حسنًا يا سيدة وارن، أنا لا أرى أيَّ سبب محدَّد لشعورك بعدم الارتياح، ولا أفهم لماذا »
«. عليَّ، وأنا وقتي ثمين، أن أتدخَّل في هذه المسألة؛ فأنا بالفعل لديَّ أمورٌ أخرى تشغلني
هذا ما قاله شيرلوك هولمز واستدار عائدًا إلى دفتر قصاصاته الكبير؛ حيث كان يُنظِّم بعضًا
من المواد التي حصل عليها مؤخرًا ويجدولها.
إلا أن صاحبة المنزل هذه كانت تتمتَّع بالإلحاح والدهاء اللذين يميزان بني جنسها،
وتمسَّكتْ برأيها بشدة.
«. لقد حللتَ قضيةً لأحد المستأجرين لديَّ العام الماضي، السيد فيرديل هوبز » : قالت
«. آه، أجل. لقد كانت قضيةً بسيطة »
لكنه لم يتوقَّف عن الحديث عن الأمر؛ عن لطفك يا سيدي، والطريقة التي جلبتَ »
بها النور وسط الظلام، فتذكرتُ كلماته حين تملَّكَني الشكُّ وساد الظلام من حولي؛ فأنا
«. أعلم أن باستطاعتك مساعدتي فقط إن أردت ذلك
كان هولمز يَلين مع الإطراء، وإحقاقًا للحق، مع اللطف أيضًا؛ فقد جعلته هاتان
القوَّتان يترك فرشاةَ الصَّمغ الخاصَّة به متنهدًا في استسلام، ويُرجِع مقعدَه للخلف.
حسنًا، حسنًا يا سيدة وارن، دعينا إذن نسمع ما لديكِ. أنتِ لا تُمانعين في أن أدخِّن »
التبغ، أليس كذلك؟ شكرًا لكِ. يا واطسون، الثقاب من فضلك! أنتِ تشعرين بعدم الراحة،
حسبما أفهم؛ لأن المستأجر الجديد يبقى في غرفته ولا تستطيعين رؤيته. لِمَ هذا يا سيدة
وارن، رحمكِ لله؟ إن كنتُ أنا المستأجِر لديكِ، فما كنتِ ستتمكنين من رؤيتي لأسابيع
«. طويلة
لا شكَّ في ذلك يا سيدي؛ لكن هذا أمرٌ مختلف. إن الأمر يُخيفني بشدَّة يا سيد هولمز، »
ولا أستطيع النومَ من الرعب؛ فأن أسمع خطواته المتسارعة هنا وهناك منذ الصباح الباكر
وحتى وقتٍ متأخِّرٍ من الليل، ومع ذلك لا ألمحه أبدًا؛ هذا أكثر من قدرتي على التحمُّل.
يشعر زوجي بالانزعاج من هذا الأمر بقدري تمامًا، لكنه يكون في عمله طوال اليوم، بينما
أنا لا أرتاح من الأمر أبدًا. ما سبب تواريه عن الأنظار؟ ماذا فعل؟ باستثناء الخادمة، أكون
«. وحدي معه في المنزل، وهذا أكثر مما يمكن لأعصابي تحمُّلَه
انحنى هولمز إلى الأمام ووضع أصابعه الطويلة الرفيعة على كَتِف المرأة. كان يتمتَّع
بقدرةٍ تشبه التنويم المغناطيسي تبعث على الهدوء يستخدمها متى أراد. فاختفت النظرة
الفَزِعة من عينَي المرأة، وهدأت ملامحها المتوترة وعادت إلى طبيعتها، وجلست في المقعد
الذي أشار إليها بالجلوس عليه.
إن كنتُ سأتولَّى هذا الأمر، فلا بدَّ أن أعرف كلَّ التفاصيل. خذي بعضالوقت » : قال
لتفكري في الأمر؛ فأصغر معلومة قد تكون لها أهمية محورية. أنتِ تقولين إن الرجل حضر
«؟ منذ عشرة أيامٍ ودفع نظير الإقامة والطعام لمدة أسبوعَين، أليس كذلك
سألني عن شروطي يا سيدي، فقلتُ له: خمسون شلنًا في الأسبوع. ثمَّة مسكنٌ به »
«. غرفة جلوس صغيرة وغرفة نوم بهما الخدمات كافة، في الجزء العلوي من المنزل
«. أكملي »
وأنا سيدة «. سأدفع لكِ خمسة جنيهات في الأسبوع إن وافقتِ على شروطي » : قال »
فقيرة يا سيدي، والسيد وارن لا يُحصِّل إلا القليل؛ لذا للمال أهميةٌ كبيرة لديَّ. أخرج ورقة
يمكنكِ الحصولُ على المبلغ نفسه كلَّ » : نقدية بعشرة جنيهات، وقدَّمها لي على الفور. وقال
أسبوعين لمدة طويلة قادمة إن وافقتِ على شروطي. وإن لم يحدث هذا، فسأنهي تعاملي
«.« معكِ
«؟ ماذا كانت الشروط »
حسنًا يا سيدي، تمثَّلت الشروطُ في أن يحصل على مفتاح المنزل. لا مشكلة في ذلك؛ »
فعادةً ما يحصل المستأجرون على المفتاح. كذلك، أن نتركه في حاله بالكامل، وألا يتعرَّض
«. للإزعاج تحت أي ظرف
«؟ لاشيء غريب في هذا بالتأكيد، أليس كذلك »
ما يحدث ليس منطقيٍّا يا سيدي، وإنما يخالف أيَّ منطق؛ فهو يمكث عندنا منذ »
عشرة أيام، ولم يرَه السيد وارن ولا أنا، ولا الخادمة، ولو مرة واحدة. يمكننا سماعُ خطواته
السريعة وهو يسير ذهابًا وإيابًا، بالليل والصباح وفي الظهيرة، لكن باستثناء الليلة الأولى
«. بعد مجيئه إلى هنا، لم يخرج قَطُّ من المنزل
«؟ أوه، إذنْ فقد خرج من المنزل في الليلة الأولى »
أجلْ يا سيدي، وعاد حينها متأخرًا للغاية، بعد خلودنا جميعًا للنوم. لقد أخبرني »
بعدما استأجر الغرفةَ أنه قد يفعل هذا، وطلب مني عدمَ إغلاق الباب. وقد سمعتُه وهو
«. يصعد الدَّرَج بعد منتصف الليل
«؟ لكن ماذا عن وَجَبَاته »
كان أحد توجيهاته الخاصة أننا لا بدَّ أن نترك الطعام عندما يضرب الجرس، على »
مقعد أمام باب غرفته، ثم أوضح أنه سيضرب الجرس مرةً أخرى حين ينتهي من تناوله،
فنأخذها من المقعد نفسه. وإن أراد أيَّشيء آخَر، فإنه يكتبه بحروفٍ كبيرة على قطعة من
«. الورق ويتركها
«؟ يكتبه بحروفٍ كبيرة »
أجلْ يا سيدي، يكتبه على هذا النحو بقلم رصاص. اسم الشيء فقط، وليس أكثر »
وهذه ورقة أخرى: ثقاب .SOAP من هذا. وقد أحضرتُ لك هذه الورقة لتراها: صابونة
ولذلك .DAILY GAZETTE وهذه الورقة تركها في أوَّل صباح له: ديلي جازيت .MATCH
«. أتركُ هذه الصحيفة مع الإفطار كلَّ صباح
قال هولمز، وهو ينظر باهتمامٍ بالغ في قِطَع الورق الكبيرة التي أعطتْها له صاحبة
أوه يا عزيزي واطسون، هذا بالتأكيد غيرُ معتاد نوعًا ما؛ إذ يمكنني تفهُّم حبِّه » : المنزل
للانعزال، لكن لماذا يكتب الكلامَ بحروفٍ كبيرة؟ فالكتابة بهذه الطريقة عملية خرقاء. لماذا
«؟ لا يكتب بالطريقة العادية؟ ما معنى هذا يا واطسون
«. هذا يعني أنه أراد إخفاء خط يده »
لكن لماذا؟ لماذا من المهم له ألا تحصل صاحبةُ المنزل الذي يسكن فيه على كلمة »
واحدة مكتوبة بخط يده؟ ومع ذلك، ربما يكون الأمر كما تقول. لكن مرةً أخرى، لماذا
«؟ يبعث مثل هذه الرسائل الموجزة
«. لا يمكنني تصوُّر أيِّ سبب »
إن هذا يفتح مجالًا خصبًا للتخمين الذكي؛ فالكلمات مكتوبةٌ بقلم رصاصبنفسجي »
عريض الرأس بنمط مألوف. ويمكنك ملاحظة أن الورقة مقطوعة من جانبها هنا بعد
ممسوحٌ جزئيٍّا. هذا يوحي بشيءٍ ما، soap الكتابة، بحيث ترى أن أوَّل حرف من كلمة
«؟ أليس كذلك يا واطسون
«؟ بالحذر »
بالضبط. لا بدَّ من وجود علامة، أو بصمة، أو شيءٍ ما يمكنه أن يوضِّح هُويَّة »
الشخص. والآن يا سيدة وارن، أنتِ تقولين إن الرجل كان متوسِّط الطول وداكن البشرة
«؟ وملتحيًا، فما عُمُره إذن
«. إنه شابٌّ يا سيدي، لم يتخطَّ الثلاثين »
«؟ حسنًا، ألا تستطيعين إخباري بأي علاماتٍ أخرى »
«. كان يتحدَّث الإنجليزية جيدًا يا سيدي، ومع ذلك اعتقدتُ أنه أجنبي بسبب لَكْنَته »
«؟ وهل كان حسنَ المظهر »
حسن المظهر للغاية يا سيدي، رجل محترم بحق. وكانت ملابسه داكنة اللون، ولا »
«. شيءَ لافتًا فيها
«؟ لم يذكر اسمه »
«. لا يا سيدي »
«؟ ولم تَرِده أيُّ خطابات أو يأتي إليه أي زائرين »
«. مطلقًا »
«؟ لكنكِ بالتأكيد تدخلين أنتِ أو الخادمة غرفتَه في الصباح، أليس كذلك »
«. لا يا سيدي؛ فهو يهتم بأمورِه كُلِّها بنفسه »
«؟ يا إلهي! هذا بالفعلشيءٌ غريب. وماذا عن أمتعته »
«. كانت معه حقيبة واحدة كبيرة بنية اللون، ولاشيءَ آخَر »
حسنًا، يبدو أننا ليس لدينا الكثير من الأشياء التي يمكن أن تساعدنا. وأنتِ تقولين »
«؟ إن شيئًا لم يخرج من هذه الغرفة، لاشيءَ على الإطلاق، أليس كذلك
أخرجتْ صاحبةُ المنزل ظرفًا من حقيبتها، وسحبت منه عودَي ثقاب محترقَين وعُقْب
سيجارة، ووضعتْ هذه الأشياء على الطاولة.
كانت هذه الأشياء علىصينيته هذا الصباح، وقد أحضرتُها لأني سمعتُ أنك تستطيع »
«. معرفةَ أشياءَ كبيرة من أصغر الأغراض
هزَّ هولمز كَتِفَيه بلامبالاة.
لا أرى شيئًا هنا؛ فقد استُخدم عودا الثقاب بالطبع من أجل إشعال السيجارة. » : وقال
وهذا واضح من مدى قِصَرالعُقْب المحترق؛ فنصف عُلْبة أعواد الثقاب يُستَهلك في إشعال
الغليون أو السيجار. لكن يا إلهي! إن عُقْب هذه السيجارة غريب بالفعل؛ فأنتِ تقولين إن
«؟ الرجلَ لديه لحية وشارب، أليس كذلك
«. أجلْ يا سيدي »
أنا لا أفهم هذا؛ فأنا أعتقد أنه لا يمكن أن يدخِّن هذه إلا رجل حليق تمامًا. فحتى »
«. أنت يا واطسون، كان لا بدَّ لشاربك الخفيف أن تمسَّه النار
«. ربما استخدم حاملًا » : اقترحتُ قائلًا
لا، لا؛ فالعقب متآكل. لا أعتقد أن ثمَّة شخصَين في غرفة منزلك يا سيدة وارن، أليس »
«؟ كذلك
لا يا سيدي؛ فهو يتناول كميةً صغيرة جدٍّا من الطعام مما يجعلني أتساءل إن كان »
«. بإمكانها إبقاؤه على قيْد الحياة
حسنًا، أعتقد أن علينا انتظارَ الحصول على مزيدٍ من المعلومات، ففي النهاية، ليس »
لديكِ ما تَشْكِين منه؛ فقد حصلتِ على الإيجار، وهو ليس مستأجرًا مشاكسًا، على الرغم من
كونه، بالتأكيد، غريبَ الأطوار؛ فهو يدفع لكِ مقابلًا مُجْزيًا، وإن اختار الاختفاءَ عن أنظار
الناس، فهذا ليس من شأنك فيشيء. فنحن لا نملك عذرًا لاقتحام عزلته، حتى يصبح لدينا
ما يدفعنا إلى التفكير في وجودِ سببٍ آثمٍ لتلك العزلة. لقد توليت هذه القضية، ولن أتركها
«. أبدًا. عليكِ إخباري إنْ حدث أيشيء جديد، واطلبي مساعدتي عند الحاجة إليها
بالتأكيد يا واطسون ثَمَّة نقاطٌ مثيرة للاهتمام » : أضاف حين غادرتْ صاحبة المنزل
في هذه القضية. ربما تبدو تافهةً بطبيعة الحال — إذ قد تتمثَّل في غرابة هذا الشخص—
أو ربما تكون أكثر عمقًا بكثيرٍ مما تبدو عليه. إن أوَّل ما يثير الانتباه الاحتمالُ الواضح
بأن الشخص الموجود داخل هذه الشقة الآن ربما يكون مختلفًا تمامًا عن الشخص الذي
«. استأجرها
«؟ ما الذي جعلك تعتقد هذا »
حسنًا، بعيدًا عن عُقْب هذه السيجارة، أليس من الغريب أن الوقت الوحيد الذي »
خرج فيه المستأجر كان بعد استئجاره للغرفة مباشرةً؟ وعاد — أو عاد شخصٌ ما —
في ظل عدم وجود كافة الشهود. ولا يوجد لدينا دليلٌ على أن الشخص الذي عاد كان هو
نفسه الشخص الذي خرج. وكذلك، كان الرجل الذي استأجر الغرفةَ يتحدَّث الإنجليزية
بدلًا من أن يكتب أعواد ثقاب ،match جيدًا. أما هذا الشخص الآخر، فكتب كلمة ثقاب
أرى أن هذه الكلمة قد أخُذت من قاموسٍ، يُظهِر الاسم وليس الجمع؛ فربما .matches
يكون استخدام الأسلوب المقتضب من أجل إخفاء ضَعْف المعرفة باللغة الإنجليزية. أجلْ
«. يا واطسون، ثَمَّة أسبابٌ قوية تجعلني أشك في وجود شخصَين
«؟ لكن ما الهدفُ من هذا »
أنزل «. آه، هنا تكمن مشكلتنا. ومع ذلك يوجد خط واضح بعض الشيء للتحرِّي »
دفتره الكبير الذي يحتفظ فيه، يومًا بيوم، بأعمدة الإعلانات الشخصية المأخوذة من مختلف
يا إلهي! يا له من مزيجٍ من الشكوى » : الصحف في لندن. قال لي وهو يقلب الصفحات
والنحيب والثرثرة! يا لها من أحداثٍ فريدة مختلطة! لكنها بالتأكيد أكثرُ أرضٍ خصبةٍ
حصل عليها أيُّ ساعٍ وراء غير المعتاد! فهذا الرجل وحيدٌ ولا يمكن التواصل معه بالرسائل
دون اختراق السرية التامة التي أراد الحصول عليها. فكيف تصله أيُّ أخبار أو رسائل
من الخارج؟ من الواضح أن هذا يحدث عن طريق الإعلانات التي تظهر في الصحف.
لا يبدو أن ثَمَّة أيَّ سبيل آخَر، ولحسن الحظ ليس علينا البحث إلا في صحيفة واحدة
سيدة ترتدي » . للأسبوعَين الماضيَين « ذا دايلي جازيت » فقط. هذه مقتطفاتٌ من صحيفة
بالتأكيد لن يكسِر » . يمكننا تجاهل هذا — « وشاحًا طويلًا أسودَ في نادي برينس للتزلج
إذا كانت السيدة التي فقدتْ وعيها في حافلة » . لا يبدو هذا ذا صلة — « جيمي قلبَ والدته
ثرثرة، يا واطسون، «… في كل يوم يشتاق قلبي إلى » . أنا لا أهتمُّ بأمرها — « بريكستون
كن صبورًا. سنعثر بالتأكيد » : ثرثرة تامة! آه، هذا قد يكون مفيدًا قليلًا. استمعْ إلى هذا
نُشر هذا بعد يومَين من وصول «.G . على وسيلةٍ للتواصل. وفي هذه الأثناء، هذا العمود
مستأجر السيدة وارن. يبدو هذا معقولًا، أليس كذلك؟ فهذا الشخصالغامضيمكنه فهْم
الكلام المكتوب باللغة الإنجليزية، حتى إن كان لا يستطيع الكتابة بها جيدًا. لنرَ إن كان
أجري ترتيبات » : بإمكاننا اقتفاء الأثر من هنا مرةً أخرى. أجلْ، وجدتُ هذا؛ بعد ثلاثة أيام
لم يَرِدشيء بعد هذا طوال أسبوع. ثم ظهر «.G . ناجحة. الصبر والحذر. السُّحُب ستنقشع
الطريق آمن. إن وجدتُ فرصةً، سأرسل إشارات؛ تذكَّر الشفرةَ المتَّفق » : شيء أكثر وضوحًا
نُشر هذا في صحيفة الأمس، ولا «.G . وهكذا. ستسمع مني قريبًا ،B اثنان ،A عليها: واحد
وجودَ لشيء اليوم. كل هذا ينطبق على مستأجر السيدة وارن. وأعتقد يا واطسون أننا إن
«. انتظرنا فترة قليلة، فإن المسألة ستصبح، دون شك، أكثرَ وضوحًا
وهذا ما حدث بالفعل؛ ففي الصباح وجدتُصديقي يقف على السجادة الموجودة أمام
المدفأة وظهْرُه للنار، وتظهر على وجهه ابتسامةُ رضًا كامل.
ما رأيك في هذا يا واطسون؟ » : صاح وهو يَمُدُّ يده ليمسك بالصحيفة من على المنضدة
منزلٌ أحمرُ عالٍ له واجهة من الحجارة البيضاء. الطابق الثالث. النافذة الثانية جهة »
هذا مؤكد بما يكفي. أعتقد أننا بعد الإفطار علينا الذهاب «.G . اليسار. بعد الغسق
لاستكشاف المنطقة التي تعيش فيها السيدة وارن. آه، السيدة وارن! ما الأخبار التي
«؟ تحملينها لنا اليوم
اندفعت عميلتنا فجأةً إلى داخل الغرفة بطاقةٍ متفجِّرة مما يوحي بوجود بعض
التطورات الجديدة والبالغة الأهمية.
على الشرطة تولِّي هذا الأمر يا سيد هولمز! أنا لا يمكنني التحمُّل أكثر من » : صاحت
هذا! عليه أن يجمع أمتعته ويغادر المكان. كنتُ سأصعد إليه وأخبره بهذا مباشرةً، لكني
ظننت أنه من الإنصاف أن أستشيرك أولًا. لكن صبري قد نفد، وحين يصل الأمر إلىضرب
«… زوجي العجوز
«؟ ضرب السيد وارن »
«. أو التعامل معه بخشونة على أي حال »
«؟ لكن مَن تعامل معه بخشونة »
حسنًا! هذا ما نريد معرفته! حدث هذا في صباح اليوم يا سيدي؛ فالسيد وارن هو »
المسئول عن الحضور والانصراففيشركة مورتون ووايلايت في طريق توتنهام رود. ولذلك
عليه الخروج من المنزل قبل السابعة. حسنًا، في هذا الصباح لم يلبث أن سار عشرخطوات
في الطريق حتى جاء رجلان من خلفه، وألقيا مِعْطفًا على رأسه، وأدخلاه عَنوةً في سيارةِ
أجرةٍ كانت تقف بجوار الرصيف. سارا بالسيارة لمدة ساعة، ثم فتحا الباب وألقياه إلى
الخارج. ظل راقدًا في الطريق يرتعد من الخوف، ولم يرَ قط أين ذهبت سيارة الأجرة.
وحين تمالك نفسه، وجد نفسه في حديقة هامبستيد هيث، فاستقل الحافلة إلى المنزل، وهو
«. يستلقي فيه الآن على الأريكة، في حين جئت إليك مباشرةً لأخبرك بما حدث
يا له من أمرٍ مثيرٍ للاهتمام جدٍّا. هل لاحظ شكل هذَين الرجلَين؟ هل » : قال هولمز
«؟ سمعهما يتحدثان
لا؛ فهو مذهول للغاية، ولا يدري إلا أن شيئًا ما رفعه وألقى به كما لو كان سحرًا. »
«. شارك اثنان على الأقل في هذا، وربما ثلاثة
«؟ وأنتِ تربطين بين هذا الهجوم والمستأجر »
حسنًا، لقد عشنا في هذا المكان خمسة عشرعامًا ولم نتعرَّضلمثل هذه الأحداث قَطُّ. »
لقد اكتفيتُ من هذا الشخص؛ فالمال ليس كلَّ شيء. سأجعله يترك منزلي قبل نهاية هذا
«. اليوم
انتظري قليلًا يا سيدة وارن، لا تتسرعي؛ فقد بدأتُ أعتقد أنَّ هذه المسألة ربما »
تكون أهم بكثيرٍ مما بدت عليه من الوهلة الأولى. من الواضح الآن أن ثمَّة خطرًا ما يهدِّد
مستأجركِ، ومن الواضح أيضًا أن أعداءه كانوا ينتظرون خروجه بجوار باب منزلك، وأنهم
خلطوا بينه وبين زوجك فيضوء الصباح الضبابي، وعندما اكتشفوا خطأهم، أطلقواسراح
«. زوجك. لكن ماذا كانوا سيفعلون لو لم يخطئوا، هذا ما يمكننا تخمينه فقط
«؟ حسنًا، ماذا عليَّ أن أفعل يا سيد هولمز »
«. أرغب بشدة في رؤية هذا المستأجر يا سيدة وارن »
لا أعرف كيف يمكن تدبير هذا، إلا إذا كسرت عليه الباب؛ فأنا أسمعه دومًا يفتح »
«. الباب وأنا أنزل الدَّرَج بعدما أترك صينية الطعام
«. لا بدَّ له من أن يأخذ الصينية، وعلينا أن نختبئ ونراه وهو يفعل هذا »
فكرتْ صاحبةُ المنزل برهةً.
حسنًا يا سيدي، توجد غرفة المخزن أمام غرفته، ويمكنني وضعُ مرآة، وإن وقفت »
«… خلف الباب
«؟ ممتاز! متى يتناول طعام الغداء » : قال هولمز
«. في الواحدة تقريبًا يا سيدي »
إذن سنأتي أنا والدكتور واطسون في هذا الوقت تقريبًا، أما الآن فإلى اللقاء يا سيدة »
«. وارن
وصلنا في الساعة الثانية عشرة والنصف أمام منزل السيدة وارن، وكان مبنًى طويلًا
رفيعًا من الحجارة الصفراء في شارع جريت أورم، وهو شارع رئيسي ضيِّق في الجانب
الشمالي الشرقي من المتحف البريطاني. ونظرًا لوجود المنزل بالقرب من ناصية الشارع،
فهو يطل أيضًا على شارع هاو، بمنازله المعدنية الفخمة. أشار هولمز بضحكة خافتة إلى
واحد من هذه المنازل، صف من الشقق السكنية، البارزة، ومن ثمَّ يصعب على المرء ألا
يلاحظه.
هذا هو المكان المقصود .« منزل أحمر عالٍ وله واجهة حجرية » ! انظر يا واطسون » : قال
بالتأكيد. نحن نعرف المكان، ونعرف الشفرة؛ لذا بالتأكيد ستكون مهمتنا بسيطة. ثمَّة
على النافذة؛ فمن الواضح أنها شقة فارغة يستطيع الشريك « للإيجار » لافتة مكتوب عليها
«؟ الدخول إليها. حسنًا يا سيدة وارن، ماذا الآن
لقد جهزتُ لكما كل شيء. إن تفضلتما بالصعود معي وترْك حذاءَيكما الطويلَين »
«. بالأسفل على بسطة الدَّرَج، فسأرشدكما إلى الغرفة الآن
كان مكان الاختباء الذي أعدَّته لنا ممتازًا؛ فقد وُضعت المرآة بحيث يمكننا، ونحن
جالسان في الظلام، رؤيةُ الباب المقابل بكلِّ وضوح. وما لبثنا أن جلسنا فيه، وتركتنا
السيدة وارن، حتى صدر صوتُ رنينٍ من بعيد يعلن أن جارنا الغامضقدضرب الجرس.
بعد ذلك ظهرت صاحبة المنزل ومعها الصينية ووضعتها على مقعدٍ خارج الباب المغلق،
ثم تركتها ورحلت بخطًى متثاقلة. جلسنا القرفصاء معًا عند زاوية الباب، وثبتنا أعيننا
على المرآة. وفجأة، مع اختفاء وقْع أقدام صاحبة المنزل، صدر صوتُ تحريك المفتاح ودار
مقبض الباب، وخرجت يدان نحيلتان من الباب ورفعت الصينية من على المقعد. وبعد
هذا عادت الصينية إلى مكانها بسرعة، واستطعتُ أن أرى وجهًا داكنَ اللون جميل المظهر
وتظهر عليه علامات الرعب وهو يحدق في الفتحة الضيقة لباب غرفة المخزن. ثم أغُلق
البابُ بقوة، وسُمع صوتُ المفتاح مرة أخرى، وساد الصمت. جذبني هولمز من كُمي ونزلنا
معًا بحذَرٍ على الدَّرَج.
أعتقد يا » : ثم قال لي «. سأزوركم مرةً أخرى في المساء » : قال لصاحبة المنزل المترقِّبة
«. واطسون أنه من الأفضل لنا أن نناقش هذا الأمر في منزلنا
ثبت أن » : وعندما عُدْنا للمنزل، قال لي وهو يتحدَّث في ارتياحٍ على مقعده الوثير
تخميني صحيح، كما رأيت بنفسك؛ فقد حدث استبدال للمستأجر. ما لم أتوقعه أننا
«. سنعثر على سيدة، وليس سيدة عادية يا واطسون
«. لقد رأتنا »
حسنًا، لقد رأت شيئًا أخافها، هذا مؤكد. وهكذا أصبح التسلسل العام للأحداث »
واضحًا، أليس كذلك؟ فقد جاء زوجان إلى لندن للاختباء من خطرٍ رهيب ومُحدِق. وحجم
هذا الخطر هو السبب في حذَرِهما الشديد. فأراد الرجل، الذي عليه أداءُ عملٍ معيَّن، أن يترك
السيدة في أمانٍ تامٍّ بينما يؤدي هو عمله هذا. لم تكن مشكلة سهلة، لكنه حلَّها بطريقةٍ
مبتكرة وفعالة بحيث لا تعرف حتى صاحبة المنزل التي تقدِّم لها الطعام بوجودها. وكان
الغرض من الرسائل المكتوبة بحروف كبيرة، كما أصبح واضحًا الآن، عدم التعرُّف على
جنسها من خط يدها. لا يستطيع الرجل الاقتراب من السيدة، وإلا سيقود أعداءهما إليها.
ونظرًا لعدم قدْرته على التواصل معها مباشرةً، لجأ إلى عمود الإعلانات الشخصية بإحدى
«. الصحف. وهكذا أصبح كلُّشيء واضحًا
«؟ لكن ما وراء هذا كله »
آه، أجل يا واطسون، أنت عملي جدٍّا، كالعادة! ما وراء هذا كله؟ تتسع القضية »
الغريبة للسيدة وارن إلى حدٍّ ما وتتضح لها جوانب مشئومة كلما أحرزنا تقدُّمًا فيها. فهذا
كل ما يَسَعَنا قوله: إن هذه ليست مغامرةَ حبٍّ عادية؛ فقد رأيتَ وجه المرأة حين شعرتْ
بعلامة على وجود خطر. وسمعنا أيضًا بالهجوم الذي تعرَّضله صاحب المنزل، الذي كان
يستهدف المستأجر دون شك؛ فهذه الإنذارات بالخطر، والحاجة البالغة للسرية، كلها تشير
إلى أنها مسألة حياة أو موت. كما أن الهجوم على السيد وارن يُظهِر أن هذا العدو، أيٍّا كان،
لا يدرك هو نفسه أن المستأجر الرجل حلَّت محلَّه سيدة. إن الأمر غريب جدٍّا ومعقد للغاية
«. يا واطسون
«؟ لماذا عليك الاستمرار في هذه القضية أكثر من هذا؟ ماذا ستجني من ذلك »
ماذا، بالفعل؟ إنه الفن من أجل الفن يا واطسون. وأعتقد أنك حين مارست مهنة »
«؟ الطب وجدت نفسك تعالج حالاتٍ دون التفكير فيما ستتقاضاه من أجر، أليس كذلك
«. فعلت هذا حتى أتعلم المزيد يا هولمز »
التعلُّم لا يتوقف أبدًا يا واطسون؛ إنه سلسلة من الدروس يأتي المكسب الأكبر منها »
في النهاية. وهذه قضية تثقيفية. فلا مال ولا صيت سيأتي من ورائها، ومع ذلك يرغب
«. المرء في حلِّها. حين يَحُلُّ الغسق، سنجد أنفسنا قد تقدمنا خطوة في تحقيقنا
حين عُدْنا إلى منزل السيدة وارن، كان الظلام الذي يتسم به مساء الشتاء في لندن
يخيم بكثافة في ستارٍ رمادي اللون، وهو لون واحد كئيب، لم يكسِره إلا المربعات الصفراء
الفاقعة اللون للنوافذ والهالات الضبابية لمصابيح الغاز. وحين نظرنا من غرفة الجلوس
المعتمة في المنزل، رأينا ضوءًا خافتًا آخَر يشع في الأعلى وسط الظلام.
قال هولمز وهو يهمس ووجهه الهزيل الذي تظهر عليه علامات التحمُّس مندفع إلى
شخصٌما يتحرَّك في هذه الغرفة. أجلْ؛ فأنا أستطيع رؤية ظلِّه. » : الأمام نحو حافة النافذة
ها هو مرةً أخرى، إنه يحمل شمعة في يده. والآن هو ينظر إلى الجهة المقابلة. إنه يريد
التأكُّد من أنها منتبهة. والآن بدأ يومض الضوء. اكتب هذه الرسالة أيضًا يا واطسون،
والآن، كم مرة تكرَّر؟ .A التي ربما نتأكد منها معًا. ومضة واحدة — هذا بالتأكيد حرف
هذا واضح تمامًا. — T. AT عشرين، حسنًا لنعد هذا، هذا لا بدَّ أن يكون معناه حرف
توقفْ. لا يمكن أن .TENTA آخر. هذا بالتأكيد بداية كلمة أخرى. والآن، ثم T وحرف
ولا معنَى لها .ATTENTA تكون هذه الرسالة فقط يا واطسون، أليس كذلك؟ فلا معنَى ل
هما الحرفان الأولان TA إلا إن كان ،TA و TEN و ،AT : أيضًا إن قسمناها إلى ثلاث كلمات
لماذا هذا؟ إنها الرسالة نفسُها مرةً ،ATTE ؟ من اسم شخص. إنه يبدأ مرةً أخرى! ما هذا
لكن لماذا ،AT ! أخرى. هذا أمرٌ مثير للدهشة كثيرًا يا واطسون. والآن إنه يبدأ مرةً أخرى
ثلاث مرات! كم مرة سيكررها؟ لا، يبدو أن هذه هي ATTENTA ؟ يكررها للمرة الثالثة
«؟ النهاية؛ فقد ابتعد عن النافذة. ماذا تفهم من هذا يا واطسون
«. إنها رسالة مشفَّرة يا هولمز »
ولكنها ليست شفرةً » : أطلق رفيقيضحكةً خافتة مفاجئة تدل على فهْمه للأمر، وقال
يعني أنها موجَّهة A غامضة للغاية يا واطسون. بالطبع إنها باللغة الإيطالية! فحرف
«؟ ما رأيك في هذا يا واطسون «! احترسي! احترسي! احترسي » : لامرأة. وتقول
«. أعتقد أنك نجحت في حلِّها »
لا شك في ذلك. إنها رسالة ملحة للغاية؛ فتكرارها ثلاث مرات يجعلها كذلك. لكن ما »
«. الذي عليها الاحتراس منه؟ انتظر لحظة، إنه قادم إلى النافذة مرةً أخرى
رأينا مرةً أخرى الهيئة المعتمة لرجلٍ يجلس القرفصاء وحركةَ اللهيب الصغير عبْر
النافذة مع تكراره لإرسال الإشارات. أصبحت الآن أسرع مما كانت عليه من قبلُ. سريعة
للغاية بحيث كان من الصعب تتبُّعها.
أليس كذلك؟ أجلْ، يا إلهي! « خطر » ؟ حسنًا، ما هذا يا واطسون — PERICOLO»
«… يا إلهي! ما هذا .PERI ! إنها إشارة الخطر. وها هو يرسل مرةً أخرى
اختفى الضوء فجأة، واختفت النافذة المربعة المضيئة، وأصبح الطابق الثالث يشكِّل
حلقةً معتمة حول المبنى الطويل، بطوابقه ذات النوافذ المضيئة. فقد قُطعت آخر رسالة
نداء تحذيري فجأة. كيف؟ ومَن فعل هذا؟ وردت هذه الفكرة علينا نحن الاثنَين في اللحظة
ذاتها. انتفضهولمز واقفًا من المكان الذي كان يجلس فيه القرفصاء بجوار النافذة.
هذا أمرٌ خطير يا واطسون. ثمَّة عملٌ شيطاني يُرتكب! لماذا تنقطع » : وصاح قائلًا
مثل هذه الرسالة على هذا النحو؟ لا بدَّ لي من الاتصال بسكوتلاند يارد بهذا الشأن، وعلى
«. أي حال، علينا مغادرة هذا المكان على الفور
«؟ هل أذهب أنا للشرطة »
علينا تحديد طبيعة الموقف بوضوحٍ أكثر قليلًا؛ فربما يكون للأمر تفسيرٌ بسيط. »
«. هيا بنا يا واطسون، دعنا نعبُر الطريق بأنفسنا لنرى ما يمكننا التوصُّل