artherconan

شارك على مواقع التواصل

في ريدينج، كان عليَّ أن أغُيِّر ليس فقط عربتي، بل المحطة أيضًا. وعلى الرغم من ذلك،
وصلتُ في الوقت المناسب واستقللتُ آخِر قطارٍ مُتَّجهٍ إلى آيفورد، ووصلتُ المحطة الصغيرة
ذات الإضاءة الخافتة بعد الحادية عشرة. كنتُ أنا الراكب الوحيد الذي نزل في تلك المحطة،
وخلا رصيف المحطة إلا من حَمَّالٍ واحدٍ ناعسٍ يُمسك بفانوس. ولكن بينما كنتُ أعبر
البوابة الصغيرة وجدتُ رفيقي الذي تعرَّفتُ عليه صباحًا ينتظرني في الظلام في الجهة
المُقابِلة. أمسكَ بذراعي دون أن ينطق كلمةً واحدة وأسرع بي نحو العربة التي كان بابها
مفتوحًا بالفعل. أغلق النوافذ الموجودة على الجانبَين، ودقَّ على الجُزء الخشبي من العربة،
«. فانطلقْنا بأقصىسُرعة مُمكنة للفرَس
«؟ فرس واحد » : قاطَعَه هولمز قائلًا
«. أجل، واحد فقط »
«؟ هل لاحظتَ لونَه »
«. أجل، لقد رأيتُه من خلال الأضواء الجانبية بينما كنتُ أستقلُّ العربة؛ كان كستنائيٍّا »
«؟ هل كان يبدو مُتعبًا أم نشيطًا »
«. أوه، لقد كان نشيطًا ولامعًا »
«. أشكرك، أعتذِر عن مُقاطعتك. استكملْ روايةَ قصتك المُثيرة أرجوك »
انطلقْنا في رحلتنا التي استغرقتْ ما لا يقلُّ عن ساعة. كان الكولونيل ليساندر »
ستارك قد قال إنَّ وِجهتنا على بُعد سبعة أميالٍ فقط، ولكن نظرًا إلى المُعدَّل الذي كنَّا نسير
به والوقت الذي استغرقْناه أعتقد أنها كانت تبعُد — بالتأكيد —حوالي اثني عشرميلًا. كان
يجلس بجانبي في صمتٍ تامٍّ طوال الوقت، وقد لاحظتُ أكثر من مرةٍ عندما كنتُ أسترِق
النَّظر ناحيته أنه كان ينظُر إليَّ بتركيزٍ وحِدَّة شديدَين. بدا أن الطُّرق الريفية ليست بحالةٍ
جيدة في ذلك الجزء من العالم؛ إذ إنَّنا كنَّا نتمايل ونهتزُّ بشدة. حاولتُ أن أنظر من النوافذ
لأرى شيئًا يُميِّز موقعنا، ولكنها كانت مصنوعة من الزجاج المُسنفر، فلم أستطع تمييز
أيِّ شيءٍ عدا الومضات الساطعة لأضواءٍ عابرة. كنتُ أغامر بين حينٍ وآخر بإطلاق بعض
التعليقات لكسْر رتابة الرحلة، ولكن ردود الكولونيل كانت شديدة الاقتضاب، وسرعان ما
ذَوِيَ الحديث تمامًا. ولكن أخيرًا، تبدَّلت الاهتزازات الحادَّة للطريق بالتمايُل السَّلِس لمَجَاز
زَلَطِي، إلى أن توقَّفَتِ العربة. نهضالكولونيل ليساندر ستارك خارجًا من العربة، وبينما
كنتُ أتبعُه، جذَبَني بسرعةٍ نحو رُوَاق كان أمامنا مُباشرة، وكأنَّنا قد خرجْنا من العربة
وخطَوْنا داخل الرُّوَاق مُباشرة، حتى إنني فشِلتُ في أن ألتقط نظرةً خاطفة على الجزء
الأمامي من المنزل. وبمجرَّد أن تجاوزتُ عتبة الباب، أغُلِقَ الباب خلفي بعُنف، وبالكاد
سمعتُ قعقعةَ العجلات بينما كانت العربة تنطلِق بعيدًا.
كان الظلام حالكًا داخل المنزل، وراح الكولونيل يتحسَّس خطواته بحثًا عن أعواد
الثقاب وهو يغمغم بكلمات. فجأة، انفتح باب في نهاية الجهة الأخرى من الممرِّ وانبثقت منه
حزمة طويلة من الضوء الذهبي في اتِّجاهنا. اتَّسعت حزمة الضوء أكثر، ثم ظهرت امرأة
تحمِل مصباحًا في يدها، كانت تُمسك به فوق رأسها، وكانت تمدُّ وجهها للأمام وتُمعِن
النظر فينا. كان بإمكاني ملاحظة أنها كانت جميلة، وعرفتُ من لمَعان ردائها الداكن الذي
انعكس الضوء عليه أنه كان مصنوعًا من خامة فاخرة. قالت بضعَ كلماتٍ بلغةٍ أجنبية
ونبرة تُوحي بأنها تطرح سؤالًا، وعندما أجاب رفيقي في فظاظةٍ بكلمة واحدة جفلت بشدَّة
حتى كاد المصباح يسقط من يدها. مشىالكولونيل ستارك نحوَها، وهمس بشيءٍ في أذُنها،
ثم دفعها نحو الغرفة التي كانت قد خرجتْ منها، وسار نحوي مرةً أخرى وهو يحمِل
المصباح في يده.
هلَّا تكرَّمتَ بالانتظار في هذه الغرفة لبضع » : قال لي وهو يفتح بابًا آخَر على مصراعيه
كانت غرفةًصغيرة هادئة ذات أثاثٍ بسيط، وطاولة مُستديرة في منتصفها مُبعثَر «؟ دقائق
عليها العديد من الكتب الألمانية. وضع كولونيل ستارك المصباح فوق آلة هارمونيوم بجانب
ثم اختفى في الظلام. «. لن أبُقيك مُنتظرًا طويلًا » : الباب، وقال
ألقيتُ نظرةً سريعة على الكتب المُلقاة على الطاولة. وعلى الرغم من جهلي باللغة
الألمانية، استطعتُ أن أمُيِّز أنَّ اثنين منها كانا دراساتٍ حول العلم، أما الكتب الأخرى فقد
كانت مُجلَّدات شِعريَّة. سرتُ بعد ذلك نحو النافذة آمِلًا أن ألمح شيئًا من الريف، ولكنَّني
وجدتُ عليها شُبَّاكًا من البلُّوط مُغلقًا بإحكام شديد. كان منزلًا مُدهِش الهدوء؛ كان كلُّ
شيءٍ غارقًا في سكون تامٍّ لا يقطعُه إلا دقَّاتٌ عالية صادِرة من ساعةٍ قديمة في مكانٍ ما
في المَمر. بدأ شعور غامض بعدَم الارتياح يتملَّكني؛ مَن هؤلاء الألمان؟ وماذا يفعلون وهم
يعيشون في هذا المكان الغريب النائي؟ أين يقع هذا المكان أصلًا؟ لقد كنتُ على بُعد عشرة
أميال تقريبًا من آيفورد. هذا هو كل ما كنتُ أعرفه، ولكنني لم أكن أعلم ما إن كان يقَع
شمالًا أم جنوبًا؛ شرقًا أم غربًا. لكن مدينة ريدينج، وربما مُدن كبيرة أخرى، كانت تقع
ضِمن ذلك النطاق؛ لذا فقد لا يكون المكان نائيًا تمامًا على أيِّ حال. ومع ذلك، فقد كان
الهدوء المُطبِق يؤكِّد بما لا يدع مجالًا للشكِّ أننا كنَّا في الريف. ذرَعتُ الغرفة ذَهابًا وإيابًا
وأنا أدُندِن لحنًا بصوتٍ خفيضحتى أحُافظ على معنوياتي وأفكر في أنني بصدَد الحصول
على الخمسين جنيهًا كاملة.
فجأة، وبدون أي صوتٍ مُسبق وسط هذا الصمت المُطبِق، انفتح باب غرفتي ببطء.
أطلَّت المرأة من الجزء المفتوح من الباب غارقةً في ظلام الردهة خلفها، والضوء الأصفر
المُنبعِث من مصباحي يُضيء وجهها الجميل المُتلهِّف. أدركتُ في نظرةٍ خاطفة أنها كانت
خائفة بشدَّة، وسَرَتْ رعدةٌ في جسدي عند رؤيتها على تلك الحال. رَفَعَت إصبعًا واحدةً
مُرتعِشة لتُحذِّرني بأن أبقى صامتًا، وهمستْ إليَّ ببعض الكلمات الإنجليزية الركيكة
وعيناها تنظُرانسريعًا إلى الظلام خلفها كعينَي فرسٍ وجِلة.
سأذهب، سأذهب. يجِب » : قالت وهي تحاول جاهدة، كما بدا لي، أن تتحدَّث بهدوء
«. ألَّا أبقى هنا. لا فائدة من وجودك هنا
ولكنني لم أنُجز بعدُ ما جئتُ من أجله يا سيِّدتي. لا يُمكنني أن أذهب » : فأجبتُ قائلًا
«. بأيِّ حالٍ من الأحوال قبل أن أرى الماكينة
لا يستحقُّ الأمر أن تُضيِّع وقتك في الانتظار. يُمكنك أن تمرَّ عبر الباب؛ » : أردفتْ قائلة
وعندما وجدَتْني أبتسِم وأهزُّ رأسي، تخلَّت عن هدوئها وتقدَّمت خطوةً «. لن يعترِضك أحد
بحقِّ الرب! اذهبْ من هنا قبل أن يفوت » : إلى الأمام وهي تفرك يديها، وهمستْ قائلة
«! الأوان
لكنني عنيد نسبيٍّا بطبيعتي، وأصُبِح أكثرَ استعدادًا للانخِراط في أمرٍ ما حين تبرُز
لي الصعاب دونه. فكرتُ في الخمسين جُنيهًا وفي رحلتي المُرهِقة وفي الليلة المُزعِجة التي
ما زالتْ أمامي كما يبدو. هل سيضيع كلُّ هذا هباءً؟ لِمَ يتوجَّب عليَّ أن أنسلَّ خلسةً قبل
إتمام مهمَّتي وقبل أن أحصل على أجري المُستحَق؟ لربَّما تكون هذه المرأة مهووسة. على
الرغم من أن أسلوبها قد أفزَعَني أكثر مِمَّا أحُِبُّ أن أعترِف، فقد هززتُ رأسي في إصرارٍ
وثبات، وأعلنتُ عن نِيَّتي في البقاء. كانت على وشْكِ أن تُجدِّد توسُّلاتها، عندما سمِعْناصوتَ
صَفْق أحد الأبواب في الأعلى، تلاه صوتُ عدَّةِ خطواتٍ على السُّلَّم. أنصَتَت المرأة للحظة، ثم
استسلمتْ بإيماءةٍ يائسة واختفتْ فجأةً وبهدوءٍ كما أتت.
كان القادمان الجديدان هما الكولونيل ليساندر ستارك ورجلًا قصيرًا سمينًا ذا لحيةٍ
تُشبِه فراء حيوان الشنشيلة، وتنبُت من تجاعيد لُغْده، وقد قدَّمه لي على أنه السيد فيرجسون.
هذا هو سكرتيري ومدير أعمالي. بالمُناسبة، أظنُّ أنني قد أبقيتُ هذا » : قال الكولونيل
«. الباب مُغلقًا للتَّو. أخشى أن تكون قد شعرتَ بتيَّار هواءٍ ضايقك
على العكس؛ أنا من فتحتُ الباب، إذ إنَّني شعرتُ بأن الغرفة خانِقة » : فأجبتُ قائلًا
«. قليلًا
ربما من الأفضل أن نشرع في العمل إذن. » : رمقَني بإحدى نظراته المُتشكِّكة وقال
«. سأصحبُك أنا والسيد فيرجسون إلى الأعلى لترى الماكينة
«. أعتقد أنه من الأفضل ارتداء قُبَّعَتي »
«. أوه لا، إنها في المنزل »
«؟ ماذا؟ هل تحفُر بحثًا عن تُراب القصَّار في المنزل »
لا لا، إننا نضغطه هنا فقط، ولكن لا عليك بذلك. كل ما نُريده منك هو أن تفحص »
«. الماكينة وتُخبِرنا بما أصابها
صعدنا السلم سويٍّا، يتقدَّمُنا الكولونيل وهو يحمِل المصباح ويتبعُه مدير أعماله
السمين، ثم أنا في المؤخرة. كان ذلك المنزل القديم كالمتاهة يمتلئ بالممرَّات والأروقة والسلالم
الضيقة المُلتوية والأبواب الصغيرة المُنخفضة التي كانت عتباتها مُجوَّفة بفعل الأجيال التي
وَطِئَتها. لم يكن هناك سجَّاد ولا أي إشارات تدلُّ على وجود أثاث فوق الطابق الأرضي، بينما
كان الجصُّ مُقشَّرًا من الجُدران التي كانت تخترِقها الرطوبة، مُخلِّفةً بُقعًا خضراء غير
صحية. حاولتُ بقدر الإمكان أن أتظاهر بعدم القلق، لكنني لم أنسَ تحذيرات السيدة على
الرغم من أنَّني قد تجاهلتُها، وأبقيتُ عينَيَّ يَقظتَين مُتابعًا رفيقَي. كان يبدو أن فيرجسون
رجل كئيب صَموت، ولكنني تبيَّنتُ من الكلام القليل الذي قاله أنه كان على الأقلِّ إنجليزيٍّا
مِثلي.
توقَّف الكولونيل ليساندر ستارك أخيرًا أمام بابٍ مُنخفِضٍوفتَحَه. خلْفَ الباب كانت
غرفة صغيرة مُربعة، بالكاد يتمكَّن ثلاثتُنا من دخولها في وقتٍ واحد. ظلَّ فيرجسون
بالخارج، بينما قادَني الكولونيل إلى داخل الغرفة.
إنَّنا الآن داخل المكبس الهيدروليكي في الواقع، وسيكون أمرًا غير » : بادَرَني قائلًا
سارٍّ لنا تمامًا لو أقدم أيُّ شخصٍ على تشغيله. إنَّ سقف هذه الغرفة الصغيرة هو في
الحقيقة نهاية المكبس الهابط الذي يهوي على هذه الأرضية المعدنية بقوَّة أطنانٍ كثيرة.
تُوجَد أعمدة جانبية صغيرة من الماء بالخارج تستقبِل القوة وتَنْقُلُها وتُضاعِفها بالطريقة
المألوفة بالنسبة إليك. تعمل الماكينة بسرعة كافية، ولكن حركتها مُتصلِّبة بعض الشيء،
«. كما أنها فقدَتْ قليلًا من قُوَّتها. تَفَضَّل بفحصها وأخبرْنا كيف يُمكِننا إصلاحها
أخذتُ منه المصباح وفحصتُ الماكينة بدقَّةٍ شديدة؛ كانت ضخمة بحقٍّ وقادِرة على
بذْلضغطٍ هائل. لكنَّني عندما ألقيتُ نظرةً من الخارج وضغطتُ على الروافع التي تتحكَّم
فيها إلى أسفل، علمتُ على الفور، من صوتِ الحفيف، بوجود تسرُّبٍ طفيف، وهو ما تسبَّب
في ارتجاع المياه من خلال إحدى الأسطوانات الجانبية. بعد الفحص تبيَّن أن واحدًا من
الأربطة المطاطية الموجودة حول رأس عمود التَّوجيه قد تقلَّص حجمه بحيث إنه لم يعُدْ
يملأ التجويف الذي يدور حوله. كان هذا هو السبب الواضح لفقدان الطاقة، وهو ما
أوضحتُه لرفيقَيَّ اللَّذَين كانا يُتابِعان مُلاحظاتي بحرصٍشديد ويسألان العديد من الأسئلة
العملية حول كيفية الشروع في إصلاح العُطل. بعدما شرحتُ لهما الأمر بوضوحٍ عدتُ
إلى الغرفة الرئيسية للماكينة وألقيتُ عليها نظرةً فاحِصة لأشُبِع فضولي الشخصي. من
نظرةٍ واحدة، كان من الجَليِّ أن قصة تُراب القصَّار هذه ما كانت إلا محضَ كذِب؛ إذ إنه
من السخيف الافتِراض أن مُحرِّكًا بهذه القوة قد صُمِّمَ لتنفيذ مثل هذا الغرَض التافِه.
كانت الجُدران مصنوعة من الخشب، أما الأرضية فكانت مكوَّنة من حوضٍحديدي كبير،
وعندما أقدمتُ على فحصه، رأيتُ سطحه مُغطٍّى تمامًا بقِشرةٍ من الرواسب المعدنية. كنتُ
قد انحنيتُ وبدأتُ أَكْشِط هذه القشرة لأرى ما هي بالضبط عندما سمعتُ صيحةَ تعجُّبٍ
هامسةً بالألمانية ورأيتُ وجه الكولونيل الهزيل ينظر إلى الأسفل نحوي.
«؟ ما الذي تفعله عندك » : سألني قائلًا
شعرتُ بالغضب من أنني قد خُدعتُ بمثل هذه القصة المُحكَمة التي أخبرَني بها.
كنتُ أبدي إعجابي بتُراب القصَّار الخاصبك؛ أعتقد أنني سأكون أقدْرَ على » : رددتُ قائلًا
«. تقديم النُّصح فيما يخصُّماكينتك لو عرفتُ الغرضالذي تُستخدَم فيه بالضبط
بمجرَّد التلفُّظ بتلك الكلمات شعرتُ بالندم على تسرُّعي في الحديث. اكتسى وجهه
الصرامةَ والجمود، ولمعتْ عيناه الرماديَّتان بنظرة تهديد.
تراجَعَ خطوةً إلى الوراء وصَفَق الباب «. حسنًا، ستعرِف كلَّ شيء عن الماكينة » : وقال
الصغير، وأدار المفتاح في القُفل. هُرِعتُ نحو الباب ورحتُ أجذب الِمقبض، ولكنه كان
النجدة! النجدة! يا كولونيل! » : مُوصدًا تمامًا ولم يُؤَثِّر فيه لا الرَّكلُ ولا الدفع. صحتُ قائلًا
«! أخرجوني
وفجأةً سمعتُ صوتًا مَزَّق الصمتَ وألقى الرُّعبَ في قلبي؛ كان صوتَ قعقعة الروافع
وحفيف الأسطوانة المُسرِّبة. لقد أدار المُحرِّك. كان المصباح لا يزال موجودًا على الأرضفي
المكان الذي كنتُ قد وضعتُه فيه عندما كنتُ أفحصالحوض. عرفتُ من ضوئه أن السقف
الأسود كان ينحدِر نحوي ببطءٍ وهو يهتز، ولكن بقوة كفيلة بأن تسحقَني وتُحوِّلَني إلى
عجينةٍ عديمة الشكل في دقيقةٍ واحدة، وهو ما كنتُ أعلمه جيدًا بحُكم معرفتي التامَّة
بهذه الأمور. ألقيتُ بنفسيعلى الباب وأنا أصرُخ، وحاولتُ سحْبَ القُفْل بأظافري. توسَّلتُ
إلى الكولونيل ليُخرجني، ولكن صرخاتي تلاشتْ وسط صوت قعقعة الرافعات التي لا
تعرِف الرحمة. كان السقف على ارتفاع قدمٍ أو اثنتين فقط فوق رأسي، وعندما رفعتُ
يدي استطعتُ أن أتحسَّس سطحه الصُّلب الخشِن. ثم تبادَرَ إلى ذهني فجأةً أن ألَمَ موتي
سيعتمِد اعتمادًا كبيرًا على الوضْع الذي سأواجهه فيه؛ فإذا استلقَيتُ على وجهي، سيهبِط
لثقلُ على عمودي الفقري، وارتعشتُ خوفًا لمُجرَّد التفكير في صوت تكسُّره المُروِّع. ربما
سيكون الأمر أسهل لو استلقيتُ على ظهري، ولكن هل كانت لديَّ الجُرأة لأستلقي وأنظر
إلى أعلى نحوَ ذلك الظلِّ الأسود القاتل وهو يَهوي عليَّ مُرتجٍّا؟ كنتُ بالفعل غير قادرٍ على
الوقوف مُنتصبًا حين لمحتُ شيئًا أضاء نُور الأمل مرَّةً أخرى في قلبي.
سبقَ أن قلتُ إنه على الرغم من أنَّ الأرضية والسقف كانا مصنوعين من الحديد، فإن
الجُدران كانت مصنوعة من الخشب. ألقيتُ نظرةً سريعة أخيرة حولي، فرأيتُ خطٍّا رفيعًا
من الضوء الأصفر ينسلُّ من بين لوحَين من الألواح الخشبية، وظلَّ يتَّسع أكثر فأكثر بينما
كانت لوحة صغيرة تُدْفَع إلى الخلف. لوهلة، كنتُ بالكاد أصُدِّق أنَّ ثَمَّ بابًا يُنْجِيني من
الموت فعلًا. في اللحظة التالية ألقيتُ بنفسي عبر الفتحة، ورقدتُ في حالة شِبه إغماء على
الجانب المُقابل. أغُلِقَت اللوحة مرة أخرى خلفي، ولكنني علمتُ من صوت تهشُّم المصباح
ثُمَّ اصطكاك اللَّوحين المعدنيين بعد ثوانٍ لاحِقة أنني قد نجوتُ بأعجوبة.
أعادني جذْبٌ شديد حول معصمي إلى الوعي، ووجدتُ نفسيمُلقًى على أرضٍحجرية
في مَمرٍّ ضيِّق بينما انحنتْ فوقي امرأةٌ كانت تُحاول سحْبي بيدِها اليُسرى بينما تحمِل
شمعةً في يدِها اليُمنى. كانت السيدة الطيِّبة نفسها التي رفضْتُ تحذيرها بكلِّ حماقة.
هيا! هيا! سيكونون هنا في لحظة؛ سيكتشِفون أنك لستَ موجودًا » : صرختْ لاهثة
«! هناك. أوه، لا تُضيِّع الوقت الثمين للغاية، هيا
هذه المرة على الأقل، لم أزدرِ نصيحتها. وقفتُ على قدمَيَّ مُترنِّحًا وركضتُ معها عبر
الممرِّ وهبوطًا على سُلَّمٍ مُتعرِّج قاد إلى ممرٍّ آخرَ عريض، وبمجرَّد وصولنا هناك، سمِعْنا
صوت أقدامٍ تركض وصراخَ صوتَين، أحدهما يردُّ من الطابق الذي كنا فيه على الآخر
الموجود بالطابق الذي أسفَلَنا. توقَّفتْ مُرشدتي ونظرَتْ حولها في حيرة وكأنها لم تعُد
تدري ما الذي يتوجَّب فعله، ثم دفعت بابًا يقود إلى غُرفة نوم بدا القمر من نافذتها لامعًا.
«. إنها فرصتك الوحيدة. إنه مُرتفع، ولكنك قد تتمكَّن من القفز » : وقالت
بزغضوء من نهاية الممر بينما كانت تتحدَّث، ورأيتُ هيئة الكولونيل ليساندر ستارك
النحيلة وهو يندفع إلى الأمام بسرعة مُمسكًا بمصباحٍ في يدٍ وبسلاح يُشبِه ساطور الجزَّار في
اليد الأخرى. هُرِعتُ عبرَ غرفة النوم وفتحتُ النافذة ونظرتُ إلى الخارج. كم بدتِ الحديقةُ
هادئة وجميلة ورائقة للنفس في ضوء القمر، ولا يُمكن أن تكون بعيدةً عن النافذة بأكثر
من ثلاثين قدمًا. تسللتُ إلى الخارج مُتسلِّقًا حافةَ النافذة، ولكنني ترددتُ في القفز حتى
أسمع ما سيدور بين مُنقِذتي والهمجيِّ الذي كان يُطاردني، وقد عزمتُ، إذا تعرَّضتِ
السيدة للإيذاء، على أن أعود لمساعدتها مهما كانت المخاطر. بمُجرَّد أن مرَّتِ الخاطرة
بفكري وصل الكولونيل بالفِعل عند الباب واندفع نحوي؛ لكنها طوَّقتْه بذِراعَيها وحاولتْ
أن تمنعه من الوصول إليَّ.
فريتز! فريتز! تذكَّر الوعد الذي قطعتَهُ بعدَ آخِر مرة؛ » : صرختْ بالإنجليزية قائلة
«! لقد قلتَ إن الأمر لن يحدُث مرة أخرى. سيُكتَم الأمر! أوه، سيُكتم الأمر
أنتِ مجنونة يا إليز! ستكونين سبب هلاكنا، » : صاح الرجل وهو يُحاول الإفلات منها
دفعها إلى أحد الجوانب بعُنف، وهُرِع إلى «! لقد رأى أكثر من اللازم. قلتُ لكِ دعيني أمُر
النافذة وجرحَني بسلاحه الثقيل. كنتُ قد ألقيتُ بنفسيمن النافذة وتدلَّيتُ مُمسكًا بحافتها
بكلتا يدَيَّ حين هوتضربَتُه. شعرتُ بألمٍ ضعيفٍ وتراختْ قبضتي فسقطتُ في الحديقة
بالأسفل.
كنتُ فَزِعًا من هول السقوط، ولكنني لم أصَُب بسوء، فاستجمعتُ قواي وهُرِعتُ
راكضًا عبر الشُّجيرات بأسرع ما يُمكنني؛ إذ إنني كنتُ أعلم أنَّني لا زلتُ في دائرة الخطر.
ولكن فجأة بينما كنتُ أركض شعرتُ بإعياءٍ ودوارٍ شديدَين. نظرتُ سريعًا إلى يدي التي
كانت تنبض ألمًا، ورأيتُ حينئذٍ للمرة الأولى أن إبهامي قد قُطِع، وأن الدماء كانت تنزفُ
من الجُرح. حاولتُ أن أربط منديلي حول الجُرح، ولكنني سمعتُ طنينًا مُفاجئًا في أذني،
ثم فقدتُ الوعيَ فورًا بين شُجيرات الورود.
لا أعلم كم لبثتُ فاقدًا الوعي. لا بدَّ أنها كانت فترةً طويلةً جدٍّا لأن القمر كان قد
انحدر وبدأ ضوء الصباح المُشرِق في البزوغ حين أفَقْتُ. كانت ملابسي كلها مُبلَّلة بالندى،
وكان كُم معطفي غارقًا بدماء جرح إبهامي المقطوع. استدعى الألم الحادُّ في طرْفةِ عينٍ
كلَّ تفاصيل مُغامَرتي تلك الليلة، فانتفضتُ واقفًا وأنا أشعُر بأنني ربما ما زلتُ في غير
مأمَنٍ ممَّن يُطاردونني. ولكن ما أثار دهشتي أنه عندما نظرتُ حولي، لم أرَ لا منزلًا ولا
حديقة. كنتُ مُستلقيًا في زاوية من سياج الشجيرات القريب من الطريق السريع يليه في
موضع مُنخفض قليلًا مبنًى طويل، تأكدتُ عند اقترابي منه أنه محطة القطار نفسها
التي وصلتُ إليها في الليلة السابقة. لولا جُرح يدي الفظيع، لقلتُ إن كلَّ ما ألمَّ بي في تلك
الساعات المُروِّعة ما هو إلا حلم مشئوم.
دخلت المحطة وأنا أعُاني دَوارًا جُزئيٍّا، وسألتُ عن القطار الصباحي. عرفتُ أن قطارًا
سينطلق إلى ريدينج في غضون أقلَّ من ساعة. وجدتُ الحمَّال نفسه الذي رأيتُه عند وصولي
أمس يعمل في هذه المناوبة أيضًا. استفسرتُ منه عمَّا إذا كان قد سمع عن كولونيل يدعي
ليساندر ستارك؛ كان الاسم غريبًا عليه. فسألتُه إن كان قد لاحظ عربةً تنتظرني ليلة أمس،
فكان جوابه نفيًا. ثم سألتُه هل يُوجَد مركزشرطة في أيِّ مكانٍ قريب، وأخبَرَني أنه يُوجَد
واحد على بُعد ثلاثة أميال.
كانت المسافة بعيدةً جدٍّا لأقطعها وأنا في هذه الحالة من الوَهَن والمرَض. قررتُ أن
أنتظِر حتى أعود إلى البلدة لأحكي قصَّتي إلى الشرطة. عندما وصلتُ كانت الساعة بعد
السادسة بقليل، فذهبتُ لأضُمِّد جُرحي أولًا، وبعد ذلك تكرَّم الطبيب وصحِبَني إلى هنا. ها
«. أنا أضع القضية بين يدَيك، وسأنُفِّذ ما ستنصح به بحذافيره
جلس كِلانا في صمتٍ لبعض الوقت بعد الاستماع لهذه الرواية العجيبة، ثم أنزل
شيرلوك هولمز من فوق الرفِّ واحدًا من السجلَّات الثقيلة المُعتادة التي كان يحتفِظ فيها
بقصاصاتِه.
إليك هذا الإعلان الذي سيُثير اهتمامك. لقد نُشِرَفي جميع الصحف منذ حوالي » : ثم قال
فُقِدَ في اليوم التاسع من الشهر الحالي السيد جيرمايا هيلينج » : سنةٍ مضت. استمِعْ إلى هذا
البالغ من العمر ستةً وعشرين عامًا، ويعمل مهندسًا هيدروليكيٍّا. غادر مسكنه في الساعة
ها! يوضح «. العاشرة مساءً، ولم يُعرَفعنهشيء منذ ذلك الحين. كان يرتدي … إلخ … إلخ
«. ذلك آخر مرة احتاج فيها الكولونيل لإصلاح ماكينته، كما أعتقد
«. يا إلهي! إذن ذلك يُفسِّر ما قالته الفتاة » : صاح مريضي
بلا شك. من الواضح تمامًا أن الكولونيل كان رجلًا باردًا يائسًا وعازمًا عزمًا مُطلقًا »
على ألَّا يقِف أيشيء في طريق لعبته الدنيئة، تمامًا كالقراصنة القُساة الذين لا يتركون أي
أحياء على السفينة التي يستولون عليها. حسنًا، كل لحظة الآن ثمينة؛ لذا إذا كنت قادرًا
«. فسنذهب إلىشرطة سكوتلانديارد حالًا كخطوة أولية قبل الذهاب إلى آيفورد
بعد حوالي ثلاث ساعات أو نحو ذلك، كان ثلاثتُنا على متن القطار سويٍّا مُتوجِّهين
من ريدينج إلى قرية بيركشير الصغيرة. كان الموجودون هم شيرلوك هولمز والمهندس
الهيدروليكي والمُفتِّشبرادستريت من سكوتلانديارد ورجل يرتدي ملابسعادية وأنا. كان
برادستريت قد بسط خريطة تفصيلية للمقاطعة على المقعد وجلس منشغلًا برسم دائرة
بفرجاره مركزها هو قرية آيفورد.
ها نحن ذا! لقد رسمتُ هذه الدائرة بحيث يبعُد نصف قطرها مسافة عشرة » : ثم قال
أميال من القرية. لا بدَّ أن المكان الذي نُريده سيكون في نقطةٍ ما بالقُرب من ذلك الخط.
«؟ لقد قلتَ عشرة أميال على ما أعتقد يا سيدي
«. استغرقتِ المسافة بالعربة ساعة كاملة »
«؟ وهل تعتقد أنهم قد أعادوك كلَّ هذه المسافة عندما كنتَ غائبًا عن الوعي »
لا بدَّ أنهم قد فعلوا ذلك. لديَّ ذكرى مشوشة أيضًا أنني قد حُمِلتُ ونُقِلتُ إلى مكان »
«. ما
ما لا أفهمه هو لماذا لم يقتلوك عندما وجدوك غائبًا عن الوعي في » : فتحدَّثتُ قائلًا
«. الحديقة؟ ربما أَلانَتْ توسُّلات المرأة قلب ذلك الرجل الشرير
«. أعتقد أن هذا أمر مُستبعد، فأنا لم أرَ وجهًا عديم الرحمة كهذا في حياتي »
أوه، سنكتشف كل ذلك قريبًا. حسنًا، لقد رسمتُ دائرتي، ولا أتمنَّى » : قال برادستريت
«. إلا أن أعرف في أي نقطة يُمكننا العثور على من نبحث عنهم
«. أعتقد أنني أستطيع أن أضع إصبعي على تلك النقطة » : قال هولمز بهدوء
حقٍّا، الآن! لقد كَوَّنت رأيك بالفعل! هيا، الآن، لنرى » : صاح المفتش برادستريت قائلًا
«. من سيتَّفِق معك في الرأي. أقول إنها في الجنوب، إذ يكون الريف هناك مهجورًا أكثر
«. وأنا أقول إنها في الشرق » : فقال مريضي
أقول إنها في الغرب؛ يُوجَد هناك العديد » : بينما أشار الرجل ذو الملابس العادية قائلًا
«. من القرى الصغيرة الهادئة
وأنا أقول إنها في الشَّمال؛ لأنه لا تُوجَد تلال هناك، وقد قال صديقنا إنه » : وقلت أنا
«. لم يلاحِظ أن العربة قد اعتلَتْ أيَّ تل
بربِّكم، يا له من تنوُّع كبير في الآراء. لقد ذكَرْنا كلَّ نقاط » : صاح المفتش ضاحكًا
«؟ البوصلة. لِمَن سنصوِّت إذن
«. كلكم مُخطئون »
«. ولكن لا يُمكن أن يكون جميعنا مُخطئًا »
هذا هو » : وضع إصبعه على مركز الدائرة، وقال «. أوه، أجل يُمكن. هذه هي نقطتي »
«. المكان الذي سنجدُهم فيه
«؟ ولكن ماذا عن الرحلة التي قطعنا فيها اثني عشر ميلًا » : شهق هاذرلي قائلًا
ستة أميال ذهابًا، وستة إيابًا؛ هكذا بمنتهى البساطة. لقد قلتَ بنفسك إن الحصان »
كان نشيطًا ولامعًا عندما ركبتَ العربة؛ فكيف يُمكن أن يكون على هذه الحال إن كان قد
«؟ قطع اثني عشر ميلًا على طُرُقٍ وعرة
بالفعل، إنها خدعة مُحتمَلة بما يكفي. بالطبع لا يُمكن أن » : علَّق برادستريت مُتأمِّلًا
«. يكون هناك أدنى شكٍّ في طبيعة هذه العصابة
لا، إطلاقًا؛ إنهم مزوِّرو عُملات يعملون على نطاقٍ واسع، وقد استخدموا » : قال هولمز
«. الماكينة لتشكيل مادَّة الملغم التي حلت محل الفضة
كنَّا نعرِف منذ بعض الوقت بوجود عصابة ماكرة تُمارس نشاطها. » : قال المفتِّش
كانوا يصنعون الآلافمن عُملة نِصفالكراون المُزوَّرة، وقد نجحْنا في تتبُّعِهم حتى ريدينج،
ولكنَّنا لم نستطع مُلاحقتَهم إلى أبعد من ذلك؛ إذ أخفَوا آثارهم بطريقةٍ تنمُّ عن حِنكتِهم
«. البالغة. ولكن الآن بفضل هذا الحظِّ السعيد، أعتقد أننا قد تمكنَّا منهم
ولكن المفتش كان مُخطئًا، فهؤلاء المجرمون لم يكن من المُقدَّر لهم أن يقعوا في يد
العدالة. عند وصولنا إلى محطة آيفورد، رأيْنا عمودًا هائلًا من الدُّخان يتصاعَد من خلف
مجموعةٍصغيرة من الأشجار في الجوار، ويحوم في السماء فوق المشهد كريشة نعامٍ عملاقة.
«؟ أهذا منزل يحترِق » : سأل برادستريت بينما بدأ القطار في التحرُّك مرة أخرى قائلًا
«! أجل يا سيدي » : رد ناظر المحطة قائلًا
«؟ متى اندلع الحريق »
اندلع أثناء الليل كما سمعتُ يا سيدي، ولكنه ازداد سُوءًا حتى نشبت النيران في »
«. المكان بأكمله
«؟ منزل من هذا »
«. منزل الدكتور بيكر »
أخبرْني، هل الدكتور بيكر رجل ألماني شديد النحافة ذو أنفٍ » : اندفع المهندس قائلًا
«؟ طويل حاد
لا يا سيدي، الدكتور بيكر رجل إنجليزي، ولا » : ضحك ناظر المحطة بحرارة وقال
يمتلك أي رجل في الأبرشية كلها صديريٍّا أفضل بطانة من الصديري الذي يرتديه. ولكن
يُوجَد رجل أجنبي يُقيم معه، وهو مريضكما فهمت، ويبدو هزيلًا حتى إنَّ تناوُلَ القليل
«. من لحم بقَر بيركشير الشهي لن يُضيره
قبل أن ينتهي ناظر المحطة من كلامه، هُرِعنا جميعًا نحو النيران. كان الطريق يعلو
تلَّةً منخفضة، وكان أمامنا مبنًى ضخمٌ مُمتدٌّ مَطليٌّ بالكلس يلفظ النيران من كل شقوقه
ونوافذه، بينما كان في الحديقة أمامه ثلاث سيارات إطفاء تُكافح للسيطرة على ألْسِنة اللهب
دون جدوى.
إنه هو! ها هو المَجَاز الزلطي، وها هي شُجيرات » : صرخ هاذرلي بانفعال شديد قائلًا
«. الورود حيث كنتُ مُستلقيًا. تلك النافذة الثانية هي النافذة التي قفزتُ منها
حسنًا، لقد انتقمتَ منهم على الأقل. مِمَّا لا شكَّ فيه أن مِصباحك الزَّيتيَّ » : قال هولمز
هو الذي أضرم النيران في الجدران الخشبية عندما سُحِقَ في المكبس، ولكنهم بلا شك كانوا
مُنشغِلين بمُطاردتك بحيث لم يُلاحظوا الأمر وقتَ حدوثه. والآن أبقِ عينَيك مفتوحتَين
ودقِّق النظر في هذا الحشد بحثًا عن أصدقائك من ليلة أمس، وإن كنتُ أخشى كثيرًا أنهم
«. الآن على بُعد مائة ميل كاملةٍ مِنَّا
تحقَّقتْ مخاوِف هولمز فعلًا، فمنذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا لم يُعرَف أيشيء عن
المرأة الجميلة أو الرجل الألماني الشرير أو الرجل الإنجليزي الكئيب. رأى أحد الفلاحين في
وقتٍ مُبكِّر منصباح ذلك اليوم عربةً بها العديد من الأشخاصوبعضالصناديق الشديدة
الضخامة تنطلِق سريعًا نحو ريدينج، إلا أن آثار الهاربين قد اختفتْ كلها، وحتى براعة
هولمز فشِلتْ في اكتشاف أدنى دليلٍ على مكان وجودهم.
كانت الترتيبات الغريبة التي وجدَها رجال الإطفاء داخل المنزل قد أثارت قلقهم
الشديد، الذي تصاعد عندما اكتشفوا على حافة نافذةٍ بالطابق الثاني إبهامًا بشريٍّا قد مُزِّق
حديثًا. أما مجهوداتهم فآتتْ ثمارها أخيرًا قُرب مغيب الشمس ونجحوا في إخماد النيران،
ولكن بعد أن انهار السقف وتحوَّل المكان بأكمله إلى حُطام تامٍّ حتى إنه لم يَبقَ أيُّ أثرٍ من
المكبس الذي كلَّفَ صديقنا التعيس كثيرًا، اللهم إلا بعض الأسطوانات المُلتوية والأنابيب
الحديديَّة. عُثِرَ على كُتلٍ ضخمة من النيكل والقصدير مُخزَّنة في مبنى خارجي، ولكن لم
يُعثَر على أيِّ عُملات، وهو ما يُفسِّر وجود الصناديق الضخمة التي أشُِير إليها سلفًا.
كان من المُمكن أن تبقى الطريقة التي نُقِلَ بها المهندس الهيدروليكي من الحديقة
إلى المكان الذي استعاد فيه وعيه لغزًا للأبد، لولا آثار الأقدام التي طُبعَت على الطين الرطب
وكشفت بوضوح تامٍّ حقيقة ما حدث. من الواضح أن شخصَين قد حمَلاه، كان لأحدهما
قدمان بالِغتا الصِّغَر بصورةٍ مُلفتة، وللآخَر قدمان شديدتا الضخامة على نحوٍ غير معهود.
عمومًا، من المُرجَّح أن الرجل الإنجليزي الصامت كان أقلَّ جُرأةً أو إجرامًا من رفيقه،
فساعد المرأة على حمْل المهندس فاقد الوعي بعيدًا عن طريق الخطر.
حسنًا، لقد كانت » : بينما اتَّخذْنا مقاعدنا لنعود أدراجنا إلى لندن، قال المهندس آسفًا
مهمَّةً مروِّعة بالنسبة إليَّ! لقد فقدتُ إبهامي وأَجْري البالِغ خمسين جنيهًا. وماذا كسبتُ
«؟ إذن
الخبرة. ربما تكون ذات قيمة غير مُباشِرة، كما تعلم؛ ليس عليك » : ردَّ هولمز ضاحكًا
إلا أن تصوغها في كلماتٍ حتى ينال عملك الخاصُّشُهرةً باعتباره شركة من الطراز الأول
«. لبقِيَّة حياتك
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.