karizmallnshroaltozi3

شارك على مواقع التواصل

تذوق معي ..

ماذا لو آخينا بين الشعر والحكي؟ بين ريشةِ القصّةِ وأنغامِ القصيدة؟ .. حلمٌ طالما راودني ولم أدْرِ بمَ أغزلُه ولا كيف أنسجُه .. فهما في النهايةِ كشاطئين يطلّان على جزيرةِ الأدب، لا يفصلهُما إلا بحرٌ هادئٌ رقيق، حاول بعضُ الأدباء أن يعبروه .. فمنهم من حدا به الشراعُ بعيداً، ليظلَّ تائهاً بين أمواجِ الخيال، ومنهم من هداه الطريق.
وكأني كنتُ ألقى هؤلاءِ وأولئك في طيّاتِ حُلمي، فكنتُ كمن لا يودّ أن ينتهي حلمُه الجميلُ، فيستفيق!
ثم راودني الحلمُ من جديد، فهمس في نفسي: ماذا لو ذيّلنا كلَّ قصّةٍ بقصيدة؟ فلا الأبياتُ تُثقلُ على غُصونِ الحكْي، ولا تكادُ القصّةُ تبلغُ تمامَها إلّا بنكهةٍ من قطوفِ الشِعْر .. فانتبهتُ، تُرى هل يتّسعُ السياقُ لمثلِ هذا الإيخاءِ، أم تُراهُ يضيق؟
للقصّةِ القصيرةِ نقطةُ تنوير، لقطةٌ من دراما الحياةِ يأسرها التصوير .. أما الشِعْر، فله منذ عهْد الخليلِ عَروضٌ وبحْر، ثم ما لبِثَ أن صار كطيرٍ حرّ، لا يلتزمُ أوزاناً ولا ينتصفهُ شطْر .. فاكتفى بكونه قطوفاً من بلاغةِ القول، له إيقاعٌ وتأثيرٌ عميق.
وفي يومٍ، كأن يمامةً حامتْ حول رأسي، ثم ضمّت جناحيْها فركنَت فوق كتفي، وبدا من عينيها بريق! .. فانسابت بقلبي حكاياتٌ تهفو وراءَها أبيات .. ومن حينها، وأنا أسعى لكي أبني بين الشاطئين ما يشبهُ الجسور، أو أصلَ بين البحرين بما يشبهُ المضيق!

فإليك وصالٌ أرجو أن يليق ..
في حضرة القلم
- تذكّر معي -

كان يوماً مرهقاً بحق .. يوماً يستحق بعد كل هذا اللهاث أن يستلقي على أريكته المفضلةِ في استسلامٍ وشرود، وصوتُ التلفاز يبعث حالةً من الأُنس تتيح لبعض الذكريات أن تُحلّق كفراشاتٍ عابثة حول رأسه الموجوع! .. وأخذ يسبحُ هائماً في بحيرةِ ذكرياته الخالية، بكل ما فيها من ماءٍ آسنٍ وجداولٍ رقراقة وشلالاتٍ هادرة .. فابتسم في أسف وهو يستعيد تلك الذكرى التي مازالت تؤرق منامه! حين لاحظت عيناه عدسةَ ذلك القلم المشاغب الذي طالما سمع عنه! رآه من خلف النافذة يتلصص بعدسته ليلتقط من خواطره وذكرياته ما تهيأ له! .. فاعتدل في جلسته، وهتف:
- من أنت؟ .. أقصد، ما هذا؟!
فاقترب رأس القلم من فُرجة النافذة، ليهمس بصوتٍ دافئ:
- من أنا؟! .. عجيب! حسبت أنك ستعرفني فور أن تلمحني خلف نافذتك .. أنا القلم، أنا المفتونُ بالتقاط عبيرِ الذكريات وتصويرِ مشاعر البشر! .. يمكنك أن تعتبرني ككاميراتِ الزمن أو عدساتِ القدر، أو كأظافرِ التاريخ وهي تخمشُ ظهر الأثر، أو كتجاعيدِ الوجوه ونقوشِ الحجر!
- لم أفهم ..!
فأدخل القلم رأسه أكثر، حتى لامس ستائر النافذة وهو يقول في حذر:
- أنا القلم، أنا الثرثار الذي لا يكفّ عن الحكْي .. عمّ أحكي؟! عنهم، عن مشاعرهِم، عن أعمقِ تجاربهِم، عن أثرى خبراتهم، عن أحداثٍ جالت بخواطرهِم وهم أمام موج البحر، أو على ذلك المقهى، أو تحت اللحافِ الدافئ بفراشهم! .. عن ذكرياتٍ عابرةٍ مرّت كفراشاتٍ لم يلحظها أحد .. إلا أن عدساتي لاحظت، فالتقطت وسجّلت، تماماً كما تلتقط أنفُك رائحةَ البخور .. الفارق بيننا أنك لا تبالي بما احترق بالمبخرة حتى تصلَك تلك العطور .. أما أنا، فأستتبع خيط الدخان، وأسافر وأدور، أُبحِر وسط المشاعر في الصدور، حتى أنسجَ من تلك اللقطاتِ حكاياتٍ، تحملها ألسنةُ الناس وأجنحةُ الطيور!
فاعتدل الرجل في جلسته، ثم قال في تهكّم:
- أنت إذن ذلك اللصّ الذي طالما حذرونا منه!
فاقترب القلمُ أكثر، وأجاب بصوته الهامس:
- أنا الطائرُ الحكّاءُ الشغوف .. أنا الفيلسوف! .. أنا إلهامُ الرواة وخزائنُ الحكايات، أنا النقوش على جدران المعابدِ والكهوف ..!
قالها ثم انتفض حين لاحظ تحفّز الرجل وهو يجلس على طرْف أريكته صائحاً:
- أياً كان ما تقول، كيف تسمح لنفسِك أن تقتحم مخيّلتي هكذا وتلتقط ما بدا لك؟! فلتغادرْ على الفور!
فتحرّك القلم على استحياءٍ إلى حيث الشرفة، لكنه توقّف حيث هو، فصاح به من جديد:
- انصرف، وإلا كشفتُ عن خواطرٍ في صدري ذات لهب، ستصهرُ سِنّك وتكسرُ عدستك!
فاختبأ القلمُ خلف ستارٍ يشِفّ ما خلفه .. فعاد الرجل إلى استرخائه على الأريكة، ثم همس:
- ما لك وخبايا نفسي وأحلام عمري! ما شأنك وذكريات أمسي وشِعاب صدري! لمَ تمضي بين النفوسِ هائماً، تصيد خواطرَ خرجت من بين ركامِ الذكريات قليلاً لتنتعش؟!
فأخرج القلمُ سنّه من خلف الستار في حذر، وانتظر قليلاً قبل أن يَخرجَ بكامله .. فتابع هو:
- ليكن في معلومِك أيها الحكّاءُ الثرثارُ أن من الخواطر والذكريات ما يصلح للحكْي، بينما منها ما يُعدّ كسائلِ الحياة، سلامُه أن يبقى هائماً داخل أوردته، فإن تَقررَ له الخروج، فلن يخرج إلا بجُرح، وكلُّ الجراح يعقبُها ألم..!
فظل القلمُ ثابتاً حيث هو في حذر، وانتظر قليلاً، حتى اطمأن لاسترخاءِ صاحبِه على الأريكة وقد عادت إليه بعضُ هبّاتِ الشرود .. فتحرّك القلم في خفّة، وأخذ يكتب وكأنه يتراقصُ على صفحاتِ الهواء .. وأخذ صاحبُه يقرأ ما يرتسم أمامه في جوّ الغرفة في شيءٍ من الفضول .. ولا يدري، هل كان مجردَ فضول حقاً، أم أنه شعر برغبةٍ في أن يستمع إلى ثرثرةِ ذلك القلم الذي طالما سمِع عن حكاياته؟! وراح يتابع قراءة ما ارتسم على صفحاتِ الهواء .. وهو يبتسم:


رحلوا كالرحيق .. عمراً كان ثم انقضى
أوَ نمحـــــو كالحريـــــــق .. كلَّ ذكراهم ســـــُدى!
وأنت! .. ما نفعُ ذكــراك لو راحــــــــــــت معــــــــــــك؟
أو َبعد أن زرعتَ الحياة .. تبغي الحصـــــــــادَ أن يتبعَـــــــك!
كلا فبعضُ الحصـــــاد ِرمــــــادٌ .. متـــــــاعٌ زال أو عَرضٌ هلـــــك
وبعضُ الحصـــــادِ مدادٌ .. لقلوبٍ تودّ أن تسمعَــــك
دعني أبُحِر في ماضيــــك .. وأنبشُ القــــاع لك
لعلّي أعثرُ على سرٍ تـــاه أو كنزٍ غرق
سأحكي لك عنهم كيف كانوا
ثم دعني أحكى ..
كيف كنت!

القلم وهو ...
القلم: ها قد وفيتُ بوعدي وحكيت، وعرضتُ لك ما طويتُه من مشاعرِهم وحويتُ، فهلّا وفّيتَ أنت بالوعد؟
هو: اصدقني أولاً قبل أن أسمحَ لك .. إلى من ستحكي ما علمتَه عنّي، وما لم أكشفُه لك بعد؟
القلم: إلى من حكيتُ لك عنهم، إلى الناس .. سأحكي لهم عن مشاعرِك، عن خبراتِ عمرِك وأدهى خواطرِك! .. ولا تقلق، فسأبدلُ لهم اسمك وكُنيتك، كأن أقولَ عنك نحسٌ بدلاً من سعد!
هو: كُفّ عن هذا المزاحِ والليّ، وإياك أن يدلَّ حكْيُك عليّ .. فلتقبل بشرطي أو فابتعد ..
القلم: هذا لك .. اكشف لي إذن من خباياك ما وسِعْتَ أنت لها، فضاقتْ هي بك! .. ادخلني مغاراتِك واتركني أأمنُ فيها، أو أرتعد ..
هو: إليك إذن، كلمةُ سري ومفتاحُ معابدي .. ستلقى هناك أشباحَ أفكاري وضبابَ شواردي .. فإن هالك شئٌ منها فلا تفزع وتنادي: سيدي! .. لتعُد منها وحدَك، أو لا تعُدْ .. فهي رحلتُك أنت، شغفُك أنت، لا شغفَ أحد .. أمازلتَ تراها لُعبةً تستحقُ العناء؟ أمّا أنا، فمازلتُ لا أعتقد..!
القلم: دعك مما تظنّ أو تفترض .. فالعناءُ ثمنُ البقاء، ومن لم يعانِ لم يستفد ..
هو: وما يُفيد مثلَك من الحكْي عن شجونِ البشر؟ إن كانت خبراتٌ أنت ناقلها، فما نفْعُك بما تصيد؟ وما ضرُّك إن لم تصد؟
القلم: عجباً! أوَ كُلّ خذْ يعقبُها هاتِ؟! فما نفعُ السحابِ بالمطر؟ وماذا يعود على الشمس والقمر؟ كل ما في الكون يعطي بسخاءٍ ولا ينتظر، ماعدا الإنسانُ؛ شحيحُ النفس، يدُمِنُ الحسد!
هو: صدقت .. أنت تعرف البشر جيداً أيها الـ .. الـ .. قلت لي ما أنت؟
القلم: أنا الأمينُ على ذاكرةِ الحياةِ، أنا مُتحفُ لوحاتِ القدر .. أرى الآن خواطر تنساب في هوائك، فاسمح لي الآن قبل أن تبتعد ..
هو: هي لك .. التقط منها ما راقَ لك، لكن من دون أنْ تسخرَ أو تنتقد ..
القلم: إذن دعني وأنت .. واسترخِ في شرودِك كما كنت .. أغمض عينيك، ودع رأسك الوئيدَ على الذكريات يستند .. تذكّر، استرجع، سافر ْعبر الزمانِ وعُدْ .. كلّ آذاني الآن تستمع، وكلّ عدساتي الآن، تستعد ..
* * *
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.