كان من الممكن أن تكون هذه القصة كوميدية، أو تراجيدية؛ فقد كَلَّفَت رجلًا عقلَه، وكلَّفَتني
بعضالدماء، وكلفت آخرَ عِقابَ القانون. وعلى الرغم من ذلك، يُوجد فيها بلا شكٍّ عنصرٌ
كوميدي. حسنًا، ستحكمون أنتم بأنفسكم.
أَذكُر التاريخ جيدًا؛ لأنه كان في الشهر نفسه الذي رفض فيه هولمز الحصول على
لقَب فارسٍ لقاءَ خِدماته، وهو ما قد يُذكَر تفصيلًا في يومٍ من الأيام. أنا فقط أشُير إلى
المسألة بشكلٍ عابر؛ لأن وضعي بصفتي شريكًا مقرَّبًا لهولمز وكاتمَ سرِّه، يُحَتِّم عليَّ أن
أكون حذِرًا كي أتجنب ارتكاب أيِّ حماقة. ولكنني أكرر، مع ذلك، أن هذا يُمكِّنني من
تحديد التاريخ الذي كان في نهاية يونيو عام ١٩٠٢ ، بعد فترةٍ قصيرة من نهاية حرب
جنوب أفريقيا. قضىهولمز عدة أيامٍ في الفِراش، كما كانت عادته بين وقتٍ وآخر، إلا أنه
خرج ذلك الصباحَ وهو يحمل في يده ورقة فلوسكاب طويلةً، وعيناه الرَّماديتان القاسيتان
تلمَعان بحماس.
تُوجد فرصةٌ لك لكسب بعض المال يا صديقي واطسون، هل سبق لك أن » : قال
«؟ سَمِعتَ باسم جاريديب
أَجبتُ نفيًا.
«. حسنًا، إذا استطعتَ الإمساك بواحدٍ يُدعى جاريديب، فستكسب المال »
«؟ لماذا »
مغامرة ثلاثة رجال يحملون اللقب جاريديب
أوه، هذه قصةٌ طويلة، بل غريبةٌ أيضًا. لا أظن أننا خلال كل استكشافاتنا لتعقيدات »
النفس البشرية قد صادَفْنا أيَّشيء بمثل هذا التفرُّد على الإطلاق. سيأتي الرجل عما قريبٍ
للاستجواب؛ لذا لن أتحدث في الأمر حتى يأتي، ولكن حتى ذلك حين، فهذا هو الاسم الذي
«. نُريده
كان دليل الهاتف موضوعًا على الطاوِلة الموجودة بجانبي، بحثتُ في صفحاته في
مسعًى يائسٍ لإيجاد الاسم، ولكن لِدهشتي وجدتُ هذا الاسم الغريب في مكانه الصحيح.
أطلقتُ صرخة انتصار.
«! ها نحن ذا يا هولمز! لقد وجدتُه »
أخذ هولمز دليل الهاتف من يدي.
آسفٌ لإحباطك يا عزيزي «. جاريديب، إن، ١٣٦ شارع ليتل رايدر، دابليو »» : قرأ قائلًا
واطسون، ولكنه هو الرجل نفسه. هذا هو العنوان الوارد على رسالته، نُريد شخصًا آخر
«. يُطابِق هذا الاسم
دخلت السيدة هدسون حاملةً صينيةً موضوعةً عليها بطاقة، أخذتُها وألقيتُ عليها
نظرةً خاطفة.
عجبًا! ها هو! هذا الاسم الأول مختلفًا: جون جاريديب، مستشارٌ » : صِحتُ في دهشة
«. قانوني، مورفيل، كانساس، الولايات المتحدة الأمريكية
أخشى أنك ما زلتَ تحتاج إلى بذل المزيد » : ابتسم هولمز وهو ينظر إلى البِطاقة، وقال
من الجهد يا واطسون؛ فهذا الرجل جزءٌ من المؤامرة بالفعل، على الرغم من أنني لم أكن
أتوقع رؤيته هذا الصباح. ومع ذلك، فهو في موقفٍ سيتحتَّم عليه فيه أن يُخبرنا الكثير مما
«. أرغب في معرفته
بعد لحظة كان السيد جون جاريديب، المستشار القانوني، داخل الغرفة كان رجلًا
قصيرًا وقويٍّا ذا وجهٍ مستدير حليق الذقن، وهي السمات الشكلية التي تُميِّز العديد من
أصحاب الأعمال الأمريكيِّين. كان يبدو بشكلٍ عامٍّ طفوليَّ المظهر وسمينًا، وهو ما أعطى
انطباعًا بحداثةِ سنِّه بتلك الابتسامة العريضة التي ارتَسمَت على وجهه، إلا أن عينَيه كانتا
لافتتَين للنظر. نادرًا ما رأيتُ أي رأسٍبشري تبوح عيناه بمكنونٍ عميقٍ حادٍّ بهذا الوضوح
والإشراق؛ فقد كانت عيناه يقظتَين وسريعتَي الاستجابة لكل تغيُّرٍ داخلي في أفكاره. كانت
لهجته أمريكية، ولكن لم يكن هناك أي غرابةٍ في طريقة كلامه.
السيد هولمز؟ أوه، أجل! لا تختلف عما » : سأل وهو ينقل عينَيه بين هولمز وصورته
تبدو في الصور يا سيدي، يمكنني قول ذلك. أعتقد أنك قد تَلقَّيتَ رسالة من السيد ناثان
«؟ جاريديب الذي يحمل نفس اسمي، أليس كذلك
تفضل بالجلوس. أعتقد أننا سيكون لدينا الكثير » : أجاب شيرلوك هولمز قائلًا
أنت، بالطبع، السيد جون جاريديب » : ثم تناول الورقة الفلوسكاب وأردف «. لِنناقشه
«؟ المذكور هنا في هذه الوثيقة، ولكن من المُؤكَّد أنك كنت في إنجلترا لبعضالوقت، صحيح
قرأتُ شكوكًا مفاجئة ترتسم في هاتَين العينَين «؟ لماذا تقول ذلك يا سيد هولمز »
المُعبِّرتَين.
«. زِيُّك كله إنجليزيٌّ »
لقد قرأتُ عن حِيَلك يا سيد هولمز، ولكنني لم أَظُنَّ قَط » : ضحك ضحكةً مُتكلَّفة وقال
«؟ أنني سأتعرضلواحدةٍ منها. ما الذي وجدتَه في ملابسي يدل على ذلك
قَصة كَتِف مِعطَفك، شكل مُقدِّمة حذائك، هل يمكن أن يتشكَّك أي شخص في »
«؟ ذلك
حسنًا، حسنًا، لم يكن لديَّ أدنى فكرةٍ أنني أبدو بريطانيٍّا هكذا، ولكن قد دفعني »
العمل للقدوم إلى هنا منذ بعض الوقت؛ ومن ثَمَّ كما تقول، فزيِّي كله تقريبًا ذو طابعٍ
لَندَني ومع ذلك أعتقد أنَّ وقتك ثمين، وأننا لم نلتقِ لنتحدث عن قصة جواربي، فماذا لو
«؟ تحدثنا عن الورقة التي تحملها في يدك
كان هولمز قد أزعج زائرنا بشكلٍ أو بآخر؛ إذ صار التعبير المُرتسِم على وجهه السمين
أقلَّ ودٍّا بكثير عما كان من قبلُ.
صبرًا،صبرًا يا سيد جاريديب! سيخبرك السيد واطسون » : قالصديقي بصوتٍ هادئ
بأن هذه الاستطرادات الجانبية الصغيرة التي أقوم بها يتضح أن لها علاقةً بالأمر، ولكن
«؟ لماذا لم يأتِ السيد ناثان جاريديب معك
هكذا سأل زائرُنا بدَفقة غضبٍ مفاجِئة، وأضاف: «؟ لماذا أقحَمَكَ في الأمر من الأساس »
ما هي علاقتك بالأمر بحقِّ الرب؟ كانت تُوجد القليل من الأعمال الرسمية بين رجلَين، ثم »
يستدعي أحدهما مُحققًا! لقد رأيته هذا الصباح، وقد أخبرني عن هذه الحيلة الغبية التي
«. لعبها عليَّ، ولهذا أنا هنا الآن. ولكنني أشعر بالسوء حيال ذلك
لم يكن هناك أيُّ تعمُّد للإساءة يا سيد جاريديب، كان الأمر مجرد حماسة من »
ناحيته لأن يحصل على نفس غايتك، وهي غاية تتساوى أهميتها لدى كلٍّ منكما، حسب ما
أفهم؛ فقد كان يعرف أن لديَّ وسائلَ للحصول على معلومات؛ وبالتالي، كان من الطبيعي
«. جدٍّا أن يلجأ إليَّ
راق وجهُ زائرنا الغاضب شيئًا فشيئًا.
حسنًا، هذا يجعل الوضع مختلفًا. عندما ذهبتُ لرؤيته هذا الصباح وأخبرني » : وقال
بأنه قد أرسل إلى مُحقِّق، طلبتُ عنوانك فحسبُ وأتيتُ على الفور. لا أريد أن تتدخل الشرطة
في مسألةٍ خاصة، ولكن إذا كنتَ تُوافق فقط على مساعدتنا في إيجاد الرجل، فلن يكون
«. هناكضررٌ في ذلك
حسنًا، وهو كذلك فعلًا. والآن يا سيدي، بما أنك هنا، فمن الأفضل أن » : رد هولمز
«. نسمع الأمر منك أنت شخصيٍّا؛ فصديقي هنا لا يعلم أيَّشيء عن التفاصيل
تَفحَّصني السيد جاريديب بنظرةٍ غيرِ ودودة.
«؟ هل هو بحاجة لأن يعرف » : سأل قائلًا
«. عادةً ما نعمل معًا »
حسنًا، لا يُوجد سبب ليظل الأمر سرٍّا؛ سأخُبرك بالحقائق بأكبر قدر ممكن من »
الاختصار. إذا كنتَ من ولاية كنساس، فما كنت لأحتاج أن أشرح لك من هو ألكسندر
هاميلتون جاريديب. لقد كوَّن ثروته من مجال العقارات، ثم بعد ذلك في سُوق بَيع وتبادُل
القمح بشيكاجو، ولكنه أنفقها فيشراء الكثير من الأراضيالواقعة على طول نهر أركنساس،
غرب فورت دودج، التي قد يساوي حجمها واحدةً من مُقاطعاتِكم هنا في إنجلترا. أراضٍ
رَعَويَّة، وثانيةٌ غنيةٌ بالأخشاب، وثالثةٌ صالحةٌ للزراعة، وأخرى غنيةٌ بالمعادن؛ كل الأنواع
المختلفة من الأراضيالتي تُدِرُّ المالَ على من يمتلكها.
لم يكن لديه لا أقارب ولا أصدقاء، وإن كان لديه، فأنا لم أسمع بهم من قبلُ، ولكنه
كان فخورًا بشكل ما بغرابة اسمه، وهذا هو ما جَمعَنا. كنتُ أدرس القانون في توبيكا،
وفي يوم من الأيام زارني رجلٌ عجوز وكان مُستمتِعًا للغاية بمقابلة رجلٍ آخرَ يحمل
نفس اسمه. كان ذلك هو هَوسَه المُفضَّل، وكان عازمًا على معرفة ما إذا كان هناك أكثر
«. جِد لي واحدًا آخر يحمل نفس الاسم » : من شخصٍ يحمل اسم جاريديب في العالم. قال
فأخبرته أنني رجلٌ مشغول، وأنني لا يمكنني أن أقضي حياتي في السفر حول العالم
هذا ما ستفعله فعلًا إذا سارت الأمور كما » : لإيجاد آخرِين يُدعَون جاريديب، ولكنه قال
ظننتُ أنه يمزح، ولكن كانت كلماتُه تحمل الكثير من المعاني القويَّة، وهذا «. خططتُ لها
ما اكتشفته بعد ذلك بوقتٍ قصير.
فقد مات بعد سنةٍ من كلامه هذا، وتَركَ وصية، وكانت أغرب وصيةٍ قُدِّمَت في ولاية
كنساس على الإطلاق. قُسِّمَت ممتلكاته إلى ثلاثةِ أجزاء، وكان من حقي جزءٌ منها، ولكن
بشرطٍ واحد، وهو أن أجد شخصَين آخرَين يُدعيان جاريديب كي يقتسما الجزأَين الباقيَين
من ممتلكاته. كانت الثروة تُقدَّر بخمسة ملايين دولار لكل واحدٍ منا لو كانت أموالًا سائلة،
ولكنَّنا لا نستطيع أن نلمس سنتًا واحدًا منها حتى يكون ثلاثتُنا حاضرِين.
كانت فرصةً كبيرةً بحيث إنني وضعتُ ممارستي لمهنة القانون جانبًا، وشَرعتُ في
البحث عن باقي مَن يُدعون جاريديب. لا يُوجد أيُّ أشخاصٍيحملون هذا الاسم في الولايات
المتحدة، لقد بحثت بحثًا دقيقًا يا سيدي، ووسط كومة من القش لم أجد جاريديب واحدًا!
ثم جرَّبتُ حظي هنا في هذا البلد القديم، ووجدتُ الاسم في دليل هاتف لندن، بحثتُ عنه
منذ يومَين وشرحتُ له الأمر برُمَّته، ولكنه رجلٌ وحيدٌ مثلي، علاقاته النسائية محدودة،
وعلاقاتُه بالرجال معدومة. تَنُص الوصية على أن يحمل ثلاثة رجال بالغِين الاسم نفسه،
وكما ترى، لا يزالُ ينقصنا شخصٌواحد، وإن كان بإمكانك مساعدتُنا لإيجاده، فسنكون
«. على أتم استعدادٍ لدفع أجرك
حسنًا يا واطسون، قلتُ لك إن الأمر غريب، أليس كذلك؟ كان » : قال هولمز بابتسامة
عليَّ أن ألاحظ يا سيدي أن الطريقة البديهية التي استخدمتَها هي وضع إعلانٍ في أعمدة
«. الشكاوى بالجرائد
«. فعلتُ هذا بالفعل يا سيد هولمز، ولكنني لم أحصل على أيِّ ردود »
يا إلهي! حسنًا، إنها مشكلةٌ صغيرةٌ غريبة بكل تأكيد. سألُقي نظرة على الأمر في »
وقت فراغي. بالمناسبة، من الغريب أنك قد أتيتَ من توبيكا. كنتُ أتراسل مع د. ليزاندر
«. ستار العجوز، لكنه ميت الآن، وقد كان عمدة البلدة في عام ١٨٩٠
د. ستار الطيب العجوز! لا يزال اسمه موضعَ تقدير. حسنًا يا سيد » : ردَّ زائرنا قائلًا
هولمز، أفترض أن كل ما يمكننا فعله هو إبلاغك بتقدُّمنا. أعتقد أنك ستسمع منَّا أخبارًا
بهذا التأكيد انحنى الأمريكي مُحييًا وغادر. «. خلال يوم أو اثنين
أشعل هولمز غليونَه وجلس لبعضالوقت وعلى وجهه ابتسامةٌ غريبة.
«؟ حسنًا » : سألتُه أخيرًا
«! أنا أتساءل يا واطسون، فقط أتساءل »
«؟ عن ماذا »
أخذ هولمز الغليون من بين شفتَيه.
كنت أتساءل يا واطسون عن السبب الذي يدفع هذا الرجل بأن يُخبرنا بمثل تلك »
الأكاذيب المحضة. لقد كنتُ على وشك سؤاله عن ذلكصراحة؛ ففي بعض الأحيان يكون
الهجوم المباشرهو أفضل سياسة، ولكنني رأيتُ أنه من الأفضل أن أجعله يعتقد بأنه نجَح
في خداعنا؛ فها هو رجل يرتدي مِعطفًا إنجليزيٍّا مهترئًا عند المرفق وبنطلونًا ظل يرتديه
عامًا كاملًا حتى إنَّ قماشه أصبح منتفخًا عند الركبة، وعلى الرغم من ذلك، وطبقًا لهذه
الوثيقة ولقصته، فهو قرويٌّ أمريكي لم يَزُر لندن إلَّا حديثًا. لم تكن هناك أي إعلانات في
أعمدة الشكاوى، أنا لا أفُوِّت شيئًا فيها كما تعلم؛ فهي سلاحي السري في صيد الطيور،
ولم أكن لأغُفل طائرَ تَدْرُج مزهوٍّا بنفسه كهذا. كما أنني لا أعرف أي د. ليزاندر ستار
من توبيكا. كل شيء في هذا الرجل مُزيَّف. أعتقد أنه أمريكيٌّ فعلًا، ولكن لهجته صارت
أسلس بعد سنواتٍ قضاها في لندن. فما هي لعبته إذن؟ وما هي دوافعه وراء هذا البحث
اللامنطقي عن رجالٍ آخرِين يحملون اسم جاريديب؟ الأمر يستحق انتباهنا؛ فعلى الرغم
من أنه محتال، ولكنه مُحتالٌ ذو شخصيةٍ مركبةٍ وبارعة. لا بد أن نعرف الآن ما إذا كان
«. مُراسلنا الآخر محتالًا كذلك أم لا. اتصلْ به وحَسبُ يا واطسون
اتصلتُ به، وأتاني من الطرف الآخر صوتٌ رفيعٌ ومرتعشٌ.
أجل، أجل أنا السيد ناثان جاريديب، هل أنت السيد هولمز؟ أودُّ التحدث مع السيد »
«. هولمز
أخذ صديقي الهاتف، وسمعته وهو يتحدث بنفس نغمته المعتادة.
أجل، لقد كان هنا. أنت لا تعرفه كما أفهم … منذ متى؟ يومان فحسب! … أجل، »
أجل، بالطبع، إنه احتمالٌ جذَّاب بلا شك. هل ستكون بالمنزل هذا المساء؟ أعتقد أن شبيهك
في الاسم لن يكون موجودًا، أليس كذلك؟ … رائع، سنأتي إذن، إنني أرغب في الحديث معك
وهو غير موجود … سيصحبني الدكتور واطسون … أنت لا تخرج كثيرًا كما فهمت من
ملاحظتك … حسنًا، سنأتي في حدود الساعة السادسة. لا داعي لإخبار المحامي الأمريكي
«! عن هذه الزيارة … جيد جدٍّا، وداعًا
كان وقت الغروب في هذا المساء الربيعي الجميل، وحتى شارع ليتل رايدر، وهو أحد
الشوارع الصغيرة المتفرعة من طريق إدجوير، الذي يمتدُّ عبر القالب الحجري لمقصلة
تايبيرن القديمة التي ترتبط بذكرياتٍ سيئة، كان يبدو ذهبيٍّا ورائعًا في أشعة الغروب
المائلة. كان المنزل الذي نقصده مبنًى قديمًا كبيرًا على الطراز الجورجي المبكر، بواجهة من
الطوب المُستوي لا يقطعها سوى نافذتَين كبيرتَين بارزتَين بالطابق الأرضي. كان عميلنا
يعيش في هذا الطابق الأرضي، وكانت النافذتان المُنخفِضتان بلا شك هما واجهة الغرفة
الضخمة التي كان يمضي فيها ساعات نهاره. عندما مَرَرنا باللوحة النُّحاسية الصغيرة
التي تحمل اسم ساكنها الغريب، أشار هولمز إليها قائلًا:
هكذا أشار هولمز إلى سطح اللوحة الذي تغيَّر لونه بمرور «. إنها قديمة يا واطسون »
«. إنه اسمه الحقيقي على أية حال، وهو ما يجب أخذه في الاعتبار » . الزمن
كان سُلَّم المبني رديئًا، وكانت تُوجد العديد من الأسماء المطلية في الممر، يشير بعضها
إلى مكاتب والآخر إلى غرفٍ خاصة. لم تكن مجموعة من الشقق السكنية، بل مساكن عُزاب
بوهيميِّين. فتح عميلنا لنا الباب بنفسه، واعتذر قائلًا: إن المرأة المسئولة عن المنزل قد
غادَرَت في الرابعة. كان السيد ناثان جاريديب فارع الطول، سَلِس الحركة، مُقوَّسالظهر،
هزيلًا وأَصلعَ، في الستين من عمره تقريبًا. كان وجهه شاحبًا، وبشرته باهتة وكأنه لم
يتحرك أو يتريض من قبلُ. كان يرتدي نظارةً مستديرةً كبيرة، وكانت له لحيةٌ صغيرةٌ
بارزة تشبه لحية الماعز، وقد منحه كل ذلك، علاوة على شكله الأحدب، مظهرَ الشخص
الفضولي. غير أنه بدا وَدُودًا بشكلٍ عام، على الرغم من كونه غريبَ الأطوار.
كانت الغرفة على قَدْر غرابة قاطنِها نفسه؛ فقد بدَت كمُتحفٍ صغير. كانت واسعةً
وقاتمة، تمتلئ بالدواليب والخِزَانات التي تَعُجُّ بالعيِّنات الجيولوجية والتشريحية. أحاطت
صناديقُ تمتلئ بالفراشات والعثَّات كلَّ جانب من جوانب المدخل. بينما كانت تُوجد طاولةٌ
كبيرة في منتصف الغرفة مغطاة بأشكالٍ مختلفة من الحُطام، بينما انتصب عليها الأنُبوب
النُّحاسيالطويل لِمجهرٍ ضخم. كلما كنتُ أنظر حولي، كان يُدهشني مدى تنوُّع اهتمامات
هذا الرجل؛ فها هو صندوق من العملات القديمة، وخزانة تمتلئ بالأدوات الحجرية،
وخلف طاولته الأساسية، كانت تُوجد خزانةٌ ضخمة تمتلئ بالعظام الأحفورية، وبالأعلى
كان يُوجد صفٌّ من الجماجم المصنوعة من الجَص، والتي لُصِقَ على أسفلها تلك الأسماء:
الإنسان الأول). كان واضحًا أنه يدرس العديد ) « كرومانيون » و ،« هايدلبرج » ،« نياندرتال »
من الموضوعات. وبينما كان يقف أمامنا الآن، كان يحمل في يده اليُمنى قطعة من جلد
الشامواه التي كان يُلَمِّعُ بها إحدى العملات المعدنية.
لقد » ، هكذا شرح وهو يُمسِك بها لأعلى «. إنها تعود لأفضل فترةٍ في مدينة سرقوسة »
تدهور حالها كثيرًا قرب النهاية. أجد أنها الأرقى، ولكن يُفضِّل البعضالمدرسة السكندرية.
ستجد هنا مقعدًا يا سيد هولمز، اسمح لي أن أزُيح عنه هذه العظام. وأنت يا سيدي — أوه،
أجل، الدكتور واطسون — أستأذنك أن تضع المَزهَرية اليابانية جانبًا. ما تراه حولي هي
اهتماماتي المتواضعة في الحياة. دائمًا ما يحاضرني طبيبي عن أهمية الخروج من المنزل،
ولكن لماذا يجب عليَّ الخروج وأنا لديَّ هنا الكثير ليشغلني؟ يمكنني أن أؤُكِّد لك أن عملية
«. الفهرسة الصحيحة لواحدةٍ من تلك الخزانات قد تَستَغرق من وقتي ثلاثة أشهر
نظر هولمز حوله بفضول.
«؟ ولكن هل تعني أنك لا تخرج أبدًا » : وسأل قائلًا
أذهب بالسيارة إلى دار مزادات سوذبيز أو كريتستيز بين وقتٍ وآخر، ولكنني نادرًا »
ما أغُادر غرفتي لغير ذلك. أنا لستُ قويَّ البنية، وأبحاثي تستهلك الكثير من طاقتي.
ولكن يمكنك التخيُّل يا سيد هولمز كم كانتصدمةً مرعبة، جميلةً ولكن مرعبة، بالنسبة لي
عندما سمِعتُ عن هذه الثروة التي ليس لها نظير. لا ينقصسوى شخصٍآخر يحمل اسم
جاريديب لإتمام الأمر، وبالتأكيد يُمكننا العثور عليه. كان لي أخٌ، ولكنه مات، والأقارب من
النساء لا يستوفين الشرط، ولكن من المُؤكَّد أنه يُوجد آخرون في هذا العالم. لقد سمعتُ
أنك توليتَ قضايا غريبة؛ ولذا أرسلتُ إليك. بالطبع هذا السيد الأمريكي مُحِق تمامًا، وكان
«. يتعين عليَّ أن آخذ بنصيحته أولًا، ولكنني تصرفتُ لما فيه مصلحة الجميع
أعتقد أنك تصرَّفتَ بحكمةٍ بالغة بكل تأكيد، ولكن هل أنت حريصٌحقٍّا » : قال هولمز
«؟ على امتلاك عقارات في أمريكا
بالطبع لا يا سيدي، لن يُغريني أي شيء لترك مجموعتي، ولكن هذا السيد قد أكَّد »
لي أنه سيشتري حصتي بمجرد إتمامنا ما يُمَكِّنُنا من المطالبة بحِصصِنا، والحصة المحددة
لكل واحدٍ منَّا هي خمسة ملايين دولار. يُوجد في السوق الآن عشرات العيِّنات التي ستسُد
النقص في مجموعتي، ولا يمكنني شراؤها لأنني لا أملك بضع مئات من الجنيهات. تخيل
ما يمكنني فعله بخمسة ملايين دولار! يا إلهي! لديَّ نواةٌ لتكوين مجموعةٍ قومية، سأصبح
«. هانز سلون عصري