Darebhar

شارك على مواقع التواصل

كانت نسائم الجو محملة بأريج الزهور العطرة المنتشرة في جميع أرجاء حديقة القصر، عندما قامت السيدة كاميليا شفيق بمساعدة الخادمة بتقديم الضيافة لزوجها وصديقه، لكنها لم تمكث طويلًا؛ فقد لاحظت أنهما منهمكان في أمر شديد الأهمية؛ فلم يشعرا بدخولها، فألقت عليهما التحية ثم غادرت مسرعة.. ذهبت مباشرة إلى المطبخ، وتكلمت بحزم مع الطاهي، وطالبته أن ينتهي سريعًا من تحضير قالب الكيك الذي أمرته أن يصنعه لهم هذه الليلة، وبعدها توجهت إلى خارج المطبخ، وقالت للخادمة التي لحقتها في استكانة واستسلام:
 أحضري لي كوب عصير..
ثم صعدت إلى غرفتها في الطابق العلوي من القصر، الذي يطل على النيل في أحد أرقى أحياء الجيزة.. وقد كان بناءًا مهيبًا يدل على أن أصحابه ينتمون إلى طبقة الأثرياء وأصحاب النفوذ في البلد. جلست في استرخاء كالقطة الكسول، فيومها كان مشحونًا بالتحضيرات من أجل الاحتفال الخاص بزوجها؛ فبعد قليل ستطفئ معه هي وابنهما شموع عيد ميلاده.. قررت أن تضع بعض المساحيق وترتدي فستانًا يليق بالمناسبة، وقامت بتشغيل الجرامافون لتستمع إلى صوت مطربتها الأثيرة الآنسة أم كثوم.. فجأة وصلت لمسامعها ضوضاء قادمة من الطابق السفلى؛ فهبطت مسرعة إلى هناك، وهي تشعر أن قلبها سيتوقف من فرط الخوف، فقد كانت الأصوات تدل على خلاف شديد، فانتحت بعيدًا عن الباب؛ فليس من اللائق وقوفها أمامه أو حتى بالقرب منه.. ترددت ما بين الصعود لغرفتها مرة أخرى أو البقاء هنا لتستوضح الأمر..
وقبل أن تقرر ماذا تفعل، انفرج الباب؛ فحاولت الاختباء حتى لا يراها؛ شاهدت زوجها يتخطى الباب غاضبًا ويتبعه صديقه الذي خرج مندفعًا من الحجرة، وكاد يصطدم بأحد مقاعد الصالون المقابل لغرفة المكتب...
وعندما التفت رزق وجدها خلفه مختبئة وراء الستار؛ فسألها ومازال الغضب باديًا على ملامحه ونبرات صوته:
 ما الذي تفعلينه هنا؟
قالت بتلعثم:
 أفزعنى صوتك العالى؛ فأتيت لأطمئن عليك، ما الذي حدث؟
فكان جوابه عليها لتغيير مجرى الحديث عن أسباب العراك:
 أين ابنك؟
قالت وهي مندهشة من طريقته التي لا يغيِّرها أبدًا عندما يرفض التصريح عما بداخله، فيتحدث عن شيء آخر:
 خرج مع بعض الأصدقاء.
كان الغضب لا يزال يتقافز من عينيه حين قال لها أنه سينتظره بالمكتب.. وتركها وأغلق الباب دون أن يسمعها وهي تقول:
 سأعد لك فنجانًا آخر من القهوة..
وتركته وهي حزينة على الحفل الذي ألغي بسبب الخلاف الذي غيَّر مزاج رزق.
***
في صباح اليوم التالي أعلنت الشمس بشروقها الدافئ عن بداية يوم وأمل جديد للكون، أما بالنسبة لرزق وأسرته، فهو بداية لحياة مجهولة، وستار سيُسدل على حياة مستقرة كانت تحفها الرفاهية، فبعد أن جافى النوم عيني رزق طول الليل، استطاع أخيرًا أن يحظى بحصة قليلة منه، استيقظ مهمومًا، وأيقظ كامليا بهزات خفيفة لتنتبه من نوم غير مستقر، فتنهض مثقلة بالهموم هي أيضًا، ولا يزال النعاس يداعب جفنيها.. قال لها بصوت حزين، لكنه حاسم:
 كاميليا هناك أمر مهم يجب أن تستمعي إلىَّ بهدوء ثم تقومي بتفيذ ما سأخبرك به ولا تسأليني عن أي تفاصيل فالأمر جد خطير.
فسألته بتوجس:
 ما الأمر يا رزق.. صوتك وطريقتك أرعبتني.. هل أصيب أحدهم أو مات؟
قال وهو يحاول السيطرة على انفعالاته:
 لا لم يحدث شيء مما تظنين، لكن احزمي حقائبنا سنسافر في الغد..
قالت له ومازالت الدهشة ترتسم على ملامحها:
 سفر... لماذا؟ الدراسة مازالت مستمرة.. هل سنقضى أجازة الآن.. ما هذا يا رزق!
قال لها بحزم:
 سنغادر، ولا أعلم المدة، ولا أعلم أي شيء، فقط سنغادر
استسلمت؛ فهي تعلم أن النقاش معه لن يجدي نفعًا طالما قرر أن يصمت.. ثم قالت بقلة حيلة:
 على الأقل أعرف ما هي المدة التي سنقضيها في الخارج، وما الطقس الذي سنذهب إليه؟ حتى أهتم بنوعية الملابس وكميتها..
ثم بتوسل قالت:
 امنحني بعض المعلومات، لا تدعني للمجهول..
رد بصوت يملؤه الشجن:
 خذى كل شيء، كل شيء، ولا تنسى مجوهراتك.
صدمتها الكلمات الحزينة والحاسمة، وحاولت أن تتماسك حتى لا يضيع منها الوقت فيغضب.. فكعادته معها لم، ولن يعطيها الفرصة يومًا لتعترض على أوامره فهي واجبة النفاذ، حتى وإن كانت تخالف رغبتها، فقد اعتادت على ذلك منذ أيام زواجها الأولى، لكن الوضع اليوم مختلف فهو يطلب منها أن تترك حياتها وبيتها إلى مجهول لا تعرفه بدون سبب واضح بالنسبة لها.. لكنها في النهاية رضخت له وبدأت في جمع أشيائها الخاصة كما طلب منها.
في اليوم التالى.. وبعد ساعات طويلة أرهقتهم دقائقها وثوانيها، بين حزم الأمتعة التي تركت بعضًا منها لصعوبة تنقلها، وبين الاستعداد للسفر إلى ميناء الإسكندرية؛ وصلوا إلى هناك بعد رحلة مرهقة نفسيًا.. ثم اتخذوا أماكنهم على متن السفينة.. ولم تتمكن كاميليا من معرفة إلى أى اتجاه ستبحر بهم السفينة. ابتعد رزق عن الجميع، واتخذ مكانًا قصيًا على سطح السفينة يمد بصره إلى الميناء الذي بدأ يبعد رويدًا رويدًا، فيودع الأرض التي نشأ عليها والسماء التي التحف بها ومرارة تتولى قلبه. باغته ابنه بسؤال ظل عالقًا بذهنه بعد سماع أوامر أبيه:
 هل سنغادر أرضنا؟ (يحاول سبر أغوار تلك الرحلة المفاجئة).
تنفس الأب بعمق محاولاً ملء رئتيه بالأكسجين ثم قال:
 سنغادر، لكننا سنعود يومًا ما.. لا أحد يترك وطنه دون عودة، نحن سنعود عندما تستقر أمورنا.
الابن محاولًا فك طلاسم كلمات أبيه القليلة:
 لم أعد طفلًا صغيرًا؛ لقد بلغت السادسة عشر؛ أريد أن أفهم ما يحدث حولى.
 أمامنا وقت كافٍ لأقص عليك ما حدث، ولكن هذه أمانة يجب أن تصل إلى أبنائك، ومن ثم أحفادك حتى نأخذ حقنا.
اتخذ الأب عباءة الليل يتدثر بها، ليختفي عن عيون الآخرين وينفرد بولده الوحيد؛ فقص عليه حكايات من الماضى اهتز لها قلبه ودمعت عيناه.. ورغم الظلام الدامس إلا أن كاميليا استطاعت ومن خلال هيئتهما، تحديد موقعهما من بعيد، وقد انشغلت في الحديث مع إحدى السيدات التي التقت بها من قبل في إحدى حفلات الجمعيات الخيرية التي اعتادت الذهاب إليها والتبرع فيها لبعض أعمال الخير، وفاجأها وجودها هي وأسرتها على نفس السفينة، فأفضت لها السيدة بما لم يفصح عنه زوجها.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.