين
الطاولات بخطوات محسوبة، تجلَّى أكثرَ شحوبُ وجهه الجاد وحِدَّة نظراته الغريبة. جلس
مورس مرة أخرى وأشار إلى مقعد آخر بجانبه ليجلس الرجل.
رغم الفجوة الزمنية الكبيرة، كانت اللغة «. كنت أخشى ألا تأتي » : تحدَّث مورس
الإنجليزية ما زالت على حالها تقريبًا منذ عصرالملكة فيكتوريا. لم يُؤدِّ اختراع الفونوغراف
وآلات تسجيل الصوت والاستعاضة التدريجية عن الكتب بهذه الآلات؛ إلى الحفاظ على
الرؤية البشرية من التلف فحسب، بل أدَّى كذلك إلى إمكانية رصد عملية تغيُّر اللهجات
التي كانت حتمية الحدوث عن طريق وضع معيار موثوق به.
وأضاف «. لقد أخَّرتْني قضية مُثيرة للاهتمام » : أجابه الرجل المُكتسيبالأصفر والأخضر
ثم نظر الرجل «. كان هناك سياسيشهير يعاني من الإرهاق بسببضغط العمل » : مُتنحنِحًا
«. لم أنَم منذ أربعين ساعة » : إلى طعام الإفطار وجلس ثم قال
أوه! لا يمكنني تخيُّل هذا! أنتم معشرالمُعالِجِين بالتنويم تبذلون مجهودًا » : ردَّ مورس
«. شاقٍّا
هناك » : مدَّ المُعالِج يده مُتناوِلًا بعضًا من الهُلام الأصفر الجذَّاب المنظر قائلًا بتواضُع
«. الكثير من الطلب على خدماتي
«. لله وحده يعلم كيف كان سيُصبِح حالنا بدونكم » : ردَّ مورس
لسنا ضروريِّين إلى هذا الحد. لقد كان العالم » : قال المعالج وهو يجترُّ طَعْم الهلام
يسير على ما يُرام بدوننا لآلاف السنين. منذ مائتَي عام تقريبًا لم يكن هناك أي مُمارِس
للتنويم المغناطيسي. أما الأطباء فقد كانوا بالآلاف؛ بالطبع كان معظمهم خشِنِين أفظاظًا
وخَرقى على نحو مروِّع ويتبعون بعضهم بعضًا مثل الخِراف. أما أطباء العقل، فلم يكن
«. هناك أي منهم، فيما عدا بعضمن كانوا يمارسون عملهم، على نحو تجريبي مُتخبِّط
ثم انصبَّ تركيزه على الهلام الذي يأكله.
«؟ لكن هل كان الناس على درجة كبيرة من الحكمة والتعقُّل » : بدأ مورس بالسؤال
لم يكن مهمٍّا آنذاك ما إذا كانوا على قدرٍ بسيطٍ من الغباء أو » : هزَّ المعالج رأسه قائلًا
السفَه. كانت الحياة سهلة. لم يكن هناك أي تنافُس أو ضغط يستحق ذكره. كان يتعيَّن
أن يكون الإنسان فاقدًا لأي نوع من الاتزان قبل حدوث أيشيء. بعد ذلك، كانوا يُودِعونه
«. كما تعلم فيما يُسمَّى مَصحَّة الأمراضالنفسية
أعلم هذا. في قصصالمغامرات القديمة، تلك التي يستمع إليها الجميع، » : ردَّ مورس
«. دائمًا ما يُنقِذون فتاة جميلة من مصحة أو ما شابه. لا أعلم ما إذا كنتَ تهتم بهذا الهراء
عليَّ أن أعترف بأنني مهتم بذلك؛ فسماع شيء كهذا يُخرِج المرء من » : قال المعالج
عالمه الخاصليدخل عالم القرن التاسع عشر الغريب نصف المُتحضِّروالمليء بالمغامرات،
عندما كان الرجال أقوياء البِنية والنساء ساذجات. دائمًا ما أحب قصصالتفاخُر بالماضي
هذه أكثر من أي شيء. كانت تلك الأيام مُثيرة للفضول بكل السكك الحديدية المُتسِخة
والقطارات القديمة التي تنفث الدخان والبيوت الصغيرة العجيبة المنظر والعربات التي
«؟ تجرُّها الخيول. ألَا تقرأ كتب التاريخ
بلى! لقد ارتَدتُ مدرسة حديثة ولم ندرس أيٍّا من هذا الهراء » : أجاب مورس قائلًا
«. القديم. تكفيني الصور
ثم جال بنظره في الطاولة مُفكِّرًا في اختياره الثاني «. بالطبع » : ردَّ المعالج قائلًا
في تلك الأيام كانت » : ليستقر على حلوى زرقاء داكنة تشي بوجبة لذيذة، ثم أردف قائلًا
وظيفتنا نادرًا ما يتم التفكير فيها، بل يمكنني القول إنه إذا كان أي شخص قد أخبرهم
أنه خلال مائتَي عام سيكون هناك مجموعات من الرجال تُكرِّس وقتها بالكامل لغرس
أشياء في الذاكرة والتخلصمن الأفكار البغيضة والتحكم في الدوافع الغريزية غير المرغوب
فيها وما إلى ذلك بواسطة التنويم المغناطيسي؛ كانوا سيرفضون تصديق إمكانية حدوث
هذا. لم يكن يعرف سوى قلة قليلة من الناس أنه إذا أعُطي أمرٌ خلال حالة التنويم حتى
لو كان أمرًا بالنسيان أو بالرغبة فيشيء ما، فإنه يمكنهم تنفيذ ذلك الأمر بعد إفاقتهم من
غَشْيتهم. لكن مع ذلك، كان هناك من هم على قيد الحياة ممن يمكنهم التأكيد على حتمية
«. حدوث هذا كحتمية عبور كوكب الزُّهَرة بين الشمس والأرض
«؟ هل كانوا يعرفون ما هو التنويم المغناطيسي إذن » : سأل مورس
بالطبع! لقد استخدموه لتخفيف آلام خلع الأسنان وما شابه! هذا الطعام » : ردَّ الرجل
«؟ الأزرق رائع للغاية. ممَّ يتكون
كرَّر المعالج «. ليسلديَّ أي فكرة، لكني أعترفبأنه جيد جدٍّا. خُذ المزيد » : قال مورس
إشادته بالطعام، ثم توقَّف عن الكلام تعبيرًا عن تقديره له.
بمناسبة الحديث عن هذه الحكايات » : قال مورسمحاولًا أن يبدو تلقائيٍّا وغير مُرتبِك
الرومانسية التاريخية، يُذكِّرني هذا بأمرٍ كنت أريد أن أسألك عنه عندما أخبرتك بأني أريد
ثم توقَّف عن الكلام ليأخذ نفسًا عميقًا. «. لقاءك
رفع المعالج بصره بانتباه إلى مورس مُستمرٍّا في تناوُل الطعام.
في الحقيقة، لديَّ ابنة. أنت تعلم أني وفَّرت لها كل مزايا التعليم الراقي. » : قال مورس
تلقَّت محاضرات على يد كل مُحاضِر بارع في العالم، ولم تكتفِ بذلك، بل تعلَّمت عن
وصنع إشارة بيده «. بعدٍ الرقص، وآداب السلوك، وفن الحديث، والفلسفة، والنقد الفني
كنتُ أنوي تزويجها من أحد أفضل » : تشير إلى تعلُّمها الثقافة الكاثوليكية كذلك، مُضيفًا
أصدقائي ويُدعى السيد بيندون من لجنة الإنارة. إنه رجل ذو جسد ضئيل ومظهر لا
«. يُميِّزهشيء كما أن بعضتصرُّفاته مُثيرة للضيق، لكنه في الواقع رفيق ممتاز
«؟ نعم، استمِر. كم عمرها » : قال المعالج
«. ثمانية عشر عامًا » : أجاب مورس
«؟ سنٌّ حرِجة، أليس كذلك » : قال المعالج
حسنًا، يبدو أنها مُنغمِسة في مشاهدة هذه الحكايات التاريخية » : قال مورس
الرومانسية على نحو مفرط لدرجة أنها أهملت دروسها في الفلسفة. لقد ملأت عقلها
«؟ بهُراء لا يُوصَف عن جنود يُحارِبون. أتُراهم الإتروسكانيِّين
«. المصريون » : ردَّ المعالج
المصريون. هذا احتمال مُرجَّح إلى حد كبير. هم يُلوِّحون » : استكمل مورسكلامه قائلًا
بسيوف ومسدسات وأسلحة أخرى، ويُريقون الدماء بغزارة! أمرٌ فظيع! ملأت عقلها
كذلك بشباب على متن سفن مُدمِّرة للطوربيدات ينسفون الإسبان — حسبما يُخيَّل لي —
والمُغامِرِين الجامحِين من كل نوع، كما أصبحت مُقتنِعة بأنها يجب أن تتزوج عن حب،
«… بينما ذلك المسكين بيندون
«؟ قابلتُ حالات مُشابِهة. من هو الشاب الآخر » : قال المعالج
وانخفض صوته «. يمكنك أن تسأل عنه » : حافظ مورس على مظهره الهادئ قائلًا
إنه مُجرَّد عامل في المنصة التي تهبط فوقها الطائرات القادمة من باريس. » : شاعرًا بالخزي
وكما يقولون في الحكايات الرومانسية، فإنه شابٌّ وسيم وغريب الأطوار ويُؤثِّر فيه كل ما
هو قديم. كما أنه يُجيد القراءة والكتابة، وهي كذلك تفعل. وبدلًا من التواصُل عبر الهاتف،
«؟ مثل العقلاء من الناس، فإنهما يتراسلان فيما بينهما. ماذا تُسمِّي هذا
«؟ رسائل » : قال المعالج
«. لا ليست رسائل، بل قصائد » : قال مورس
«؟ كيف التقَيا » : رفع المعالج حاجبَيه في اندهاش قائلًا
تعثَّرت وهي تنزل من طائرة قادمة من باريس لتقع بين ذراعَيه! لقد » : ردَّ مورس
«! حدث الأمر المُؤسِف في لحظة
حسنًا. هذا كل ما في الأمر. يجب وضع حد لذلك. هذا » : ردَّ مورس «؟ ثم » : قال المعالج
ما أردت الحصول على مشورتك بشأنه. ما الذي يجب فعله؟ ما الذي يمكن فعله؟ أنا لست
«… مُنوِّمًا مغناطيسيٍّا بالطبع، ومعرفتي محدودة بهذا المجال، إنما أنت
التنويم المغناطيسي » : قال الرجل ذو الزي الأخضر واضعًا كلتا ذراعَيه على الطاولة
«. ليسضربًا من السحر
«… صحيح! لكن » : ردَّ مورس
لا يمكن تنويم الناسمغناطيسيٍّا بدون موافقتهم. إذا كانت ترفض » : استطرد المعالج
زواجها من بيندون، فسترفض الخضوع للتنويم المغناطيسي، لكن إذا أمكن تنويمها
مغناطيسيٍّا في إحدى المرات، حتى لو كان هذا بواسطة شخص آخر، فيمكن فعل ما
«. تُريده
«؟ أيُمكِنك » : سأل مورس
بالطبع! بمُجرَّد أن تصبح سهلة الانقياد، يمكننا أن نقترح عليهاضرورة » : ردَّ المعالج
أن تتزوج من بيندون وأن هذا هو قدرها أو أن الشاب مُثير للاشمئزاز، وعندما ستراه،
ستصاب بالدُّوار والإغماء أو أيشيء بسيط من هذا القبيل، أو إذا أمكننا إدخالها في حالة
«. عميقة من الغشية، فنستطيع أن نقترح عليها نسيانه تمامًا
«. بالضبط » : قال مورس
لكن المشكلة هي إخضاعها للتنويم المغناطيسي. بالطبع لا يجب أن » : أكمل المعالج
ثم أسند رأسه على «. تقترح عليها الأمر لأنها لا تثق بك بدون شك فيما يتعلق بهذه المسألة
ذراعه وبدأ في التفكير.
«. من القسوة أن يُكرَه الأب على احتمال ابنته » : قال مورسعلى نحو لا يُناسِب السياق
يجب أن تُعطيني اسم وعنوان ابنتك وأي معلومات تتعلق بالموضوع. » : قال المعالج
«؟ بالمناسبة، هل للمال أي دور في الأمر
هناك مبلغ ما. في الحقيقة، هو مبلغ كبير استُثمِر في شركة » : تردَّد مورس، ثم قال
«. بواسطة والدتها. هذا ما يجعل الأمر مُثيرًا للحنق « باتنت رود »
وشرع في استجواب مورس في الموضوع بأكمله. «. بالضبط » : قال المعالج
كانت مُقابَلة طويلة.
في نفس الوقت، كانت إليزابيث مورس — وتلك هي الطريقة التي كانت تنطق بها
بنطق القرن التاسع عشر — تجلس في صالة انتظار — « إليزابيث موريس » اسمها — أو
هادئة تحت المنصة العملاقة التي كانت تهبط عليها الطائرات القادمة من باريس، وبجانبها
جلس حبيبها الرشيق الوسيم يلقي على مسامعها قصيدة كتبها في الصباح أثناء العمل.
وعندما انتهى من إلقاء القصيدة، جلسا لبُرهة في صمت، لتهبط طائرة عظيمة قادمة من
أمريكا ذلك الصباح كأنها جاءت خصِّيصَىمن أجلهما.
كانت في البداية تبدو مُستطيلة الشكل وزرقاء باهتة وسط السُّحب البعيدة التي
تبدو كأنها غُزِلت من الصوف، ثم ازداد حجمها بسرعة وأصبحت بيضاء؛ لتُصبِح أكبر
حجمًا وأكثر بياضًا بمرور الوقت حتى أمكنهما رؤية صفوف الأشرِعة المُتفرِّقة التي يبلغ
عرض كل منها مئات الأقدام والجسد النحيل الذي تحمله، وفي النهاية أصبحا قادرَين
على رؤية مقاعد المُسافِرين المُتأرجِحة على هيئة صف من النقاط. ورغم أن الطائرة كانت
تهبط، فقد بدت كما لو كانت ترتفع بسرعة، كما غطَّى ظلها أسطح المنازل التي تمر
فوقها في المدينة. سمعت إليزابيث وحبيبها صفير الهواء المُندفِع وصافرة إنذارها بصوتها
الذي يُشبِه الصراخ الحاد والمُتزايِد في الارتفاع، تُحذِّر من هم واقفون على منصة الهبوط
المُعدَّة لوصولها. وفجأة انخفض الصوت انخفاضًا حادٍّا حتى اختفى وأصبحت السماء
صافية وخالية، لتلتفت إليزابيث مرة أخرى إلى حبيبها دينتون الجالس بجوارها، ناظرة
إليه بعينَيها الجميلتَين.
زالت حالة الصمت الذي كان يُخيِّم عليهما وتحدَّث دينتون بلغة إنجليزية ركيكة،
كانا يعتقدان أنها لغتهما الخاصة، رغم أن العشاق كانوا يستخدمون مثل هذه اللغات
منذ فجر التاريخ، وأخبرها كيف أنهما أيضًا سيقفزان في الهواء صباح يومٍ ما ليتخطَّيا كل
العقبات والصعوبات التي تُحيط بهما، ليطيرا إلى مدينة مُشمِسة مليئة بالمُتع في الجانب
الآخر من العالم وتحديدًا في اليابان.
يومًا ما » : عشقتْ هذا الحُلم لكنها كانت تخاف من القفزة وكانت تُسكِته قائلة
ردٍّا على التماساته المتكررة بأن يفعلا هذا في أقرب وقت. وفي النهاية، «. يا حبيبي. يومًا ما
سمع صوت صافرة مما يعني أنه يجب عليه العودة إلى عمله على المنصة. افترق الحبيبان
كما اعتاد الأحِبة أن يفترقوا منذ آلاف السنين، ومشَت إليزابيث في ممرٍّ لتصل إلى مصعد
يُؤدِّي إلى أحد شوارع لندن الحديثة المُغطَّاة بالزجاج بسبب الطقس وتحتوي على منصات
مُتحرِّكة باستمرار تجوب كل أنحاء المدينة. ركبت إليزابيث إحدى هذه المنصات ذاهبة إلى
حيث كانت تعيش في الشقق السكنية التي تتصل « هوتيل فور ويمين » منزلها في فندق
من خلال الهاتف بأفضل المُحاضِرين حول العالم. لكن قلبها كان مُمتلئًا بضوء المنصة
الطائرة، وبدا علم وحكمة كل المُحاضِرين في العالم أمرًا تافهًا بجانب هذا الضوء.
قضَت إليزابيث الجزء الأوسط من يومها في صالة الألعاب، وتناولت وجبة منتصف
اليوم بصحبة فتاتَين أخريَين ووصيفة، حيث كانت عادة امتلاك فتيات الطبقات المُوسِرة
اللاتي تُوفِّيت أمهاتهن وصيفةً لا تزال قائمة. استقبلت الوصيفة زائرًا ذلك اليوم، وكان
مُكتسيًا زيٍّا يجمع بين اللونَين الأصفر والأخضر وكان ذا وجه شاحب وعينَين ثاقبتَين
ويتحدث بطريقة ساحرة. من بين ما تحدَّث فيه، شرع في الإشادة بحكاية رومانسية
تاريخية جديدة كان قد قصَّها للتَّو أحد أشهر القصَّاصين. كانت الحكاية الرومانسية
بالطبع تتحدث عن عصرالملكة فيكتوريا الذي اتسم برغد العيش. ومن بين الأمور الجديدة
المُسلِّية، أن المُؤلِّف كان يُجري نقاشًا قبل البدء في كل فصل من القصة، فيما يُشبِه عناوين
كيف أوقَف سائقو سيارات الأجرة » : الفصول التي كانت في الكتب القديمة. على سبيل المثال
كيف » و «؟ في حي بيملكو الحافلات العمومية الفيكتورية والشجار الكبير في ساحة القصر
أشاد ضيف الوصيفة المُكتسي باللونَين الأخضر «؟ قُتِل شُرطي ميدان بيكاديلي أثناء عمله
هذه الجمل البليغة تُثير الإعجاب؛ فهي تعرض لمحة » : والأصفر بهذا الإبداع الجديد قائلًا
من تلك الأيام المليئة بالاضطرابات عندما كان البشر والحيوانات يتدافعون في الشوارع
القذرة، وكان الموت يتربص بالجميع عند كل زاوية. كانت الحياة حقيقية آنذاك بالفعل!
لا بد أن العالم كان رائعًا حينها! يا لَلعظمة! كانت هناك أجزاء من العالم لم تكن قد
استُكشِفت بعد. أما الآن، فقد زال جُل استغرابنا، ونعيشحياة على درجة بالغة من النظام
والصرامة حتى إن الشجاعة والتحمُّل والوفاء وغير ذلك من القِيم النبيلة أخذت تتلاشى،
«. على ما يبدو، من حياة البشر
واستمر الضيف على هذا المنوال مُستحوِذًا على انتباه الفتيات، حتى إن الحياة التي
عِشْنها في لندن الواسعة والمُعقَّدة في القرن الثاني والعشرين والتي تتخللها رحلات طيران
إلى كل جزء من أجزاء العالم، بدَت مُمِلة لدرجة يُرثى لها مقارنةً بالماضي المُثير والمليء
بالمغامرات.
في البداية، لم تنضم إليزابيث للحديث لكن بعد فترة أصبح الموضوع مُثيرًا حتى إنها
شارَكت في النقاش على استحياء، لكن الرجل، نادرًا ما كان يُلاحِظ وجودها أثناء حديثه،
واستمر في وصف طريقةٍ جديدة للترفيه عن الناس وتسليتهم. كنَّ يستمعْن له كالمنومات
مغناطيسيٍّا، ثم أوحى لهن ببعض الأمور بمهارة شديدة حتى بدا لهن أنهن عُدن يعشن
في الماضي مرة أخرى. لقد جسَّدن حكاية رومانسية قصيرة من الماضي على نحو مُفعَم
بالحيوية يُحاكي الواقع، وعندما استيقظن في النهاية تذكَّرن كل شيء كما لو كنَّ قُمن
بالمغامرة بالفعل.
إنه أمرٌ سعَينا للقيام به لسنوات طويلة. يمكنكن » : قال المعالج بالتنويم المغناطيسي
أن تقُلن إن هذا كان أشبه بحلم صناعي، وقد أصبحنا أخيرًا قادرين على تحقيقه. أرُيدُكن
أن تتخيَّلن ما سيحدث إذا أتُيحَ لنا هذا بكل احتمالاته الكامنة؛ التجربة الثرية والمغامرة
«! والهروب من هذه الحياة البائسة المليئة بالتناحر التي نعيشها! تخيَّلن
«! وأنت يمكنك فعل هذا » : ردَّت الوصيفة بلهفة
«. أخيرًا أصبح هذا مُمكِنًا. يمكنكن طلب الحلم الذي ترغبن فيه » : قال المعالج
كانت الوصيفة هي أول من خضع للتنويم، وكان الحلم جميلًا حسبما قالت عندما
استيقظت.
تشجَّعت الفتاتان الأخريان بسبب حماس الوصيفة واستسلما للمعالج، وغرقتا في
الماضيالرومانسي. لم يقترح أحد على إليزابيث أن تُجرِّب هذا النوع من التسلية؛ فقد ذهبت
لأرضالأحلام بناءً على رغبتها أخيرًا حيث لا يُوجَد هناك حرية اختيار أو إرادة.
وحدث ما كان يُريده والدها.
في أحد الأيام، ذهب دينتون للمكان الهادئ الذي اعتاد الجلوس فيه مع إليزابيث،
لكنه لم يجدها مما أصابه بالإحباط وانتابَه شيء من الغضب. وفي اليوم التالي، لم تحضر
إليزابيث، وكذلك اليوم الذي يليه. أصُيبَ دينتون بالخوف، وحتى يُواري هذه المخاوف، بدأ
في كتابة القصائد الشعرية لها لتقرأها عندما تعود.
لمدة ثلاثة أيام، قاوَم دينتون خوفه، ثم اتضحت له الحقيقة وضوح الشمس. ربما
تكون إليزابيث مريضة أو ميتة، لكنه لم يكن ليُصدِّق أنها خانَته. قضى أسبوعه تعيسًا،
ثم أدرك أنها هي الشيء الوحيد الذي يستحق امتلاكه في هذا العالم وأنه يجب عليه البحث
عنها مهما كان البحث يائسًا حتى يعثر عليها مرة أخرى.
كان لدينتون موارده المالية الخاصة الضئيلة مما جعله يترك عمله في منصة الطائرات
ليبحث عن الفتاة التي أصبحت كل شيء بالنسبة له. لم يكن يعرف أين تعيش أو الكثير
عن حياتها، حيث كان جزءًا منسرلذة الرومانسية بالنسبة له ألَّا يعلمَ عنها شيئًا أو عن
الفارق الاجتماعي بينهما. كانت طرق لندن مفتوحة أمام دينتون في الاتجاهات الأربعة.
حتى عندما كانت لندن في العصرالفيكتوري يعيش فيها أربعة ملايين فقط من الفقراء،
كانت المدينة عبارةً عن متاهة؛ أما لندن التي يعرفها في القرن الثاني والعشرين فيعيش
فيها ثلاثون مليون شخص. في البداية، كان دينتون مُتحمِّسًا ومِقدامًا، ولم يكن لديه أي
وقت للنوم أو تناوُل الطعام، حيث بحث عن إليزابيث لأسابيع وشهور، ومر بكل مراحل
الإرهاق واليأس والغضب والحماس الزائد. وحتى بعد انطفاء شعلة الأمل بداخله، استمر
في البحث مدفوعًا بالقصور الذاتي لرغبته في العثور على حبيبته ناظرًا في وجوه الناس في
الشارع وباحثًا هنا وهناك؛ في الطرق والمصاعد والممرات التي لا تنتهي والتي تملأ خلية
البشر اللامتناهية المُسمَّاة لندن.
وأخيرًا، حالَفه الحظ ورآها.
كان هذا خلال أحد المهرجانات. كان دينتون جائعًا وقد دفع المبلغ المطلوب ليدخل
إلى إحدى قاعات تناوُل الطعام العملاقة في المدينة. كان يندفع بين الطاولات مُدقِّقًا النظر
بحكم العادة في كل مجموعة من البشر يمر بها.
توقَّف دينتون فجأة كما لو كان قد شُل عن الحركة واتسعت عيناه وانفرجت شفتاه؛
فقد كانت إليزابيث تجلسعلى بُعد عشرين ياردة فقط منه وتنظر له مباشرة. كانت عيناها
فاترتَين خاليتَين من أي تعبير مثل عينَي تمثال وكأنها لم تعرفه يومًا ما.
نظرت له للحظات ثم أدارت عينَيها.
لولا عيناها التي استند إليها في حكمه، لم يكن دينتون ليُصدِّق أنها إليزابيث. عرفها
كذلك بسبب إيماءة من يدها وتلك الخصلة المُتموِّجة الجميلة التي كانت تُغطِّي أذنها عندما
تُحرِّك رأسها. أخبرها رجل بجوارها بشيءٍ ما جعلها تلتفت مُبتسِمة له في تساهُل. كان
الرجل صغير الجسد يرتدي ملابس سخيفة المنظر مُزخرَفة ذات بروز حتى بدا كسحلية
غريبة المنظر لها قرون مليئة بالهواء. كان ذلك الرجل هو بيندون الذي اختاره والدها
زوجًا لها.
للحظات، تسمَّر دينتون مشدوهًا ومذعورًا، ثم كان على وشك أن يفقد وعيه؛ ما
دفعه للجلوس إلى إحدى الطاولات الصغيرة. جلس بحيث أصبح ظهره مُواجِهًا لها،
ولبُرهة لم يجرؤ على النظر إليها مُجدَّدًا. وعندما استجمع شجاعته أخيرًا ليفعل هذا،
كانت إليزابيث وبيندون وشخصان آخران يستعدُّون للرحيل. كان الشخصان الآخران هما
والدها ووصيفتها.
جلس دينتون عاجزًا عن فعل أي شيء حتى ابتعد الأربعة ليقف وقد سيطرت عليه
فكرة اللحاق بها. لفترة من الوقت، ظن أنه فقد أثرهم، ثم رأى إليزابيث ووصيفتها مرة
أخرى في أحد الشوارع التي تملؤها المنصات المُتحرِّكة التي تتقاطع في سماء المدينة، لكن
مورس وبيندون لم يكونا بصحبتهما.
لم يستطع دينتون السيطرة على نفسه، وشعر أنه يجب عليه التحدُّث معها فورًا أو
الموت. اندفع إلى حيث جلستا وجلسبجانبهما، وكان وجهه الشاحب للغاية يرتعشبسبب
الإثارة التي أوشكت أن تكون نوبة هستيرية.
«؟ إليزابيث » : وضع دينتون يده على مِعصمها قائلًا
التفتت الفتاة إليه في دهشةصادقة ولم يظهر في عينَيها إلا الخوفمن شخصغريب.
إليزابيث يا عزيزتي، هل تعرفين » : قال بصوت يُشبِه البكاء بدا غريبًا حتى بالنسبة له
لكن وجه إليزابيث لم يُظهِر إلا الحيرة والخوف وابتعدت عنه. مالت وصيفتها، «؟ من أنا
وكانت سيدة صغيرة الحجم رمادية الشعر ذات ملامحسريعة التغيُّر، لتتدخل في الحديث
«؟ ماذا تقول » : وفحصت الشاب بعينَين فاتحتَي اللون تملؤهما الصرامة سائلة إياه
«. هذه السيدة الشابة تعرفني » : ردَّ دينتون قائلًا
لِترد الأخيرة بأنها لا «؟ هل تعرفينه يا عزيزتي » : وجَّهت الوصيفة كلامها إلى إليزابيث
لا، لا أعرف من » : تعرفه واضعة يدها على جبهتها كما لو كانت تُردِّد شيئًا ما لُقِّنت إياه
«. هو. لا أعرفه
لكن … لكن … إنه أنا. دينتون. دينتون الذي اعتدْتِ الحديث معه. ألا » : ردَّ دينتون
«؟ تذكُرين المنصات الطائرة؟ المقعد الصغير في الهواء الطلق؟ القصائد
لا! لا أعرفه! لا أعرفه! هناك » : صرخت إليزابيث وظهر على وجهها ملامح الألم الشديد
«! شيء ما. لا أدري! كل ما أعرفه هو أنني لا أعرفه
تنقَّلتْ عينا الوصيفة الثاقبتان بينهما قائلة وقد ظهر على شفتَيها ابتسامة تكاد لا
«. أترى؟ إنها لا تعرف من أنت » : تُلحَظ
«! لا أعرف من أنت! أنا متأكدة من هذا »
«… لكن يا عزيزتي … الأغاني … القصائد »
إنها لا تعرفك. توقَّف عن هذا. لقد ارتكبتَ خطأ، ويجب عليك ألَّا » : قالت وصيفتها
«. تُوجِّه حديثك إلينا أو تُضايِقنا في الطريق العام
«… لكن » : قال دينتون وقد بدا وجهه المُنهَك على نحو بائسكما لو كان يستجديالقدر
«! كُفَّ عن هذا أيها الشاب » : لكن الوصيفة احتجَّت قائلة
«! إليزابيث » : صرخ دينتون
«! لا أعرفك! أوَّاه! لا أعرفك » : بدا وجه إليزابيث كما لو كانت تتعذب وصرخت
جلس دينتون للحظة مصعوقًا، ثم وقف وأصدر أنينًا عاليًا.
صنع دينتون حركة غريبة بيدَيه تجاه السقف الزجاجي المرتفع للطريق العام كأنه
يُناشِد السماء، ثم استدار وبدأ في القفز بتهوُّر من منصة إلى أخرى واختفى وسط جموع
الناس بينما تتبَّعته عينا الوصيفة، ثم نظرت في الوجوه التي كانت تنظر إليهم في فضول.
سألتها إليزابيث وهي تُشبك يدَيها وقد أثَّر فيها ما حدث لدرجة أنها لم تلحظ الناس
«؟ عزيزتي، من هذا الرجل؟ من هذا الرجل » : من حولها
شخصٌأبله. لم أرَه من » : رفعت الوصيفة حاجبَيها مُتحدِّثة بصوت واضح ومسموع
«. قبل
«؟ مُطلَقًا »
«. مُطلَقًا يا عزيزتي! لا تشغلي بالك بهذا الأمر »
وبعد مرور وقت قصير على ما حدث، ذهب الشاب إلى المعالج الشهير بالتنويم
المغناطيسي الذي كان مُكتسيًا باللونَين الأصفر والأخضرحيث دخل غرفة الفحصشاحبًا
«! أريد أن أنسى! يجب أن أنسى » : ومُشوِّشًا وصاح قائلًا
أن تنسىأي » : طالَعه المعالج بعينَين هادئتَين وتفحَّصوجهه وملابسه وجِلسته قائلًا
شيء سواء كان مُفرِحًا أو مُحزِنًا معناه أن تفقد جزءًا من ذاتك. على الرغم من ذلك، أنت
«. أعلم بما يُصلِح حالك. كما أن أجري باهظ
«! آهٍ، ليتني أستطيع النسيان » : ردَّ دينتون
هذا سهلٌ جدٍّا في حالتك، فأنت تُريده. لقد فعلت ما هو أصعب من هذا » : قال الرجل
مُؤخَّرًا. لم أكن أتوقع فعله، كان هذا على غير رغبة الشخصالخاضع للتنويم. كانت فتاة
«. في علاقة غرامية مثلك. لذا، اطمئن
جلس الشاب بجانب المعالج بالتنويم وكان في حالة هدوء اضطراري ونظر في
سأخبرك. تُريد بالطبع أن تعرف ما الأمر. كان هناك فتاة تُدعى إليزابيث » : عينَي الرجل
«… مورس
ثم توقَّف، وقد رأى المفاجأة على وجه الفتى. أدرك دينتون لحظتها ما حدث. ونهض
دينتون وبدا في وضع سيطرة بالنسبة للرجل الجالس جانبه ثم أمسك بكتفَيه ولبُرهة من
الزمن، لم يجد ما يقول.
«! أعِدها لي! أعدها » : ولما نجح أخيرًا في الكلام قال
«؟ ماذا تعني »
«! أعدها لي »
«؟ أعيد من »
«! الفتاة، إليزابيث مورس »
حاوَل المعالج تحرير نفسه من قبضة دينتون ووقف على قدمَيه لكن القبضة ازدادت
إحكامًا.
دافعًا صدر الشاب بذراعه. «! اتركني » : صاح قائلًا
تحوَّل الأمر في لحظات إلىصراع أخرق بين الرجلَين. لم يحصل أي منهما على أدنى
قدر من التدريب الرياضي، ويرجع هذا إلى أن الاهتمام الرياضي قد اختفى إلا لو كان
لغرض المُراهَنات أو الاستعراضات، لكن دينتون لم يكن الأصغر سنٍّا فحسب بل كان
الأقوى. تدافَع كلا الرجلَين في أرجاء الغرفة ليسقط المعالج أرضًا تحت غريمه. لقد سقطا
معًا.
قفز دينتون واقفًا على قدمَيه مرة أخرى، وقد بلغ الغضب به مبلغه، فيما ظل المعالج
مطروحًا أرضًا وتدفَّق الدم على نحو مُفاجئ وسريع من خدش ضئيل في جبهته التي
اصطدمت بأحد المقاعد، بينما وقف دينتون يرتجف ولا يدري ماذا عليه أن يفعل.
نما شعور بالخوف من عواقب ما حدث في عقل دينتون الذي تربَّى تربية دمِثة.
عائدًا إلى وسط الغرفة. بعد «! لا» : استدار الشاب ناحية الباب ثم قال لنفسه بصوت عالٍ
تغلُّبه على النفور الغريزي الذي يُصيب من لم يرَ أي عمل عنيف في حياته قط، جثا دينتون
على ركبتَيه بجانب المعالج وتحسَّسقلبه ثم نظر إلى الجرح؛ ثم نهضبسرعة وتلفَّت حوله؛
وبدأ الموقف له يتضح أكثر.
وعندما استرد المعالج وعيه بعد قليل من الوقت، كان رأسه يُؤلِمه بشدة وكان ظهره
مُستنِدًا إلى ركبتَي دينتون الذي كان يمسح وجه الرجل بإسفنجة.
ساعِدني » : لم يتحدث المعالج لكنه أشار بيده إلى الشاب ليكفَّ عن مسح وجهه ثم قال
«. في النهوض
«! ليس بعد »
«! لقد هاجمتَني أيها الوغد »
«. نحن بمفردنا والباب مُغلَق بإحكام »
مرَّت فترة صمت.
إذا لم أمسح جبهتك بالإسفنجة، فستظهر بها كدمة » : استأنف دينتون حديثه قائلًا
«. هائلة
«. يمكنك الاستمرار في مسحها »
ثم مرَّت فترة صمت أخرى.
«. عنف! تطاحُن! نبدو كما لو كنا في العصرالحجري » : ثم قال المعالج
«. في العصرالحجري لم يكن هناك من يجرؤ على أن يحول بين رجل وامرأة »
«؟ ماذا تنوي أن تفعل » : فكَّر المعالج مرة أخرى، ثم سأله
لقد وجدت عنوان الفتاة على ألواح الكتابة عندما كنتَ فاقدًا الوعي. لقد اتصلت بها »
«… هاتفيٍّا وستأتي هنا عما قريب، وحينها
«. ستجلب وصيفتها معها »
«. لا بأس »
«؟ لكن ما الذي …؟ لا أفهم. ما الذي تنوي فعله »
لقد بحثت كذلك عن سلاح. من المدهش قلة الأسلحة هذه الأيام. إذا فكَّرت في العصر »
الحجري فستُدرِك أن البشرلم يمتلكوا آنذاك إلا الأسلحة. لقد عثرت أخيرًا على هذا المصباح
ثم مدَّه على استقامة كتف المعالج مُضيفًا: «. ونزعت منه الأسلاك وغيرها وها أنا أمُسِك به
«. يمكنني تحطيم جمجمتك به بكل سهولة. وسأفعل هذا ما لم تفعل ما آمرك به »
الأقوال المأثورة لإنسان » مُقتبِسًا ما قاله من كتاب «. العنف ليس حلٍّا » : ردَّ المعالج
.« العصرالحديث
«. إنه مرضلا يرغب فيه أحد »
«؟ حسنًا »
ستُخبِر الوصيفة بأنك ستأمر الفتاة بأن تتزوج ذلك الرجل الفظ الضئيل الجسم ذا »
«؟ الشعر الأحمر والعينَين الضيقتَين. أعتقد أن هذا هو الموقف الصحيح، أليس كذلك
«. بلى »
«. وأثناء تظاهُرك بهذا، ستُعيد ذاكرة الفتاة إليها لتتذكَّرني »
! لكن هذا مُنافٍ لأخلاقيات المهنة »
انظر! أنا أفُضِّل الموت على عدم الحصول على تلك الفتاة. لا أنوي احترام أوهامك »
الحقيرة. إذا لم يمر الأمر على ما يُرام، فلن تعيشخمسدقائق. هذا سلاح مُرتجَل وبسيط،
لكنه ربما يُسبِّب لك الكثير من الألم قبل أن يقتلك. لكني سأفعل هذا. أعلم أنه من غير
المعتاد فعل ذلك هذه الأيام؛ وهذا يرجع في الأساس إلى أنه لا يُوجَد الكثير في الحياة مما
«. يستحق ارتكاب العنف من أجله
«. ستراك الوصيفة فور مجيئها »
«. سأقف في الفجوة التي تقع خلفك »
أنت شابٌّ ذو عزيمة وهمجيٌّ إلى حدٍّ ما. لقد حاوَلت القيام بواجبي » : فكَّر المعالج قائلًا
«. تجاه أحد عملائي، لكن هذه المرة يبدو أن الأمور ستسير كما تُريد أنت
«. تقصد أنك ستتعامل مع الأمر بلا خداع »
«. لن أخُاطِر بحياتي بسبب أمر تافه كهذا »
«؟ وبعد ذلك »
لا يُوجَد ما يكرهه الطبيب أو المعالج بالتنويم المغناطيسي بقدر كُرهه للفضيحة. »
في النهاية، أنا لستُ همجيٍّا. أشعر بالضيق فعلًا، لكن في خلال يوم أو يومَين سأنسى كل
«. شيء
«. شكرًا لك. أمَا وقد وصلنا إلى تفاهُم، فليس ثمة داعٍ لأن تظل جاثيًا على الأرض
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.