لطالما كان السيِّد شيرلوك هولمز يرى أنه يجِب عليَّ أن أنشر الحقائق الغريبة المُرتبطة
بالبروفيسور بريسبري، حتى لو لم يكن ذلك إلَّا لتبديد الشائعات المُزعِجة بصورةٍ نهائية،
والتي أثارتْ قلق الجامعة وتردَّدصداها في جمعيَّات لندن العِلمية قبل ما يقرُب من عشرين
عامًا. غير أنَّ الطريق إلى ذلك لم يَخلُ من العَقبات، وظلَّت القصَّة الحقيقية لهذه القضية
الغريبة مَدفونةً في عُلبة الصفيح التي يقبَع فيها الكثير من السِّجلَّات الشاهِدة على مُغامرات
صديقي. لكنَّنا حصلْنا أخيرًا الآن على الإذن بإعلان الحقائق التي شكَّلتْ واحدةً من آخِر
القضايا التي تولَّاها هولمز قبل تقاعُده عن هذه المهنة. وحتى في وقتِنا الراهن علينا أن
نُراعي قدْرًا مُعيَّنًا من التكتُّم والتحفُّظ عند عرْضالحقائق أمام الجمهور.
كان الوقت مساءَ يومٍ من أيام الآحاد في بداية سبتمبر عام ١٩٠٣ عندما تلقَّيتُ من
هولمز رسالةً مقتضبةً يقول فيها:
احضرفورًا إذا ناسبَك ذلك، وإن لم يُناسِبك، فاحضرعلى أيِّ حال.
إس إتش
كانت علاقتنا غريبةً في تلك الأيام الأخيرة؛ فقد كان رجلًا يتَّبِع عاداتٍ مُعينة، عادات
مُحدَّدة ومركزة، وقد أصبحتُ أنا واحدةً منها. أصبحتُ ركنًا مُهمٍّا من أركان حياته؛ كنتُ
كالكمان والتَّبغ الخشن والغليون الأسود القديم والفهارس، وغيرها مِن الأشياء التي قد
أجِد صعوبةً أكبر في تبرير أهمِّيتها بالنسبة إليه. فحين كانت تبرز قضية تتطلَّب عملًا
حثيثًا وكان يحتاج إلى رفيق يُمكنه أن يُعوِّل بعض الشيء على شجاعتِه ورَباطة جأشِه،
مغامرة الرجل الزاحف
كان دوري واضحًا. لكن بخِلاف ذلك، كانت لي مَنافع أخرى؛ كنتُ أداةً لشحْذ عقله ومُحفِّزًا
له؛ فكان يُحبُّ أن يفكر بصوتٍ عالٍ في حضوري. يصعُب الزَّعم بأنه كان يوجِّه مُلاحظاته
إليَّ، فقد كان يُوجِّه الكثير منها إلى هَيكلسريره، لكنَّه على أيِّ حالٍ تَبنَّى هذه العادة؛ ومن
ثَمَّ فقد كان من المُفيد على نحوٍ ما أن أكون حاضرًا، مُوثِّقًا ومُتدخِّلًا. وحتى إنْ أزعجه منِّي
بعض البطء المَنهجي الذي تتَّسِم به عقليتي، لم يكن ذلك الانزعاج ليؤدِّي إلَّا إلى توهُّج
انطباعاته وحدْسِه المُتوقِّد كاللهيب، بسرعةٍ أكبر وحيوية أشدَّ. كان ذلك هو دَوري المُتواضع
في رابِطتنا.
حين وصلتُ إلى شارع بيكر وجدتُه مُكَوَّمًا في كُرسيِّه ذي الذِّراعَين. رُكبتاه مَرفوعتان
إلى الأعلى، وقد وَضع غليونه في فمه، وتقطَّب جبينُه من التفكير؛ فقد كان من الواضح أنه
في خضمِّ التفكير في مسألةٍ مُزعِجة. وبإيماءة من يدِه، أشار إلى مقعدي القديم. أمَّا فيما
عدا ذلك، فقد مرَّ نِصف ساعة كاملة قبل أن تبدو منه أيُّ إشارةٍ أخرى تدلُّ على أنه كان
مُدركًا لوجودي، ثم أجفل وكأنَّه يُفيق من أحد أحلام اليقظة، وبابتسامته الهازلة المُعتادة،
رحَّب بي مُجدَّدًا في المنزل الذي كان منزلي يومًا ما.
لعلَّك تعذُرشرود ذِهني يا عزيزي واطسون؛ فقد تنامى إلى عِلمي » : بدأ بالحديث قائلًا
بعض الحقائق المُثيرة في غضون الأربع والعشرين ساعةً الماضية، فطرَحَت تلك الحقائق
أمامي بعض التأمُّلاتِ الأعمِّ في طبيعتها. إنَّني أفكر جدِّيٍّا في كتابة دراسةٍ قصيرة عن
«. استخدام الكلاب في عمل المُحقِّق
لكنَّ ذلك قد كُتِبَ من قبل بلا شكٍّ يا هولمز، الكلاب البوليسية بأنواعها » : أجبتُه قائلًا
«…
كلَّا، كلَّا يا واطسون، هذا الجانب من المسألة واضِح بالطبع، » : استدرك هولمز قائلًا
لكنَّ لها جانبًا آخَرَ أشدَّ خفاءً بكثير. لعلك تتذكَّر تلك القضية التي أطلقتَ عليها بطريقتك
إذ تمكَّنتُ من خلال مُراقبة حالة الطفل ؛« مُغامرة أشجار الزان النُّحاسية » المُثيرة اسم
«. الِمزاجية من أن أستنتِج العادات الإجرامية لذلك الأب المَرموق المُتعجرِف
«. أجل، أتذكَّر ذلك جيدًا »
حسنًا، إنَّ المَنحى الذي تتَّخِذه أفكاري عن الكلاب يتَّبِع الِمنوال نفسه؛ فالكلاب تعكِس »
حياة الأسُرة التي تعيش بينها؛ فمن ذا الذي رأى كلبًا مرِحًا في أسُرة كئيبةٍ أو كلبًا حزينًا
في أسرةٍ سعيدة؟ ستجِد أنَّ الغَضوبِين كلابُهم غَضوبة، والخَطِرين كلابُهم خَطِرة، ومن ثَمَّ
«. فقد تُعبِّر أمزِجَةُ الكلاب عن أمزِجَةِ أصحابها
«. لا بدَّ أنَّ ذلك احتمال بعيد يا هولمز » : هززتُ رأسي قائلًا
كان هولمز قد ملأ غليونه من جديد، وتابَع جلسته دون أن ينتبِهَ لتعليقي.
إنَّ التطبيق العملي لما قُلتُه وَثيق الصِّلة بالمسألة التي أحقِّقُ فيها الآن. إنها عقدة »
من خُيوطٍ مُتشابكة، كما تعرِف، وأنا أبحث فيها عن طرفٍ يُمكنني البَدء منه، وقد يتمثَّل
أحد هذه الأطراف في السؤال: لماذا حاوَلَ رُوي، الكلب الذِّئبي للبروفيسور بريسبري، أن
«؟ يَعَضَّه
غصتُ في مقعدي وقد انتابني شيء من خَيبة الأمل؛ ألِسؤالٍ تافِهٍ كهذا استدْعاني من
عَملي؟ رمَقَني هولمز بنظره قائلًا:
لم تتغيَّر بعدُ يا واطسون! لا تُدرك أبدًا أنَّ أخطر القضايا قد تستنِد إلى أتفَهِ الأمور. »
لكن ألا يبدو غريبًا للوَهلة الأولى أن فَيلسوفًا عَجوزًا وَقورًا — لقد سمعتُ عن بريسبري
بالطبع، أستاذ الفسيولوجيا الشهير بجامعة كامفورد. أليس كذلك؟ — أليس غريبًا أن
يتعرَّض رجل كهذا، كان كلبُه الذِّئبي الوفيُّ هو صديقه الصَّدُوق، لهجومٍ من كلبه مرَّتَين
«؟ حتى الآن؟ ماذا تَستنتِج من هذا
«. الكلب مريض »
حسنًا، لا يُمكننا إغفال هذا الاحتمال، لكنه لم يُهاجِم أيَّ شخصٍآخر، ولا يبدو حتى »
أنه يُزعِج صاحِبه إلَّا في مواقِفَ استثنائيةٍ للغاية. إنه أمرٌ غريب يا واطسون، غريب للغاية.
ها هو السيد بينيت الشابُّ قد حضرقبل مَوعِده، إن كان هو مَن يدقُّ الجرَس. كنتُ آمُل
«. أن يطول حديثُنا قبل أن يأتي
وقْع خطواتٍسريعة على الدَّرَج، ثم نقرٌ حادٌّ على الباب، وبعدَها بلحظة، قدَّم العميل
الجديد نفسه. كان شابٍّا طويلًا وسيمًا، في الثلاثين من عمره، حسن الهِندام مُتأنِّقًا، لكنَّ
ثَمَّةَ شيئًا في تَصرُّفاته يَشِي بخجلِ الطالِب لا ثِقة الرجل الذي اختبَرَ الحياة. صافَحَ هُولمز
ثُمَّ نظر إليَّ ببعضالدَّهْشة.
هذا الأمرُ حسَّاس للغاية يا سيِّد هُولمز، يجِب أن تُراعي » : بدأ بالحديث مُخاطبًا هولمز
صِلَتي بالبروفيسور بريسبري من الناحية الخاصَّة والعامَّة كذلك؛ لذا فإنه يصعُب عليَّ أن
«. أجِدَ مُبرِّرًا يدفعُني إلى الحديث في وجود أيِّ شخصٍآخر
لا تخشَ شيئًا يا سيِّد بينيت؛ فالدكتور واطسون خير مثال على التكتُّم، كما أنَّني »
«. أستطيع أن أؤكد لك أنَّني سأحتاج على الأرجَح إلى وجود مُساعدٍ في هذا الأمر
كما تشاء يا سيد هولمز، أنا على يقينٍ من أنك ستتفهَّم السبب فيما أبديتُه من »
«. تحفُّظات في هذا الأمر
سوف تتفهَّم الأمر يا واطسون حين أخُبرك بأنَّ هذا السيد النبيل، تريفور بينيت، هو »
المُساعد الفني للعالِم العظيم، وهو خطيب ابنته ويعيش معه تحت سقْفٍ واحد. لا بُدَّ أن
نتَّفِق بالتأكيد على أنَّ البروفيسور يرى استحقاقَه التامَّ لولائه وإخلاصه، غير أنَّهُ قد يكون
«. من الأفضل إثبات ذلك باتِّخاذ الخطوات المُناسبة لتفسير هذا اللُّغز الغريب
«؟ آمُل ذلك ياسيد هولمز؛ فذلك هو هدَفي الوحيد. هل يدريالدكتور واطسون بالوضع »
«. لم يَتوافر لي الوقت الكافي لكي أشرَح له »
حسنًا، ربما يكون من الأفضل إذن أن أستعرِضخلفيَّةَ الموضوع أوَّلًا، قبل أن أخُبركم »
«. ببعضالتطوُّرات الجديدة
سأفعل أنا ذلك بنفسي كي أثُبِتَ أنني مُلمٌّ بالأحداث » : تناولَ هولمز دفَّة الحديث قائلًا
في ترتيبها الصحيح. حسنًا يا واطسون، تَذيع سُمعة البروفيسور في أوروبا كلها. تَصطبِغ
حياته بالطابع الأكاديمي ولم تَشُبْ سُمعته أيُّ شائعة قط. تُوفِّيَتْ زوجته ولديه ابنة واحدة
تُسمَّى إديث. إنه، حسب استنتاجي، رجل ذو شخصية فعَّالة وإيجابية للغاية، وطبيعةٍ
ربما يَسَعُنا أن نَصِفها بأنها نِضاليَّة، وقد كانت تلك هي الحال حتى بضعة أشهر.
بعد ذلك اضطرَب مَسار حياته. إنه يبلُغ من العمر واحدًا وستِّين عامًا، لكنَّه خطب
ابنة البروفيسور مُورفي، زميله في قِسم التشريح المُقارَن. لم يكن السبب في تلك الخِطبة،
كما فهمتُ، نابعًا من التودُّد المُتعقِّل إلى رجلٍ مُسنٍّ، وإنما هو شغفُ الشباب المُتَّقِد؛ فلم
يكن لغيره أن يُبدي كلَّ هذا التَّفاني والإخلاص في الحُب. أما السيدة، ألِيس مورفي، فقد
كانت فتاةً مِثاليَّة، جمالًا وعقلًا؛ لذا فالبروفيسور معذور تمامًا في افتِتانه بها، غير أنَّ تلك
«. العلاقة لم تحظَ بالقَبول التامِّ من جميع أفراد عائلته
«. كُنَّا نرى أنَّها علاقة مُتجاوِزة حدود المعقول » : تحدَّث زائرنا
بالضبط، مُتجاوِزة حدود المعقول وجامِحة بعض الشيء وغريبة كذلك، لكن »
البروفيسور بريسبري كان ثريٍّا، ولم يكن ثَمَّ اعتراض من جانب الوالد. أما الابنة فقد
كانت لها آراء أخرى، وكان هناك بالفعل العديد من الرجال مِمَّن يتقدَّمون لخِطبتها.
وحتى إن كان البروفيسور يفوقهم غنًى، فإنهم كانوا على الأقلِّ أكثر مُناسبةً من ناحية
العمر. بدا أنَّ الفتاة أعُْجِبَتْ بالبروفيسور بالرغم من غرابة أطواره، ولم يقِف عقبةً في
الطريق إلَّا عنصرالسنِّ.
في هذه الفترة ظهر فجأة لُغزٌ صغير عكَّر صفاء الرُّوتين المُعتاد لحياة البروفيسور؛
فقد فعل ما لم يكن يفعله قطُّ من قبل، فقد غادر المنزل دون أن يُخبر أحدًا بوِجْهته،
وغاب لمدة أسبوعَين، ثم عاد مُرهقًا كمَن أبلاه السفر دون أدنى إشارةٍ إلى المكان الذي
ذهب إليه، رغم أنه كان دومًا أكثر الرجال وضوحًا وصراحةً. لكن تَصادَف أنَّ عميلنا هنا،
السيد بينيت، تلقَّى خِطابًا من أحد زُملائه الطلَّاب في براج، يُعبِّر فيه عن سعادته برؤية
البروفيسور بريسبري هناك، غير أنه لم يتمكَّن من التحدُّث إليه، وبهذه الطريقة فقط عَلِم
أهل بيتِهِ بمكان اختفائه.
والآن نصِل إلى أهمِّ نُقطة، منذ ذلك الوقت فصاعدًا طرأتْ على البروفيسور تَغيُّرات
غريبة؛ فقد أصبح غامضًا ومُتخابثًا.صار مَن حوله يَشعرون دائمًا أنه لم يَعُد الرجل نفسه
الذي كانوا يعرفونه، بل أضحى مُحاطًا بظِلالٍ ما تُخفي مَناقِبَه السامية. لم يتأثر ذكاؤه؛
فمُحاضراته لا تزال رائعة كعهدها، لكنَّنا كنَّا نُلاحظ دائمًا أنَّ هناك شيئًا جديدًا، شيئًا
غير مُتوقَّع ويُنذر بالشؤم. حاولتِ ابنته المُخلِصة مِرارًا وتكرارًا أن تُحافظ على علاقتهما
القديمة وأن تخترِق هذا القِناع الذي بدا أنَّ أباها قد ارتداه، وأنت أيضًا يا سيدي أعتقد أنك
حاولتَ أن تفعل الشيء نفسه، لكنَّ كلَّ ذلك ذهب هباءً. والآن يا سيد بينيت، أخبِرْنا بنفسك
«. عن حادِثةِ الخطابات
يجِب أن تفهَمَ يا دكتور واطسون أنَّ البروفيسور لم يُخفِ عنِّي أسرارًا قبل ذلك؛ »
فلو أنَّني كنتُ ابنه أو أخاه الأصغر لما حَظِيتُ بمزيدٍ من ثِقتِه، وبِصِفَتي مُساعِده الخاص،
كنتُ أتعامل مع كل ورقةٍ تَرِدُه؛ فكنتُ أفتح الخطابات وأصَُنِّفها حسْب فئاتها، لكنَّه بعد
أن عاد بفترةٍ قصيرة تغيَّر كلُّ ذلك؛ فقد أخبَرَني أنَّ بعض الخطابات قد تَرِدُه من لندن،
وعليها علامة الصَّليب تحت طابع البريد، وعليَّ أن أنُحِّي هذه الخطابات جانبًا، فلا يراها
غيره. يُمكنني أن أقول إنَّ العديد من هذه الخطابات قد مرَّ بيدي، وكانت تحمِل علامة إي
سي، وقد كُتِبَتْ بخطٍّ تصعُب قراءته. إن حدث وردَّ على أيٍّ من هذه الخطابات، لم تكن تلك
«. الردود تمرُّ بيدي، ولا كانت تُوضَع حتى في سلَّة البريد التي كُنَّا نجمع فيها الخطابات
«. حدِّثنا عن الصندوق أيضًا » : قال هولمز
أوه، أجل، الصندوق. لقد أحضر البروفيسور من أسفاره صندوقًا خشبيٍّا صغيرًا، »
وهو الشيء الوحيد الذي كان يدلُّ على قِيامه بجَولة أوروبية؛ فقد كان من القِطَع العتيقة
المَنحوتة التي تُذكِّرك بألمانيا. كان يحتفِظ بهذا الصندوق في خِزانة أدواته. وفي أحد الأيام،
بينما كنتُ أبحث عن قُنْيَة في الخِزانة، تناولتُ الصندوق، وقد فاجأني ردُّ فِعله؛ فقد ثار
غضبًا وراح يُوبِّخُني بأقسى الألفاظ. لقد كانت تلك هي المرَّة الأولى التي يحدُث فيها شيء
مثل هذا، وقد آلمني ذلك كثيرًا. حاولتُ أن أشرح له أنني لم أتعمَّد أن ألِمسالصندوق، لكنَّني
كنتُ مُدركًا أنه ظلَّ ينظر إليَّ بحدَّة طوال المساء، وأنَّ تلك الحادثة كانت ما تزال تعتمل في
كان ذلك في الثاني » : بعد ذلك، أخرج السيد بينيت مُفكِّرة صغيرة من جيبه وقال «. ذِهنه
«. من يوليو
إنك شاهد مُمتاز بلا شك؛ فقد أحتاج إلى بعضهذه التواريخ التي » : تحدَّث إليه هولمز
«. دوَّنْتَها
لقد تَعَلَّمْتُ أمورًا عديدة من أستاذي، ومنها المَنهجية؛ لذا فورَ أن بدأتُ مُلاحظة »
سلوكه الغريب، شعرتُ بأنه من واجبي أن أدرُسحالته. ومن ثَمَّ فقد دوَّنتُ هنا أنه في ذلك
اليوم بالتحديد، الثاني من يوليو، قد هاجم رُوي البروفيسور بينما كان يخرُج من مكتبه
إلى الصالة. ومرةً أخرى في الحادي عشر من يوليو حدَث الشيءُ نفسُه، ثُم في العشرين من
يوليو أيضًا تكرَّر الأمر. وبعد ذلك، اضطُرِرْنا إلى أن نُبعد روي في الإسطبلات. لقد كان
«. حيوانًا وَدودًا وعزيزًا لدَينا، لكنِّي أخشى أنَّني قد أضْجرتُكما معي
تحدَّث السيد بينيت بنبرةِ تأنيب؛ فقد كان واضحًا للغاية أنَّ هولمز لم يكن يستمع.
كان وجهه جامدًا، بينما راح هو يُحدِّق في السقف شاردَ الذهن، ولم يَستفِق منشُروده إلَّا
غريب! غريب للغاية! إنَّ هذه التفاصيل جديدة » : ببعضالمجهود، ثم راح يُغمغِم بالحديث
عليَّ يا سيد بينيت. أعتقد أننا غَطَّينا الآن خلفية الموضوع بما فيه الكفاية. أليس كذلك؟
«. لكنك كنتَ تتحدَّث عن بعضالتطوُّرات الجديدة
ما أحكيه قد » : تَعكَّر وجه زائرنا الحَسن الطَّلْق بغِشاوة التذكُّر، ثم استأنف قائلًا
جرى في الليلة قبل الماضية. كنتُ أرقُد في السرير مُستيقظًا في الثانية صباحًا، حين سمعتُ
صوتًا خافتًا مكتومًا يأتي من الرَّدهة؛ ففتحتُ الباب ورُحتُ أسترِقُ منه النظر إلى الخارج.
«… ويجِب أن تعرِفا أنَّ غرفة نوم البروفيسور تقَع في آخر الردهة
«؟ وقد كان ذلك بتاريخ » : قاطعَه هولمز سائلًا
بدا زائرنا مُنزعِجًا من تلك المُقاطعة غير ذات الصِّلة بما يَسرُد.
«. أخبرتك يا سيدي أنَّ ذلك كان في الليلة قبل الفائتة، أي في الرابع من سبتمبر »
«. أكمل من فضلك » : أومأ هولمز برأسه وابتسم، ثم قال
إنه ينام في غرفته في آخر الردهة، ولا بدَّ له من أن يَمُرَّ بباب غُرفتي كي يصِل »
إلى الدرَج. لقد كانت تلك تجربة مُخيفة يا سيد هولمز. أعتقد أنَّني أتمتَّع برَبَاطة الجأش
كجيراني، لكنَّ ما رأيتُه أخافَني حقٍّا. كان المَمرُّ مُظلمًا فيما عدا بُقعةً من الضوء قد سقطتْ
من النافذة الموجودة في منتصف الطريق. رأيتُ شيئًا يأتي من المَمر، شيئًا داكنًا يربُض
في الظلام، وفجأةً ظهَر في الضوء، وقد رأيتُه، كان هو. كان يزحَفُ يا سيِّد هولمز، كان
يزحَف! لم يكن يزحَف على يديه ورُكبتَيه، وإنما على يَدَيه وقَدَمَيه، ووجهُه غارِق بين يدَيه.
بالرغم من ذلك، فقد كان يبدو أنه يتحرَّك بسهولة، أمَّا أنا، فقد شلَّني منظرُه حتى أنَّني
ظللْتُ مُتَسمِّرًا لفترةٍ حتى وصل إلى باب غُرفتي، حينَها تقدَّمتُ وسألتُه إن كان يحتاج إلى
المُساعدة. وأما عن إجابته، فقد كانت في غاية الغرابة؛ فقد نهضَ ورَماني بكلمةٍ بذيئة،
ومرَّ بي مُسرعًا ثم راح يهبِط الدَّرَج. ظللتُ مُنتظرًا على مدى ساعة، لكنَّه لم يأتِ مُجدَّدًا.
«. أعتقِد أنه لم يدخل غُرفتَه مُجدَّدًا إلى أن بزَغ ضُوء الصباح
سألَني هُولمز وكأنَّه اختصاصيفي «؟ حسنًا يا واطسون، ما الذي تَستنتِجه من ذلك »
عِلم الأمراض يَعرِض حالةً نادِرة.
ربما يُعاني من القُطان، لقد علمتُ بنوبةٍ حادَّة قد جعلتْ رجلًا يمشيبهذه الطريقة، »
«. ولاشيء أكثر مَشقَّة على النفس من ذلك
جيِّد يا واطسون! دائمًا ما تُساعِدنا على ألَّا نُغفِل الحقائق، لكنَّنا لا نستطيع أن نقبَل »
«. باحتمالِ أنْ يكون السبب هو القُطان؛ ذلك لأنَّهُسُرعان ما استطاع أن يقِف مُنتصِبًا
كانت صِحَّتُه بأفضل حال. في الواقع، إنه أقوى ممَّا عهدتُه عليه » : تحدَّث بينيت قائلًا
منذ سنوات. وها هي الحقائق أمامك يا سيد هولمز، وتلك قضية لا يُمكننا أن نَستشير
الشُّرطة فيها، وقد حِرْنا تمامًا فيما علينا أن نفعل، ويَنتابنا شعور غريب بأنَّنا على وشْك
أن نتَّجِه نحو كارثة. فالآنسة بريسبري، إديث، تشعُر، كما أشعُر أنا أيضًا، بأنَّنا لا يُمكننا
«. أن نقِف مكتوفي الأيدي أكثر من ذلك
«؟ إنها قضيَّةٌ غريبةٌ ومُثيرة بلا شك. ما رأيُك يا واطسون »
بصِفتي طبيبًا، يبدو لي أنها حالة عقلية؛ فقد تأثَّرت عمليَّات » : شرعتُ في الحديث قائلًا
الدِّماغ لدى البروفيسور نتيجة لهذه العلاقة العاطفية، وقد سافر إلى الخارج أملًا في أن
يَنسى عِشقه. أما الخطابات والصندوق، فربما تكون مُرتبِطة ببعض المُعاملات الخاصَّة؛
«. قرْضمثلًا أو بعضشهادات الأسهُم التي وَضَعها في الصندوق
ولم يُوافِق الكلبُ الذئبي بالطبع على تلك الصَّفقة المالية. كلا، كلا يا واطسون، الآن »
«… لا يُمكِنني إلَّا أن أقترح
إنَّ ما كان شيرلوك هولمز على وشْك أن يقترِحه سيبقى مجهولًا إلى الأبد؛ ففي هذه
اللحظة، انفتح الباب ودخلتْ منه امرأة شابَّة، وبمُجرَّد أن ظهرتْ نهض السيد بينيت
صائحًا وأقبل عليها بيدَين مَمدودَتَين لتلتقِيا بيدَين كانت قد بَسطتهُما هي نفسها.
«؟ إديث، عزيزتي! أرجو أن تكون الأمور على ما يُرام. هل حدَثشيء »
لقد شعرتُ بأنَّ عليَّ أن أتَّبِعك، أوه، جاك! لقد كنتُ مُرتعِبةً للغاية! إنه لأمرٌ مُريع أن »
«. أكون وحدي هناك
«. هذه هي السيدة الشابَّة التي كنتُ أتحدَّث عنها يا سيد هولمز، إنها خطيبتي »
كُنَّا على وشك التوصُّل إلى ذلك الاستنتاج بالفعل. أليس كذلك » : أجابه هولمز مُبتسمًا
يا واطسون؟ أعتقِد أنه قد جدَّ جديد في قضيَّتنا يا آنسة بريسبري، فشعرتِ بأنَّنا يجدُر بنا
«؟ أن نعرفه. أليس كذلك
كانت زائرتنا الجديدة شابَّةً حَسْناء وَضيئةً تَتَّسِم بالحُسن الإنجليزي التقليدي، وقد
أجابت ابتسامة هولمز بِمِثلِها بينما تتَّخِذ مقعدها بجوار السيد بينيت.
حين اكتشفتُ أنَّ السيد بينيت قد غادر فُندُقه، خمَّنتُ أنَّني سأجِده هنا على الأرجح. »
وكان قد أخبرَني بالطبع أنه سيطلُب مَشورتك. أوه، يا سيد هولمز ألا تستطيع أن تُساعد
«؟ والدي المسكين
تَحْدُوني آمال يا آنسة بريسبري، لكنَّ القضية ما تزال غامضة، ولعلَّ ما تقولينه »
«. يكشِف لنا بعضالحقائق الجديدة
كان ذلك في الليلة الماضية يا سيد هولمز. كان يتصرَّف بغرابةٍ شديدة طوال اليوم. »
إنني على يقينٍ أنه لا يتذكر أحيانًا ما يفعله، وكأنه يحيا في حلمٍ غريب. لقد كان أمس
يومًا غريبًا حقٍّا. لم يكن ذلك والدي الذي عشتُ معه. لم يتغيَّر مَظهره الخارجي، لكنَّ تلك
«. ليست بسجاياه
«. قُصِّيعليَّ ما حدَث »
استيقظْتُ في الليل على صوت الكلب وهو ينبَح بشدَّة. رُوي المسكين، إنه مُقيَّد الآن »
بالقُرب من الإسطبل. دائمًا ما أغُلق باب غُرفتي عند النوم، فنحن، كما سيُخبرك جاك
— السيد بينيت — نشعُر بأنَّنا جميعًا في خطرٍ مُحدق. تقَع غُرفتي في الطابق الثاني،
وقد حدَث أن كانت ستائر نافذتي الأفقية مفتوحة، وكان ضوء القمر ساطعًا بالخارج.
وبينما كنتُ أرقد وعيناي مُثبَّتتان على مُربع الضوء وأنا أستمع إلى نباح الكلب الجنوني،
ذُهِلتُ حين رأيتُ وجْهَ والدي ينظر إليَّ من النافذة. لقد كدتُ أموت من المُفاجأة والهلَع
يا سيد هولمز. رأيتُ وجهه مُلتصقًا بزُجاج النافذة، وقد بدتْ إحدى يديه مرفوعةً وكأنه
يُحاول دفْع النافذة. لو أنَّ تلك النافذة قد فُتحت، لَمَسَّنِي الجنون. لم يكن ذلك خيالًا
يا سيد هولمز. لا تُوهِم نفسك باعتقاد ذلك. أستطيع أن أجزِم بأنَّني ظللتُ مدَّةَ عشرين
ثانية تقريبًا أشاهِد الوجه وأنا لا أستطيع حَراكًا. ثم اختفى بعد ذلك، لكنَّني لم أستطع،
لم أستطع أن أنهض من الفِراش وأتُابعه ببصري. تجمدتُ في مكاني وبتُّ أرتجِف حتى
الصباح. وعلى مائدة الإفطار كان حادٍّا وعنيفًا. لم تبدُر منه أيُّ إشارة إلى مُغامرة الليل،
«. وكذلك لم أفعل أنا، لكنَّني تذرَّعتُ بالذَّهاب إلى المدينة. وها أنا قد حضرتُ إلى هنا
بدا هولمز مُندهشًا تمامًا من حكاية الآنسة بريسبري.
آنِستي العزيزة، تقولين إنَّ غُرفتك في الطابق الثاني، فهل يُوجَد في الحديقة سُلَّم »
«؟ طويل
كلَّا، وذلك هو الأمر المُدهِش يا سيد هولمز، لا تُوجَد أي طريقة مُمكنة يُمكن أن يصِل »
«. بها إلى النافذة. ورغم ذلك ها قد وصل هناك
«. وقد كان ذلك في الخامس من سبتمبر، إنَّ ذلك يُعقِّد الأمر بلا شك » : قال هولمز
كان ذلك دَور الفتاة في أن تبدو مُندهِشة.
إنَّ تلك هي المرَّة الثانية التي تُشير فيها إلى التاريخ يا سيد » : وتدخَّل بينيت قائلًا
«؟ هولمز، أيُمكن أن يكون لذلك تأثير في القضية
«. من المُمكن، من المُمكن جدٍّا، لكنَّني لا أمتلِك جميع المعلومات في الوقت الحاضر »
«؟ لعلَّك تُفكِّر في العلاقة بين الجنون وأطوار القمر »
كلا، أؤكد لك أنَّني كنتُ أفكر في اتِّجاهٍ آخَر. ربما يُمكنك أن تترُك مُفكرتك معي »
لأتحقَّق من التواريخ. والآن يا واطسون، أعتقِد أنَّ ما سنفعلُه واضح للغاية. لقد أخبرَتْنا
هذه الشابَّة، وأنا أثِقُ تمامًا في حدْسها، بأنَّ والِدَها يكاد لا يتذكر شيئًا ممَّا يحدُث في تواريخ
مُعيَّنة؛ لذا فإننا سنطلُب مُقابلتَه وكأنه قد حدَّد لنا مَوعدًا في ذلك التاريخ، وسيعزو هو
«. الأمر إلى ضَعف ذاكرته، ومن ثَمَّ فسوف نبدأ رِحلتنا بأن نُشاهِدَه عن قُرب
مُمتاز! لكنَّني أحُذِّركما من أنَّ البروفيسور غَضوب وعنيف في » : تحدَّث السيد بينيت
«. بعضالأوقات
ثَمَّة أسباب تدعو إلى تَحرُّكنا على الفور، أسباب وَجيهة جدٍّا إن » : ابتسم هولمز قائلًا
كانت نظريَّتيصحيحة. في الغد سيلتقي بنا السيد بينيت في كامفورد، حيث يُوجَد، حسْبما
أتذكر، نُزُل يُدعى تشيكرز، نَبيذُه ذو جَودةٍ فوق المُتوسِّطة وفِراش الأسرَّة فيه مَقبول.
«. أعتقِد يا واطسون أنَّ حظَّنا في الأيام القليلة القادِمة قد يَكمُن في أماكن أقلَّ ترَفًا
في صباح يوم الإثنين كُنَّا في طريقنا إلى المدينة التي تقَع بها الجامعة الشهيرة. كان
ذلك أمرًا يسيرًا على هولمز الذي لم تكن له جُذور يقتلِعُها. أما أنا، فقد كان ذلك يتطلَّب
تَخطيطًا واستعجالًا مَحمومَين؛ فلم يكن عملي حينئذٍ يُستَهان به. لم يُبْدِ هولمز أيَّ إشارة
عن القضية إلَّا بعد أن أودَعْنا حقائبنا في النُّزُل القديم الذي تحدَّث عنه.
أعتقد يا واطسون أننا نستطيع أن نلحَق بالبروفيسور قبل الغَداء؛ فهو يُلقي »
«. مُحاضرةً في الحادية عشرة، ثم يذهب للراحة في المَنزل
«؟ وماذا سيكون عُذرُنا في زيارته »
ألقى هُولمز نظرةًسريعة على المُفكرة.
لقد شهِدَت الفترة التي أحاطت بيوم السادسوالعشرين من أغسطس أحداثًا مُثيرة؛ »
أعتقد أنه سيكون مُشوَّشًا بعض الشيء بشأن ما يفعله في مثل هذه الأوقات. وإذا جزمْنا
له بأنَّنا هناك بناءً على مَوعدٍ معه، فأظنُّ أنه لن يَجرؤ على مُعارضَتِنا في ذلك. فهل لدَيك ما
«؟ يكفي من الوَقاحة لكي نَتمكَّن من تنفيذ خُطَّتنا
«. لا يَسعُنا إلَّا أن نُحاول »
رائع يا واطسون! مَزيج من الاجتهاد والبراعة. لا يسعنا إلَّا أن نُحاول؛ ذلك هو شِعار »
«. شراكتنا. سوف يُرشدنا أحد سكان المدينة الوَدودين بالتأكيد
على ظهر عربةٍ أنيقة مَرَرْنا بصفٍّ من الكليَّات القديمة، ثم انحرفْنا أخيرًا بها إلى
طريق تصطفُّ فيه الأشجار، إلى أن توقَّفْنا أمام باب منزلٍ خلَّاب، يَحُفُّ به العُشب في
شكلٍ دائري وتُغطيه الوِسْتارية الأرجوانية. لا شكَّ في أنَّ البروفيسور بريسبري كان مُحاطًا
بكلِّ وسائل الراحة، بل والتَّرَف أيضًا. في اللحظة التي توقَّفْنا فيها عند الباب ظهَر من
النافذة الأمامية رأسٌقد اشتعل فيه الشَّيب، ورأيْنا عينَين ثاقِبتَين تُشعَّان من تحت حاجبَين
أشعثَين، وتتفقدانِنا من وراء نظارة سميكة. وبعدها بلحظةٍ كنَّا فيصَومعته، ووقفَ أمامنا
العالِم الغامِض الذي أحضرتْنا تقلُّباته السلوكية الغريبة من لندن. لم يَبْدُ عليه أيُّ شيء
غريب، لا في تَصرُّفاته أو في مَظهره؛ فقد كان رجلًا مَهيبًا، بارز الملامح، ضخمًا طويلًا،
يرتدي مِعطفًا فراك، وتعكس هيئتُه وقارًا يَحتاجُه من هُم مِثله من المُحاضرين. كانت
عيناه هي أكثر ملامحه تَميُّزًا؛ ثاقِبتين ومُنتبِهَتَين وماهِرَتَين إلى حدِّ المَكْر.
تفَضَّلا بالجلوس أيها السيِّدان، ماذا عساني أنْ أقدِّم » : نظر إلى بطاقتَينا ثم قال
«؟ لكما
ابتسم هولمز بِوِد.
«. ذلك هو السؤال الذي كنتُ على وشْك أن أطرحَه عليك أيها البروفيسور »
«! عليَّ أنا يا سيِّدي »
ربما يكون هناك خطأ ما، فأنا قد سمعتُ من طرفٍ ثانٍ أنَّ البروفيسور بريسبري »
«. بمدينة كامفورد يحتاج إلى خِدماتي
أيُمكنك » : قالها البروفيسور وقد لمحتُ في عينَيه بريقًا خبيثًا، ثم تابع «! حسنًا، بالتأكيد »
«؟ أن تُخبرَني باسم من أخبرَك بهذا
آسِف يا سيدي البروفيسور، لكنَّه أمرٌ يقتضيالسِّرِّيَّة. إذا كنتُ قد ارتكبتُ خطأً، فلا »
«. بأس بذلك، ولا يَسعُني إلَّا أن أعُبِّر عن أسفي
كلَّا، على الإطلاق، بل إنَّني أودُّ أن أتُابِع هذا الأمر. إنه يُثير اهتمامي. ألدَيك أيُّ دليلٍ »
«؟ كِتابي، كخِطاب أو برقية، يؤكد زَعمك
«. كلا، ليس معي »
«؟ أعتقِد أنك لن تُغامِر إلى حدِّ الإصرار على أنِّي طلبتُ لقاءك. أليس كذلك »
«. أفضِّل ألَّا أجُيب عن أيِّ أسئلة » : أجاب هولمز
كلَّا، أظنُّك لا تُفضِّل ذلك. لكن ذلك السؤال بالتحديد يُمكن » : ردَّ البروفيسور بخشونة
«. الإجابة عنه بِسهولة تامَّة دون مُساعدتك
ذَرَع الغرفة حتى وصل إلى الجرَس، والذي أجاب نِداءه صديقُنا من لندن السيد
بينيت.
أقبِل يا سيد بينيت، هذان السيِّدان يزعُمان أنهما حضرا من لندن بناءً على طلبي »
للقائهما، وأنت تُدير جميع مُراسلاتي؛ فهل لدَيك فِكرة عن إرسال أيِّ شيءٍ إلى شخصٍ
«؟ يُدعى هولمز
«. كلا يا سيدي » : أجاب بينيت وقد احمرَّ وجهه
ثُمَّ مال بجسمه «. إذن فقد حُسِمَ الأمر » : فقال البروفيسور وهو يرمُق رفيقي بغضب
والآن يا سيدي، يبدو لي أنَّ موقفك محلُّ » : إلى الأمام، وقد وضع يدَيه على الطاولة قائلًا
«. رِيبةٍ كبيرة
هزَّ هولمز كتِفَيه.
«. لا يَسعُني سوى أن أكُرِّرَ أسفي على هذا التطفُّل الذي لاضرورة له »
قالَها الرجل وهو يَصيح بصوتٍ عالٍ ووجهُه ينطِق «! ذلك لا يكفي يا سيِّد هولمز »
بغلٍّ غير عادي. كان يتحدَّث وهو واقِف يَحول بيننا وبين الباب، ثم أشار بيدَيه نحوَنا
تشنَّجَتْ «. لن يُمكنكما أن تنجُوا من ذلك بمِثل هذه السُّهولة » : وهو يَهزُّهُما بغضبٍ مُتَّقِد
قسَمات وجهه وظلَّ يهذي مُتجهِّمًا في خضمِّ ثَورتِهِ الطائشة. إنَّني مُقتنِع بأنَّنا كُنَّا سنُضطرُّ
إلى الشِّجار كي نخرُج من الغرفة لولا تدخُّل السيد بينيت.
سيدي البروفيسور، فكِّر في مركزك! فكِّر فيما يُمكن أن يتسبَّب فيه » : إذ صاح قائلًا
ذلك من فضيحةٍ في الجامعة! إنَّ السيد هولمز رجلٌ مشهور؛ لا يُمكنك أن تُعامِلَه بمثل هذه
«. الطريقة الفظَّة
أفسح لنا مُضيفُنا الباب بعبوس، إنْ كان يصحُّ لنا أن ندعوه بذلك، الطريق إلى الباب.
سُرِرْنا حين وجدْنا أنفسنا خارجَ المنزل، يَكتنِفُنا هدوءُ ذلك الطريق الذي تصطفُّ فيه
الأشجار. بدا هولمز مسرورًا للغاية بما حدَث.
يبدو أنَّ أعصاب صديقنا المُثقَّف خارج السَّيطرة إلى حدٍّ ما. » : تحدَّث هولمز قائلًا
ربما كان تطفُّلنا فجٍّا، لكنَّنا تَمكنَّا من التعرُّف على شخصه، وهو ما كنتُ أرغب فيه. لكن،
«. يا للهول، لا بدَّ أنه يَتتبَّعُنا يا واطسون. هذا الخبيث لا يزال يتعقَّبُنا
سمِعْناصوتَ أقدامٍ تجري من خلفِنا، لكنَّها، لحُسن الحظ، لم تكن قدمَي البروفيسور
المُرعِب، بل قدمَي مُساعِده الذي ظهر بالقُرب من مُنحَنى الطريق، وأتانا لاهِثًا.
«. إنني آسِفٌ للغاية يا سيد هولمز. أردتُ أن أعتذِر »
«. كلَّا يا عزيزي. لا داعي للأسف، كل ذلك في سياق الخِبرة الِمهنية »
لم أرَه قطُّ في حالة مِزاجيَّة أخطرَ من تلك، لكنه يَشتدُّ عنفًا كلَّ يوم. لعلَّكما تتفهَّمان »
«. الآن سبب قلقِنا أنا وابنتِه، ومع ذلك، فذِهنُه حاضرتمامًا
حاضرأكثرَ من اللَّازم! وقد كان ذلك سُوء تقديرٍ منِّي؛ فمِن الواضح أنَّ » : ردَّ هولمز
ذاكرته أقوى مما ظننتُ. بالمُناسبة، هل يُمكننا أن نرى نافذة غُرفة الآنسة بريسبري قبل
«؟ أن نرحل
شقَّ السيد بينيت طريقَه بين بعضالشُّجيرات، ورأيْنا المنزل من الجانب.
«. إنها هناك. النافذة الثانية على اليسار »
يا إلهي! ليسمن السهل الوصول إليها، لكنكما ستُلاحظان وجود هذا النَّبات الزاحِف »
«. بالأسفل ومن فوقِه أنبوب مياه، وهو ما يُمكن استخدامه في التسلُّق
«. أنا شخصيٍّا لم أستطع تَسلُّقَه » : تحدَّث السيد بينيت
«. هذا مُتوقَّع تمامًا؛ فهي بالتأكيد مُغامرة خطيرة بالنسبة إلى أيِّ رجُل طبيعي »
يُوجَد أمرٌ آخر أودُّ أن أخُبرك به يا سيد هولمز. لديَّ عنوان الرجل الذي يُراسله »
البروفيسور في لندن. يبدو أنه قد كتَبَ إليه هذا الصباح وقد حصلتُ عليه من ورقِهِ
النَّشَّاف. إنه تصرُّفٌ خسيس بالطبع من مُساعدٍ مُؤتمَن، لكن ماذا عساني أن أفعل غير
«؟ هذا
ألقى هولمز نظرةً على الورقة ثم وَضعها في جَيبِه.
دوراك، اسم غريب. أعتقد أنه سُلافي. حسنًا، إنها حلقةُ وصلٍ مُهمَّة. سنعود إلى »
لندن عصرهذا اليوم يا سيد بينيت؛ فلستُ أرى نفعًا من بقائنا هنا. لا يُمكننا القبضُعلى
البروفيسور لأنه لم يرتكِب أيَّ جريمة، ولا يُمكننا كذلك أن نَضعَه تحت الحِراسة، إذ لا
«. يُمكننا إثبات أنه مجنون. لا يُمكننا أن نتَّخِذ أيَّ إجراء في الوقت الراهن
«؟ ماذا عسانا أن نفعل إذن »
القليل من الصبر يا سيد بينيت. قريبًا ستحدُث تطوُّرات جديدة. إن كان ظنِّي »
صحيحًا، فقد تحدُث أزمةٌ يوم الثلاثاء المُقبل. يجِب أن نكون في كامفورد بالطبع في ذلك
اليوم. أما في الوقت الحالي، فالوضع العام ليس جيدًا بلا شك؛ فإذا استطاعت الآنسة
«… بريسبري أن تُطيل زيارتها
«. ذلك أمر سهل »
اطلُب منها أن تبقى إذن حتى نستطيع أن نُطمئنها بأنَّ الخطر قد زال تمامًا. وخلال »
هذه المدة، دَعْه يفعل كلَّ ما يحلو له ولا تُعارضه؛ فطالما أنه في مِزاج جيد، سيكون كلُّ
«. شيء على ما يُرام