artherconan

شارك على مواقع التواصل

من بين كلِّ القضايا التي قُدِّمَتْ لصديقي السيد شيرلوك هولمز خلال سنوات صداقتنا
بحثًا عن حلول، ثَمَّةَ قضيَّتان فقط كنتُ أنا من لفتَ انتباهه إليهما: قضية إبهام السيد
هاذرلي، وقضية جنون الكولونيل ووربرتن. من هاتَين القضيتَين، ربما تكون الثانية قد
أتاحت لأي مُراقِبٍ مُبدع دقيق الملاحظة مجالًا أفضل لتوظيف مهاراته. أما القضية الأولى
فقد كانت بدايتها شديدة الغرابة، وتفاصيلها شديدة الإثارة لدرجةٍ قد تجعلها الأجدَرَ
بالتسجيل، حتى إن قَدَّمَتْ لصديقي هولمز فُرصًا أقل لتطبيق أساليب التفكير المنطقي
الاستدلالي التي حقَّق بها مثل هذه النتائج الرائعة. لقد رُوِيَت القصة، حسبما أعتقِد، أكثر
من مرَّة في الصحف، ولكن، مثلها مثل كل القصصالأخرى، كان وقْعُها عندما قُدِّمَت دَفْعةً
واحدة في نصف عمود مطبوع أقلَّ بكثيرٍ من وقعِها حينما تتكشَّف الحقائق تدريجيٍّا أمام
عينيك ويزول الغموض شيئًا فشيئًا؛ حيث يُمهِّد كل اكتشافٍ جديد خطوة على الطريق
نحو الحقيقة الكاملة. في ذلك الوقت كان للظروف وقْع شديد على نفسي، ولم يُسهِم كثيرًا
انقضاء عامين في إضعاف تأثيرها عليَّ.
وقعَتِ الأحداث التي أنا بصدَدِسردِها الآن بإيجازٍ فيصيفعام ١٨٨٩ ، ليسبعد فترة
طويلة من زواجي. كنتُ قد عدتُ للعمل المدَني بعد أن فارقتُ هولمز أخيرًا وهجرتُ الحياة
معه في مسكنه في شارع بيكر، ولكنني كنتُ أزوره باستمرار، بل أقُنِعه أحيانًا بأن يتخلَّى عن
عاداته البوهيمية إلى حدِّ قدومه لزيارتنا. زاد عملي باطِّراد، وبما أنَّني كنتُ أعيشعلى مسافةٍ
ليست ببعيدة عن محطة بادينجتون، فقد كان يأتيني عدد قليل من المرضىمن الموظفين.
لم يَكِلَّ أحد هؤلاء المرضى، والذي كُنْتُ قد عالجتُه من مرضٍطويلٍ ومؤلم، من نشرمناقِبي،
ولا من السَّعي في إرسالي إلى كلِّ مريضقد يكون لذلك الشخصشيء من التأثير عليه.
مغامرة إبهام المهندس
في صباح أحد الأيام، قبل الساعة السابعة بقليل، استيقظتُ على صوت طرْقِ الخادمة
على الباب لتُعلن قدوم رجُلَين قد أتَيا من بادينجتون وينتظران في غرفة الفحص. ارتديتُ
ملابسيبسرعة وهُرِعت إلى الطابق السُّفلي، إذ كنتُ أعلم من واقِع التجربة أن الحالات التي
تأتي من تلك المحطة نادرًا ما تكون بسيطة. عندما نزلت، خرج صديقي القديم، حارس
القطارات، من الغرفة وأغلق الباب خلفه بإحكام.
«. لقد أتيتُ به إلى هنا؛ إنه على ما يُرام » : همس وهو يُشير بإبهامه فوق كتفِه قائلًا
هكذا سألته؛ إذ كانت طريقته تُوحي بأنه يحتجِز مخلوقًا غريبًا في «؟ ما الأمر إذن »
غرفتي.
إنه مريضجديد، فكرت في أن أحُضِره إلى هنا بنفسي؛ وبذلك لن يتمكَّن » : همسقائلًا
من الهرَب. وها هو سليمٌ ومعافىً تمامًا. لا بدَّ أن أذهب الآن أيُّها الطبيب، فلديَّ عمل لأقوم
وذهب في الحال هذا المُرَوِّج الموثوق فيه دون حتى أن يمنحني الوقت «. به، مثلك تمامًا
لأشكُره.
دخلت غرفة الفحصووجدتُ رجلًا يجلس بجانب الطاولة. كان يرتدي بذلةً بسيطة
من صوف التويد ذي الألوان المُختلطة، وقُبَّعة من القماش الناعم كان قد وضعها فوق
كُتبي، وكان ملفوفًا حول إحدى يدَيه منديلٌ ملطَّخٌ ببُقَعٍ من الدم. كان شابٍّا، أكاد أجزِم أن
عُمره لا يزيد على خمسٍ وعشرين سنة، ذا وجهٍ ذكوري قوي؛ ولكنه كان شديد الشحوب،
وأعطاني إيحاءً بأنه يُعاني من اضطرابٍ شديد استنزف الشابُّ كلَّ قُواه الذهنية ليُسيطر
عليه.
أنا آسف لإيقاظك في وقتٍ مُبكِّر كهذا أيها الطبيب، ولكنني تعرضتُ لحادثٍ » : قال
خطير للغاية ليلًا. لقد جئتُ بالقطار هذا الصباح، وبعدما سألتُ في بادينجتون عن مكانٍ
قد أجد فيه طبيبًا، تكرَّم أحد الرجال المُحترمين باصطحابي إلى هنا. لقد أعطيتُ الخادمة
«. بطاقة، ولكنني أرى أنها قد تركتْها على الطاولة الجانبية
السيد فيكتور هاذرلي، » : أخذتُ البطاقة وألقَيتُ عليها نظرة. كان مكتوبًا عليها
كان هذا هو اسم «. مهندس هيدروليكي، ١٦ أ شارع فيكتوريا ستريت، الطابق الثالث
أعتذِر إليك » : زائري الصباحي ومِهنته وعنوانه. حدَّثتُه قائلًا وأنا أجلس على مقعد مكتبي
عن الوقت الذي انتظرتَني فيه. يبدو أنك قد عُدتَ لتوِّك من رحلة ليلية. أتفهَّم هذا. وهو في
«. حدِّ ذاته أمر رتيب
ثم ضحك. ضحك «. أوه، لا يُمكنني وصفُ ليلتي، التي قضيتُها، بالرَّتابة » : ردَّ قائلًا
ضحكًا شديدًا بنغمةٍ عالية رنَّانة وهو يُرجِع ظهره إلى الخلف ويهزُّ جانبَيه. أثارت هذه
ثم صبَبْتُ «! توقف! تمالك أعصابك » : الضحكة حفيظةَ كلِّ غرائزي الطبية، فصحتُ قائلًا
له بعضالماء من الإبريق.
ولكن مُحاولتي لتهدئتِه باءت بالفشل، فقد انفجر في واحدة من النوبات الهستيرية
التي تصيب الأشخاص أصحاب الطبيعة النفسية القوية بعد مرورهم بأزمةٍ كبيرة
وانتهائها.سرعان ما عاد لطبيعتِهِ مرة أخرى، وبدا كما كان؛ مُنهَكًا وشاحبًا للغاية.
«. لقد جعلتُ من نفسي أضحوكة » : شهق قائلًا
صببتُ بعض البراندي في الماء، فبدأتْ حُمرة الدماء تعود «. على الإطلاق، اشرب هذا »
لوجنتَيه الشاحبتَين.
هذا أفضل! والآن أيها الطبيب، أتمنَّى أن تتكرَّم بالعناية بإبهامي، أو على » : قال
«. الأرجح بالموضع الذي طالما كان فيه إبهامي
فكَّ المنديل من فوق الجُرْح ومدَّ يده. وعلى الرغم من قوَّةِ أعصابي، فقد أصابَني
منظره بالقُشَعْريرة. كانت تُوجَد أربع أصابع بارزة وسطح أحمر إسفنجي بَشِع المنظر
بدلًا من الإبهام، الذي يبدو أنه قد بُتِرَ أو اقتُطِعَ من جُذوره.
«! يا إلهي! هذا جُرح فظيع! لا بدَّ أنه نزَفَ الكثير من الدماء » : صحتُ قائلًا
أجل، هذا صحيح. لقد فقدْتُ الوعي عندما قُطِعَ، وأعتقِد أنَّني ظللتُ فاقدًا الوعي »
لوقتٍ طويل. عندما أفقتُ وجدتُه لا يزال ينزف؛ لذا ربطتُ أطراف منديلي حول معصمي
«. بإحكامٍ ثُمَّ استخدمتُ غُصَيْنًا كدعامة
«. ممتاز! كان يجِب أن تصير جرَّاحًا »
«. إنها مسألة هيدروليكية كما ترى، وهو تخصُّصي »
«. لقد أحدثتْ آلةٌ حادَّة وثقيلة للغاية هذا الجُرح » : قلتُ وأنا أفحصالجُرح
«. إنهشيء يُشبِهُ الساطور » : ردَّ قائلًا
«؟ حادثٌ حسبما أعتقِد. أليس كذلك »
«. لا، مُطلقًا »
«؟ ماذا! هجومٌ دامٍ إذن »
«. شديد الدموية بالفعل »
«. إنك تُرعِبني »
أزلتُ الدماء من فوق الجرح ونظَّفتُه ووضعتُ عليه شاشًا ثم غطَّيته أخيرًا بقِطعة
من القُطن وضمَّادةٍ مُطهِّرة بالفينول. كان مُستلقيًا دون أن يَرمُش له جفن، ولكنه كان
يَعَضُّعلى شفتَيه ألمًا بين وقتٍ وآخَر.
«؟ كيف تشعُر » : سألته عندما انتهيت
ممتاز! بعد البراندي والضمادَّات أشعُر كأنني إنسان جديد! لقد كنتُ واهنًا للغاية، »
«. ولكنني تعرَّضتُ للكثير من الصعاب
«. ربما من الأفضل ألا تتحدَّث عن الأمر؛ فمن الواضح أنه يُتعِب أعصابك »
أوه لا! ليس الآن. يجِب أن أبُلغ الشرطة بحكايتي، ولكن لا أخفيك سرٍّا، لولا هذا »
الجرح الذي يُمثِّل دليلًا مُقنعًا كنت سأندهشإنصدَّقوا روايتي؛ فهي شديدة الغرابة وليس
لديَّ الكثير من الأدلَّة لتدعمها. وحتى إن صدقوني، فالقرائن التي يُمكنني أن أقدِّمها لهم
«. غامضة للغاية، حتى إنَّ تطبيق العدالة سيصير أمرًا محلَّ شك
ها! إن كان الأمر له طابع المشكلة وترغب في حلِّها، فأنصحك بشدَّة » : صحت قائلًا
«. بأن تأتي لزيارة صديقي السيد شيرلوك هولمز قبل أن تتوجَّه إلى الشرطة
أوه، لقد سمعتُ عن هذا الرجل، وسأكون سعيدًا للغاية إن قبل تولِّي » : ردَّ زائري قائلًا
«؟ الأمر، رغم أنه يجِب أيضًا أن ألجأ إلى الشرطة الرسمية. هل يُمكنك أن تُخبرني نُبْذة عنه
«. سأفعل ما هو أفضل، سأصطحبك إليه بنفسي »
«. سأكون في غاية الامتنان لك »
سنطلب عربة أجرة ونذهب سويٍّا؛ سنصل في الوقت المناسب تمامًا لتناول وجبة »
«؟ إفطار خفيفة معه. هل أنت قادر على ذلك
«. أجل؛ لن أشعُر بالراحة حتى أقُصَّحكايتي »
هُرِعت إلى الطابق «. سيطلُب خادمي عربة أجرة إذن، وسأكون معك بعد لحظة »
العلويِّ وشرحت الأمر بإيجاز لزوجتي، وفي غضون خمس دقائق كنتُ داخل عربة أجرة
يجرُّها حصان مع رفيقي الجديد في طريقنا إلى شارع بيكر.
كما توقعت، كان شيرلوك هولمز يجلسمُسترخيًا في غرفة جلوسه يقرأ عمود مشكلات
القرَّاء بجريدة ذا تايمز وهو يرتدي روبه ويُدخِّن غليونه الروتيني قبل الإفطار، وهو غليون
يتكوَّن من بواقي تبغ اليوم السابق الذي يُجفِّفه ويجمعه بحرصٍويضعه في ركنٍ على رفِّ
الموقد. استقبَلَنا بأسلوبه الهادئ اللطيف، وطلب إعداد شرائح من لحم الخنزير والبيض،
وشاركنا تناول تلك الوجبة الدسمة. بعد انتهائنا من الإفطار، هيَّأ لرفيقنا الجديد جِلْسةً
مُريحة على الأريكة، واضعًا وسادة تحت رأسه وكأسًا من البراندي والماء في مُتناول يدِه.
من السهل رؤية أن التَّجْرِبة التي مررْتَ بها لم تكن عاديَّة يا سيد » : قال شيرلوك
هاذرلي. أرجوك استلقِ هناك واعتبِر نفسك في بيتك تمامًا. أخبرنا بقدْر ما تستطيع، ولكن
«. توقَّف عندما تشعُر بالتعب، وحافظ على قوتك باحتساء القليل من هذا المُنَبِّه
أشكرك، ولكنني أشعُر كأنَّني إنسان جديد منذ أن ضمَّد الطبيب » : ردَّ مريضيقائلًا
جُرحي، وأعتقد أن إفطارك قد أتمَّ شفائي. سآخُذ من وقتك الثمين أقلَّ قسطٍ ممكن؛ لذا
«. سأبدأ على الفور بسرْد تَجْرِبتي الغريبة
جلس هولمز في مقعده الكبير وقد ارتسم على وجهه ذلك التعبير المُرهَق الناعِس الذي
يُخفي طبيعته المُتحمِّسة المُتَّقِدة، بينما جلستُ أمامه، واستمعنا بإنصاتٍ إلى القصة الغريبة
التيسرد لنا زائرنا تفاصيلها.
لا بدَّ أن تعرفوا أنَّني يتيم وعَزَب أعيش وحدي في مسكنٍ » : استهل قصته قائلًا
مُستأجَر في لندن. أعمل مهندسًا هيدروليكيٍّا، وقد اكتسبتُ خبرةً كبيرة في هذا المجال خلال
السنوات السبع التي كنتُ أعمل فيها تحت التدريب فيشركة فينر آند ماثيسُن المعروفة في
جرينيتش. بعد أن أتممتُ فترة عملي تحت التدريب منذ عامين. وبعدما ورثتُ قدرًا لا بأس
به من المال بعد وفاة أبي المسكين، قررتُ أن أبدأ عملي الخاصَّواستأجرتُ شقةً مكتبية في
شارع فيكتوريا ستريت.
أعتقد أن الجميع يجدون انطلاقتهم الأولى المُستقلَّة في عالم الأعمال تجربة بائسة.
بالنسبة إليَّ كانت بائسة بصورةٍ غير عادية؛ فخلال عامين لم أستقبل إلا ثلاث استشارات
ومشروعًا واحدًا صغيرًا، وهذا هو كلُّ ما جلبتْهُ لي مِهنتي. بلَغَ إجمالي إيراداتي ٢٧ جنيهًا
إسترلينيٍّا و ١٠ شلنات. كنتُ أظلُّ مُنتظرًا في مقرِّي الصغير يوميٍّا من التاسعة صباحًا إلى
الرابعة مساءً، وأخيرًا بدأ القُنُوط يستولي على قلبي، وصرتُ أعتقد أنه لم يكن يجدُر بي أن
أبدأ عملي الخاصمن الأساس.
لكن أمس بينما كنتُ أفكِّر في مُغادَرة المكتب، دخل مُساعدي ليُخبرني أن ثَمَّ رجلًا
ينتظرني ويرغب في رؤيتي ليُناقِش مسألة عمل، وقدَّم لي بطاقةً منقوشًا عليها اسم
دخل في عقِب مساعدي مباشرة الكولونيل نفسه؛ كان رجلًا .« الكولونيل ليساندر ستارك »
طوله فوق المتوسط، ولكنه شديد النحافة. لا أعتقد أنني قد رأيتُ رجلًا بمِثل هذه النحافة
مُطلقًا من قبل. بدا وجهه وكأنه اختُزِل في أنفٍ وذقن، وكان جلد وجنتَيه مشدودًا للغاية
على عظامه البارزة. وعلى الرغم من ذلك، فقد بدا أن هذا النُّحول هو طبيعته الأصلية،
وليس بسبب مرضٍ ما، إذ كان لامع العينَين، رشيقَ الخُطى، واثِق السَّمت. كان يرتدي
ملابس بسيطة، ولكنه حسَن الهندام، وكان عمره — في تقديري — أقرب إلى الأربعين من
الثلاثين.
هل أنت السيد هاذرلي؟ لقد رُشِّحتَ لي يا سيد » : بادَرَني بشيءٍ من اللهجة الألمانية قائلًا
«. هاذرلي، ليس فقط لكونك بارعًا في مِهنتك، بل كتومًا وحافظًا للسِّرِّ أيضًا
هل » : كأيِّ شابٍّ في موقفٍ مُشابِهٍ انحنيتُ شاكرًا وأنا أشعُر بالإطراء لِما قاله. وسألته
«؟ لي أن أسأل مَن الذي وصفَني بهذه الصِّفات الحميدة
حسنًا، ربما من الأفضل ألَّا أخُبرك بذلك حاليٍّا. لقد عرفتُ من المصدر » : فردَّ قائلًا
«. نفسه أنك يتيم وعَزَب، وأنك تُقيم وحدَك في لندن
هذاصحيح تمامًا، ولكن عذرًا، أنا لا أعلم ما هيصِلة كلِّ هذا بمُؤهِّلاتي » : أجبتُه قائلًا
«؟ الِمهنيَّة. كنتَ ترغبُ في التحدُّث معي بخصوصمسألةٍ تتعلَّق بالعمل كما أفهم. صحيح
بلا شك، ولكنك ستجِد أن كلَّ ما أقوله وثيق الصِّلة بصُلب الموضوع. لديَّ عمل لأوكله »
إليك، ولكنَّ السِّرِّيَّة التَّامَّة ضروريَّة جدٍّا؛ السِّرِّيَّة التَّامَّة، كما تفهم. وبالطبع نحن نتوقَّع
«. توافُر ذلك في رجلٍ يعيش وحده مُقارنة بمن يعيش في كنَفِ عائلته
«. إذا قطعتُ وعدًا بأن أحفظسرٍّا، فاطمئنَّ تمامًا أنَّني سأحفظه » : أجبتُه قائلًا
كان ينظر إليَّ بحدَّة شديدة وأنا أتحدَّث، وبدا لي أنَّني لم أشُاهِد هذا القدْر من التشكُّك
والتساؤل في عَين أيِّ شخصٍمن قبل.
«؟ هل تعِدُني إذن » : ردَّ أخيرًا
«. أجل، أعِدُك »
تعِدُني بالسِّرِّيَّة التَّامَّة والمُطلَقة قبل المهمَّة وأثناءها وبعد الانتهاء منها، وبألا تذكُر »
«؟ الأمر لا من قريب ولا من بعيد لا كتابة ولا شفاهة
«. لقد قطعتُ عهدًا لك بذلك بالفعل »
ثم نهض فجأة وانطلق كالبرْق عبر الغُرفة وفتح الباب على «. جيد جدٍّا » : ردَّ قائلًا
مصراعيه. كان الممرُّ بالخارج خاليًا.
كل شيء على ما يُرام. أعلم أن المُوظَّفين يتملَّكهم » : قال وهو يَدْلُف داخلًا مرة أخرى
سحب مقعده «. الفضول أحيانًا لمعرفة شئون رؤسائهم، ولكن الآن يُمكننا التحدُّث بأمان
بالقُرب منِّي جدٍّا وبدأ يُحدِّق فيَّ مجدَّدًا بالنظرة الفاحِصة المُتسائلة نفسها.
بدأ شعور بالنفور وشيء من الخوف يتنامى داخلي بسبب السلوكيَّات الغريبة لهذا
الرجل النحيل، وحتى خَوفي من خسارة عميل لم يمنَعْني من التعبير عن نفادِ صبري.
ليُسامحني الرَّبُّ على «. أخبِرْني بما تُريد يا سيدي من فضلك؛ إن وقتي ثمين » : فقلت
هذه العبارة الأخيرة، ولكنَّني قلتُها دون تفكير.
«؟ هل يُناسِبك خمسون جنيهًا للعمل في الليلة » : سألني قائلًا
«. يُناسِبني جدٍّا »
أقول إن المبلغ هو لقاء العمل في ليلةٍ واحدة، ولكنه، بتعبيرٍ أدقَّ، سيكون لقاء العمل »
في ساعةٍ واحدة. أحتاج ببساطةٍ إلى مشورتك بشأن ماكينة دمغ هيدروليكيَّة قد أصابها
عطل. إذا وضعْتَ يدك على المُشكلة، فسيُمكننا أن نُصلِحها بأنفسنا، فما رأيك في مثل هذه
«؟ المهمَّة
«. يبدو أنه عمل سهل والأجر لقاءه سخيٌّ »
«. بالضبط. نرغب في أن تأتي الليلة مُستقلٍّا آخر قطار »
«؟ إلى أين »
إلى آيفورد في بيركشير. إنه مكان صغير بالقُرب من حدود أكسفوردشير، وعلى بُعد »
سبعة أميال من ريدينج. ينطلِق قطار من بادينجتون سيوصلك إلى هناك في حوالي الحادية
«. عشرة والربع
«. جيد جدٍّا »
«. سآتي في عربة لاستقبالك »
«؟ إذن، هل يعني هذا أنَّنا سنقطع مسافةً كبيرة لنصِل »
أجل، يقع مكاننا الصغير في منطقة ريفية بعيدة إلى حدٍّ ما. إنه على بُعد سبعة أميال »
«. من محطة آيفورد
إذن لن نصِل هناك قبل مُنتصف الليل. أعتقِد أنه لن تكون هناك فرصة للعودة »
«. بالقطار. سأكون مُجبرًا على قضاء الليلة هناك
«. أجل، يُمكِننا أن نُدبِّر لك فراشًا للنوم بكلِّ سهولة »
«؟ هذا غريب جدٍّا. ألا يُمكنني أن آتي في وقتٍ أكثر مُلاءمة »
لقد رأيْنا أنه من الأفضل أن تأتي في ساعةٍ مُتأخِّرة. ولكي نُعوِّضك عن أيِّ مصاعِب، »
سندفع لشابٍّ غير معروف مثلك هذا الأجر الذي يُمكننا دفعه لاستشارة كبار الخُبراء في
مِهنتك. ولكن بالطبع إذا كنتَ ترغبُ في الانسحاب من هذه المهمَّة، فهناك مُتَّسع من الوقت
«. لذلك
لا، إطلاقًا، سأكون » : فكرتُ في الخمسين جنيهًا وكم ستكون مُفيدة جدٍّا لي، فقلت له
في غاية السعادة أن أوُفِّق أموري طبقًا لرغباتك. ولكنني أودُّ أن أفهم بصورةٍ أوضح، ما
«. الذي تُريدُني أن أفعله
بالتأكيد. من الطبيعيِّ تمامًا أن يُثير فضولَك طلبُنا بالتعهُّد بالسِّرِّيَّة. لا رغبة لديَّ في »
أن أفرضعليك أيَّ شيءٍ دون أن تكون كلُّ الأمور واضحةً أمامك. أعتقد أننا في أمانٍ تامٍّ
«؟ من مُسترِقي السمع. صحيح
«. أجل، في أمانٍ تام »
حسنًا، الموضوع كما يلي؛ أنت تدري على الأرجح أن مادة تُراب القصَّار مُنتَجٌ قيِّم، »
«؟ وأنه غير موجود إلَّا في مكانٍ واحدٍ أو اثنين فقط في إنجلترا. أليس كذلك
«. لقد سمعتُ بالأمر »
اشتريتُ مكانًا صغيرًا منذ وقتٍ قصير؛ مكانًا صغيرًا جدٍّا، على بُعد عشرة أميال »
من ريدينج. كنتُ محظوظًا بما يكفي لأكتشف وجود مخزونٍ من تُراب القصَّار في أحد
حقولي. ولكن بعدما فحصته، وجدتُ أنَّ كمية هذا المخزون كانت قليلةً نسبيٍّا، وأنها قد
اتَّصلتْ بكمِّيَّتَين أخُريَين كبيرتين جدٍّا إلى اليمين واليسار، لكن كلتيهما كانتا تقعان في أرض
جيراني. هؤلاء الجيران الطيبون جاهلون تمامًا بأن أرضهم تحتوي على مثل هذا المخزون
الذي يُضاهي في قيمته منجمًا للذهب. كنتُ بطبيعة الحال مُهتمٍّا بأن أشتري أرضهم قبل
أن يكتشفوا قيمتها الحقيقية، ولكن للأسف لم يكن لديَّ ما يكفي من رأس المال لشرائها.
عندما أطلعتُ القليل من أصدقائي على السِّرِّ، اقترحوا أن نستخرج مخزوننا الضئيل في
هدوءٍ وسرِّيَّة ونبيعه لنحصُل على المال الذي سيُمكِّننا من شراء الحقول المُجاوِرة. وهذا
هو ما ظللْنا نفعله لبعض الوقت، وأقمْنا مكبسًا هيدروليكيٍّا ليُساعدنا في هذه العملية.
هذا المكبس، كما سبق أن شرحتُ لك، قد تعطَّل عن العمل، ونرغب في استشارتك بشأن
هذا، ولكننا نُحافظ على سرِّنا بحرصٍ شديد، ومن ثَمَّ، لو علِم أحد بقدوم مهندسين
هيدروليكيِّين إلى منزلنا الصغير، فسيُثير الأمر الشكوك على الفور، ولو خرجتِ الحقيقة
إلى النور، فستكون تلك هي نهاية أيِّ أملٍ لنا في الحصول على هذه الحقول وتنفيذ ما قد
خططنا له. لذلك جعلتك تقطع وعدًا لي بأنك لن تُخبر أي شخصٍبذهابك إلى آيفورد الليلة.
«؟ هل كلُّشيءٍ واضح الآن
أفهمك تمامًا. النقطة الوحيدة التي لم أتمكَّن من فهمها بالكامل هي » : فأجبته قائلًا
جدوى استخدام مكبس هيدروليكي في استخراج تُراب القصَّار الذي، كما أفهم، يُمكِن
«. استخراجه كما يُستخرَج الحصىمن حفرة
أوه! لنا طريقتُنا الخاصة؛ إذ إننا نضغط التربة حتى تتشكَّل » : ردَّ بلا مُبالاة قائلًا
على هيئة قوالب من الطوب بحيث يُمكننا نقلُها دون أن تنكشِف حقيقتُها. ولكن هذه
مجرَّد تفاصيل لا تهمُّ. إنني ائتمنتُك على سرِّي الآن يا سيد هاذرلي، ولقد أثبتُّ لك مدى
سأنتظرك إذن في آيفورد في الحادية عشرة » : نهضوهو يستكمِل حديثه قائلًا «. ثِقتي فيك
«. والربع
«. سأكون هناك بالتأكيد »
رمَقَني بنظرةٍ مُتشكِّكة «. أذكِّرك ألا تنبس ببنت شفةٍ عن الأمر أمام أي مخلوق »
طويلة وأخيرة، ثم صافَحَني ضاغطًا على يدي بقبضةٍ باردة رطبة، وخرج مُسرعًا من
الغرفة.
حسنًا، عندما أعدتُ التفكير في الأمر بهدوء، ذُهِلتُ كثيرًا، كما قد تعتقدان، لهذه المهمة
المفاجئة التي ائتُمِنتُ عليها. فمن ناحيةٍ كنت مسرورًا بالطبع لأن الأجر كان يفوق، عشر
مرَّات على الأقل، ما كنتُ سأطلبه لو كان لي أن أحُدِّد سعرًا لخدماتي، وكان من المُحتمَل
أن تجلُب لي هذه المهمَّة مهامَّ أخرى. ولكن من ناحيةٍ أخرى، ترك وجه عميلي وسلوكه
انطباعًا سيِّئًا في نفسي، ولم أقتنِع أنَّشرحه لمسألة تُراب القصَّار كان كافيًا لتفسيرضرورة
قدومي في مُنتصف الليل، إلى جانب قلقه الشديد من أن أخُبِر أي شخصٍعن مهمَّتي. ومع
ذلك، فقد طرحتُ كلَّ مخاوفي جانبًا، وتناولتُ عشاءً دسمًا، وذهبتُ إلى بادينجتون، وبدأتُ
رحلتي ملتزمًا تمامًا بتحذيره من أن أخُبر أحدًا عن الأمر
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.