hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

لم يخطر لي اسمُ الراحل اللورد تشيزلريج قطُّ دون أن يتداعَى إلى ذهني على الفور اسم
السيد توماس ألفا إديسون. لم يسبق لي أن رأيت الراحل اللورد تشيزلريج من قبلُ، ولم
ألتقِ السيد إديسون إلا مرَّتين في حياتي، غير أن الرجلين تربط بينهما صلة في ذاكرتي،
وكان تعليقٌ أبداه الأخير ذات مرةٍ هو ما ساعدني إلى حدٍّ كبيرٍ في حلِّ الغموضالذي غلَّف
به الأول تصرُّفاته.
ليس لديَّ مذكراتٌ لتُخبرني بالعام الذي حدث فيه هذان اللقاءان مع إديسون. كنت
قد تلقَّيت رسالةً من السفير الإيطالي في باريس يطلب مني انتظاره بمقرِّ السفارة. وعلمت
أن من المزمع في اليوم التالي أن ينطلقَ وفدٌ من السفارة إلى أحد الفنادق الكبرى للقاء
المخترع الأمريكي الكبير، وإهدائه رسميٍّا العديد من الأوسمة الرسمية المصاحبة لألقاب
شرفية أنعم بها عليه ملكُ إيطاليا. ونظرًا لدعوة العديد من النبلاء الإيطاليين ذوي المقام
الرفيع، ونظرًا لأن أصحاب المقام الرفيع هؤلاء لن يرتدُوا فقط الملابس المرتبطة برُتبهم،
ولكنهم في حالات كثيرة سيرتدون جواهر لا تُقدَّر بثمن، كان حضوري مرغوبًا فيه اعتقادًا
بأنني قد أستطيع درء أيِّ محاولة من جانب أبناء الطبقة العليا ممن يتَّسمون بخفة اليد،
الذين قد يحاولون الاستيلاء على هذه الكنوز، ويمكنني أن أضيف، بشيءٍ من الرضا عن
النفس، أنه لم تقع أيُّ منغِّصات غير متوقعة.
كان السيد إديسون، بالطبع، قد تلقَّى قبل وقتٍ طويلٍ إخطارًا بالساعة التي سيكون
فيها الوفد المفوَّض في انتظاره، ولكن حين دخلنا قاعة الاستقبال الكبيرة المُخصَّصة
للمخترع، صار واضحًا لي من نظرة عين خاطفة أن هذا الرجل الذائع الصيت قد نسي كلَّ
شيءٍ بشأن المناسبة؛ فقد وقف بجوار طاولةِ جرداء نُزع عنها المفرشوطُرح جانبًا في أحد
الأركان، وعلى هذه الطاولة وُضِعت قطع عديدة من آلات سوداء ومشحمة: عجلات مسنَّنة،
وبكرات، ومسامير مُلولبة … إلخ. كانت هذه الأشياء، على ما يبدو، تخصالعامل الفرنسي
الذي كان واقفًا على الجانب الآخر من الطاولة، وفي يده المتسخة أحدُ هذه الأجزاء. لم تكن
يدا إديسون نظيفتين تمامًا؛ إذ كان يفحص المادة بوضوح ويتحدَّث مع العامل الفرنسي،
الذي كان يرتدي سترة العُمَّال الطويلة المعتادة لحدَّاد ولكنها ذاتُ مقاسٍ صغير. حسبته
رجلًا يملك ورشةًصغيرةً خاصة به في أحد الشوارع الخلفية، يقوم بأعمال هندسية عجيبة،
ربما بمساعدة مساعد ماهر أو اثنين، وبعضالصِّبية المبتدئين. نظر إديسون نظرات جادة
نحو الباب مع دخول الموكب، وعلى وجهه مسحة ضيق من المقاطعة، امتزجت بلمحة
من الارتباك بشأن ما يعنيه هذا العرض الرائع. يُولع الإيطاليون، شأنهم شأن الإسبان،
بالرسميات حين يتعلق الأمر بمناسبة عامة؛ فكان المسئول الذي يحمل الصندوق المزخرف
الذي يحوي المجوهرات ويرتكز على وسادة مخملية، يتقدَّم بخطًى وئيدة إلى الأمام، وتوقف
أمام الأمريكي الحائر. بعدها تحدَّث السفيرُ بصوت جهوري ببعض الكلمات الرقيقة عن
الصداقة بين الولايات المتحدة وإيطاليا، وعبَّر عن أمنيته بأن تعود المنافسة بين البلدين
بمنافع ومزايا على البشرية، وضرب المثلَ بالمخترع المُكرَّم باعتباره النموذج الأبرز الذي لم
يأتِ به العالَم بعدُ لرجل يغدق على جميع الأمم بالنعم في فنون السلام. واختتم السفيرُ
البليغُ حديثَه بقوله إنه امتثالًا لأوامر مولاه، فإن من دواعي واجبه وسروره أن يُقدِّم …
وهكذا إلى آخره.
غير أن السيد إديسون، الذي بدا واضحًا عليه القلق وعدم الارتياح، ألقى ردٍّا مناسبًا
بأقل الكلمات المُمكنة، ولما كان العرض قد انتهى على ذلك، فقد انسحب النبلاء ببطء
يتقدَّمهم السفير، وتذَيَّلت أنا الموكب. كنت في غاية التعاطف في قَرارة نفسي مع العامل
الفرنسي، الذي وجد نفسه، وعلى غير المتوقع، في مواجهة هذا القدر البالغ من الفخامة
والعظمة. رمقه بنظرةٍ واحدة جافة، ولكنه رأى أن خلوته كانت ستنقطع ما لم يُزح بعضًا
من هؤلاء النبلاء الرائعين. بعدئذٍ حاول أن يتقوقع على نفسه، وأخيرًا وقفبلا حول ولا قوة
مثل شخص أصابه الشلل. فعلى الرغم من الأعراف والتقاليد الجمهورية، يُضمر قلبُ كلِّ
رجلٍ فرنسيٍّ احترامًا وإجلالًا عميقَين للمواكب الرسمية التي يغلب عليها الترف في الملابس
والتنظيم كهذا الموكب، ولكنه يحب أن ينظر إلى الأمر من بعيد، وبدعم ومساندة أقرانه، لا
يندفع بقوة على نحوٍ متنافرٍ وسط هذه الأشياء، كما كان الحال مع المهندس الذي أصابه
الذعر. وبينما كنت في طريقي للخروج، نظرتُ نظرةً خاطفةً من فوق كتفي إلى هذا الحِرفي
الماهر المتواضع الذي قنع بربحٍ لا يتجاوز بضعة فرنكات معدودة، وإلى المخترع المليونير
المقابل له، وكان وجه إديسون — الذي كان باردًا وجامدًا أثناء الخطبة، مذكِّرًا إياي بقوة
ووضوحٍ بتمثالٍ نصفيٍّ لنابليون — قد صار الآن متوهجًا بالحماس وهو يلتفت إلى ضيفه
المتواضع. ويصيح في بهجة قائلًا للعامل:
دقيقة من التجريب العملي تُساوي ساعةً من الشرح والتفسير. سوف آتي إليك في »
«. متجرك غدًا، في حوالي العاشرة، وأريك كيف تجعل هذا الشيء يعمل
أخذت أتسكع ببطء في الرَّدهة حتى خرج الفرنسي، وبعد تقديم نفسي إليه، طلبت
منه منحي شرف زيارة متجره في العاشرة من يوم غد. كان هذا متوافقًا مع الدبلوماسية
التي ستجدها سائدةً بين طبقات فرنسا العاملة، وفي اليوم التالي سعدت بمقابلة السيد
إديسون. وفي سياق حديثنا هنَّأته على اختراعه المصباح الكهربائي المتوهج، وكان هذا رده
الذي ظلَّ عالقًا في ذاكرتي للأبد:
لم يكن اختراعًا، وإنما اكتشاف. كنا نعرف ما نريد، نسيجٌ مُكربَن من شأنه أن »
يتحمل التيار الكهربائي في الفراغ، لِنَقُل لألف ساعة. لو لم يوجد مثل هذا النسيج، لما
كان المصباح المتوهج، كما نعرفه، ممكنًا. بدأ المساعدون في البحث عن هذا النسيج، وقمنا
ببساطةٍ بكربنة كلِّ شيءٍ استطعنا أن نضعَ أيدينا عليه، ومرَّرنا تيارًا كهربائيٍّا عبره في
الفراغ. وفي النهاية توصَّلنا إلى النسيج المناسب، كما كان سيحدث حتمًا إذا ثابرنا عليه
لفترة طويلة بما يكفي، وإذا كان النسيج موجودًا؛ فالصبر والاجتهاد سوف يقهران أي
«. عقبة
كان هذا الاعتقاد بمنزلة عونٍ كبيرٍ لي في مهنتي. أعرف أن الفكرة السائدة عن عمل
المحقق هي أنه يتوصل إلى حلول ألغازه بطريقة درامية، من خلال تتبُّع المفاتيح والدلائل
غير الظاهرة للشخص العادي. هذا يحدث كثيرًا بلا شك، ولكن الصبر والجهد اللذين
يُوصيبهما السيد إديسون، عمومًا، هما الدليل المرشد الأكثر أمنًا؛ فكثيرًا ما كان تتبُّع الأدلة
الممتازة يقودني إلى كارثة، مثلما حدث مع محاولتي البائسة لحلِّ لغز الماسات الخمسمائة.
كما أسلفتُ القول، لم يسبق لي التفكير في اللورد تشيزلريج من دون أن أتذكَّر
السيد إديسون في الوقت عينه، ومع ذلك فقد كان الاثنان مختلفَين تمامًا. وأرى أن اللورد
تشيزلريج هو أكثر رجل عديم القيمة على مرِّ التاريخ، بينما إديسون عكسه تمامًا.
.« اللورد تشيزلريج » وذات يومٍ جلب لي خادمي بطاقةً كُتِب عليها اسم
ليظهر شابٌّ في حوالي الرابعة والعشرين أو الخامسة «. أدخِل سيادة اللورد » : قلت
والعشرين، أنيق الملبس، ذو أسلوب ساحر، وعلى الرغم من ذلك بدأ لقاءَه بتوجيه سؤال
لم يُوجَّه إليَّ من قبلُ قط، سؤال إذا وُجِّه إلى محامٍ، أو أي شخص يعمل في مجال آخر،
لأجيبَ عنه بشيءٍ من السخط. والواقع أنني أعتقد أن قَبول عرض كالذي قدَّمه لي اللورد
تشيزلريج، من شأنه، حال إثباته، أن يؤدي إلى إلحاق العار والدمار بالمحامي، هو قانون
مكتوبٌ أو ضمنيٌّ في مهنة المحاماة.
سيد فالمونت، هل سبق أن تولَّيت قضايا بنظام » : بدأ اللورد تشيزلريج حديثه قائلًا
«؟ المضاربة
«. مضاربة يا سيدي؟ لا أظن أني أفهم »
تورَّد وجهُ سيادته خجلًا كالفتيات، وتلعثم قليلًا وهو يحاولشرح الأمر.
ما أعنيه، هل تقبل قضيةً بأتعابٍ مشروطة؟ بمعنى، حسنًا … سيدي … لكي أكون »
«. صريحًا ومباشرًا تمامًا، لن يكون لك أجرٌ إذا لم يكن هناك نتائج
جاء ردِّي حادٍّا نوعًا ما:
لم أتلقَّ عرضًا كهذا في حياتي من قبلُ، وأستطيع القول فورًا إنني سأكون مضطرٍّا »
لرفضه حال واتتني الفرصة. إنني أكرس وقتي واهتمامي للقضايا التي تُقدَّم لي من أجل
حلها. وأحاول أن أكون جديرًا بالنجاح، ولكنني لا أضمن هذا، وفي الوقت نفسه لا بُدَّ أن
أعيش؛ لذا أضُطر على مضضٍأن أجعل لوقتي مقابلًا، على الأقل. أعتقد أن الطبيب يُرسل
«. فاتورته رغم وفاة المريض
ضحك الشاب ضحكة مضطربة، وبدا محرجًا إلى حدٍّ أعجزه عن متابعة الحديث،
ولكنه في النهاية قال:
لقد أصاب تشبيهُك كبدَ الحقيقة بدقةٍ ربما تكون قد فاقت ما تخيلتَه أنت حين »
نطقتَ به. لقد دفعتُ لتوِّي آخرَ بنسٍ كان معي إلى الطبيب الذي كان يُشرف على علاج
عمي الراحل، اللورد تشيزلريج الذي تُوفي قبل ستة أشهر. أدُرك تمامًا أن الاقتراح الذي
قدَّمتُه لك ربما يبدو إهانة لمهارتك، أو بالأحرى يُلمِح إلى وجود شكٍّ بشأنها. ولكن يُحزنني
يا سيدي إذا كنتَ قد وقعتَ في مثل هذا الخطأ. كان من الممكن أن آتي إلى هنا وأكُلِّفك
بإيجادِ توضيحٍ لهذا الموقف الغريب الذي أجد نفسيفيه، وليسلديَّ أدنى شكٍّ في أنك كنت
ستقبل المهمة إذا كانت ارتباطاتك العديدة تسمح بذلك. وإن فشلت، فلم أكن لأستطيع
أن أدفع لك؛ إذ إنني مفلس بمعنى الكلمة؛ لذلك كان كل ما أتمناه أن تكون بدايتي معك
صريحة، وأن أعُلِمك بموقفي بالضبط. إذا نجحتَ، فسوف أصبحُ ثريٍّا؛ وإذا لم تنجح،
فسوف أكون ما أنا عليه الآن؛ مفلسًا. هل صار واضحًا لك الآن لماذا بدأتُ بسؤالٍ لديك كل
«؟ الحق في الاستياء منه
«. واضح تمامًا سيدي اللورد، وصراحتك تستحق الاحترام »
بهرني أسلوب الشاب المتواضع بشدة، ورغبته الواضحة في عدم قَبول أي خدمات
تحت ادعاءات زائفة. وحين أنهيت حديثي، نهضالنبيل اليسير الحال وانحنى لي.
أنا مدين لك بشدةٍ للطف استقبالك لي يا سيدي، وأرجو أن تغفر لي إهدار وقتك في »
«. طلبٍ لا طائلَ منه. طاب صباحك يا سيدي
لحظة واحدة سيدي اللورد. برغم » : أجبته وأنا أشير إليه بالعودة إلى مقعده قائلًا
عدم استعدادي لقَبول مهمة بالشروط التي تقترحها، غير أنني قد أستطيع أن أقُدِّم لك
تلميحًا أو اثنين قد يصُبان في صالحك. أظن أنني أتذكر خبر وفاة اللورد تشيزلريج. لقد
«؟ كان غريب الأطوار نوعًا ما، أليس كذلك
«. غريب الأطوار؟ حسنًا، نوعًا ما » : قال الشاب بضحكةٍ خافتة وهو يجلسمرةً أخرى
«؟ أذكر فيما أذكر أنه كان معروفًا بامتلاك نحو عشرين ألف فدان »
«. سبعة وعشرين ألفًا في الحقيقة » : أجاب ضيفي
«؟ وهل ورثت الأرضمثلما ورثت اللقب »
آه، نعم؛ فالضيعة موقوفة للورثة. لم يكن بمقدور السيد العجوز أن يحجبها عني »
«. إن فعل، ولديَّ بعضُالشك في أن هذه الحقيقة لا بُدَّ وأنها قد سبَّبت له بعضالقلق
ولكن، سيدي اللورد، بالتأكيد لا يمكن لرجل يملك ما هو أقرب إلى مقاطعة في مملكة »
«؟ إنجلترا الثرية هذه، أن يكون مفلسًا
ضحك الشاب مرة أخرى.
أجاب مقحمًا يده في جيبه مخرجًا بعض القطع المعدنية النحاسية البنية اللون،
حسنًا، أملك ما يكفي من المال لشراء بعض الطعام لليلة، » : وقطعة من الفضة البيضاء
ولكنه لا يكفي لتناول العشاء في فندق فخم. هكذا الحال كما ترى. إنني أنتمي إلى عائلة
عريقة نوعًا ما، تجاوز العديد من أفرادها كلَّ الحدود ورهنوا أراضيهم حتى آخرها. لا
أستطيع أن أجني بنسًا واحدًا من ممتلكاتي مهما حاولت؛ لأن المال في ذلك الوقت كان
مُقرَضًا، وكانت الأرض أكثر قيمةً بكثير مما هي عليه الآن. والكساد الزراعي، وما شابهَ
من أمور، تركني أسوأ حالًا آلاف المرات مما لو لم يكن لديَّ أيُّ أراضٍ على الإطلاق. إلى
انب هذا، تدخَّل البرلمان، أثناء حياة عمي الراحل، نيابةً عنه، مرةً أو اثنتين؛ مما أتاح
له تقطيع أشجار الضيعة الثمينة في المرة الأولى، وبيع لوحات قصر تشيزلريج في صالة
«. كريستي للمزادات بأرقام فلكية يسيل لها اللعاب
هذا » : وهنا عاود النبيل الودود الضحك مرةً قائلًا «؟ وماذا كان مصير المال » : سألته
تحديدًا هو ما جاء بي إلى هنا وجعلني أستقل المصعد لأعرفإن كان بإمكان السيد فالمونت
«. أن يكتشفه
وكنتُ صادقًا في ذلك للغاية، برغم ما كان «. سيدي اللورد، لقد أثرت فضولي » : قلت
يُراودني من خوفٍ مشوب بالقلق من أن أتولَّى القضية في النهاية؛ لأنني قد أعُجبت بالشاب
حقٍّا؛ فقد راقني افتقاده للتظاهر، وصار ذلك الشعور بالتعاطف الذي كان سائدًا إلى حدٍّ
كبيرٍ بين أبناءِ بلدي يطوقه رغمًا عن إرادتي.
كان عمي حالةً شاذةً في عائلتنا. لا بُد أنه كان انعكاسًا لنمطٍ » : تابع اللورد تشيزلريج
سلوكي قديم في العائلة، نمطٍ لم نعهده ولا نعرف عنه شيئًا؛ فقد كان بخيلًا بِقدْر ما
كان أجداده مُبذِّرين. وحين آل إليه اللقب والضيعة قَبْل نحو عشرين عامًا، طرد طاقمَ
الخدم بأكمله، وكان الطرف المُدَّعى عليه في العديد من القضايا؛ حيث رفع خدم عائلتنا
قضايا ضده لطردهم دون وجه حق، أو لطردهم دون الحصول على أيِّ أموال كتعويض
عن عدم الالتزام بمهلة الإخطار. ويُسعدني أن أقول إنه قد خسر جميع القضايا، وحين
برَّر ذلك بفقرِه، حصل على إذنٍ ببيع عددٍ معينٍ من الممتلكات الموروثة؛ مما مكَّنه من
دفع التعويضات، ومنحه شيئًا ليعيش منه. وقد بيعت تلك الممتلكات التي طُرحت في المزاد
بمقابلٍ جيد على غير المتوقع، حتى إن عمي قد راق له ما حدث بشكلٍ ما. دائمًا ما كان
يستطيع إثبات إن الإيجار يذهب إلى الرهون، وأنه لا يملك ما يُعينه على المعيشة، ومِن ثَمَّ
تمكَّن في مرات عديدة من الحصول على إذنٍ من المحاكم بقطع الأشجار وبيع اللوحات،
حتى جرَّد الضيعة وأحال القصر القديم الملحق بها إلى حظيرة جرداء. كان يعيش كأيِّ
عاملٍ كادح؛ فكان يعمل في النجارة تارة، وفي الحدادة تارة، حتى إنه حوَّل المكتبة إلى ورشة
حدادة، تلك المكتبة التي كانت واحدة من أفخم المكتبات في بريطانيا تحوي آلاف الكتب
القَيِّمة، حاول مراتٍ ومراتٍ أن يتقدَّم بطلبات للسماح له ببيعها، ولكنَّه لم يُمنح هذا الامتياز
قط. وعند دخولي إلى المكان وجدت أن عمي كان دائمًا ما يتحايل على القانون، واستنزف
هذه المجموعة الرائعة، كتابًا تلو الآخر، خُفية من خلال تُجَّار لندن. كان من شأن ذلك
بالطبع أن يُعرضه لأزمة لو اكتشف الأمر قبل وفاته، ولكن الآن ذهبت الكتب الثمينة سدًى،
«. دون مجال لاستعادتها. لا شكَّ أن الكثير منها في أمريكا، أو في متاحفومجموعات أوروبا
«؟ ربما تريد مني تتبُّعها » : قاطعته قائلًا
كلَّا؛ فلا أمل في عودتها. لقد جنى العجوز عشرات الآلاف من بيع خشب الأشجار، »
وآلافًا أخرى بالتصرف في اللوحات. وجُرِّد المنزل من أثاثه القديم الأنيق، الذي لم يكن يُقدر
بثمن، ومن المؤكد، كما أخبرتك، أن الكتب قد جلبت له دخلًا يكفيه ليحيا حياة الملوك، إن
كان قد باعها بقيمتها، ولعلك على يقينٍ من أنه كان ماكرًا كفاية ليعرف قيمتها. ومنذ
آخر مرة رفضتْ فيها المحكمة مَنحَه هذه النجدة، كما كان يُطلق عليها، وكان هذا قبل
نحو سبع سنوات، أخذ يتخلصمن الكتب والأثاث، كما هو واضح تمامًا، من خلال البيع
الاتفاقي متحديًا القانون. في ذلك الوقت كنت دون السن القانونية، ولكن الأوصياء عليَّ
عارضوا الالتماس الذي تقدَّم به إلى المحكمة، وطالبوا بكشفٍ بالأموال التي تحت يديه.
أيَّد القضاة معارضة الأوصياء، ورفضوا السماح له بمزيد من السلب للضيعة، ولكنهم لم
يُسلموا الأوصياء تقرير الحسابات الذي طلبوه؛ لأن عائدات عمليات البيع السابقة كانت
تحت تصرُّف عمي بالكامل، ومُجازة قانونًا كي تُتيح له العيش بما يتناسب مع مكانته
الاجتماعية. أما عن عيشه معيشةً ضنكًا بدلًا من أن يحيا حياةً رغدة، كما ادَّعى أوصيائي،
فهذا شأنه الخاص، حسب قول القضاة، وانتهى الأمر عند هذا الحد.
كرهني عمي كرهًا شديدًا بسبب هذه المعارضة لالتماسه الأخير، على الرغم من أنني
لم يكن لي ناقةٌ ولا جملٌ في هذا الأمر بالطبع. لقد عاش كالناسك، وأمضى معظم حياته
في المكتبة، وكان يقوم على خدمته رجل عجوز وزوجته، وكان هؤلاء الثلاثة هم السكان
الوحيدين لقصرٍيمكن أن يسع مائة. لم يكن يزور أحدًا، ولم يكن يسمح لأحد بالاقتراب
من قصر تشيزلريج. ولكي يُواصلَ كل من أتعسه الحظ بالتعامل معه تكبُّد العناء بعد
موته، ترك ما قد يُطلق عليه وصية، ولكن بالأحرى يمكن تسميتها رسالة لي. إليك نسخةً
منها.
عزيزي توم
سوف تجد ثروتك بين ورقتين في المكتبة.
عمك المحب
جينالد موران، إيرل تشيزلريج
«. أشكُّ في كونها وصيةً قانونية » :قلت
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.