Darebhar

شارك على مواقع التواصل

كانت الثلوج دافئةً! دافئةً جدًا حين سألتُ:
- كم مرحلة مر بها الإنسان مذ فقد الشعور بالمرأة؟
فأجابني سيدي:
- كثيرة تُنسى؛ فالمهم هذه الأخيرة.
سيؤمن أخي بأشياءٍ عديدة غريبة، ولكن سيتوجب على أخي أبدًا أن يعود إلى إيماني.
سُمي أخي بــ 'زِمْنان'، ولا يحب أن يُختصر اسمه، وأنا أدرى بذلك؛ فيوم ناديته باسمٍ مختصرٍ لم يلتفت إلَيَّ، فظل بذلك يكبرني بخمس سنواتٍ وظل أبدًا الابن الأكبر.
أتذكر أنه يوم بلغ أخي الثالثة والعشرين، جرى جدالٌ بينه وبين والدي؛ إذ كان يريد الزواج بابنة الصياد الذي مات غرقًا قبل خمس سنوات، وبعد أن طال الجدال وأدرك والدي عدم قدرته في إقناع ولده بالتأجيل، هدّأ باله وأمر زِمنان أن يجلس، ولم يبدُ لي والدي قط كأبٍ إلا في تلك اللحظة.
وأتذكرني أسمعه خلف الباب يقول لزِمنان بتهدجٍ أشعر بكلماته تتوتر على لساني وشفتيّ لتخرج:
- اسمع يا بني، كان الوقت قد فات حين أدركتُ أن الأبوة ما انتحرت فقط بل قُتلت، ويوم فهمتُ ذلك ندمتُ أيّما ندم.. آهٍ، لما قررتُ أن أطغى على قرار أمكم؟ لن أكون أبًا صالحًا!!.
ورغم عناد زِمنان إلا أنني رأيتُ تمام تأثره بما قال والدنا؛ فقد تزوج بالتأكيد من ابنة الصياد، إلا أنه لن يتحرى الولد أبدًا، وإن أنجب بعد سنتين فقط غير أنني لأعتقد ولا أشك في كون ذاك قرار وقع منه غلطة.
* * *
أظن أن والدي لا يحب طبخة أمنا؛ فلن يأكل إلا مخافةً أن تصيبها سكتة.
كنا حول المائدة للعشاء الكبير نهاية الأسبوع بليلة الجمعة، عادة تُصر عليها أمي، حيث تتوسطنا سمكة عملاقة كحوتٍ تتضح من هيئتها أنها ممتلئةٌ بالأشواك.
ورغم أن زِمنان لا يبعد عنا بثلاثة بيوت إلا أنه يتأخر دومًا في الحضور مع أهله.
يعرف أخي أن والدي لا يطيق الانتظار؛ فقد يرتكب خطيئةً وخاصة مع هذه الرائحة المنبثقة من المائدة.
- سنأكل.. يجب أن يتعلم.
هكذا يقول والدي وقد رفع ملعقته ممتلئة نحو فمه، إلا أنه لن ينهي جملته تلك حتى يلحقها بالاعتذار:
- أه.. عفوًا.. آسف.
فنظرات أمي الحادة تلك قد أرهبته دومًا، وكالعادة ستقوم أمي لتصادر ملعقته، وإذا تم ذلك فلن أشك في أن تلك كانت حيلة تمت من والدي تنقذه من تناول العشاء معنا بالحرمان الليلة، ولكن والدي يعرف أن الأمر لن يتوقف عند حدود الحرمان فقط؛ بل ستمسكه أمي من أذنه اليسرى تسوقه إلى الحضيض، ووالدي حتمًا لا يطيق الحضيض.
ولكن لحسن الحظ فرنين الجرس شغل أمي عن تلك المهمة، فتجاهلت والدي لتستقبل الأجراس بعد أن رنت سبع مراتٍ، ثُم سمعنا وشعرنا بتبادل القبلات عند الباب؛ كم أخي محبوب!
- اطمئن، فأخيرًا قد حضروا، وحتمًا قد نسيت أمي، أو ستجبر نفسها.
ولم أقل ذلك إلا لأهدئ روع والدي؛ فقد بدا متوترًا يتعرق، وإني لأكره أن يراه أخي بهذه الهيئة؛ فسيكره أمنا، ولا أريد ذلك.
رجعت أمي، فاندفعت الطفلة الصغيرة نحو المائدة تناديني:
- عمي، عمي.
كانت في التاسعة من عمرها، أو أظن.. المهم كانت متحمسة جدًا رغم أنني قضيت اليوم معها أتجول بقلب المدينة، أعتقد باستثناء والدتها فهي تعرفني أكثر من أي شخصٍ آخر؛ منذ أن وُلدت وأنا حولها.
- آشتا، لا ترقصي على عمكِ هكذا، تأدبي وتحشمي.
قالت ذلك تعنف عليها أمها سِنِاه، زوجة أخي.
فستان أخضر جديد من الحرير، وأحذية طويلة لا أشخص لونها، ثُم عينان منمقتان لتبرز زرقتهما كاللآلئ، ففي مثل هذه الحالات يعتريني شعورٌ شاذٌ بأن سِناه معجبة بي! وإلا فلمن تتجمل هكذا ألِزوجها زِمنان؟! كلا، فعلاقتهما ليست وطيدة إلى ذلك الحد. ألوالدنا؟ كلا؛ فهو يحترمها أكثر بدون هذه الهيئة.
أما عن أمنا فهي تراها بعينٍ واحدة تكاد دومًا تكون معاتبة؛ على أنها مَن سلبت منها ولدها فأجبرته على الخروج من دارها، الدار التي أُنجبنا فيها جميعًا، ولن تسامح أمي نفسها كما وعدت إن متنا في غيرها.
كما أنها أصلًا لا تنطق؛ فالسماء أعلم إن كانت أمي ترى وتسمع حينًا، ويكفي كدليلٍ يبرر هذا الشعور وأنه ليس جنونًا، كوْن زوجة أخي لم تصل إلى المائدة حتى عانقتني بقبلةٍ طويلة، وقالت ولم تحادث غيري:
- رجاءً ابتلع.
ماذا؟! تعليق لست أفهمه، المهم، لا أفهم النساء.
وقد بادلتها العناق بعد أن طالت تركع علينا، وكأنني لا أشتم رائحة غير رائحة طبختها أتت معها؛ فكأنها لا تحب طبخة أمنا! ولسببٍ ما فأمي كانت تتركها تفعل. وأنا، فأي طعامٍ ذُقت اليوم من هذه المائدة لن أشعر إلا بطبخة زوجة أخي.
بعد أن استقر زِمنان شامخًا حول المائدة، سلمته أمي السكين الطويل الأحمر؛ فقطع الدجاجة بلا هوادة، فدام العشاء نحو الساعتين من الملل، دار كل الحديث حول شركة أخي الناشئة في إنتاج الأسماك، شركة هي نوعًا ما من إرث زوجته، وقد بدا أخي وهو يقص ما يجري في عمله من أحداثٍ وتسلياتٍ كمَن يستفد أحدًا.
ولكن لما غمر المكان سكوتٌ مزعج، لامس زِمنان منكبي يحادثني أخيرًا:
- وأنت يا مدجان، كيف حال التدريس بالمعهد؟ هل تستمتع؟
ولكنني لم أحب أن أجيب على ذلك السؤال، فرفعت الكأس وغيرت المشهد فاحتسينا، وأظن أن زِمنان قد رمق من عيوني رغبتي في الانفراد حول ذلك الموضوع.
* * *
ولدت فكنتُ هزيلًا ضعيفًا، ولما كبرت سألت أمي:
- هل نجوت وعشت؟
فقالت:
- بل بكيتَ!!
كان غريبًا جدًا؛ أنا الوحيد من آلمها وهي تضع، فكنت منذ قرون ثاني -وأنا أخجل لهذا الترتيب- ثاني مَن سبب لأمه مخاضًا، فلم يمنع عنها الوجع أحدث دواء ولا أذكى الأيادي.
سميتُ مدجان، ولم يحاول أحدٌ قط أن يختصر اسمي، فبقيت لا أُنعت إلا باسمي؛ رغم كوني أشعر في بعض الأحيان أن لي أسماء عديدة، وذلك بالرغم من قول سيدي:
- أمك احترمتني؛ فلذلك سحبت اسمك من اسمي (رالجان).. اسمع، لك اسمٌ واحد فقط وهو مدجان، فلا تلتفت إلا له، وإلا خلطت نفسك بذوات الآخرين.
قبل أن يكون الصياد الغارق كنت قريبًا جدًا بوالد سِناه، وكان مدرسنا ومؤدبنا برخصة واضحة من أمي.
سمى والد سِناه نفسه بـ(رالجان) وأنا لم أناده إلا بسيدي.
كان سيدي رجلًا، المهم هكذا قال:
- أنا رجل! رجل؛ كنت لأصبح أشياء مختلفة متناقضة أتذبذب بينها، ولكنها تصورتني فحولتني إلى رجلٍ فقط.
كنا طلابه؛ ولذلك سنسأله بصوتٍ واحد:
- وهل يعجبك ذلك يا سيد رالجان؟.
فيجيب رافعًا رأسه:
- أحب نفسي؛ هكذا أمرتني.
المرة الأولى التي قابلت فيها والد سِناه كان لي فقط خمس سنواتٍ، أقول قابلت ولكن أقصد شعرت؛ لعلي رأيته كثيرًا قبل ذلك.
قابلت سيدي أول مرة في قبو داره، ولم أدخل هناك بالخطأ حتى قال لي:
- هل تعرف معنى (جان)؟.
أظن أنني لم أكن أعرف؛ لأنني سكتُّ وارتجفت، فقال حينها:
- الأصل (جَنْ) الأصل ألا تنطق النون حقيقةً، الأصل أن تنطق النون مزيفة (جًا)، إنها من لغة قديمة، وتعني: الخير. أُضيف المد ليصلح اسمًا لإنسان (جان).. هه ههه، فلا أحد يريد أن ينادى بجًا، هل أنتَ تريد ذلك؟
أظن أنني لا أريد ذلك؛ إذ هربت خائفًا منه؛ فلم يكن لي إلا خمس سنواتٍ، ولم آت هناك إلا لأرى وجه ابنته، ولم يكن لوجهه الخشن المخيف.
أتذكر ملامح سيدي أكثر من أي ملامح أخرى؛ وجهه الأسمر المستطيل، ولحيته الطويلة المهملة، مع رأسه الحليق النظيف الذي لن أرى قط به شعرة.
ثاني مرة قابلت به سيدي كان أمام دارنا، ولمجرد أن رآني أفزعني بهتافه:
- لو متُّ لانتهى كل شيء؛ لما كان هناك جنين، لما كانت هناك أم!! لو متُّ لما كان هناك خيارات، لو متُّ لما تألم أحد، لو متُّ لاختفى كل شيء.
وهكذا شعرت بسيدي، فاقتربت إليه من يومها ولم أخف منه قط.
* * *
سأقولها لنفسي بوضوحٍ: المرة القادمة لن أحفر إلا لكيلا أتوقف؛ فإذا اتفقنا بئرًا فلنحفرها حتى يصعد الماء، وإذا قلنا حفرة فلنحفرها أبدًا!!
إن حارتنا من العالم السابق كما يسمونها، وهو ميزة للمدينة لكيلا يحُول وهلةً كل شيءٍ إلى حديث فلا يُرى قديم؛ فهناك وإن كان قلة مَن لم يزل يعشق العتيق.
بعد العشاء الطويل مع عائلتي، شرعت أمشي قليلًا تفاديًا عسر الهضم، وبعد جولات هنا وهناك، وقفت أفكر أمام الحفرة العميقة، واضعًا رجلي على الصخرة العملاقة جنبها. إنه أهم عملٍ جماعي أنجزناه، إن لم يكن الوحيد.
كانت قبل خمس عشرة سنةً، عندما انفجر أنبوب المياه الرئيس، فأصبحت حارتنا في أزمةٍ لم يسبق لها مثيل؛ وهي أزمات كما تسمى سخيفة لا تحدث إلا لمثل هذه الأحياء. ورغم سعي درع المدينة في توفير المياه فعّالة بأنابيبها المتحركة ومضخاتها الشفافة إلا أن ذلك لم يكن نوعًا ما مريحًا لأمي كفاية؛ فرفضت تلك المساندات، ودامت بذلك الحاجة إلى الماء أيامًا نتصنع فيها معاناتٍ ونجازف شهواتٍ ونتوهم آلامًا.
وبعد أن فحص والدي التربة الرطبة واللينة في دارنا قرر بغرابة أن يحفر بئرًا، ضحكنا معه لتلك المجازفة التي لا يكاد معنى لها من أزمتنا في تلك اللحظة، ولكننا شاركنا في تلك المغامرة جميعًا، وقد قالت أمي عن تلك الأيام:
- يا ليتنا نواصل هكذا، الحياة أجمل تدوم هكذا أبدًا. فدامت أسابيع ونحن على تلك الحالة نحفر ولسنا بجد مجبرين، فبيْد أن والدي وزِمنان يحفران أعمق فأعمق كنت أرمي التراب أبعد فأبعد، في حين أن أمي تجهز الغذاء ألذ فألذ فلن تتأخر بمساندة أختي.
نعم أختي 'إيتيا' وهي الثانية بعد زِمنان.
أتذكر أن تلك كانت آخر أيام أختي؛ فقد أبى والدي أن تخرج تلك الأيام إلى حفلة تخرجها، فتذمرت من كل وجهٍ حتى سمحت لها أمي أن تخرج خلف ظهر والدنا، وبعد أن تأخرت بشكلٍ ملحوظ ليلًا، أدرك والدي ما حصل بعد قراره، فاهتز البيت بجدالٍ دام ساعة مع أمنا.
ولا أتذكر من ذلك العراك إلا جملة واحدة من أمي تقول لوالدي:
- أتظن لأنك حفرت بئرًا، والتي بالمناسبة لن تكتمل، أتظن لذلك تغير مقامك في عينيّ؟! إذن اسمع فما أنت إلا كما أنت، هه.. كما كنت حين وجدتك، وستدوم هكذا صفرًا.
وأنا أرى والدي وما زلت أراه حاليًا من ظلمة هذه الحفرة يركب سيارته القديمة مسرعًا غاضبًا يتظاهر على كل شيء، حتى يصدم أختي وسط الطريق فتتحطم عظامها ميتة تلطخ كل السبيل حمراء!
ولما تبين أنها.. أن إيتيا كانت ولأول مرة سكرانة من تلك الحفلة، لم تنطق أمي بلسانها قط بعد ذلك، وكان أعنف ما فعلت أنها لم تلُم والدنا حق اللوم تجاه تلك الجريمة، بل تركته يتجول بيننا لتنطق حين تضطر بفمه.
ورغم عودة المياه بعد ذلك بطبيعتها السائلة إلا أن أمي أبت أن نسد هذه الثغرة أو نواصل في حفرها أبدًا لتكتمل بئرًا.
* * *
حيث اقترب أخي إلى هذه الحفرة أشعر به أعمى؛ يتجاهلها.
يوم شعرت بروح أخي، أمرتني أمي أن أحبه قويًا صلبًا ومتفاعلًا، أمرتني أمي ألا أشفق على أخي.
فهمتُ من وصايا أمي أن علَيَّ أن أكره أخي ضعيفًا يائسًا، إنّ علَيَّ أن أكره أخي حين أراه ساقطًا من أي مستوى يئن ويتوجع متظاهرًا بأي ألم.
بعد أن مشيت قليلًا، هدأ بطني واسترخى على الهواء، فشُغّلت كل الأضواء الأمامية للدار فتلألأت بيضاء، واقترب إلَيَّ زِمنان نحو الحفرة يقول:
- كالعادة لا تقاوم طبخة سِناه؛ إن يدها سحرٌ عليك؛ حيث طبخت زوجتي فإنك تكثر الطعام كل مرة، هه إذا واصلت هكذا سيصعد لك كرشًا.. المهم أراك تائهًا عما تفكر؟
ولما بقيت جامدًا على مظهري لا أود الكلام أردف زِمنان بصرامة:
- هيا تكلم، ماذا فعلت أيضًا؟!
فاضطررت حينها إلى الجواب:
- أظن.. أظن أنني كاتب.
ولكنني قلتها بصوتٍ خافتٍ كدتُ أبتلع الحروف.
فأجاب أخي بصوته الرنّان:
- ماذا تظن؟!
- أقصد.. أعتقد.. أعتقد أنني كاتب! ويمكنني أن أكون محترفًا، ولكنني أحتاج إلى فراغٍ وتحفيزٍ، أحتاج إلى مساحة وقتٍ لأصقل مواهبي.
لأخي ملامح مرنة تتقلب بسهولة بين التهكم والمزاح، الجد والصرامة، لأخي شخصية تتقلب دون إنذارٍ بين الليونة والخشونة؛ قد تحسبه شخصين؛ ولذلك فعندما أجازف أمامه في التعبير عما أريد بصرامةٍ فغالبًا أزيّن رأيي بكلامٍ دخيلٍ آخر فأقول مازحًا:
- بصراحة لا أكاد أطيق طعامًا غير ما طبخت زوجتك؛ فكل الطبخات تحرق معدتي، وإنك حتمًا لتعرف السبب، ولكن مع ذلك...
فقاطعني كما اعتاد:
- اسمع يا مدجان، لقد صرخت علينا قبل خمس سنواتٍ تتمرغ على أن شغفك هو التدريس، فتدبرتُ لك رخصة كتبتها بيدي، وأنا أراك اليوم لا تكره شيئًا أشد من كرهك للتعليم، وها أنت ذا اليوم أيضًا تدعي التأليف!
وما يجهله زِمنان أنني منذ أمدٍ بعيدٍ نبذت التدريس؛ فلم يعد هناك طلاب، لم يعد هناك تعساء، وأنا أكره أن أكون مهرجًا لأي كائن.
- أخذت قراري يا زِمنان، فقد تركت التدريس، فَنِي شغفي فيه منذ عهدٍ؛ تلك وظيفة ليست لي.
وقد قلتُ ذلك ونحن نعود للمنزل، فبدوت تجاهه لأول مرة منذ زمنٍ باسلًا.
- أحسنت، أحسنت.
قالها بنغمةٍ بهيمة لا مشاعر بها؛ مغطاة بلا مبالاة، ثم زاد:
- ستلتحق بي أخيرًا في شركتي، ستكون صلبًا فأنا أحتاج إلى رجالٍ من نوعنا.
وبدا وهو يطلق تلك الكلمات الأخيرة خجلًا من لسانه ينحني، ثُم ارتفع ويده على منكبي.
- ولعلك هناك ستصل بإلهامٍ صارم إلى مساعدة أمنا، أنا متأكد.. تفهم؟ فالوقت على أقصى حدوده، أنت وحدك القادر على مساعدتها، إنك حتمًا تفهم.
ولما شرعتُ أعترض على ذلك القرار قاطعني بإصبعه على شفاهي، مصرحًا:
- ستكون كاتبًا حيث كنتَ! يجب أن تبقى بجانبي، ودعك عن أحلام مَن شبعوا وامتلأت بطونهم منذ زمنٍ؛ فنحن لم نأكل بعد. كما لا يمكنني العناية بهما وبأهلي وحدي.
وقد أشار إلى والدينا رافعًا رأسه شمالًا حيث يغسلان الأواني، ثم استطرد باسمًا بصرامة يضرب صدري:
- معًا كل شيء سيصبح سهلًا، وخاصةً وأنا أنافس الملائك؛ إنك حتمًا لا تريدني خاسرًا أمام الآلات!
وأدركت بذلك همّه على ذلك القرار، فطأطأتُ رأسي معبرًا له خنوعي.
* * *
إن آشتا الصغيرة داكنة البشرة، مع شعرٍ كثٍّ واسع ينزل إلى كتفيها، وقد ظل ذلك يمنحها طولًا زائدًا.
لم أعرف أن لحارتنا معارض سينمائية قديمة إلا بالأمس، حيث قضيت ساعتين في مشاهدة فيلم للأطفال مع ابنة أخي، بصراحة كان مملًا؛ أدركت فيه أنني لست طفلًا وصعب علَيَّ أن ألعب ذلك الدور.
كانت القصة مكتوبة من العصر السابق (عصر القربان)، وتدور الفيلم حول (أليكس) وصديقه الآلي البدائي (جيري)، وقد تحمس الأطفال حين استطاع البطل الصغير أن يتملص من غرفته خارجًا من النافذة، ورغم عقوبة والدته فعلى سقف البيت وقف ليتزلق يستمتع ضاحكًا مع صديقه حتى ثبتا سالمين على الأرض. وقد ملأ الصغار القاعة بالتفاعل والسعادة لذلك الإنجاز والتحايل.
رغم أنني حين هتفت بالحقيقة حُجب عنهم صوتي؛ فلم يسمعوا قولي:
- زفير الماضي والقمر يقولان: إن أليكس بطلكم الصغير هذا، لم يقع حين قفز من السقف إلا في المقبرة، فظل يزوره أهله بالزهور كل خميس.
ولقد أصبحت مصرًا جدًا في أن ينتبه إلَيَّ الأطفال بعد أن تجاهلوني، فتحمست إليهم وحركتهم واحدًا واحدًا أردد تلك الكلمات:
- إنه لم يسقط إلا ميتًا.. ميتًا.. لعله كان يتوهم فقط بالحياة!! والحقيقة أنه لم يبقَ في الوجود إلا صديقه جيري؛ لأنه مجرد آلة مجرّد جماد، هل تسمعون؟! لقد مات أليكس الإنسان حين قفز.
فأزيد الصوت حدةً حتى ينتبهوا لي:
- إنه كفر بموته فقط لذلك! هل يتوهم الموتى؟ المهم، إن أليكس مات!! فني إذ قفز، تهشمت عظامه وهلك!.
وقد كنت أشعر من كل جلدي أنه يجب أن يسمعوني؛ فلا أُهان أمام ابنتي، ابنة أخي!!
ولكن بذلك الإصرار المجازف تحركت الأرض بحصيرتها الآلية الذكية تحت أقدامي؛ فساقتني تسحبني وحيدًا خارج المعرض، ولم ينفتح لي بعد ذلك إذ اقتربتُ إلى المبنى من كل جانبٍ باب؛ فانتظرت ساعة جوار الطريق أرسم بإصبعي على الأرضية الملساء الجبال والسُّحب، حتى خرجت ابنة أخي وقد حظيت بنهاية قصة فيلمها، فزال عني الحرج.
* * *
في رواق دارنا الرمادي بين الردهة والصالة وقفت أحدَّق إلى صورتنا حيث أتوسط أخي وأختي الراحلة، كنت قصيرًا حقًا حينها، وقد أفزعتني آشتا الصغيرة حين هزتني من بدلتي الطويلة، ففي لحظة ظننتها أختي إيتيا؛ فهي تملك ملامحها جميلة ظريفة.
كانت يدها دافئة وثقيلة نوعًا ما مقارنةً بحجمها في تلك اللحظة، ممسكةً بيدي الكبيرة ساقتني وهي ماشية كأمها ولا تلتفت إلَيَّ؛ مما جعلني أسترخي لأقدامها كأعمى حتى أنزلتني إلى قبو المنزل، فقالت لي هناك:
- قلتَ لي أنك ستفتحها، إني أريد أن أراها الآن، أريد أن أراها على وجهك.
فأتساءل هل دخلتُ في هذا القبو من قبل؟! كان المكان فارغًا تمامًا مع طلائه الأبيض فلا يوجد فيه إلا تابوت يمتد في منتصف الأرض، تابوت لسببٍ ما تجاهلته منذ زمن.
كانت آشتا متحمسة وهي تسحب ذلك التابوت نحوي، وأنا لا أتذكر تمامًا ولكنني متأكد أنه ثقيلٌ كحجمه المنيف، لعل الحماس المبالغ هو مَن يساند هذه الصغيرة في إخضاع هذا الصندوق الكبير، أو لعلها تتخيله خفيف الوزن، فيكون كذلك لمُخها المرن.
- هل أفتحه؟ أو إنك ستقرر أخيرًا أن تفعل؟ إني أريد أن أساعدك؛ لنهبها الوجود معًا كما وعدتني. هيا تعال وساعدني.
بدا صوتها في تلك اللحظة مليئًا بالخيال آمرًا وجادًا أكثر مما ينبغي؛ فعرفتُ أن الحماس بدأ يوصل تلك الصغيرة إلى مستوى آخر.
فضحكتُ بشكلٍ ساذجٍ حتى بالغتُ كعادتي إلى السعال، ثم أخرجتها بصعوبةٍ أجرها بيدها اليسرى من القبو:
- دعكِ عن التعنت يا صغيرتي.
وسلبتُ منها المفتاح فأغلقتُ الباب، وقلتُ لطيفًا:
- ليس اليوم.. ليس اليوم.. إذا حان ستساعديني حقًا؛ فلنعد قبل أن تفسدي كل شيءٍ؛ لا أريد أن أراكِ كأمك.
رجعنا إلى الأريكة الكبيرة في صالة الضيافة، فوقفت الصغيرة تدب عليها خلف ظهري، وتقول لي:
- إذن، قصة جديدة يا عمي، احكِ لي حكاية جديدة، ما دمتَ لن تفتح لي التابوت.
نعم، بفضلها أدركتُ أن لي حقًا موهبة الحكاية، فمنذ سنواتٍ أشاركها قصصًا كتبتها من عند نفسي، وإن كانت بسيطة؛ فهي قصصٌ من مُخيلتي وأعماق تصوري، إن كانت بسيطة فهي حقيقية.
فقلتُ لها بتودد:
- أرأيتِ، القصص أولًا ثم القبو، الخيال أولًا ثم التابوت. ولكن غدًا.. انتظري غدًا، إن كنتِ هادئةً سأقص لكِ حكاية جديدة لها علاقة بال...
فقاطعتني بسذاجةٍ علت نغمةً وصقيعًا إلى الردهة حيث والداها:
- أنا مطيعة هادئة، وأمي تعرف ذلك، أنا طفلة طيبة كما تقول.
- حسنًا، حسنًا وأصلي هكذا.
ولم أفرغ تلك الكلمات حتى نادتها والدتها للرحيل، وقد قالت تعدني وهي بين يدي أمها أنها ستأتي غدًا صباحًا؛ لأحكي لها.
ولم أُحرم من سماع صوت والدتها المنكرة لذلك الوعد؛ ففي هذه الحالات أشك في كونها في الحقيقة تكرهني، في كون زوجة أخي تكن لي ضغينةً ما تواريها تحت فستانها الجميل.
* * *
هل يضحك علينا القمر؟ ألاكتمالها؟ تبًا، لا يهم؛ المهم:
- المرة القادمة سأذهب بعيدًا.. بعيدًا جدًا؛ حيث لن تحول جثمان أختي قتامًا.
ظلت رائحة طبخة سِناه تعم البيت بقوةٍ حتى بعد غسل كل الأواني، حتى بعد أن طلبتُ العزلة.
وقفت في غرفتي أحدّق من نافذة العلية، أرمق إلى أخي يجاور زوجته يدخلان دارهما كأنها لا تراه ولا هو، ففي هذه الحالات أكره الزواج؛ فقد تراءى وتحاسا حتى تزاوجا فماتت الجاذبية.
هنا نام أخي حتى رحل وأنا سأنام هنا أبدًا، ليس لي من هذه الغرفة إلا السيف المُعلق فوق النافذة، كل شيءٍ هنا كان لزِمنان؛ من الدولاب فالصور، والأدوات والآلات الموسيقية، فإلى السرير الذي أنا راقدٌ عليه؛ أبت أمي وقد ساندها في ذاك والدنا أن نغير شيئًا مما كان، فيريدان أن يشعرا دوام سكن أخي بيننا، وأن لا يفصلنا ثلاثة ديارٍ بل ولا جدارٍ.
أنا لا أمانع، أنا أحب كل ما كان لأخي؛ فليكن زِمنان طيفًا حولي.
دخل والدي في الغرفة، سينام معي هذه الليلة؛ فعادةً إذا أكل والدي طعام أمي يشعر بها كأُنثى، ولا يريد أن يرقد جنبها فتحس به بدورها ويمد يديه يفتحهما فيحدث ما سيجعلها تنطق، وإن كانت تلك ألفاظًا ستكون هجينةً بهيمةً إلا أنها لا شك ستعلو ملاوماته، تعنف عليه تعنف على والدي بالعتاب التليد.
- ماذا تشعر؟
سألني والدي وقد تركتُ له الفراش فليّنتُ الأرض لأضطجع عليها، وزاد كلامه يقول قبل أن أجيب:
- أعرف أنك أيضًا تشعر، وعلى ذلك فإذا طلب منك أخوك أن تشاركه في عمله فيعني أنه يحتاج إليك فلا تماطل.. لا تماطل.
ولما سألته عن كيف عرف أن زِمنان طلب مني اليوم العمل معه؛ أدركتُ أنه لسؤال سخيف ولا والدي أجاب عليه، وإنما استطرد يقول:
- لم أترك لكما شيئًا قيمًا يساندكما، وأنا آسف؛ إذ لستُ مَن اختار التقاعد هكذا مبكرًا. ولكن كمبررٍ لي لم أجد عملًا أنسب لتجاربي؛ لأنني لستُ من هذا العالم؛ فلم أفعل اللازم منذ البداية لأندمج كما ينبغي في عالمكم.
يقول والدي: "إنه كان رجل حربٍ ونضال".
يقول والدي: "إن عالمنا الحديث لم يناسبه".
يقول والدي: إنه كان يعمل سائق شاحناتٍ بين القرى المنعزلة، وأمنا أرغمته على التقاعد بعد أن تعارفا وتزاوجا؛ إذ كانت تجني ما تطعمنا به ويثبتنا على نمط حياة كريمة. وقد قال لي والدي يومًا إن أكبر ربحٍ له كان تزاوجه بأمنا؛ فذاك خلصه من كد الطرق الفاضية والغربة المصطنعة، فسخيفات النضال والمشاجرات وأنا أشعر اليوم أنها أنّ أمي ولو أصبحت نارًا عليه فلن يقبل والدي خسارتها.
لقد عملت أمي كمذيعةٍ ومضيفةٍ، وهي تلك التي كان يدوم وجهها في كل شاشات حارتنا ويرتفع صوتها من كل الديار، حتى تمسكت عن النطق فاختفت عنها، وباتت تملأ تلك البيوت همساتٌ زائفة حولها، حول قرارها الأخير، حتى باتت وكأنها مغلقة في زجاجات متاحفٍ عند كل أطلال حارتنا العتيقة.
فجأة، بدأت أجفاني تتثاقل؛ فظننت أن والدي قد غفا، فهمست كجوابٍ على سؤاله الأول:
- أظن أنني سأسافر.. سأسافر بعيدًا، أشعر.. نعم، أشعر.. أشعر بأن ذلك لازم؛ لستُ كاتبًا هنا، لستُ كاتبًا هنا.. سأذهب إلى مكانٍ لا يسكن جواري فيه ملائك ولا خيالات لهناء، وهكذا سأكون كاتبًا هكذا فقط سأكتب؛ هكذا فقط سيتوقف لي الزمن لأحكي.. لأحكي.
ولكن لم أفرغ تلك الكلمات حتى علّق والدي بصوتٍ صارم:
- لتتركنا.. لتتركنا!! لتنفر منا فتحكي علينا! كلا؛ فأمك لن ترضى، ولا أنا، ولا أحد!.
وإن كنتُ أشارف الثلاثين إلا أنني فزعتُ، ولم أغلق عينًا تلك الليلة، وإن كان قد يقال أن سبب ذلك هو شخير والدي الثقيل، غير أنني لم أسمع تلك الليلة سوى تهويدات أمي التي تبدو آتية من كل مكانٍ وخاصةً من تلك الحفرة العميقة.
فأشعر الآن وأنا خائفٌ لا حول لي ولا قناع، أن قرار والدي في مطاردة أختي يتظاهر بالأبوة كان أسوأ قرار له، وعندما أقول أسوأ فأقصد أسوأ بحيث لن يلاحظ بعده أبدًا أسوأ.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.