بينما كنا نسير مسرعين في شارع هاو، نظرتُ خلفي إلى المبنى الذي تركناه. ورأيت، في
النافذة العلوية، شكلًا معتمًا لظل رأس، رأسامرأة، وهي تنظر بتوتُّر وصرامة عبْر النافذة
في ظلام الليل، وتنتظر بترقُّبٍ لاهث استئنافَ الرسالة التي قُطعت. وفي مدخل المنزل في
شارع هاو وجدنا رجلًا يرتدي رباط عنق وبالطو، ويتكئ على الدرابزين. تفاجأ الرجل
بمجرد سقوط ضوء المدخل على وجهَينا.
«! هولمز » : وصاح قائلًا
مَن؟ جريجسون! تنتهي » : قال رفيقي وهو يصافح المحقِّق التابع لسكوتلاند يارد
«؟ الرحلات بلقاء الأحبة. ما الذي أتى بك إلى هنا
حسبما أعتقد، الأسباب نفسها التي جاءت بك إلى هنا. لكن لا » : قال جريجسون
«. يمكنني تصور كيف علمتَ بهذا
«. إنها خيوط مختلفة لكنها تؤدي في النهاية إلى المعضلة ذاتها. كنت ألاحظ الإشارات »
«؟ الإشارات »
أجل، الصادرة من هذه النافذة، ولكنها انقطعت في المنتصف. وقد جئنا إلى هنا »
لنعرف السبب. لكن بما أن المسألة قد أصبحت الآن في أيدٍ أمينة معك، فأنا لا أرى طائلًا
«. من الاستمرار فيها
انتظر لحظة! يجب أن أعطيك حقَّك يا سيد هولمز؛ فأنا لم » : صاح جريجسون بلهفة
أتولَّ قضيةً إلا وشعرت بقوةٍ أكبرَ حين تكون موجودًا إلى جانبي. هذا هو المخرج الوحيد
«. لهذا المنزل، لذلك فهو ما زال في قبضتنا
«؟ مَن هو »
حسنًا، حسنًا، نحن تفوَّقنا عليك هذه المرة يا سيد هولمز. عليك أن تعترف بتفوقنا »
قال هذا وضرب الأرض بقوةٍ بعصاه، وعلى إثر ذلك جاء حوذي عربة أجرة، «. هذه المرة
وهو يمسك السوط في يده، مترجِّلًا من عربته التي تقف على الجانب البعيد من الشارع.
دعني أعرفك على السيد شيرلوك هولمز. هذا هو السيد » : ثم قال موجِّهًا كلامه إلى الحوذي
«. ليفرتون من وكالة بينكرتون الأمريكية
«. بطل لغز كهف لونج أيلاند؟ سيدي، يشرفني لقاؤك » : قال هولمز
احمرَّ خجلًا وجه الرجل الأمريكي — الذي كان شابٍّا هادئًا وعمليٍّا، وكان ذا وجه
أنا الآن في مطاردة عمري، يا سيد » : طويل نحيف وحليق — من كلمات الإطراء هذه، وقال
«… هولمز. إن أمكنني الإمساك بجورجيانو
«؟ ماذا؟ جورجيانو من الدائرة الحمراء »
أوه، إن له شهرة أوروبية، أليس كذلك؟ إننا نعلم كلَّ شيء عنه في أمريكا؛ فنحن »
نعرف أنه هو الذي يقف وراء خمسين جريمة قتل، ومع ذلك لا يوجد شيء واحد مؤكد
نستطيع إثباته عليه. لقد تعقبتُه من نيويورك، وكنتُ بالقرب منه طوال أسبوع في لندن،
وانتظرتُ أيَّ سبب يجعلني أقبض عليه. تتبعته أنا والسيد جريجسون إلى هذا المنزل
السكني الكبير، ولا يوجد إلا باب واحد، لذلك لا يمكنه الهرب منَّا. خرج ثلاثة أشخاص
«. منذ دخوله إلى المنزل، لكني متأكد أنه لم يكن واحدًا منهم
يتحدث السيد هولمز عن إشارات. وأنا أعتقد أنه كالمعتاد يعرف » : قال جريجسون
«. أكثر مما نعرفه بكثير
شرح هولمز بقليل من الكلمات الواضحة الوضع كما بدا لنا. أطبق الرجل الأمريكي
يدَيه معًا في غيظ.
«! إنه يعلم بوجودنا » : وصاح قائلًا
«؟ لماذا تعتقد هذا »
حسنًا، هذا معنى ما حدث، أليس كذلك؟ فها هو يرسل رسائل إلى شريكه؛ فثمَّة »
كثير من أفراد عصابته في لندن. ثم فجأة، بحسب روايتكما، بينما كان يخبره بوجود
خطر، انقطعت الرسالة. لا يوجد معنًى لهذا إلا أنه رآنا فجأةً من النافذة ونحن واقفون في
الشارع، أو أدرك بطريقةٍ ما مدى قرْب هذا الخطر، وأن عليه التصرُّف على الفور إن أراد
«؟ تجنُّبَه، أليس كذلك؟ ماذا ترى يا سيد هولمز
«. أن نصعد على الفور ونرى بأنفسنا »
«. لكننا لا نملك أي إذن بالقبضعليه »
إنه في مكانٍ غير مأهول بالسكان في ظروف مثيرة للشك، وهذا » : قال جريجسون
يكفي في الوقت الحالي. وحين نقبض عليه نرى إن كانت نيويورك ستساعدنا في الإبقاء
«. عليه أم لا. وأنا سأتحمل مسئولية القبضعليه الآن
ربما يعاني المحققون الرسميون لدينا من قصور في مسألة المعلومات، لكنهم لا
يفتقرون أبدًا للشجاعة. صعد جريجسون الدَّرَج من أجل القبضعلى هذا القاتل الخطير
بالهدوء البالغ نفسه والأسلوب الجاد ذاته اللذَين يكون عليهما عندما يصعد سُلَّم سكوتلاند
يارد. حاول الرجل من وكالة بينكرتون دفعه حتى يتخطاه، لكن جريجسون أعاده إلى
الخلف بمرفقه بحزم؛ فمخاطر لندن لا يتعامل معها إلا أفرادشرطة لندن.
كان باب الشقة جهةَ اليسار في الطابق الثالث مفتوحًا جزئيٍّا، ودفعه جريجسون
ليفتحه. وبالداخل كان كلُّ شيء هادئًا ومظلمًا. أشعلتُ عود ثقاب وأضأتُ به مصباح
المحقق. وبينما كنت أفعل هذا، وقد استقر الضوء المرتعش في شكل لهب، أصدرنا جميعًا
صيحة من الذهول؛ فقد رأينا على الألواح الخشبية للأرضية الخالية من السجاد آثار دماء
حديثة. كانت آثارُ الأقدام الدامية تتجه نحونا مباشرةً، وكانت قادمة من غرفةٍ داخلية
كان بابها مغلقًا. فتح جريجسون البابَ وكان يمسك بمصباحه المتوهج بشدة أمامه، بينما
نظرنا جميعًا بلهفة من فوق كتفَيه.
في منتصف أرضية الغرفة الفارغة رأينا جسدَ رجل ضخم ملقًى، ووجههُ الحليق
الداكن اللون مشوَّهٌ ببشاعة، وحوْل رأسه هالةٌ قرمزية مروعة من الدماء، وملقًى داخل
حلقة واسعة رَطْبة على الأرضالخشبية البيضاء. كانت ركبتاه إلى أعلى، ويداه مفتوحتَين
في ألمٍ واضح، ويخرج من منتصف حلقه الكبير البني اللون المتجه إلى أعلى مِقْبضٌأبيضُ
لسكينٍ غُرسنصله بالكامل في جسده. ومعضخامة حجم الرجل، لا بدَّ أنه سقط أمام هذه
الضربة المروعة مثل ثورضُرب بفأس. وبجوار يده اليمنى وجدنا خنجرًا كبيرًا، مقبضه
مصنوع من قرون الحيوانات وله نصل من الجهتَين، ملقًى على الأرض، وبالقرب منه قفازٌ
جلدي أسود.
يا إلهي! إنه جورجيانو الأسود نفسه! لقد سبقنا شخصٌما » : صاح المحقق الأمريكي
«. هذه المرة
«؟ ها هي الشمعة عند النافذة يا سيد هولمز. ما هذا؟ ما الذي تفعله » : قال جريجسون
سار هولمز عبْر الغرفة وأشعل الشمعة، وظلَّ يحرِّكها إلى الخلف والأمام عبْر إطار
النافذة. ثم نظر عبْر الظلام وأطفأ الشمعة وألقاها على الأرض.
ثم جاء إلينا ووقف يفكِّر تفكيرًا عميقًا بينما كان «. أعتقد أن هذا سيساعدنا » : قال
قلتَ إن ثلاثة أفراد خرجوا من الشقة في أثناء » : المحققان يفحصان الجثَّة، وأخيرًا قال
«؟ انتظارك بالأسفل؛ فهل دققتَ في ملامحهم
«. أجلْ، فعلت »
هل كان بينهم رجل في الثلاثين من عمره تقريبًا، متوسط الحجم وله لحية سوداء، »
«؟ وبشرة داكنة
«. أجل، كان آخر مَن خرج »
أعتقد أن هذا هو الرجل الذي تبحث عنه. أستطيع إعطاءك وصْفه، كما أن لدينا »
«. شكلًا واضحًا لآثار أقدامه. أعتقد أن هذا كافٍ لك
«. ليس بالقدْر الكافي يا سيد هولمز، من بين ملايين الناس في لندن »
«. ربما لا؛ ولهذا رأيتُ أنه من الأفضل استدعاء هذه السيدة لتساعدك »
استدرنا جميعًا حين قال هذه الكلمات، ووجدنا عند مدخل الغرفة سيدةً طويلةً
وجميلة: إنها المستأجِرة الغامضة في منطقة بلومزبري. تقدمتْ ببطء إلى داخل الغرفة،
وكان وجهها شاحبًا وتظهر عليه علاماتُ رعبٍ بالغ، وكانت عيناها ثابتتَين وتحدقان بشدة،
ونظرتها المرعوبة موجَّهة إلى الجثمان الأسود الملقى على الأرض.
ثم سمعتُ شهيقًا مفاجئًا وعميقًا «! لقد قتلته! أوه، يا إلهي! لقد قتلته » : تمتمتْ قائلة
من جانبها، وقفزتْ في الهواء وهي تصرخ من الفرحة. دارت في الغرفة وهي ترقص
وتصفِّق بيدَيها، ولمعت عيناها الداكنتان في سعادة ودهشة، وتدفَّق العديد من عبارات
التعجب الإيطالية من شفتَيها. من المروع والمذهل رؤيةُ سيدة مثل هذه وهي تهتزُّ فرحًا
من مثل هذا المشهد. وفجأة توقفتْ وحدقتْ فينا جميعًا بنظرة متسائلة.
لكن مَن أنتم؟! أنتم الشرطة، أليسكذلك؟ أنتم مَن قتلتم جوسيبي جورجيانو، أليس »
«؟ كذلك
«. نحن الشرطة يا سيدتي »
نظرتْ حولها في الظلال الموجودة داخل الغرفة.
لكن أين جينارو إذن؟ إنه زوجي، جينارو لوكا. وأنا إميليا لوكا، ونحن » : سألتنا
من نيويورك. أين جينارو؟ لقد دعاني منذ لحظة من هذه النافذة، وركضتُ إليه بأقصى
«. سرعتي
«. أنا مَن فعلتُ هذا » : قال هولمز
«؟ أنت! وكيف استطعتَ استدعائي »
لم تكن الشفرةُ التي تستخدمانها صعبةً يا سيدتي، كما كان حضورك هنا مهمٍّا. »
وكنت أعرف ،« احضري » وعلمتُ أنَّ كلَّ ما عليَّ فعله هو إرسال إشاراتٍ مضمونُها كلمة
«. أنكِ ستأتين بالتأكيد على الفور
نظرت السيدة الإيطالية الجميلة بذعرٍ نحو رفيقي.
ثم «… أنا لا أفهم كيف عرفت هذه الأشياء. جوسيبي جورجيانو، كيف » : وقالت
الآن فهمت! زوجي » : توقفتْ عن الحديث، وفجأة أضاء وجهها بالفخر والسعادة، وقالت
جينارو! إن زوجي الرائع والجميل جينارو، الذي حماني من كل خطر، هو الذي فعلها،
بيدَيه القويتَين؛ إنه هو الذي قتل هذا الوحش! أوه، يا جينارو، كم أنت رائع! أي امرأة
«!؟ يمكن أن تستحق مثل هذا الرجل
قال جريجسون الصريح، وهو يضع يده على كُم السيدة بقليل من العاطفة كما لو
حسنًا يا سيدة لوكا، أنا لم أستوضح بعدُ مَن أنتِ ولا » : كانت أحد مشاغبي نوتينج هيل
«. ماذا تفعلين، لكنكِ قلتِ ما يكفي ليجعلنا نحتاج إلى أخذك معنا إلى سكوتلاند يارد
لحظة واحدة يا جريجسون، أعتقد أن لهفة هذه السيدة لإعطائنا معلومات » : قال هولمز
على القدْر نفسه من لهفتنا للحصول عليها. أنتِ تدركين يا سيدتي أن زوجك سيُقبض
عليه ويُحاكم بتهمة قتْل هذا الرجل الملقى على الأرضأمامنا؟ وما ستقولينه ربما يُستخدم
دليلًا ضده. لكن إن كنتِ تعتقدين أن تصرُّفه هذا كان نابعًا من دوافعَ ليست إجرامية،
«. كان يتمنَّى لو كانت معروفة، فربما ستقدمين له خدمة كبيرة إن أخبرتِنا بالقصة بأكملها
الآن بعد وفاة جورجيانو، لم نَعُدْ نخشى شيئًا. لقد كان شيطانًا » : قالت السيدة
«. ووحشًا، ولا يوجد قاضٍفي العالم سيعاقب زوجي على قتله
في هذه الحالة أقترح أن نوصِد هذا الباب ونترك الأشياء كما وجدناها، » : قال هولمز
«. ونذهب مع هذه السيدة إلى غرفتها، ونكوِّن رأيًا بعد سماع الأشياء التي ستخبرنا بها
بعد مرور نصف ساعة، كنَّا جالسِين، نحن الأربعة، في غرفة الجلوسالصغيرة للسيدة
لوكا نستمع لقصتها المثيرة عن هذه الأحداث المشئومة، التي تصادف أننا شهدنا نهايتها.
تحدَّثتْ معنا بسرعة وطلاقة، لكن بلغةٍ إنجليزية غير تقليدية؛ لذا سأصحِّح الأخطاء
النحوية فيها من أجل التوضيح.
لقد وُلدتُ في بوسيليبو بالقرب من نابولي، وأنا ابنة أوجوستو باريلي، الذي » : قالت
كان كبير المحامين والنائب البرلماني في فترةٍ من الفترات عن هذا الجزء من نابولي. وكان
جينارو يعمل عند والدي، ووقعتُ في حبِّه، كما يجب على أي امرأة أن تفعل. لم يكن يملك
المال أو المنصب — لم يكن لديه إلا وسامته وقوَّته وحماسه — ولذلك عارض والدي هذا
الزواج. فهربنا معًا، وتزوجنا في باري، وبعتُ مجوهراتي حتى نحصل على المال الذي نذهب
به إلى أمريكا. كان هذا منذ أربع سنوات، ومكثنا في نيويورك منذ ذلك الحين.
كان الحظ حليفنا في البداية؛ فقد صنع جينارو معروفًا في رجلٍ نبيل إيطالي؛ إذ أنقذه
من بعضرجال العصابات في مكانٍ يُدعى باويري، وهكذا أنشأصداقةً مع رجلٍ ذي نفوذ.
كان يُدعى تيتو كاستالوتي، وكان الشريك الرئيسي في شركة كاستالوتي وزامبا الضخمة،
المستورد الرئيسي للفاكهة في نيويورك. كان السنيور زامبا مريضًا، وكان صديقنا الجديد
كاستالوتي يتمتَّع بالسلطات كافة داخل الشركة، التي يعمل بها أكثر من ثلاثمائة شخص.
أخذ زوجي للعمل معه في الشركة، وجعله رئيسًا على أحد الأقسام، وأظهر نواياه الطيبة
تجاهه بشتَّى الطُّرق. كان السنيور كاستالوتي أعزبَ، وأعتقد أنه شعرَ بأن جينارو مثل
ابنه، وأحببته أنا وزوجي كأب لنا. حصلنا على منزلٍ صغير في بروكلين وفرشناه، وكان
مستقبلنا كلُّه يبدو مزدهرًا، حتى خيمتْ علينا سحابةٌ سوداء سرعان ما انتشرت في سماء
حياتنا كلها.
ففي إحدى الليالي حين عاد جينارو من عمله أحضرمعه رفيقًا له من مسقط رأسنا.
كان اسمه جورجيانو، وقد جاء من بوسيليبو أيضًا. كان رجلًا ضخمًا، كما يمكن أن
تلاحظ؛ فقد رأيتَ جثته. لم يكن جسمُه ضخمًا فحسب، بل كان كلُّ شيء فيه غريبًا
وضخمًا ومرعبًا. كان صوته مثل الرعد في منزلنا الصغير. وكانت المساحة تتسع بالكاد
لحركة ذراعَيه الكبيرتَين وهو يتحدَّث. وكانت أفكاره ومشاعره وانفعالاته كلُّها مبالغًا فيها
وبشعة. وتحدَّث، أو بالأحرى زأرَ، بحماسٍبالغ من النوع الذي يُجبِر الآخرين على الجلوس
والاستماع فقط، وتلفَّظ بوابلٍ من الكلمات. وكانت عيناه تلمعان للمرء وتضعانه تحت
رحمته. كان رجلًا بغيضًا وجذابًا في الوقت نفسه. حمدًا للرب على موته!
جاء مراتٍ ومرات، ومع ذلك كنتُ أعلم أن جينارو ليس أسعد حالًا مني بوجوده؛ فقد
كان زوجي المسكين يجلس شاحبَ الوجه ومتبلد الحس يستمع لهذيانه الذي لا نهاية له
عن السياسة والمسائل الاجتماعية، وهما الأمران اللذان شكَّلا الجزء الأكبر من حديث زائرنا.
لم يَقُل جينارو شيئًا، لكني، لمعرفتي به جيدًا، استطعتُ أن أرى على وجهه مشاعرَ لم أرها
عليه من قبلُ. في البداية ظننتُ أنه كُرْه. ثم بالتدريج أدركتُ أن الأمر أكبرُ من مجرَّد الكُرْه؛
لقد كان شعورًا بالخوف؛ خوف مفزع وعميق وغامض. في هذه الليلة — الليلة التي قرأتُ
فيها هذا الرعبَ في وجهه — وضعتُ ذراعي حوْله واستحلفتُه بحبِّه لي وبكل عزيز عليه ألا
يخفي عني شيئًا، وأن يخبرني بسبب سيطرة هذا الرجل الضخم عليه على هذا النحو.
أخبرني بالسبب، وارتجف قلبي بشدة وأنا أسمع كلامه: فزوجي جينارو المسكين،
في أيام رعونته وطيشه، حين بدا العالَمُ كلُّه ضده وكاد عقله يُصاب بالجنون من ظلم
الحياة، انضم إلى جماعةٍ في نابولي، وهي جماعة الدائرة الحمراء، التي تحالفتْ مع جمعية
كاربوناري القديمة. كانت تعهداتُ هذه الجماعة وأسرارُها مرعبةً، لكن بمجرَّد الانضمام
لا يوجد أيُّ سبيل للهروب منها. وحين هربنا إلى أمريكا، ظنَّ جينارو أنه تركها تمامًا
وللأبد. وأصُيب جينارو بالرعب حين التقى في مساء أحد الأيام في الشارع الرجلَ نفسَه
في « الموت » الذي ألحقَه بالجمعية في نابولي، جورجيانو الضخم، وهو رجلٌ أطُلق عليه اسم
جنوب إيطاليا، بسبب دمويته من كثرة جرائم ارتكاب القتل التي ارتكبها! وقد جاء إلى
نيويورك حتى يتفادى الشرطة الإيطالية، وأسَّس بالفعل فرعًا لهذه الجماعة البشعة في
وطنه الجديد. أخبرني جينارو بكل هذا وأراني استدعاءً تلقَّاه في ذلك اليوم، مرسومًا عليه
دائرةٌ حمراء في أعلاه يخبره بأن ثمَّة اجتماعًا سيُعقد في تاريخٍ معيَّن، وأن وجودَه مطلوبٌ
وأمرٌ لا يمكنه مخالفته.
كان هذا سيئًا للغاية، لكن الأسوأ لم يكن قد حدث بعدُ؛ فقد لاحظتُ لبعضالوقت أنه
حين يأتي جورجيانو لزيارتنا في المساء — وكان يفعل هذا كثيرًا — كان يُكثِر من الحديث
إليَّ، وحتى حين كان يوجِّه كلامه لزوجي كانت عيناه البشعتان المحدقتان بشدة، اللتان
تشبهان عينَيْ وحشٍ برِّي، تتجه نحوي دومًا. وفي إحدى الليالي باح بمكنون نفسه؛ فقد
حب حيوان متوحش — حب إنسان همجي. — « الحب » أيقظتُ بداخله ما يُطلق عليه اسم
لم يكن جينارو قد عاد بعدُ للمنزل حين جاء لزيارتنا، فاقتحم عليَّ جورجيانو المنزل،
وأمسك بي بين ذراعَيه القويتَين، وعانقني كما لو كان دبٍّا، وانهال عليَّ بالقُبلات، وناشدني
بالهروب معه. كنتُ أقاومه وأصرُخ حين دخل علينا جينارو وانقضَّ عليه. لكن الوحش
ضرب جينارو وأفقده الوعي وهرب من المنزل الذي لم يدخله مرةً ثانيةً أبدًا. وهكذا عادينا
في هذه الليلة عدوٍّا مميتًا.
بعد أيام قليلة جاء موعدُ الاجتماع. عاد جينارو منه ووجهه يظهر عليه أن شيئًا
مروعًا قد حدث. كان أمرًا أسوأ مما يمكن لنا تخيُّله؛ فتمويل هذه الجماعة كان يأتي من
ابتزاز أغنياء إيطاليا وتهديدهم بالعنف إن رفضوا دفع المال. ويبدو أن صديقنا العزيز
الذي أحسن إلينا، كاستالوتي، كان من بين هؤلاء، وقد رفضالخضوع للتهديدات، وسلَّم
الإنذارات للشرطة. وتقرَّر الآن جعلُ مثالهِ عِبْرة حتى تمتنع أيُّ ضحية أخرى عن التمرُّد.
وحدث في هذا الاجتماع الاتفاقُ على تفجيره هو ومنزله بالديناميت. جرى سَحْبًا على
الشخصالذي سينفِّذ هذه المهمة. ورأى جينارو وجهَ عدوِّنا المتوحِّش وهو يبتسم له وهو
يضع يده داخل حقيبة السَّحْب. لا شكَّ أن هذا الأمر دُبِّر مسبقًا بطريقةٍ ما؛ إذ أخرج
جينارو في راحة يده القرصَ المميت المرسوم عليه الدائرةُ الحمراء، الذي يمثِّل أمرًا ملزمًا
بالقتل؛ فقد كان عليه قتْل أعزِّ أصدقائه وإلا سيُعرِّض نفسه وإياي لانتقام زملائه. لقد
كان جزءًا من نظامهم الوحشي في عقاب الذين يخافونهم أو يكرهونهم ليس فقط أذيتهم
شخصيٍّا، بل وأذية أحبائهم أيضًا، وكانت معرفةُ جينارو المسكين بهذا هي التي جعلته
يشعر برعبٍ بالغ، وجعلته يكاد يفقد عقلَه من الفزع.
جلسنا معًا طوال الليل، ونحن يطوِّق كلٌّ منَّا الآخر، ويحاول كلٌّ منَّا دعمَ الآخر لتحمُّل
المشكلات التي نوشك على مواجهتها. تحدَّد صباح اليوم التالي من أجل تنفيذ هذه المهمة.
وبحلول منتصف النهار كنتُ أنا وزوجي في طريقنا إلى لندن، لكن لم يحدث هذا إلا بعد أن
حذَّر زوجي المنعِم علينا تحذيرًا كاملًا من هذا الخطر، وتركَ هذه المعلومةَ أيضًا للشرطة
حمايةً لحياته في المستقبل.
أما الباقي، أيها السادة، فأنتم تعرفونه بأنفسكم. لقد كنَّا متأكدَين من أن أعداءنا
يتعقبوننا مثل ظلِّنا. كانت لدى جورجيانو أسبابُه الخاصة للانتقام، لكن على أي حال
كنَّا نعلم مدى ما يمكن أن يتمتَّع به من قسوةٍ ودهاء ومثابرة؛ إذ تزخر كلٌّ مِن أمريكا
وإيطاليا بقصصٍ عن قدراته المرعبة، وكان هذا هو الوقت الأمثل لاستخدامها. استفاد
زوجي العزيز من الأيام القليلة التي استبقنا فيها تعقُّبه لنا بسبب تحركنا المبكر، في تدبير
ملجأ لي بطريقةٍ تجعل من الصعب إمكانية وصول أي خطر إليَّ. أما هو، فقد أراد أن
يبقى حرٍّا حتى يتمكَّن من التواصل مع كلٍّ مِن الشرطة الأمريكية والإيطالية. أنا شخصيٍّا
لم أعرف أين يعيش أو كيف. كلُّ ما عرفتُه كان عبْر الأعمدة التي تُنشر في الصحيفة. لكن
حين نظرتُ عبْر نافذتي، رأيتُ رجلَين إيطاليَّين يراقبان المنزل، وأدركتُ أن جورجيانو عثر
على مخبئنا بطريقةٍ ما. وأخيرًا أخبرني جينارو، عبْر الصحيفة، أنه سيرسل إشاراتٍ لي
عبْر نافذةٍ معينة، لكن حين حصلتُ على الإشارات لم تكن إلا تحذيرات، ثم قُطعت فجأة.
واتضح الآن لي أنه عَلمَ أن جورجيانو عثر عليه، وأنه، حمدًا للرب، كان مستعدٍّا له حين
أتى. والآن، أيها السادة، أسألكم هل نخشى من الوقوع تحت طائلة القانون؟ أو هل ثمَّة
«؟ أيُّ قاضٍيمكنه أن يدين زوجي جينارو على ما فعله
حسنًا يا سيد جريجسون، أنا لا أعرف ما وجهة » : قال الأمريكي وهو ينظر إلى المحقِّق
النظر البريطانية في هذا، لكنني أعتقد أن زوج هذه السيدة سيحصل على خطاب شكر عام
«. في نيويورك
لا بدَّ لها أن تأتي معي لمقابلة رئيسي. وإن كان ما تقوله » : أجاب جريجسون قائلًا
صحيحًا ومدعمًا بالأدلة، فلا أعتقد أنه يوجد ما تخشى منه هي أو زوجها. لكن ما لا
«. يمكنني فهْمه يا سيد هولمز، هو كيف حدث وتورطتَ أنت في هذه المسألة
التعلُّم يا جريجسون، التعلُّم. ما زلتُ أبحث عن المعرفة في الجامعة القديمة. حسنًا، »
يا واطسون أصبحتَ تملك عينةً أخرى من القصص التراجيدية والغريبة لتضيفها إلى
مجموعتك. بالمناسبة، لم تصل الساعة إلى الثامنة بعدُ، وثمَّة عرضٌلفاجنر في حي كوفنت
«. جاردن! إن أسرعنا، فربما نصل في وقتِ عرضِالفصل الثاني