hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

تحت النجوم، وبعيدًا عن مُعترَك الحياة، ربما يمكنك قبول أيشيء حتى لو كانشرٍّا؛ لكن
عندما نعود إلى مَعمعان وضغوط العمل نعود أدراجَنا إلى السخط والاشمئزاز والحالات
المزاجية التي لا تُحتمَل. كم هي ضئيلة كل شهامتنا! مُجرَّد شيء طارئ! مرحلة عابرة!
حتى قِدِّيسو العالم القديم كان عليهم أولًا الهروب من عالمهم، لكن دينتون وإليزابيث
لم يستطيعا الهروب، ولم يعُد مُتاحًا أمامهما طرق مفتوحة إلى أراضٍ لا مالك لها حيث
يمكن للبشرالعيشفي حرية — حتى لو كانت عيشة قاسية — والشعور بالسلام فيصميم
أرواحهم. لقد ابتلعت المدينة جنس البشر.
لفترة من الزمان، ظل دينتون وإليزابيث في وظيفتَيهما الأساسيتَين؛ فقد ظلَّت هي
تطرق النحاس بينما ظل هو يهتم بالمكبس؛ ثم حدثت نقلة لدينتون جلبت معها خبرات
وتجارب جديدة — ومريرة في ذات الوقت — في الحياة في عالم ما تحت الأرضفي المدينة
الكبيرة. نُقِل دينتون إلى المصنع المركزي فيشركة لندن للقرميد ليُصبِح مسئولًا عن مكبس
أكثر تعقيدًا.
في وظيفته الجديدة، كان يجب على دينتون العمل في غرفة طويلة تقع تحت الأرض
مع عدد آخر من الرجال كان معظمهم قد وُلِدوا ليعملوا لدى الشركة. تقبَّل دينتون هذا
الوضع على مضض؛ فقد نشأ نشأة كريمة، وقبل أن يقوده حظه العاثر إلى ارتداء الخيش
الأزرق، لم يكن قد تكلَّم مع فرد من العمال بيضالوجوه، إلا بالأمر أو لضرورةٍ ما. أما الآن
وأخيرًا، حدث التواصُل بينهم فقد كان يجب عليه الآن العمل بجانبهم واستخدام أدواتهم
وتناوُل الطعام بصحبتهم. بدا هذا بالنسبة له ولإليزابيث كمزيد من الحط من قدرهما.
كان هذا يبدو مُتطرِّفًا بالنسبة إلى رجل من القرن التاسع عشر، لكن في السنوات
الفاصلة بين الزمنَين، وببطء وبشكل حتمي، نمَت فجوة هائلة بين طبقة العمال وبين
الطبقات الاجتماعية الأخرى وهو فرق اجتماعي لم يُسهِم في حدوثه فقط ظروف وعادات
الحياة، بل الفكر كذلك؛ وحتى اللغة. فقد تطوَّرت في المناطق التي يسكنها العمال تحت
سطح الأرض لهجة خاصة بهم وكذلك فوق الأرض، تطوَّرت لهجة وطريقة تفكير ولغة
ثقافية كانت تسعى — عن طريق الكد في قبول أحدث الاختلافات — إلى أن تُبعِد نفسها
لم تعُد رابطة الدين تربط الناسبعضهم بعضًا. اتسمت السنوات .« السُّوقية » باستمرار عن
الأخيرة من القرن التاسع عشربالتنامي السريع في التحريفات الحاصلة فيما يتعلق بالديانة
الشائعة آنذاك؛ ما أدَّى إلى اختزال التعاليم الفضفاضة التي نشرها القديس نجَّار الناصرة
لتخدم فحسْب حياة الترفذات المنظور المحدود. وعلى الرغم من نزوعهما للطريقة القديمة
في العيش، لم يكن أي من بطلَينا قادرًا على الهروب مما تفرضه عليه بيئته. فيما يخص
السلوك العام، كان دينتون وإليزابيث يتَّبعان الطرق الخاصة بطبقتهما الاجتماعية؛ لذا
عندما تدهور حالهما حتى أصبحا عاملَين، بدا الأمر لهما وكأنهما سقطا وسط مجموعة
من الحيوانات المُتوحِّشة الوضيعة؛ ولا بد أنهما أحسَّا بإحساس دوق ودوقةٍ ما من القرن
التاسع عشر كانا مُجبَرَين على المبيت في حي للفقراء.
كان تصرُّفهما الطبيعي هو إبقاء مسافة بينهما وبين العمال، لكن أول فكرة خطرت
ببال دينتون للانعزال بشيء من الكرامة عما يُحيطهما سرعان ما تبدَّدت بطريقة وقحة.
كان يتخيل أن تدهورهما اجتماعيٍّا حتى وصلا إلى طبقة العمال كان نهاية درسه المُستفاد
من الحياة، وعندما ماتت ابنتهما الصغيرة، خُيِّل إليه أنهما اختبرا أعمق أعماق الحياة،
لكن في الحقيقة فإن كل هذا كان مُجرَّد البداية. دائمًا ما تطلب الحياة منا أكثر من مُجرَّد
الإذعان، والآن وفي غرفة مليئة بالمُشرِفين على الآلات، سيتعلم دينتون درسًا أكبر وهو إدراك
عامل آخر في الحياة؛ عامل رئيسي كفقدان ما نُحِب وأكثر جوهرية من مُجرَّد الكدح في
العمل.
كان رفضه الصامت للحديث مع الآخرين سببًا فوريٍّا في حدوث الاستياء، وفُسِّر على
أنه احتقار، وهو ما أخشى أن يكون تفسيرًا صائبًا. فجأةً اتخذ جهله باللهجة السوقية
— وهو أمر كان لا يزال يفتخر به — مَنحًى جديدًا؛ فقد فشل دينتون فورًا في فهم الكلمات
الترحيبية التي استقبلوه بها والتي كانت فظة وغبية لكنها تُعبِّر عن حرارة الاستقبال وهو
لا» : الأمر الذي لا بد وأن بدا لقائلِيها كضربات مُوجَّهة لهم؛ فقد ردَّ عليهم بكل برود
«. لا، شكرًا لك » : أو يقول مُصادَفة «. أفهمكم
أدَّى هذا إلى أن حدق فيه رجل كان يُخاطِبه ثم عَبَس وأشاح بوجهه مُنصرِفًا عنه.
رجل آخر تحمَّل مشقة إعادة كلامه على مسامع دينتون التي لم تعتد هذا الكلام
ليكتشف الأخير أن الأول يعرضعليه صفيحة من الزيت. عبَّر عن شكره بأدب، بينما بدأ
الرجل الآخر مُحادَثة معه بغرض معرفة المزيد عنه. أشار الرجل إلى أن دينتون مُتكبِّر
ومغرور وأراد أن يعرف كيف انتهى به الحال بأن يرتدي لبس العمال. توقَّع الرجل أن
يسمع من دينتونسردًا لحكاية مليئة بالرذيلة والتبذير. هل ذهب العامل الجديد إلى مدينة
المتعة من قبل؟ اكتشف دينتون بسرعة كيف أن وجود مثل هذه الأماكن المُدهِشة للمتعة
يتخلَّل ويُدنِّس أفكار وشرف مثل هؤلاء العمال اليائسِين المُكرَهين في عالم لندن السفلي.
«. لا» : أثارت هذه الأسئلة استياء دينتون ذي الطابع الأرستقراطي وأجاب باقتضاب
لكن الرجل أصرَّعلى طرح الأسئلة الشخصية وكان دينتون هذه المرة هو من أشاح بوجهه
عنه.
«! يا لَلوقاحة » : قال الرجل مُندهِشًا بدرجة كبيرة
لم يلبث دينتون أن أدرك أن هذا النقاش اللافت للانتباه الذي دار بينه وبين الرجل
كان سيتكرر على مسامع من سيتعاطفون معه مما سيُؤدِّي إلى أن يشعروا بالدهشة
ويطلقواضحكات ساخرة منه. كان العمال ينظرون إلى دينتون باهتمام كبير على ما يبدو،
وبدأ يشعر بعزلة غريبة. حاوَل أن يُركِّز تفكيره في المكبسوخصائصه التي لم يألفها بعد.
أبقَت الآلات الجميع مشغولِين بشدة في النَّوبة الأولى ثم حانت فترة الاستراحة التي
كانت مُجرَّد فاصل قصير لا يكفي لأن يذهب أي موظف لقاعة الطعام الخاصة بالشركة.
تبع دينتون زملاءه حيث ذهبوا إلى رواق قصير كان به عدد من الصناديق بالإضافة إلى
نفايات المكابس.
أخرج كل رجل علبة بها طعام عكس دينتون. يرجع هذا إلى أن المُدير، ذلك الشاب
المُهم الذي كان يشغل منصبه من خلال استخدام نفوذه، نسي أن يُخبِر دينتون أنه يجب
عليه التقدُّم بطلب للحصول على نصيبه من الطعام. وقف دينتون بمعزل عن الآخرين
شاعرًا بالجوع، بينما تجمَّع الآخرون في مجموعة وكانوا يتحدثون بصوت خفيضمُسترِقِين
النظر إليه بين الحين والآخر. انتاب دينتون شعور بعدم الارتياح، واحتاج لجهد مُتزايد
للاحتفاظ بمظهر من عدم الاكتراث وحاوَل أن يُركِّز تفكيره في روافع مكبسه الجديد.
وما لبث أن اقترب من دينتون رجل أقصر قامة وأكثر عرضًا وسمنة منه. التفت
مُناوِلًا إياه مُكعَّبًا من الخبز بيد «! خُذ » : دينتون إليه بأكبر قدر من اللامبالاة. قال الرجل
شديدة الاتساخ. كان الرجل ذا بشرة سوداء أفطس الأنف وفم تدلَّى أحد جانبَيه.
ساور دينتون الشك للحظة عما إذا كان الرجل يسعى لإهانته أم معاملته معاملة
لستُ » : وأضاف وقد تغيَّر وجه الرجل «. لا، شكرًا » : حسنة، رفض دينتون بأدب قائلًا
«. جائعًا
سمع ضحكة من مجموعة من العمال خلفه وقال الرجل الذي عرض على دينتون
«. ألمْ أخُبِرك! إنه من عِلية القوم. أنت لا تستحق الحديث معه » : صفيحة الزيت
ازداد وجه الرجل اسودادًا؛ لكنه ظل باسطًا يده بالخبز إلى دينتون قائلًا بصوت
«؟ خُذ! يجب عليك تناوُل هذا. أتفهمني » : خفيض
نظر دينتون للوجه المُتوعِّد الذي ينظر إليه وبدأت موجات ضئيلة غريبة من الطاقة
تسري في أطرافه وجسده.
«. لا أريده » : ردَّ دينتون مُحاوِلًا أن يصطنع ابتسامة جميلة على وجهه لكنه فشل
لكن الرجل الضخم قرَّب وجهه من دينتون وأصبح الخبز في يده يعمل عمل السلاح؛
بينما سارَع عقل دينتون يُفكِّر فيما يبدو في عينَي الرجل الأسود الذي ما زال يُردِّد كلامه:
«! تناوَله »
بعد فترة صمت، تحرَّك كلاهما سريعًا مما جعل مُكعَّب الخبز يسلك مَسارًا مُعقَّدًا
عبارة عن خط مُنحنٍ كان سينتهي به الحال في وجه دينتون لولا أنضرب بقبضته مِعصم
الرجل ليطير الخبز عاليًا ليخرج من النزاع وينتهي دوره.
رجع دينتون للوراء بسرعة ضامٍّا قبضتَيه وقد توتَّر ساعداه. وتراجَع الرجل الأسود
ليتخذ وضع تأهُّب عدائي مُنتظِرًا فرصة الانقضاض، لكن دينتون شعر بالثقة للحظة
وانتابَه شعور غريب بالهدوء والنشاط بينما كان ينبض قلبه بسرعة. شعر بالحيوية
والحماس يسريان في جسده حتى أطراف أنامله وأخمصقدمَيه.
لكن الرجل الأسمر قفز للأمام ثم خفض «! معركة يا رفاق » : أتتصرخة من مكان ما
رأسه مُتجِهًا إلى الخلف ثم إلى الجانبَين ومُندفِعًا إلى الأمام من جديد.ضربه دينتون لكن
الرجل قابله بلكمة. بدا لدينتون كما لو كانت إحدى عينَيه قد فُقِئت وشعر بشفة الرجل
اللينة ترتطم بقبضته قبل أن يضربه الرجل مرة أخرى هذه المرة أسفل ذقنه؛ ليشعر كما
لو كانت ارتطمت به مجموعة كبيرة من إبر النار وكما لو أن رأسه تهشَّم لأجزاء صغيرة؛
ثم ارتطمشيء برأسه وظهره من الخلف ليُصبِح الشجار مُنهِكًا ووحشيٍّا.
أدرك دينتون أن وقتًا قصيرًا — ثواني أو دقائق معدودة — مرَّ خاليًا من الأحداث
حيث كان يرقد ورأسه في كومة من الرماد وتدفَّق سائل دافئ ورطب بسرعة في رقبته.
تحوَّلت صدمته الأولى إلى أحاسيس عِدة غير مُترابِطة. كان رأسه يخفق في ألم وعلى الأخص
عينه وذقنه اللذان كانا يخفقان بألم مُتزايد وشعر بمذاق الدم في فمه.
«. إنه بخير. لقد فتح عينَيه » : سمع صوتًا يقول
«! يستحق بكل تأكيد » : ليقول ثانٍ
كان الآخرون يتجمَّعون حوله بينما جاهَد دينتون ليقف وأمسك مُؤخِّرة رأسه بيده
ليجد شعره مُبتلٍّا ومُلوَّثًا بفُتات الرماد بينما سمع من يسخر منه. كانت عيناه مُغمَضتَين
جزئيٍّا وأدرك ما حدث. لقد تلاشىالنصرالأخير الذي كان يتوقع للحظة أن يُحقِّقه.
«. تبدو مُتفاجِئًا » : سمع من يُخاطِبه
ثم بدأ يُقلِّد لهجة دينتون الرفيعة: «؟ هل تُريد المزيد » : ثم قال شخص آخر ساخرًا
«! لا، شكرًا »
رأى دينتون الرجل الذي تشاجَر معه يمسح وجهه بمنديل مُلوَّث بالدماء ويقف في
الخلفية.
أين قطعة الخبز التي كان » : قال شخص ضئيل الحجم بوجه يُشبِه ابن مِقرض
وبحث بقدمه في الرماد الذي يملأ الصندوق المُجاوِر. «؟ سيتناولها
كان صراع داخلي قد بدأ يعتمل داخل دينتون؛ فقد كان يُدرِك أن ميثاق الشرف
يتطلب منه أن يُنهي الرجل شجارًا قد بدأه حتى النهاية مهما كانت النتيجة، لكن ما حدث
كان أول إحساس بالمرارة ينتابه. كان عازمًا على النهوضمُجدَّدًا لكنه لم يجد لديه الدافع
القوي لذلك. خطر له — ولم يكن ما خطر له بالدافع القوي — أنه رغم كل شيء ربما
يكون شخصًا جبانًا. للحظة، شعر بتثاقُل إرادته ككتلة من الرصاص.
وانحنى ليلتقط مُكعَّب الخبز المُلوَّث «. ها هي » : قال الرجل الذي يُشبِه ابن مِقرض
بالرماد، ناظرًا إلى دينتون ثم إلى الآخرين.
نهضدينتون ببطء وعلى مضض.
أعطِني » : مدَّ رجل أمهق مُتسِخ الوجه يده إلى الرجل الذي يُشبِه ابن مِقرض قائلًا
لم تحصل على ما يسدُّ رَمقك » : ثم تقدَّم مُهدِّدًا نحو دينتون والخبز في يده قائلًا «. هذا
«؟ بعد، أليس كذلك
مُلتقِطًا أنفاسه، وقد عزم أن يُسدِّد «. بلى » : حان وقت المواجهة لدينتون حيث رد قائلًا
لهذا الهمجي لكمة وراء الأذن قبل أن يجد نفسه وقد أفقده الرجل وعيه. كان يعلم أن
الرجل سيُفقِده وعيه مرة أخرى. كان دينتون مُندهِشًا كيف كان حكمه على ذاته غير
صحيح فيما مضى. بعض اللكمات البسيطة، وسيسقط مهزومًا مرة أخرى. أخذ يُراقِب
عينَي الرجل الأمهق الذي كان يبتسم كاشفًا عن أسنانه في ثقة مثل رجل خطَّط لتنفيذ
خدعة مُتقَنة؛ وانتابه شعور مُفاجئ بإهانات وشيكة الحدوث.
دَعه وشأنه » : لكن الرجل الأسود قال فجأة من وراء المنديل القماشي المُلطَّخ بالدم
«. يا جيم. إنه لم يُؤذِك فيشيء
اختفَت ابتسامة الأمهق وتوقَّف ليتنقل بناظرَيه بين الرجلَين. بدا الأمر إلى دينتون كما
لو كان الرجل الأسود يُريد الاحتفاظ لنفسه بشرف القضاء على دينتون؛ وحينها بدا الأمهق
لدينتون اختيارًا أفضل.
«. دَعه وشأنه. لقد نال كفايته » : أعاد الرجل الأسود كلامه
يا لَك » : تعالى صوت جرس يدقُّ ليهرب دينتون من هذا المأزق. تردَّد الأمهق قائلًا
مُتفوِّهًا بشتيمة بذيئة، ثم استدار عائدًا بصحبة الآخرين إلى غرفة المكبس « من محظوظ
انتظر الرجل «. انتظر حتى نهاية نوبة العمل يا رفيق » : مرة أخرى. استدرك الأمهق قائلًا
الأسود حتى يسبقه الأمهق، وأدرك دينتون أن حكم الإعدام عليه قد أرُجئ.
تقدَّم الرجال نحو باب مفتوح. أصبح دينتون مُدرِكًا لمهام عمله وهرع ليلحق بذيل
طابور العمال. كان هناك شُرطي يتبع شركة العمالة يرتدي زيٍّا أصفر اللون يقف على
غرفة ذات مدخل مُقوَّستضم المكابسويحمل بطاقة يُسجِّل عليها الملاحظات، وقد تجاهَل
نزيف الرجل الأسود.
من الذي » : ثم قال فور مُشاهَدته لوجهه «! أسرع » : قال الشُّرطي مُخاطِبًا دينتون
«؟ ضربك
«. هذا شأني » : ردَّ دينتون
«. ليس كذلك إذا كان يُفسِد عملك. تذكَّر هذا جيدًا »
لم يرُد دينتون. كان عاملًا فظٍّا. كان يرتدي الخيش الأزرق، وكان يعرف أن قوانين
عقاب الاعتداء والضرب لا تسري على من يرتدونه. أكمل دينتون طريقه إلى المكبس.
تحسَّس دينتون الكدمات الشديدة التي أصابت أحد حاجبَيه وذقنه ورأسه وشعر
بالخفقان والألم في كل كدمة منها. سيطر الخمول واللامبالاة على أعصابه، وبدا كما لو
كانت كل حركة يقوم بها على المكبستتطلب مجهودًا مُضنيًا. وبالنسبة لكرامته، فقد كانت
تخفق بالألم كالكدمات تمامًا. كيف استطاع الوقوف على قدمَيه؟ وماذا حدث بالضبط في
العشردقائق التي مضت؟ وما الذي سيحدث بعد ذلك؟ كان يعرف أن الأمر يحتاج لتفكير
عميق لكنه كان في حالة من التشوُّش تمنعه من التفكير بصفاء.
كانت حالة دينتون المزاجية مزيجًا من الذهول والجمود. كانت كل القناعات التي
يُؤمِن بها قد أطُيح بها، فقد كان يعتبر سلامته من الاعتداء البدني أمرًا مُتأصِّلًا فيه كأحد
شروط الحياة بالنسبة له. وبالفعل كان هذا حقيقيٍّا، فانتماؤه للطبقة المُتوسِّطة كان يُمثِّل
حماية له. لكن من الذي سيتدخَّل بين عمال أفظاظ يتشاجرون معًا؟ وبالفعل، في ذلك
الزمن لم يكن أحد ليفعل هذا. في العالم السفلي، لم تكن هناك قوانين تفصل بين البشر؛
وأصبحت تلك القوانين بالإضافة إلى سياسات الدولة في إدارة شئون البلاد بالنسبة لهم
أمرًا يُكبِّل الناس ويمنعهم من امتلاك ما هو مرغوب ومُمتِع، لا أكثر ولا أقل. أما العنف
الذي كان يعيش فيه هؤلاء الهمج للأبد، والذي يحوي آلاف الحيل والوسائل التي تُعرِّض
حياتنا الحديثة للخطر، فقد تدفَّق مرة أخرى في طرق ودهاليز العالم السفلي ليغمرها.
كان القانون السائد هو البقاء للأقوى. لقد فهم دينتون أخيرًا ما هو جوهري رغم أنه كان
لا يزال في بداية حياته في العالم السفلي؛ القانون السائد هو قانون الغاب والمكر والثبات
عند المُواجَهة والبقاء في جماعة وعدم الانعزال.
توقَّف تدفُّق أفكار دينتون عندما تغيَّر صوت إيقاع المكبس.
لكن بعد قليل استطاع أن يُفكِّر مرة أخرى. من المُثير للاستغراب السرعة التي سارت
بها الأحداث! لم يكن دينتون يحمل أي ضغينة من أي نوع تجاه الرجال الذينضربوه.
كانت كدمات دينتون تنويرية؛ فقد أدَّت لأن يُدرِك ما أدركه. لقد أصبح يُدرِك بكل وضوح
وإنصاف منطقية كراهية الآخرين له. لقد كان يتصرَّف ببلاهة. الازدراء والعزلة يُصبِحان
فقط ميزتَين لدى من يمتلك القوة. أما النبيل الأرستقراطي الذي تدهور به الحال وما زال
يتعلَّق بتميُّز اجتماعي لا طائل من ورائه فهو أكثر الأشخاصالمُدعين إثارة للشفقة في هذا
الكون الصاخب الذي لا يهدأ. يا لَلسماء! ما الذي دفعه لازدراء واحتقار هؤلاء الرجال؟
للأسف لم يكن يُدرِك هذا منذ بضع ساعات فقط!
ما الذي سيحدث في نهاية نوبة عمله؟ لم يستطع أن يتخيَّل. لم يكن يقدر على تخيُّل
ما يُفكِّر فيه هؤلاء الرجال. لقد كان يُدرِك عداوتهم له واحتياجهم الشديد للتعاطف فقط.
تسارَعت في عقل دينتون احتمالات العنف والعار اللذَين سيتعرَّضلهما. هل يمكنه اختراع
سلاحٍ ما؟ تذكَّر هجومه على المعالج بالتنويم المغناطيسي وكيف أنه لا يوجد أي مصابيح
قابلة للنزع في العمل، كما لم تقع عيناه على أيشيء يمكنه استخدامه في الدفاع عن نفسه.
ظل يُفكِّر لفترة من الوقت في الانطلاق مُباشَرة فور انتهاء نوبة العمل إلى أمن الطرق
العامة. وبغضِّالنظر عن الاعتبارات التافهة المُتعلِّقة باحترامه لذاته، أدرك دينتون أن هذه
حماقة لن تُؤدِّي إلا إلى إرجاء المُواجَهة كما ستزيد من مشكلاته. لمح دينتون الرجل الأمهق
يتحدث مع الرجل الذي يُشبِه القوارضبينما يُحدِّقان فيه؛ ثم لم يلبثا أن بدآ التحدُّث إلى
الرجل الأسود الذي كان يقف وظهره العريضيُواجِه دينتون عن عمد.
حانت أخيرًا نهاية نوبة العمل الثانية. أوقف الرجل الذي أقرضه صفيحة الزيت
المكبس عن العمل على نحو مُفاجئ واستدار ماسحًا فمه بظهر يده. كانت عيناه تحملان
تعبيرات هادئة كتلك التي نجدها في عينَي شخصيجلس في المسرح.
وحان وقت المواجهة. بدأت كل أعصاب دينتون في التقافُز والتواثُب من فرط الانفعال.
قرَّر أن يردَّ بالعنف على أي إهانة جديدة تحلُّ به. أوقف المكبس عن العمل واستدار ومشى
مُتظاهِرًا باللامبالاة خارجًا من الغرفة ذات المدخل المُقوَّس ليدخل الممر المليء بصفائح
الرماد، ثم أدرك فجأةً أنه نسي معطفه الذي كان قد خلعه بسبب حرارة الغرفة بجانب
المكبس. والتقى بالرجل الأمهق وجهًا لوجه.
كان حريٍّا » : سمع دينتون الرجل الذي يمتلك وجهًا أشبه بوجه ابن مقرض يُعاتِبه
«! بك أكل الخبز. كان يجب عليك هذا
«. دَعه وشأنه » : لكن الرجل الأسود قال
كان واضحًا أنه لم يكن سيحدث له أكثر مما حدث في ذلك اليوم. وخرج من الممر إلى
السلم الذي صعد من خلاله إلى المنصات المُتحرِّكة في المدينة.
خرج دينتون ليُواجِه الحركة المُتدفِّقة والأضواء الشاحبة التي اتَّسمت بها الشوارع
العامة في المدينة. أصبح مدركًا تمامًا ما أصاب وجهه من تشوهات وتحسَّسكدمات وجهه
البارزة بيد فاحصة وتمهَّل. صعد إلى أسرع منصة وجلس في أحد مقاعدشركة العمالة.
استغرق دينتون في التفكير المُتأمِّل وأدرك بوضوح لا شك فيه الأخطار والتهديدات
الوشيكة التي سيتعرَّض لها في عمله؟ ما الذي سيفعلونه غدًا؟ لم يستطع التخمين قط.
ماذا ستقول إليزابيث عن الكدمات التي في وجهه؟ لم يستطع تخمين هذا أيضًا. كان مُنهَكًا.
وما لبث أن انتبه بفعل يد أمسكت بذراعه.
تطلَّع دينتون ببصره فرأى الرجل الأسود يجلس بجانبه. لا بد أنه سلِم من العنف في
الطريق العام!
لم يظهر على وجه الرجل أي آثار للشجار، وكان وجهه يخلو من أي تعبير عن العداء،
بل بدا كما لو كان به مسحة من الاهتمام والمُراعاة لشعور الآخرين. قال الرجل وقد غابت
ليُدرِك دينتون أنه لا ينوي بدء شجار جديد. ظل «. اعذرني » : الوحشية من وجهه تمامًا
الأخير يُحدِّق في الرجل مُنتظِرًا ما سيحدث.
ثم «… ما كنتُ … سأقوله … هو » . كان واضحًا أن الرجل قد أعدَّ ما سيقوله مُسبَقًا
سكت باحثًا عمَّا سيقوله.
«… ما كنتُ … سأقوله … هو » : كرَّر الرجل
ووضع يده القذرة «. أنت على صواب » : في النهاية، كفَّ الرجل عن التردُّد وصاح قائلًا
أنت على صواب. أنت رجل مُهذَّب. أنا مُتأسِّف. » : على كم دينتون المُتسِخ، ليُكمِل قائلًا
«. مُتأسِّف للغاية. هذا ما أردت قوله
أدرك دينتون أنه لا بد أن تكون هناك دوافع أخرى داخل الرجل بخلاف إهانته. فكَّر
قليلًا وابتلع ريقه في كبرياء غير مُستحَق.
«. لم أقصد أن أسُيء لك برفضالخبز »
أدُرِك أنك لم تكن تعني هذا، لكن بسبب ذلك » : قال الرجل الأسود مُسترجِعًا ما حدث
«. الأمهق اللعين وقهقهته، تعيَّن عليَّ أن أتشاجر
«. نعم، لقد كنتُ مُغفَّلًا » : قال دينتون وقد انتابه حماس مُفاجئ
«! لنتصافح » : قالها الرجل برضا شديد. ثم أضاف «. نعم. هذا صحيح »
صافَحه دينتون.
كانت المنصة المُتحرِّكة تمر سريعًا بالقرب من شركة لتصنيع مُستحضَرات التجميل،
وكان الجزء الأسفل من واجهتها مُكوَّنًا من مرايا كبيرة مُصمَّمة لتحفيز الناس للسعي
وراء الحصول على ملامح وجه أكثر تناسُقًا. رأى دينتون انعكاس صورته وصورة الرجل
في المرآة وقد تشوَّها وانبعجا بدرجة كبيرة. كان وجهه مُنتفِخًا ومُلطَّخًا بالدماء ويظهر من
جانب واحد، كما شوَّهته ابتسامة عريضة بلهاء مُفتعَلة. غطَّت خصلة من الشعر إحدى
عينَيه. أما الرجل الأسود فقد بدا في المرآة الخادعة كشفةٍ وفتحة أنف كبيريتَين مُتضخِّمتَين
للغاية. وكانت الصورتان المُنعكِستان مُتصِلتَين بيدَين تتصافحان. ثم اختفى هذا المشهد
فجأةً ليُصبِح ذكرى في ظل تأمُّلات واهية لفجر يبزغ نوره.
بينما كانا يتصافحان، تفوَّه الرجل بتعليق مُضطرِب غير واضح لكن دينتون فطن
إلى أنه يقول إنه دائمًا ما كان يُدرِك أنه ستربطه علاقة طيبة بأي رجل نبيل يلتقيه يومًا
ما. أطال الرجل التصافُح حتى سحب دينتون يده تحت أثر ما رآه في المرآة. فجأةً بدَت
الجدية على وجه الرجل وبصق على المنصة على نحو لافت للنظر ثم استمر في الكلام.
ثم بدا على وجهه الاهتمام وهزَّ رأسه ناظرًا صوب «… كان ما أرُيد قوله هو » : قال
قدمه.
«. تابِع الحديث » : انتاب الفضول دينتون وقال بانتباه
عذرًا، لكنك » : تقدَّم الرجل وأمسك بذراع دينتون وأصبح أكثر حميمية تجاهه قائلًا
لا تعرف كيف تتشاجر. لا تعرف. لا تعرف كيف تبدأ الشجار. ستلقى حتفك يومًا ما إذا
«! لم تنتبه لنفسك. ارفع ذراعَيك! هاك
ثم دعَّم كلامه بالتوبيخ مُراقِبًا أثر ما يقول على دينتون بعين يقظة.
على سبيل المثال، أنت فارع الطول وذراعاك طويلتان. يمكنك الوصول لأبعد مما »
يمكن أن يصل إليه أي شخصفي قبو العمل. بحق السماء، لقد ظننت أنني سأوُاجِه شخصًا
صلبًا، لكن بدلًا من ذلك، أستميحك عذرًا، لو كنت أعلم أنني سأتشاجر مع شخص مثلك
لما تشاجَرت. هذا ليس صوابًا. تبدو ذراعاك كما لو كانتا مُتدلِّيتَين من خطافَين. بالفعل،
«. هما مُتدلِّيتان من خطافَين
حدَّق دينتون ثم انتابه شعور بالدهشة ثم أطلق ضحكة على نحو مُفاجئ آلَم ذقنه
«. استمِر » : المُصابة وتدفَّقت دموع مريرة من عينَيه، وقال
عاد الرجل الأسود إلى وصفته، وكان لطيفًا بما يكفي لأن يقول إن مظهر دينتون قد
.« الشجاعة ليست كافية إذا لم ترفع قبضتَيك » راق له، وظن أنه يبدو شجاعًا لكن
ما كنتُ أريد قوله هو دَعني أرُيك كيف تتشاجر. أعطِني الفرصة. إنك تجهل » : وأكمل
هذا الأمر، ولا تمتلك أي رُقِي، لكن من الممكن أن تُصبِح مُقاتِلًا جيدًا. جيدًا جدٍّا. مُقاتِل
«. يتطلع الناس إلى مُشاهَدته. هذا ما أردت قوله
«. لكن … لا أملك ما أعطيه إياك » : تردَّد دينتون
«؟ ها هو يعود مرة أخرى! من طلب منك هذا » : ردَّ الآخر
«؟ ومُقابِل وقتك »
«. إذا لم تتعلم القتال جيدًا، ستلقى حتفك. أنا أتحدَّث بصراحة »
«. لا أدري » : فكَّر دينتون
نظر لوجه الرجل الذي كان يجلسبجواره ليرى فظاظةصارخة تُطِل في وجهه. شعر
دينتون بتغيُّر مُفاجئ في لطفه العابر؛ وبدا له من غير المعقول أن يضطر لأن يكون مَدينًا
لمخلوق كهذا.
دائمًا ما يتشاجر الرفاق في العمل. دائمًا. وبالطبع » : استمر الرجل في الحديث قائلًا
«. إذا ما انهزم شخصٌما سيحين دورك
«! يا إلهي! كم أودُّ هذا » : صرخ دينتون
«. بالطبع، هذا إن أردت »
«. أنت لا تفهم »
ردَّ الرجل الأسود وكان يستشيط غضبًا لكنه صمت. «. ربما لا أفهم بالفعل »
وعندما تحدَّث مرة أخرى كان صوته أقل ودٍّا، ونخس دينتون مُوجِّهًا كلامه إليه:
«؟ اسمع! هل ستدعني أعُلِّمك القتال أم لا »
«… هذا لطف كبير منك، ولكن » : ردَّ دينتون
مضَت فترة صمت وجيزة، بعدها نهضالرجل الأسود وانحنى باتجاه دينتون.
«! ما زلت مُعتدٍّا بذاتك للغاية، أليس كذلك؟ لقد أحرجتني. يا إلهي! أنت مُغفَّل كبير »
ثم استدار ومشى، بينما أدرك دينتون في الحال حقيقة ما قال.
نزل الرجل الأسود بكرامة وكبرياء من المنصة إلى تقاطُع، وانتاب دينتون دافع لحظي
لأن يلحق به لكنه ظلَّ في مكانه على المنصة. لفترة من الوقت أخذ عقله يُفكِّر فيما حدث.
في يومٍ ما، انهار استسلامه بلا أمل، وأقحمت القوة الغاشمة الأساسية النهائية نفسها في
كل تفسيرات تساؤلاته وحديثه وتعازيه على نحو غامض. ورغم أنه كان جائعًا ومُرهَقًا،
لم يذهب مباشرة للفندق حيث سيلتقي بإليزابيث. وجد دينتون نفسه قد بدأ يُفكِّر في
الأمر؛ لذا فقد دار، وهو غارق في التفكير، حول المدينة دورتَين على متن المنصة المُتحرِّكة.
كان يتحرك بسرعة خمسين ميلًا في الساعة في المدينة المليئة بالأضواء المُتألِّقة والضوضاء
الهادرة، تلك المدينة التي تقع على سطح كوكب يدور في مسار غير مُحدَّد المعالم في الفضاء
بسرعة آلاف الأميال في الساعة؛ شاعرًا بالخوف الشديد ومُحاوِلًا فهم لماذا يجب على قلبه
وإرادته مُواجَهة العناء بينما هو حي.
وعندما عاد إلى إليزابيث في النهاية، كانت شاحبة وقلِقة. ولولا ما كان يستحوذ على
تفكيره، لربما لاحَظ أنها تُواجِه مشكلة ما. كان أخوف ما يخافه أنها قد ترغب في معرفة
جميع تفاصيل ما تعرَّضله من إهانة وأنها قد تُصبِح مُتعاطِفة وساخطة مما حدث. رأى
حاجبَيها وقد ارتفعا دهشة فور رؤيتها له.
لقد تشاجَرت. هذه الرضوض ما زالت جديدة ومُؤلِمة. لا أريد » : قال دينتون لاهثًا
ثم جلس عابسًا. «. التحدُّث بشأن الأمر
حدَّقت زوجته فيه بدهشة بالغة، وابيضَّت شفتاها بينما هي تستشفُّ ما حدث له من
خلال النظر إلى وجهه المُتورِّم. تكوَّرت قبضتها وقد تشنَّجت؛ وكان كفها قد هزل عما كان
عليه عندما كانا يعيشان في رخاء وتغيَّر شكل إصبعها الأول قليلًا بسبب طرق المعادن، ثم
ثم صمتت ولم تقل شيئًا. «! يا له من عالم فظيع » : قالت
في تلك الأيام، أصبح الصمت يُخيِّم على علاقتهما بشدة ولم يتحدث أحدهما إلى الآخر
تلك الليلة إلا فيما ندر، لكن كان كل منهما غارقًا في أفكاره. وفي ساعات الصباح الأولى،
نهضدينتون فجأة من سُباته العميق ليجد إليزابيث بجانبه ما زالت مُستيقِظة.
«! لا أستطيع التحمُّل! لن أتحمَّل » : صرخ قائلًا
نظرت إليه في الضوء الخافت حيث كان قد نهضليجلس واندفعت ذراعه للأمام كما
هذا » : لو كان يُسدِّد لكمة غاضبة في هذا الليل البهيم. ثم ظل ساكنًا لفترة من الزمن وقال
«! أمر لا يُطاق! هذا يفوق قدرة المرء على الاحتمال
لم تستطع أن تقول شيئًا، فبالنسبة لها هي الأخرى، كان هذا أقصى ما يمكن أن
يُواجِهه المرء. ظلَّت مُنتظِرة وصامتة لفترة طويلة. رأت دينتون وقد جلس مُحيطًا ركبتَيه
بذراعَيه وأنزل رأسه للأسفل حتى كادت ذقنه تُلامِسهما.
ثم بدأ في الضحك.
لا، بل سأتحمَّل. هذا هو الغريب في الأمر. كلانا لا يشعر بالرغبة في » : وقال في النهاية
الانتحار. أعتقد أن كل من يتغير حاله على هذا النحو قد فارق الحياة. أما نحن فسنتحمَّل؛
«. حتى النهاية
فكَّرت إليزابيث على نحو مُتشائم ومُوحِش، وأدركت أن هذا صحيح أيضًا.
سنتحمَّل الأمر حتى النهاية. فكِّري في كل من مرُّوا بهذا الأمر؛ كل الأجيال — عدد »
«. لا نهائي — وحوش صغيرة تزأر وتهجم. تهجم وتزأر. جيلًا وراء جيل
لقد استمر العصرالحجري » : أنهى كلامه الرتيب فجأة، ثم استطرد بعد توقُّف طويل
تسعين ألف سنة. لا بد وأنه كان هناك دينتون ما عبر كل هذه السنوات. تتابُع مُستمِر
ومُنتظِم. شرف وفضل المُضِي قدمًا. لنرَ. تسعون. تسعمائة، تسعمائة وتسعة وتسعون،
سبعة وعشرون، ثلاثة آلاف جيل من الرجال! رجالٌ تشاجَروا، وأصُيبوا، وشعروا بالخزي،
وثبتوا وقت المواجهة، وتحمَّلوا، وورَّثوا الأمر لمن بعدهم! وربما الآلاف ممن سيُولَدون!
«. الآلاف! سيُورِّثون مَنْ بعدهم. أتساءل إذا ما كانوا سيشكروننا
آهٍ لو أمكنني العثور علىشيء واضح لا لَبسفيه. » : ثم اتخذصوته نغمة جدلية قائلًا
«. لو أمكنني فقط أن أقول: هذا هو السبب الذي يجعل الحياة تمضيقدمًا
ثم هدأ وأصبح ساكنًا، وبدأتْ تتضح معالم جسده في الظلام لناظرَي إليزابيث حتى
استطاعت رؤيته وهو يُريح رأسه على كفِّه. انتابها شعور بالتباعُد الشديد بين عقل وفكر
كل منهما؛ وبدا لها ذلك التلميح الغامضإلى كينونة أخرى خير تجسيد للتفاهُم بينهما. ما
الذي يمكن أن يكون ما يُفكِّر فيه الآن؟ ما الذي قد لا يتفوَّه به؟ بدا كما لو أنه قد مرَّ زمن
ثم صمت لفترة طويلة، ليُكرِّر ما «. لا، أنا لا أفهم. لا » : طويل قبل أن يتنهَّد ويهمس قائلًا
قاله، لكن هذه المرة بدا صوته كما لو كان قد توصَّل إلى حل مُعيَّن.
أدركت أنه يستعدُّ للخلود إلى النوم. لاحَظت حركاته، وشاهَدت بدهشة كيف كان
يُهيِّئ وسادته باهتمام شديد لتُوفِّر له الراحة. رقد دينتون وقد تنفَّس الصعداء بشكل
كبير. لقد زالت حماسته ورقد في سكون وبعد قليل انتظمت أنفاسه وغطَّ في نوم عميق.
لكن إليزابيث ظلَّت مفتوحة العينَين تُحملِق في الظلام حتى انطلق صوت الجرس
وأنُير المصباح الكهربائي مُعلِنَين بدء يوم عمل جديد.
في ذلك اليوم، حدث شجار بين دينتون وبين الأمهق؛ وايتي، والرجل الذي يُشبِه
ابن مقرض. ترك بلانت، المُدرِّب الأسود لفنون القتال، دينتون يستوعب الدرس أولًا، ثم
تدخَّل وقد أظهر القليل من الرعاية والحماية لدينتون وقال بصوت أجَش وسط وابل من
بينما كان «؟ اترك شعره يا وايتي ودَعه وشأنه. ألا ترى أنه لا يمكنه القتال » : الشتائم
دينتون يربضفي الرمال بكل خزي وقد أدرك أنه يجب عليه قبول تعليمات الرجل في تعلُّم
القتال.
لقد كنتُ مُغفَّلًا. أنت » : اعتذر دينتون للرجل، واستجمع نفسه وسار نحو بلانت قائلًا
«. على حق. أتمنى ألَّا أكون قد جئتك مُتأخِّرًا
تلك الليلة، وبعد انتهاء نوبة العمل الثانية، ذهب دينتون بصحبة بلانت إلى سرداب
قذِر ومليء بالقمامة تحت ميناء لندن ليتعلم أساسيات فن القتال الرفيع حيث كانت أساليب
القتال قد صُقِلت بشدة في العالم السفلي الكبير للندن؛ ومنها كيف تضرب أو تركل رجلًا
على نحو مُؤلِم جدٍّا أو تُصيبه بإعياء شديد؛ وكيف تضرب أو تركل بشكل فعَّال وكيف
تستخدم الزجاج داخل الملابس كنوع من المَضارب، وكيف تسفك دماء خصمك بأدوات
منزلية، وكيف تكتشف نوايا خصمك وتدفعها في اتجاهات أخرى؛ في الواقع، كل الأدوات
والآلات المُناسِبة التي انتشرت بين المحرومين في المدن الكبرى في القرنَين العشرين والحادي
والعشرين استخدمها المُدرِّب الموهوب لدينتون. تلاشى خجل بلانت في التعامل مع دينتون
بمرور الوقت واكتسب وقارًا يليق بخبير، أو لنقُل اهتمامًا أبويٍّا، فقد كان يُعامِل دينتون
بأقصى اهتمام مُمكِن، صافعًا إياه من حين لآخر فقط ليُبقيَه مُتحمِّسًا، وكان يضحك
بصوت عالٍ عندما تُتاح له فرصة تسديد لكمة لدينتون وقد غطَّى الدم فمه.
دائمًا. الأمر لا يبدو بهذه » : مُعترِفًا بعيبه ومُضيفًا «. دائمًا ما أهُمِل فمي » : قال بلانت
الأهمية كأن تُضرَب في فمك؛ هذا إن كان ذقنك على ما يُرام. أحُِب تذوُّق الدم دائمًا، لكن
«. يجب ألا أضربك ثانية
عاد دينتون إلى المنزل وغلبه النوم بسبب الإرهاق ثم استيقظ في بواكير الصباح
وكانت أطرافه تُؤلِمه ويشعر بالوخز الخفيف بسبب الرُّضوض. هل حياته جديرة بأن
يستكملها؟ لقد أصغى لأنفاس إليزابيث وتذكَّر أنه، لا بد، أبقاها مُتيقِّظة ليلة أمس، ورقد
في سكون. كان يمقُت ظروف حياته الجديدة بشدة. كان يكره كلشيء، بل إنه كان يكره
الرجل الهمجي اللطيف الذي حماه بشهامة. أدرك كم الزيف الرهيب للحضارة ونظر له
كورمٍ ضخم غريب الأطوار يُنتِج سيلًا عميقًا من الوحشية والهمجية تحت الأرض، بينما
هناك الدماثة واللطف الزائف والتبذير الأحمق فوق الأرض. لم يستطع أن يرى أي سبب
للخلاص أو أي مسحة من الشرف، سواء في حياته السابقة أو الحالية. قدَّمت الحضارة
نفسها كمشروع مأساوي لا يعبأ بالإنسان كثيرًا — فيما عدا لو كان ضحية — كالإعصار
أو اصطدام كوني بين الكواكب؛ لذا بدا لدينتون أنه — والبشرية جمعاء — يعيشون عبثًا.
أخذ عقله يُفكِّر في وسائل غريبة للهرب، إن لم يكن من أجل نفسه فمن أجل إليزابيث على
الأقل. ماذا لو ذهب وقابَل مورسوأخبره بمأساتهما؟ دُهِشبشدة كيف أن كلٍّا من مورس
وبيندون قد خرجا من نطاق تفكيره وحياته تمامًا. أين كانا؟ وماذا كانا يفعلان؟ ثم بدأ
يُفكِّر في أفكار مُخزية تمامًا. وأخيرًا، ودونما إفاقة من أفكاره المُضطرِبة، بل مثلما يُنهي
لفجر الليل، انتهى تفكيره بأن توصَّل إلى قرار واضح بشأن الليلة التي مضَت؛ الاقتناع
الراسخ بأنه يجب عليه المُضِيقدمًا؛ وأنه بمنأى عن أي رؤية أبعد وعلى نحو يُناسِب طاقته
وفكره، يجب عليه التحلي بالشجاعة والقتال بين رفاقه وإظهار نفسه بمظهر الرجال.
ربما كان درس الليلة الثانية أقل قسوة من الذي سبقه، بل وكان الدرس الثالث أكثر
احتمالًا، وهذا يرجع إلى أن بلانت كان يُوزِّع بعض الثناء من آن لآخر. وفي اليوم الرابع
لتعلُّم القتال، أدرك دينتون بالصدفة أن الرجل الذي يُشبِه ابن مقرض كان جبانًا. مرَّ
أسبوعان من الأيام الشاقة والتدريب الليلي المحموم، وشهد بلانت، بعد كثير من الشتائم
والإهانات، أنه لم يسبق له أن قابَل تلميذًا ذكيٍّا مثل دينتون الذي ظل طيلة الليل يحلم
بالركلات والمُواجَهات والأعين التي ستُفقأ والحِيَل الماكرة التي ستُمارَس. خلال كل هذه
المدة لم يُحاوِل الاعتداء على أي شخص بسبب خوفه من بلانت. ثم حانت الأزمة الثانية.
لم يأتِ بلانت إلى العمل في أحد الأيام — وقد اعترف لدينتون لاحقًا أنه فعل هذا مُتعمِّدًا —
وخلال وقت الصباح المُمِل، كان وايتي ينتظر بنفاد صبر مُبالَغ فيه حلول وقت الاستراحة
بين النوبتَين. لم يكن يدري أن دينتون كان يتلقى دروسًا في القتال وقضىالوقت في إخبار
دينتون ومن في القبو عمومًا عن أفعال بغيضة ينوي الإتيان بها.
لم يكن وايتي ذا شعبية بين العمال واجتمع كل من في القبو ليُشاهِدوا استهزاءه
بالعامل الجديد باهتمام فاتر، لكن الأمور تغيَّرت عندما واجَه دينتون مُحاوَلة وايتي لركله
في وجهه بخفضرأسه ببراعة فائقة ثم أمسك به ورماه، وأكملت قدم وايتي بذلك دورتها
ليسقط على رأسه في كومة الرماد التي سبق وأن سقط دينتون فيها. نهض وايتي وقد
اكتسب درجة زائدة من البياضوأصبح ينتوي بالفعل إحداث إصابات بالغة لدى دينتون.
كانت هناك مُحاوَلات مُتردِّدة وغير ناجحة لوايتي زادت من حيرته المُتنامية والواضحة ثم
تطوَّرت الأمور ليستجمع دينتون نصفه العلوي ويُمسِك بحنجرة وايتي ويدفن ركبته في
صدره بينما وايتي الذي اسودَّ وجهه وبرز لسانه وانكسرإصبعه، حاوَل بصوت مُتحشرِج
أن يُفسِّر أن ما حدث ما هو إلا سوء تفاهُم. وعلاوةً على ذلك، كان واضحًا أنه لم يكن بين
الحاضرين من هو أكثر شهرة من دينتون.
أطلق دينتون بحذر سراح خصمه ونهض واقفًا. بدا كما لو كان دمه قد تحوَّل إلى
نار مُتدفِّقة وشعر بأن أطرافه خفيفة وقوية على نحو استثنائي، وتلاشت من ذهنه فكرة
أنه شهيد من شهداء آلة الحضارة. لقد كان رجلًا في عالم الرجال.
كان الرجل الذي يُشبِه ابن مقرض أول من ربَّت على كتفه مُهنِّئًا، كما هنَّأه الرجل
صاحب صفائح الزيت وقد انفرجت أساريره. لم يتصوَّر دينتون أنه سبق له أن فكَّر في
القنوط أو اليأس.
كان دينتون مُقتنِعًا أنه لم يكن يتعيَّن عليه إنجاز ما يريد فحسب، بل كان يُدرِك
أنه قادرٌ على ذلك أيضًا. جلس على الحشية الخشنة يشرح لإليزابيث هذا الجانب الجديد
من حياته. كان أحد جانبَي وجهه مليئًا بالرضوض. لم تكن قد قاتلت مُؤخَّرًا ولم يُربِّت
شخصعلى كتفها ولم تكن هناك أي رضوضعلى وجهها، فقط شحوب وخط أو اثنان من
التجاعيد ظهرا حول فمها. كانت تُواجِه ما تُواجِهه كل النساء. نظرت إلى دينتون بثبات
أشعر بأن ثَمة شيئًا ما، شيئًا يمضي قدمًا. كينونة للحياة التي » : في حالته الجديدة. قال
نعيش فيها ونمضيلنصير ما نحن عليه، شيئًا نشأ لربما منذ خمسين، أو مائة مليون عام
مضَت، شيئًا يستمر وينمو ويمتد إلى أشياء خارج نطاق إدراكنا. أشياء ستُبرِّر وجودنا
جميعًا. ستُفسِّر وتُبرِّر قتالي ورضوضيوكل آلامي. إنه إزميل الخالق. لو أمكنني فقط أن
«. أشُعِركِ بما أشعر به! ستشعرين يا عزيزتي. أنا واثق من ذلك
«. لا، لن أشعر بما تشعر به » : ردَّت إليزابيث
«… لقد ظننتُ أن »
«. لا، لقد فكَّرت في الأمر أيضًا. ما تقوله لا يُقنِعني » : هزَّت رأسها
أنت لا تفهم ولا تُفكِّر. » : ثم التقطت أنفاسها وأكملت «. أكره هذا » : ثم نظرت له بحزم
مرَّ وقت كنتُ أصُدِّق فيه ما تقول. لكني ازددت حكمة. أنت رجل ويمكنك القتال وفعل
ما تريد. لا تُبالي بالإصابة أو الرضوض، يمكن أن تكون فظٍّا وقبيحًا لكنك ستظل رجلًا.
نعم. هذا ما يجعلك ما أنت عليه. أنت على صواب. لكن النساء لسن هكذا. نحن مُختلِفات.
«. نحن نُصبِح أكثر تحضُّرًا ورقيٍّا ولطفًا بسرعة. العالم السفلي لا يُناسِبنا
أكره كل شيء! أكره هذا الخيش الفظيع! أكرهه أكثر من » : توقَّفت هُنَيهة ثم أكملت
أيشيء مُروِّع حدث. أصابعي تُؤلِمني عندما ألمسه. إنه يُؤذي البشرة. أكره النسوة اللاتي
أعمل معهن يومًا بعد يوم! أرقد مُستيقِظةً في الليل وأفُكِّر كيف سينتهي بي الحال أن
«. أصُبِح عجوزًا مثلهن
«! ربما أصير إلى ماصِرن إليه » : ثم توقَّفت وأكملت باكيةً بحرقة
ثم سكت. «… لكن » : حدَّق دينتون في مأساتها وقال
أنت لا تفهم. ما الذي أمتلكه؟ ماذا لديَّ ليُنقِذني؟ يمكنك القتال. القتال للرجال. »
أما النساء … النساء مُختلِفات. لقد فكُّرتُ في كلشيء. لم أفعل شيئًا إلا التفكير ليلَ نهار.
انظر إلى لون وجهي! لا يمكنني الاستمرار! لم أعُد أستطيع الاستمرار! لا أستطيع تحمُّل
«! هذه الحياة. لا أستطيع
وتوقَّفت مُتردِّدة.
ثم علَت شفتَيها ابتسامة مريرة للحظات «. أنت لا تعلم أي شيء » : ثم قالت فجأة
«. لقد طُلِب مني أن أهجرك » : وقالت
«! تهجرينني »
لم تُعطِ جوابًا سوى أن أومأت برأسها إيجابًا.
نهض دينتون وانتصبت قامته تمامًا وأخذ كل منهما يُحدِّق في الآخر بعد صمت
طويل.
وفجأة، استدارت وسقطت بوجهها على سرير الخيش الخاص بهما. لم تنتحب. لم
تُصدِر أي صوت، بل بقيت مُستلقِية على وجهها. وبعد مرور صمت طويل كئيب، اهتزَّ
كتفاها وبدأت تبكي في صمت.
«! إليزابيث! إليزابيث » : همس
جلس إلى جوارها برفقٍ وهدوءٍ وانحنى واضعًا ذراعه عليها وأخذ يُربِّت على كتفها في
شك، باحثًا عبثًا عن حل لهذا الموقف الذي لا يُحتمل.
«. إليزابيث » : كرَّر همسه في أذنها
ثم انفجرت في نحيب «! لا يمكنني ولادة طفل ليُصبِح عبدًا » : أبعدتْه عنها بيدَيها قائلة
عالٍ مرير.
تغيَّر وجه دينتون وبدَت عليه الحيرة. وبعد قليل تسلَّل من الفراشووقف على قدمَيه.
اختفى من وجهه كل رضًا ذاتي كان يشعر به وحلَّ محله غضبٌ عاجز. بدأ يهذي ويلعن
القوى التي لا تُطاق والحوادث والرغبات الشديدة والطيش الذي يسخر من حياة البشر.
ارتفع صوته الخفيض في الغرفة الضيقة وهزَّ قبضته لاعنًا كل ما يُحيط به من أشياء،
وملايين البشر، والماضيوالمستقبل، والمدينة بأكملها على اتساعها المُذهِل
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.