artherconan

شارك على مواقع التواصل

زرتُ صديقي شيرلوك هولمز في صباح اليوم الثاني بعد عيد الميلاد لأهُنِّئه بهذه المناسبة.
كان مُسترخيًا على الأريكة وهو يرتدي رداء نومٍ أرُجوانيَّ اللون، وفي مُتناوَل يده إلى اليمين
حامل الغُليون، وبالقُرب منه كومةٌ من الجرائد الصباحية المجعَّدة، التي من الواضح أنه
كان يُطالعها حديثًا. وبجانب الأريكة كان ثَمَّةَ كرسيٌّخشبي عُلِّقَت على طَرَف ظهره قبَّعةٌ
مصنوعة من اللباد القاسي، والتي كانت رثَّةً وبالية من كثرة الاستخدام ومُشقَّقةً في مواضعَ
كثيرة. كان وجود عدسةٍ مكبِّرة ومِلقط على مقعد الكرسييُوحي بأن القبَّعة قد عُلِّقَت بهذه
الطريقة بغرضأن تُفحص.
«. أرى أنك مشغول؛ ربما أكون قد قاطعتُك » : حدَّثتُ هولمز قائلًا
لا، أبدًا، يُسعدني أن يكون لديَّ صديقٌ يمكنني مناقشة النتائج التي » : قال هولمز
وأشار بإبهامه نحو القبَّعة القديمة، ثم أردف قائلًا: «. أتوصل إليها معه. الأمر تافه تمامًا
«. ولكن فيه بعضالنقاط التي لا تخلو من الإثارة، بل والتي قد تكون مَدعاةً للتعلُّم أيضًا »
جلستُ على كُرسيه ذي الذِّراعَين ودفَّأتُ يديَّ أمام نيران مَوقِده المتأجِّجة؛ إذ إن
صقيعًا حادٍّا كان قد بدأ، وكانت النوافذ مُغطَّاةً بطبقةٍ سميكة من بِلَّوْرات الثلج. عَلَّقتُ
أعتقد أنه بالرغم من أن هذا يبدو أمرًا عاديٍّا، فإنه يرتبط بقصةٍ خطيرة. إنه الخيط » : قائلًا
«. الذي سيقودك لحلِّ لُغزٍ ما ولإنزال العقاب على مرتكب جريمةٍ ما
لا، لا، لا تُوجَد أي جرائم. إنها فقط واحدةٌ من تلك الحوادث » : ردَّ شيرلوك ضاحكًا
الصغيرة الغريبة التي تحدُث عندما يكون لديك أربعة ملايين شخصٍيتزاحمون في مساحة
لا تتجاوز بضعة أميالٍ مُربَّعة؛ ففي خِضَم أفعالِ وردودِ أفعالِ هذا الحشد الكثيف من
مغامرة الجوهرة الزرقاء
البشر، من المتوقَّع أن يحدُث أيُّ مزيجٍ مُحتمَل من الأحداث، وستظهر العديد من القضايا
التافهة التي قد تُصبِح غريبةً ومُثيرة دون أن ترقى إلى مستوى الإجرام. ولقد صادَفنا
«. بالفعل هذا النوع من القضايا
يُوجَد الكثير منها بالفعل حتى إنَّ ثلاثًا من القضايا الستِّ الأخيرة التي » : علَّقتُ قائلًا
«. دَوَّنتُ أحداثها، كانت تخلو تمامًا من أيِّ جريمةٍ قانونية
بالضبط. إنك تُلِمح إلى مُحاولتي استعادةَ أوراقِ إيرين آدلر، وإلى القضية الفريدة »
الخاصة بالآنسة ماري ساذرلاند، وإلى مغامرة الرجل ذي الشفَة المُلتوية. حسنًا، ليس لديَّ
شكٌّ في أنَّ هذه المسألة الصغيرة ستندرج تحت نفس التصنيف البريء للقضايا. هل تعرف
«؟ بيترسون؛ الحاجب بالفندق
«. أجل »
«. هذه الغنيمة تخصُّه »
«. إنها قبَّعته »
لا، لا، لقد وجدَها، وصاحبها غير معروف. أرجو أن تنظُر إليها باعتبارها مشكلةً »
تحتاج إلى تفكير، وليست مجرد قُبَّعةٍ مُمزَّقة. بدايةً، فيما يتعلق بكيفية وصولها إلى هنا،
فقد وصلَتْ صباح عيد الميلاد بصحبة إوزَّةٍ سمينة لذيذة، لا أشكُّ أنها تُشوى الآن أمام
نيران بيترسون. أمَّا عن الحقائق، فهي كالآتي: في حوالي الساعة الرابعة صباحَ يومِ عيد
الميلاد، كان بيترسون، وهو رجل أمين جدٍّا كما تعلم، عائدًا من احتفالٍ صغير، وكان يسير
في طريق توتنهام كورت متجهًا إلى منزله. رأى أمامه فيضوء المصباح الغازي رجلًا طويلًا
بعض الشيء يمشي وهو يترنَّح قليلًا وتتدلَّى من على كتِفه إوزَّةٌ بيضاء. وعندما وصل إلى
زاويةِ شارعِ جودج، اندلعَتْ مشاجرة بين هذا الغريب وعُصبة من الأشقياء. أطاح أحدهم
بقُبَّعة الرجل، فرفع عصاه للدفاع عن نفسه وأَرجحَها فوق رأسه، فحَطَّم نافذة المحل التي
كانت خلفه. هُرِع بيترسون ليحمي الغريب من المُعتدِين عليه، ولكن الرجل كان مصدومًا
من أنه قد كَسَر نافذة المحل. وعندما رأى شخصًا يرتدي زيٍّا رسميٍّا ويندفع نحوه، ألقى
إوزَّته وركض مُسرعًا واختفى وسط متاهة الشوارع الصغيرة التي تقع في نهايةِ طريقِ
توتنهام كورت. هرب الأشقياء أيضًا عندما رأَوا بيترسون، الذي وجد نفسه وحدَه في ميدان
المعركة مُسيطرًا على غنائم النصر، التي تتمثل في هذه القبَّعة المُمزَّقة وإوزَّة عيدِ الميلاد
«. بشَحمِها ولحمها
«؟ ومن المؤكد أنه أعادها إلى مالكها، أليس كذلك »
هنا تكمن المشكلة يا صديقي العزيز. صحيحٌ أنه كان مكتوبًا على بطاقةٍ صغيرة »
وصحيحٌ أيضًا أنَّ الحرفَين ،« إلى السيدة هنري بيكر » مربوطة بساق الإوزَّة اليسرى عبارة
كانا مكتوبَين على بِطانةِ هذه القُبَّعة، لكن بما أنه يُوجَد الآلاف «. ه. ب » الأوَّلَين من الاسم
ممن يُدعَون بيكر، والمئات ممن يُدعَون هنري بيكر في مدينتنا هذه، فليسمن السهل إعادة
«. هذا الشيء المفقود لأيٍّ منهم
«؟ ما الذي فعله بيترسون إذن »
أحضَرَ لي القُبَّعة والإوزَّة في صباح عيد الميلاد لأنه يعلم أنني أهتمُّ حتى بأبسط »
القضايا. لقد احتفظْنا بالإوزَّة حتى هذا الصباح عندما ظَهرَت علاماتٌ تقول إنه، رغم
أن الصقيع طفيف، سيكون من الأفضل أن تُذبَح دون أيِّ تأجيلٍ لا داعي له؛ وبالتالي،
أخذَها بيترسون ليذبَحها، بينما احتفظتُ أنا بقُبَّعة الرجل المجهول الذي فقَدَ عَشاءَ يومِ
«. عيد الميلاد
«؟ أولم يُعلن عما فقَدَه »
«. لا»
«؟ إذن، ما الدليل الذي يمكن أن يكون لديكَ عن هُويته »
«. فقط القَدْر الذي يمكننا استنتاجُه »
«؟ مِن قُبَّعته »
«. بالضبط »
ولكنك تمزح! ما الدلائل التي يمكنكَ جمعُها من هذا الشيء القديم المُمزَّق المصنوع »
«؟ من اللباد
إليكَ عدستي. أنت تعرف أساليبي. ما الذي يمكنك أن تستنتجه، أنت شخصيٍّا، عن »
«؟ شخصية الرجل الذي كان يرتدي هذا النوع من القُبَّعات
حملتُ القُبَّعة الرثَّة في يديَّ وأخذتُ أتفحَّصها وأنا أشعر بالأسف. كانت قُبَّعةً سوداء
عادية جدٍّا لها الشكل الدائري المعتاد، وكانت خشِنةً وبالية. كانت البطانة مصنوعةً من
الحرير الأحمر الذي تغيَّرَ لونه تغيُّرًا كبيرًا. لم يكن عليها اسمُ صانعها، ولكن كما قال
مكتوبَين بنحوٍ سيِّئٍ على أحد الجوانب. كانت حافتُها «. ه. ب » هولمز، كان الحرفان الأوَّلان
مثقوبة، ولكن الشريط المطاطي الذي يُستخدَم لتثبيت القُبَّعة على الرأس كان مفقودًا. أمَّا
باقي الأجزاء فقد كانت مُشقَّقةً ومُترَّبة بشدَّة ومُبقَّعةً في أماكنَ عديدة، على الرغم من أنه
كان هناك على ما يبدو بعض المحاولات لإخفاء البُقَع التي تغيَّرَ لونها من خلال تلطيخها
بالحِبر.
«. لا يُمكنني أن أرى أيَّشيء » : قلتُ وأنا أعُيدُها لصديقي
على العكس يا واطسون، يمكنك أن ترى كلَّ شيء، ولكنك تعجز عن فَهم ما تراه. »
«. إنك شديد التردُّد في التوصُّل إلى استدلالاتك الخاصة
«؟ إذن أخبرْني، أرجوك، بما يمكنك الاستدلال عليه من هذه القُبَّعة »
التقط هولمز القُبَّعة وحدَّق بها بأسلوبه الاستنباطي الغريب الذي كان يُميِّزه، وقال:
لعلها أقلُّ إيحاءً مما كان يمكن أن تكون عليه، ومع ذلك، هناك بعض الاستدلالات التي »
يسهُل جدٍّا التوصُّل إليها، وهناك استدلالاتٌ أخرى يمكن وصفُها بأنها ذاتُ احتماليةٍ كبيرة
على أدنى تقدير. يدلُّ مظهرها بالطبع على أنه رجلٌ شديد الثقافة، وأنه كان ميسور الحال
إلى حدٍّ ما خلال السنوات الثلاث الماضية، ولكنه يمرُّ حاليٍّا بأيامٍصعبة. كان يتمتع بالحكمة
والبصيرة، ولكنه لم يعُد كما كان، مما يُشير إلى تراجُعٍ أخلاقي، عندما نضعُه في اعتبارنا
في ضوء تراجُع ثروته، يبدو أنه يُشير إلى وقوعه تحت تأثير بعضالأشياء المُفسِدة؛ مُعاقَرة
«. الخمر على الأرجح. وهذا قد يُفسِّرأيضًا حقيقةً واضحة تَتمثَّل في أنَّ زوجتَه لم تعُد تُحبُّه
«! عزيزي هولمز »
وعلى الرغم من ذلك، فهو يحتفظ بقدْرٍ » : استمرَّ في كلامه مُتجاهلًا اعتراضي قائلًا
من احترام الذات. إنه رجل يعيش حياة الدَّعَة ولا يخرج كثيرًا ولِياقتُه البدنية ضعيفةٌ
تمامًا. إنه في منتصف العمر وذو شعْرٍ أشيَبَ كان قد قصَّهُ خلال الأيام القليلة الماضية،
وكان يَدهُنه بكريم الليمون. هذه هي الحقائق الأوضح التي يمكن استنتاجُها من قُبَّعته.
«. وبالمناسبة، أيضًا، من المُستبعَد تمامًا أن يكون منزله مزوَّدًا بالغاز
«! إنك تمزح بالتأكيد يا هولمز »
إطلاقًا. هل من الممكن، حتى هذه اللحظة التي أخبرتُك فيها بهذه الاستنتاجات، أن »
«؟ تكون غير قادرٍ على استيعابِ كيفيةِ وصولي إليها
ليس لديَّ شكٌّ في أنني شديد الغباء، ولكن لا بُدَّ أن أعترف أنني لا يمكنني مُتابعتك. »
«؟ على سبيل المثال؛ كيف استنتجتَ أن هذا الرجل مُثقَّف
للإجابة على سؤالي، وضع هولمز القُبَّعة على رأسه بسرعة، فغطَّتْ جبهتَه واستقرَّتْ
إنها مسألة السَّعة الحجمية؛ فرجل له دماغٌ ضخم » : على الجزء العلوي من أنفه، وقال
«. كهذا لا يمكن أن يكون غبيٍّا
«؟ وبالنسبة لتراجُع ثروته »
عمر هذه القُبَّعة ثلاث سنوات، ولقد كانت تلك الحوافُالمُسطَّحة الملتوية عند الأحرُف »
دارِجةً في ذلك الوقت. إنها من أفضل أنواع القُبَّعات، انظر إلى الشريط المصنوع من الحرير
المضلَّع والبطانة الممتازة. إذا كان هذا الرجل قادرًا علىشراء قُبَّعةٍ باهظة الثمن قبل ثلاثِ
سنوات، ولم يتمكَّن منشراء أخُرى منذ ذلك الحين، فهذا يعني أن وضعَه المادي قد تراجَع
«. بشدَّة
«؟ حسنًا، هذا واضحٌ بما يكفي بالتأكيد، ولكن ماذا عن الحِكمة والتراجُع الأخلاقي »
ضحِك هولمز وقال وهو يضع إصبعه على القُرص الصغير وعلى حلقة الشريط
ها هو دليل الحكمة والبصيرة. لا تُباع القُبَّعات به أبدًا. فإذا كان هذا الرجل » : المطاطي
قد طلب واحدًا، فهذا يُشير إلى قدْرٍ من الحكمة، لأنه بذَل كلَّ جُهده ليحتاط من الرياح.
ولكن بما أنَّنا رأينا أنه قد قطع الشريط المطاطي ولم يهتمَّ باستبدالِ آخَر به، فهذا يدلُّ
على أنه لم يعُد على نفس القدْر من الحكمة والبصيرة كما كان من قبل، وهذا دليلٌ واضح
على الاستهتار. من ناحيةٍ أخرى، لقد سعى لإخفاء بعض هذه البُقَع الموجودة على اللَّباد
«. عن طريق تلطيخها بالحِبر، مما يدلُّ على أنه لم يفقِد احترامه لِذاته بالكامل
«. منطقُكَ معقول بلا شك »
أمَّا بالنسبة للنقاط الأخرى، وهي أنه في منتصف العمر وشعره أشيَب وأنه قد جرى »
قصُّهُ مؤخَّرًا وأنه يَستخدِم كريم الليمون، فيمكن معرفتها كلها من خلال الفحص لدقيق
للجزء السُّفلي من البطانة. تكشف العدسة عن وجودِ عددٍ كبير من نهايات الشَّعر التي
قُصَّت بمقصِّ حلَّاق؛ إذ تبدو جميعها مُلتصقة، وتُوجَد رائحةٌ مميزة لكريم الليمون. هذا
الغُبار، كما تلاحظ، ليس الغُبار الرمادي الرملي الموجود في الشارع، بل الغُبار المنزلي البُنِّي
الرقيق، مما يدلُّ على أن القُبَّعة كانت مُعلَّقة داخل المنزل مُعظم الوقت، في حين أن علامات
الرطوبة الموجودة في القُبَّعة من الداخل تُثبِت أن مُرتديها كان يتعرَّق كثيرًا، وبالتالي، لا
«. يمكن أن تكون لياقته البدنية في أفضلِ حالاتها
«. ولكن زوجته … قلتَ إنها لم تعُد تُحبُّه »
هذه القُبَّعة لم تُنظَّف منذ أسابيع. عندما أرى أن قُبَّعتك، يا عزيزي واطسون، قد »
تراكَم عليها غُبارُ أسبوعٍ كامل، وعندما تسمح لك زوجتُك بالخروج هكذا، فسيؤسفني أن
«. أخُبركَ حينها بأنكَ أصبحتَ سيِّئَ الحظِّ بما فيه الكفايةُ لأن زوجتك قد فقدَتِ اهتمامَها بك
«. ولكنه قد يكون عازبًا »
لا، لقد كان يُحضِر الإوزَّة إلى المنزل كشكلٍ من أشكال الصُّلح لزوجته. هل تذكُر »
«؟ البطاقة التي كانت مربوطةً حول ساق الإوزَّة
«؟ لديك إجابةٌ لكلِّشيء. ولكن بحقِّ الربِّ كيف استنتجتَ أنَّ منزله غير مُزوَّد بالغاز »
قد تحدُث بُقعة شحم أو اثنتان بالصُّدفة، ولكن عندما أجِد ما لا يقلُّ عن خمس »
بُقَع، فأعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك أيُّ شكٍّ بأن مُرتدي القُبَّعة يتعرَّضبنحوٍ مُتكرِّر
للشَّحم المحترِق؛ إذ ربما يصعد الدَّرَج ليلًا وهو يحمل قُبَّعته في يدٍ، وشمعةً في الأخرى. على
«؟ أي حال، شُعلة الغاز لا تتسبَّب في بُقَع الشحم. هل اقتنعت
حسنًا، هذه براعةٌ شديدة من جانبك، ولكن بما أنه لم تُرتكَب أيُّ » : قلتُ وأنا أضحك
جريمة، كما قلتَ للتو، ولم يقع أيُّضررٍ سوى فقدان الإوزَّة، فيبدو هذا كله مجرَّد مَضْيَعة
«. للجُهد
بينما كان هولمز يفتح فمه ليرد، فُتِحَ الباب على مِصراعَيه وهُرِع حاجب الفندق
بيترسون داخلَ المنزلِ بوجنتَين مُتورِّدتَين وعلى وجهه تعبيرُ دهشةٍ وذهول.
«! الإوزَّة يا سيد هولمز! الإوزَّة يا سيدي » : قال لاهثًا
استدار هولمز على «؟ هاه! ماذا عنها؟ هل عادت إلى الحياة وطارت من نافذة المطبخ »
الأريكة ليرى وجه بيترسون المُندهِش بصورةٍ أوضح.
مدَّ بيترسون يدَه «! انظر إلى هذا يا سيدي! انظر لما وجدَتْه زوجتي في حوصلتها »
وكان يستقرُّ في وسط راحته حجَرٌ أزرقُ لامع مُتألق، أصغر حجمًا من حبَّة الفول، ولكنه
شديد الصفاء واللَّمعان وكأنهشرارةٌ كهربية تتلألأ في تجويفِ راحةِ يده.
يا إلهي يا بيترسون! إنه كَنزٌ ثمين » : انتصَب هولمز وأطلق صافرة اندهاشٍ قائلًا
«؟ بلا شك! أعتقد أنك تعلم ماهيَّته، أليس كذلك
«. هل هو ماسةٌ يا سيدي؟ حجَرٌ كريم. إنه يقطع الزُّجاج وكأنه سكِّينُ معجون »
«. إنه أكثر من مجرَّد حجَرٍ كريم عادي. إنه حجرٌ كريمٌ فريد من نوعه »
«! لا تقُل إنها جوهرة الكونتيسة موركار الزرقاء » : صِحتُ قائلًا
إنها هي فعلًا. أعرف حجمها وشكلها؛ إذ إنني كنتُ أقرأ الإعلان بشأنها في جريدة »
كلَّ يومٍ مؤخَّرًا. إنها جوهرةٌ فريدة من نوعها، ولا يمكن تقدير قيمتها، ولكن « ذا تايمز »
قيمة المكافأة المُقدَّمة التي تبلغ ألف جنيهٍ إسترليني لا ترقى بلا شكٍّ إلى جزء من العشرين
«. من سعر الجوهرة في السوق
قال الحاجب وهو يسقط بقوةٍ جالسًا على المقعد وقد أخذ يُحدِّق فينا واحدًا تلوَ الآخر:
«! ألف جنيهٍ إسترليني! يا إلهي الرحيم »
هذه هي المكافأة، وأستطيع أن أؤكِّد أن هناك اعتباراتٍ عاطفيةً تكمُن خلف هذا »
الأمر، تلك التي من شأنها أن تدفع الكونتيسة إلى التخلِّي عن نصف ثروتها، إن استدعى
«. الأمر، لاستعادة الجوهرة
«. لقد ضاعت، إن كانت تُسعفني الذاكرة، في فندق كوزموبوليتن » : عَلَّقتُ قائلًا
حدَث هذا في الثاني والعشرين من ديسمبر، على وجه التحديد؛ أي قبل خمسةِ أيامٍ »
فقط. اتُّهِمَ سبَّاكٌ يُدعى جون هورنر بأنه قدسَرقَها من عُلبة حُلي الكونتيسة. كانت الأدلة
ضدَّه قوية للغاية لدرجة أن القضية أحُيلت إلى المحكمة الجنائية. لديَّ خبرٌ عن هذا الأمر
فتَّشهولمز وسطصُحُفه وهو يُلقي نظرةًسريعة على التواريخ، حتى أخرج «. هنا كما أظن
إحدى الصُّحف المجعَّدة وفرَدَها، ثم طبَّقها وقرأ الفقرة التالية:
سرقة جوهرة في فندق كوزموبوليتن. اتُّهِمَ سبَّاكٌ يُدعى جون هورنر، يبلغ من
العمر ٢٦ عامًا، بسرقة الجوهرة الثمينة التي تُعرَف باسم الجوهرة الزرقاء،
من عُلبة حُلي الكونتيسة موركار، في الثاني والعشرين من الشهر الحالي. قدَّم
جيمس رايدر، كبير خادمي الغُرَف بالفندق، شهادةً مَفادُها أنه قد أخذ هورنر
لغُرفة الملابس الخاصة بالكونتسية موركار في اليوم الذي وقعَتْ فيه السرقة،
ليلحم القضيب الثاني للمَوقِد، والذي كان مفكوكًا. لقد بقي مع هورنر لبعض
الوقت، ولكن جرى استدعاؤه، وعند عَوْدته، وجد أن هورنر قد اختفى، وأن
مجموعة الأدراج قد فُتِحَت عنوة، وأن عُلبة الحلي الصغيرة المصنوعة من جِلد
السختيان التي اعتادت الكونتيسة أن تحتفظ بحُليها بداخلها، كما اتضح فيما
بعدُ، كانت على طاولة التزيُّن خالية. أبلغ رايدر عن هورنر على الفور، وألُقيَ
القبضعليه في المساء نفسه، ولكنهم لم يعثروا على الجوهرة، لا بحوزته ولا في
غُرفته. شهِدَتْ كاثرين كيوساك، خادمة الكونتيسة، تحت القَسم بأنها سمعَتْ
صرخة رايدر المُرتعبة عندما اكتشف السرقة، وبأنها هُرِعت إلى الغرفة، فوجدَتِ
الوضع كما وصَفه الشاهد السابق. قدَّم المفتش برادستريت من المنطقة بي
الأدلة السابقة مما أدَّى إلى اعتقال هورنر الذي قاوَمَ بنحوٍ محموم واحتجَّ مؤكدًا
بأقوى العبارات على براءته. قُدِّم دليل آخر ضدَّ السجين يُفيدُ بإدانتهِ بتهمةِ
سطوٍ سابقة، لكن رفض القاضي أن يتَّخِذ حُكمًا سريعًا في القضية، وأحال
الجريمة إلى المحكمة الجنائية. أمَّا بالنسبة لهورنر، الذي أبدى انفعالًا شديدًا
أثناء وقائع المحاكمة، فقدْ فَقَدَ الوعي عندما سمع الحُكم وحُمِلَ إلى خارجِ قاعة
المحكمة.
هممم! يكفينا هذا بشأن » : أَردَف هولمز بتأمُّلٍ عميق وهو يرمي الجريدة جانبًا
المحكمة. الأمر الذي علينا تحديده الآن هو تسلسُل الأحداث التي وَقعَت بدايةً من
اكتشاف عُلبة الحُلي المسروقة، وانتهاءً بحوصلة الإوزَّة في طريقِ توتنهام كورت. كما
ترى يا واطسون، لقد كشفَتِ استنتاجاتُنا الصغيرة جانبًا أكثرَ أهمية وأقلَّ براءة. ها هي
الجوهرة؛ لقد وُجِدت في حوصلة الإوزَّة، وقد أتت الإوزَّة من السيد هنري بيكر، الرجل ذي
القُبَّعة الرثَّة والصفات الأخرى التي أضجرتُكَ باستنتاجها؛ لذا، يتوجَّب علينا الآن أن نشرع
في البحث بجديةٍ عن هذا الرجل ونتأكَّد من الدَّور الذي لَعِبه في هذا اللُّغز الصغير. وحتى
يَتأتَّى لنا ذلك، لا بُدَّ أن نلجأ لأبسطِ الوسائل أولًا، التي ستتمثَّل بلا شك في الإعلان الذي
«. سأَنشُره في جميع الصحف المسائية. وإذا فشِلَت هذه الطريقة، فسألجأ إلى أساليبَ أخرى
«؟ ما الذي ستقوله في الإعلان »
عُثِر في زاوية شارع جودج على » : أعطني قلمَ رصاصٍوقُصاصةَ الورق هذه. والآن »
إوزَّة وقُبَّعةٍ سوداءَ مصنوعة من اللباد. يمكن للسيد هنري بيكر استعادتهما من خلال
حسنًا هذا واضحٌ «. الحضور في تمام السادسة والنصف مساءً إلى ٢٢١ بي، شارع بيكر
«. وموجز
«؟ واضحٌ جدٍّا. ولكن هل سيرى الإعلان »
حسنًا، من المؤكد أنه سيُتابع الصحف؛ فتلك الخسارة بالنسبة لرجلٍ فقير تُعتبَر »
خسارةً فادحة. من الواضح أنه كان خائفًا جدٍّا من سوء حظِّه الذي يتمثَّل في كسرالنافذة،
ومن قدوم بيترسون بحيث إنه لم يفكر سوى في الهرَب، ولكن لا بُدَّ أنه يندَم أشدَّ الندَم
منذ ذلك الحين على اندفاعه الذي جعله يترُك إوزَّته. ظهورُ اسمه سيجعله يرى الإعلان؛
لأن كلَّ من يعرفه سيُخبره عنه. تفضَّل يا بيترسون، خُذ الإعلان وسارِع إلى وكالة الإعلانات
«. وتأكَّد من أنه سيُنشَر في الصحف المسائية
«؟ أيُّ صُحفٍ يا سيدي »
،« إيفينينج نيوز » و ،« سانت جيمسز » و ،« بول مول » و ،« ستار » و ،« ذا جلوب » أوه، في »
«. وأيِّ صحيفةٍ أخرى تخطُر ببالك ،« إيكو » و ،« ستاندرد » و
«؟ حسنًا يا سيدي، ولكن ماذا عن الجوهرة »
أوه، أجل، سأحتفظ بالجوهرة، شكرًا لك. وبالمناسبة يا بيترسون، اشترِ إوزَّة في »
طريق عودتك واترُكها لي هنا؛ إذ لا بُدَّ أن يكون لدَينا واحدةٌ لنُعطيها لهذا الرجل بدلًا من
«. التي تلتهِمُها أسرتُكَ الآن
إنها » : عندما ذهب الحاجب، التقط هولمز الجوهرة وأخذ يتفحَّصها في الضوء، وقال
رائعة! انظر كيف تلمع وتتلألأ! إنها بالطبع نواة تدور في فلكها الجريمة، مِثل كلِّ الأحجار
الكريمة؛ إنها طعومٌ لأتباع الشيطان. وقد يكمن خلف كل جانبٍ من جوانب الجواهر الأكبر
والأقدم، جريمةٌ دموية. إنَّ عُمر هذه الجوهرة لم يراوِح العشرين عامًا بعد، ولقد عُثِر
عليها على ضِفاف نهر آموي في جنوب الصين، وتمتاز بأنها تتمتع بكلِّ خصائصالعقيق،
فيما عدا أنَّ لونَها أزرقُ بدلًا من الأحمر الياقوتي الذي يُميِّزه. وعلى الرغم من حداثتها، فإنَّ
لها بالفعل تاريخًا أسود؛ فقد وَقعَتْ جريمتا قتْل، وعمليةُ حرْق باستخدام حامض الزاج
الكبريتي، وانتحار، والعديد من عمليات السطو من أجل هذه القطعة من الفحْم المُتبلوِر
الذي يُساوي وَزْنه أربع حبَّات. من يظنُّ أن شيئًا شديد الصِّغَر كهذا سيكون بابًا يؤدي
إلى المشانق والسجون؟! سأضعها في خِزانتي وأوُصِدها الآن، وسأتواصَل مع الكونتيسة
«. لأخُبرها أنها بحوزتِنا
«؟ هل تعتقد أن هذا الرجل الذي يُدعى هورنر بريء »
«. لا يمكنني القطْع »
«؟ حسنًا، هل تعتقد إذن أنَّ الآخَر هذا، هنري بيكر، له أي علاقةٍ بالأمر »
حسنًا، أعتقد أن الأكثر احتمالًا أنه بريء تمامًا، وأنه لم يكن لدَيه أدنى فكرة أنَّ »
الطائر الذي يحمِله كان ذا قيمةٍ أثمنَ كثيرًا مما لو كان مصنوعًا من الذهب الخالص. ومع
«. ذلك، سأحُدِّد هذا الأمر باختبارٍ بسيط جدٍّا إذا حصلْنا على ردٍّ على إعلاننا
«؟ وبطبيعة الحال لا يُمكنكَ أن تفعل شيئًا حتى ذلك الحين، أليس كذلك »
«. بلى »
في هذه الحالة سأستكمل جولتي المهنية، ولكنَّني سأعود مساءً في الوقت الذي ذكرتُه؛ »
«. لأنني أرغب في أن أعرف حلَّ هذه القضية المعقَّدة
سأكون سعيدًا لرؤيتك. سأتناول العَشاء في السابعة، يُوجَد دجاجة، على ما أظن. »
بالمناسبة، في ضوء الأحداث الأخيرة، ربما ينبغي عليَّ أن أطلُب من السيدة هادسُن أن
«! تَفحَص حَوصلتَها
أخَّرتْني إحدى الحالات وكان الوقت قد جاوَز السادسة والنصف بقليلٍ عندما وجدتُ
نفسيفي شارع بيكر مرةً أخرى. وعندما اقتربتُ من المنزل، رأيتُ رجلًا طويل القامة يرتدي
قَلنسوةً اسكتلندية ومِعطفًا مُزرَّرًا حتى ذَقنه ينتظر بالخارج في الضوء نصف الدائري
القادم منشرَّاعة الباب. وبمجرد وصولي، فُتِحَ الباب ودخلْنا معًا غرفة هولمز.
قال هولمز وهو ينهض من مقعده ذي الذِّراعَين ويُرحِّب بزائره بالطريقة اللطيفة
السيد هنري بيكر على ما أظن. تفضَّل » : السَّلِسة التي يمكنه أن يتظاهر بها بكلِّ سهولة
على هذا المقعد بجانب المدفأة يا سيد بيكر. إنها ليلةٌ باردة، ولقد لاحظتُ أنَّ دورتك الدموية
أكثر تكيُّفًا مع الصيف منها مع الشتاء. أوه، واطسون، لقد أتيتَ في الوقت المناسب! هل
«؟ هذه هي قُبَّعتك يا سيد بيكر
«. أجل يا سيدي، إنها قُبَّعتي بلا شك »
كان رجُلًا ضخمًا ذا أكتافٍ مُستديرة ورأسٍ ضخمٍ ووجهٍ عريضٍذكيٍّ ينحدِر لِلِحيةٍ
مُدبَّبة ذات لونٍ بُني أَشيَب. كان أنفه مُتورِّدًا قليلًا وكذلك وَجْنتاه، وكانت يداه الممدوتان
ترتعشان رعشةً خفيفة، وهو ما جعلني أتذكر استنتاجات هولمز عن عاداته. كان معطفه
الأسود الطويل القديم مُزَرَّرًا حتى رقبته، وياقَتُه مرفوعة، وكان مِعصماه الضعيفان يبرُزان
من كُمَّيه دون أي علامةٍ لارتدائه قميصًا أو وجودِ أطرافِ أكمام. كان يتحدَّث بإيقاعٍ بطيء
مُتقطِّع، ويختار كلماته بعناية، وكان يُعطي انطباعًا عامٍّا أنه رجلٌ مُتعلم ومُثقَّف، ولكنه
تعرَّضلِصَفعاتِ القدَر.
لقد احتفَظنا بهذَين الشيئَين لِعدةِ أيامٍ لأننا توقَّعنا أن تنشُرإعلانًا عنهما » : قال هولمز
«. تضع فيه عنوانك. أشعر بالحيرة الشديدة وأريد أن أعرف السبب وراء عدم نشرك إعلانًا
لم أعُد أمتلك الكثير من المال كما كان الحال من قبلُ. » : ضحك زائرُنا بخجَلٍ قائلًا
لم يكن لديَّ أدنى شكٍّ أن عصابة الأشقياء التي هاجمتْني قد سرقَتْ قُبَّعتي وإوزَّتي، فلم
«. أهتمَّ بإنفاق المزيد من المال في مُحاوَلةٍ يائسة لاستعادتهما
«. هذا أمرٌ طبيعي. بالمناسبة، فيما يخصُّالإوزَّة، لقد اضطُرِرْنا لأكلها »
«! أكلها » : نهضزائرنا على نحوٍ غيرِ مكتمل من مَقعده وهو منفعلٌ ليقول
أجل؛ فإن لم نفعل ذلك فقد كانت ستُصبح عديمة الفائدة. ولكنني أعتقد أن هذه »
الإوزَّة الأخرى الرائعة الموضوعة على الطاوِلة الجانبية، والتي لها نفسالوزن تقريبًا، ستفي
«؟ بغرَضِك تمامًا، أليس كذلك
«. أوه، بالتأكيد، بالتأكيد » : أطلق السيد بيكر زفرةَ ارتياحٍ وقال
بالطبع لا يزال لدَينا ريشٌ وساقانِ وحوصلةُ طائرك وما إلى ذلك؛ لذا إذا كنتَ ترغب »
«… في
يمكن أن تكون هذه الأشياء مُفيدةً كمجرَّد » : انفجر الرجل ضاحكًا من أعماقه وقال
آثارٍ تبقَّت من مُغامرتي، ولكن فيما دُون ذلك، فلا أرى أيَّ فائدةٍ لما تبقَّى من أعضاء
إوزَّتي الراحلة! لا يا سيدي، أعتقد، بعد إذنك، أنني لا أريد سوى هذه الإوزَّة الممتازة التي
«. أراها على الطاولة الجانبية
نظر شيرلوك هولمز نحوي نظرةًسريعة وهزَّ كتِفَيه قليلًا.
ها هي قُبَّعتك إذن، وها هي إوزَّتك. بالمناسبة، هل يمكنك أن تُخبرني من أين » : وقال
«. حصلتَ على الإوزَّة الأخرى؟ فأنا أهوى تربية الطيور، ونادرًا ما رأيتُ إوزَّةً جيدة كتلك
بالطبع يا سيدي، » : قال بيكر الذي نهضووضع إوزَّته الجديدة تحت إبطه بإحكام
يتردَّد عددٌ قليل منَّا على نُزُل ألفا، بالقُرب من المتحف. ستجدنا في المتحف نفسه نهارًا.
هل تفهمني؟ أنشأ مُضيفنا الكريم وينديجيت هذا العام نادِيًا لمُحبي الإوز، يحصُل كلُّ
واحدٍ منَّا من خلاله على إوزَّة في عيد الميلاد لقاء دفع بنساتٍ قليلة كلَّ أسبوع. لقد سدَّدتُ
المبلغ بالكامل، وأنت تعلم الباقي. أدينُ لك بالكثير يا سيدي؛ إذ لا يليق بسنِّي ولا بمكانتي
انحنى بيكر بتفاخُرٍ مُضحك وبطريقةٍ مُبالغ فيها «. أن أرتدي تلك القَلنسوة الاسكتلندية
لكلَيْنا وانطلق في طريقه.
يكفي هذا بالنسبة للسيد بيكر. من المؤكد أنه » : قال هولمز بعد أن أغلق الباب خلفه
«؟ لا يعرف شيئًا عن الأمر. هل أنت جائع يا واطسون
«. ليس بدرجةٍ كبيرة »
إذن أقترح أن نُحوِّل الغَداء إلى عَشاء ونتناوله لاحقًا وأن نطرُق على الحديد وهو »
«. ساخن ونتتبَّع مِفتاح حلِّ اللُّغز هذا
«. بكلِّ تأكيد
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.