Darebhar

شارك على مواقع التواصل

بعد مرور أكثر من خمسين عامًا... ڨيلا أبو الدهب.
تقبع الڨيلا العتيقة في ضاحية المعادى التي أنشأها الخديوي إسماعيل، والتي كان وقتها لا يقطنها إلا أصحاب المقامات الرفيعة والمراكز المرموقة. وفي صباح يوم من أيام شهر أبريل، شعر توفيق بك ببعض الألم في صدره، حاول كعادته أن يتغافل عنه، لكنه لم يتمكن من النهوض، فخر جالسًا على مقعده مرة أخرى، فتابعته نظرات زوجته في صمت يختلط بالقلق وخوف، ثم قامت ونادت على ابنتها دهب بصوت متوتر.
سمعت دهب صوت أمها فهرولت مسرعة لتجد وجه أبيها مصبوغًا باللون الأصفر، وكأن الدم هرب منه وقد ظهر على جسده الإنهاك والتعب. سارعت إلى الهاتف لتتصل بالطبيب المتابع لحالة والدها، وحاولت بمشاركة أمها نقله إلى الأريكة. جلس توفيق يتنفس بصعوبة، وكان ينظر فيما حوله، وكأنه يودع الجدران والمقاعد التي شهدت أيام طفولته وشبابه، وودَّ في هذه اللحظة أن يذهب للحديقة ليودع الأشجار التي زرعها والده وعلَّمه كيف يرعاها ويهتم بتفاصيلها، وقد قام بتخصيص جزء من الحديقة لزراعة بعض النباتات النادرة محاولًا استخلاص بعض العقاقير منها بعد انتهائه من دراسته بكلية الصيدلة..
لكن القدر دائمًا يقول كلمته بحزم، فقبل أن يصل الطبيب بلحظات وافته المنية وسلَّم روحه لخالقها، فانهارت زوجته تبكى وتصرخ بينما وقفت دهب في ذهول، تنظر إلى جسد أبيها المسجى أمامها وهي تتساءل: "هل مات أبى حقًا؟ أم أنها خدعة ليتحقق من مشاعرنا تجاهه".
وفاة توفيق بالنسبة لراقية كان مدمرة، وكأن شعلة حياتها انطفأت في هذه اللحظة، اختنق صراخها في حلقها بعد أن أنهكتها كثرته، وانهمرت دموعها الحارة وهوت متمتمة بكلمات غير مفهومة، التف جميع العاملين بالمنزل حولهما؛ فأفاقت دهب من ذهولها، وانسابت منها دموع صامتة.. قام الجناينى والحارس بحمل الجثمان لحين الانتهاء من إجراءات تجهيز المتوفى، وصعدت معهما زوجته، تاركة دهب تتصل بزوجها لتخبره بالوفاة، واستغربت من ردة فعله المهتمة والمتأثرة، فلم يكن ليهتم من قبل بحزنها أو فرحها طوال فترة زواجهما.. وبعد أن أغلقت الهاتف جلست حزينة غير مصدقة ما حدث، وقد اعتصر الألم قلبها على فقد سندها الوحيد في الدنيا، فبعده لا تدرى ما الذي ستخبئه لها الأيام.
***
إنجلترا.. لندن.. (بعد يومين من وفاة توفيق أبو الدهب)..
بعين شغوفة متلهفة لمعرفة أخبار مصر، جلس أحد رجال الأعمال يتصفح الصحف المصرية التي داوم على قراءتها يوميًا - كعادة اكتسبها من والده منذ زمن بعيد - وذلك لمعرفة الأحداث والتفاصيل الجارية في مصر؛ فوقعت عيناه على صورة لشخص يعرفه جيدا، إنه توفيق بك أبو الدهب، قرأ الكلمات المكتوبة أسفلها؛ فكانت نعيًا له، إنه رجل الأعمال والصناعة صاحب شركة أبو الدهب للصناعات الدوائية؛ فقرأ بين الكلمات المتراصة: "زوج السيدة/ راقية سعيد، ووالد السيدة/ دهب توفيق أبو الدهب.. حرم فايز بك الطحان صاحب مصانع الطحان. العزاء اليوم.. ڨيلا أبو الدهب بالمعادى".
أغلق الجريدة وجعل يفكر، ثم اتصل بأحدهم وأخبره بوفاة توفيق.
***
ڨيلا أبو الدهب..
حلَّ الظلام والسكون على الفيلا بعد أن غادر الجميع فور انتهاء مراسم العزاء المهيب لتوفيق بك، وسمح فايز لدهب بالبقاء مع والدتها الأيام التالية، لاحتياجهما لبعض في هذا الوقت العصيب.. وحتى لا تُترك السيدة راقية بمفردها، فقد كان فايز - برغم عيوبه العديدة من وجهة نظر دهب - يحب أمها حبًا كبيرًا لطيبتها ورقتها معه ومع الجميع..
مكثت راقية وحدها في حجرتها تعيش مع ذكرياتها التي جمعت بينها وبين توفيق، منذ أن تزوجته وهي في الثامنة عشر من عمرها، لقد عاشت معه عمرًا أطول من الذي عاشته بين أسرتها، فهو من علَّمها كيف تتعامل مع الحياة، بل كان لها كل الحياة وأصبحت الآن مهيضة الجناح، كسيرة القلب بدونه.
أما دهب فتمنت أن يكون ما تكابده كابوسًا ستستيقظ منه الآن لتجد والدها في انتظارها في البهو يدعوها لتناول الإفطار معه، وهي كعادتها تحاول أن تتهرب منه، ولكن عندما غادرت غرفتها ولم تجده شعرت بقلبها يعتصره الألم؛ فذهبت إلى أمها في غرفتها لتجدها جالسة على المقعد وقد احمرت مقلتاها من بكاء لم يفارقها طوال ليلتها، ولم تر دهب أمها في مثل هذه الحالة من قبل، قبَّلت رأسها، ثم غادرتها لتجيب على الهاتف، وكان المتصل الأستاذ أنس رئيس الشئون القانونية بالشركة
 البقاء لله يا مدام دهب.
فأجابته بصوت كله حزن وشجن: "شكرًا"، فأجاب أنس بتردد:
 هناك بعض الإجراءات الخاصة بوفاة توفيق بك؛ من أجل الحصول على إعلام الوراثة لتسيير أمور الأسرة والشركة.
 هل يمكنك أن تقوم بتلك الإجراءات وحدك؟
 للأسف لا بد من وجود حضرتك، إذا كان يناسب سيادتك سأمر عليك بعد قليل؛ فالأمر سيستغرق بعض الوقت.
لم تكن ترغب في مغادرة البيت، لكن إلحاح أنس وضعها أمام الأمر الواقع، فقالت له بنفاد صبر:
 حسنًا.. سأنتظرك
استقل أنس ودهب السيارة الخاصة بأبيها، فجلس أنس بجوار السائق ليرشده الطريق، أما دهب فبمجرد أن تحركت السيارة غرقت في ذكرياتها التي انهمرت عليها كقطرات المطر في بداية السيل، فتذكرت أيامها مع والدها وهي صغيرة، ورغم أنها لم تكن تراه كثيرًا، إلا أنه كان مهتمًا بكل ما يخصها، حريصًا على تعليمها كل ما هو مفيد، ليجعلها قوية وواثقة من نفسها؛ فحثها على تعلم فنون الدفاع عن النفس في نادى المعادى، وكذلك الفروسية التي لم يكن يتعلمها إلا الصبية، بينما كانت الفتيات يتعلمن البيانو والبالية والأشغال اليدوية، مما جعلها تشعر دائمًا أنها مميزة عن زميلاتها.. ورغم هذا الشعور إلا أنها أحيانًا كانت تراودها أمنية الالتحاق بمدرسة البالية.. لكن تلك الأمنية قوبلت بالرفض الشديد، ويوم أن شاهدها والدها ترقص أمام المرآة جذبها من يدها وضربها بقسوة، ولم تدرك حينها أى جرم ارتكبت لتلقى هذا العنف..
انتبهت دهب على صوت يخبرها أن عليها التوقيع لاستلام شهادة الوفاة، وبعد الانتهاء من التوقيع أمرت السائق أن يعود بها للمنزل. لم تقوَ على الدخول إلى المنزل، شعرت بحنين إلى الحديقة التي كان يقضى فيها والدها أغلب وقته عندما يكون في المنزل، فترجلت بين الزهور تتفقدها كما كان يهتم بها والدها، وأوصاها بالاعتناء بها والحفاظ عليها. وقفت أمام تلك الصوبة الزجاجية التي أقامها ليحفظ لـ (زهرة الشطرنج) البيئة المناسبة لها والتي تشبه البيئة الأوروبية التي جلبها منها في إحدى سفرياته. انسابت من مقلتيها دمعات لم تنتبه لها ولم تجتهد لمنعها من التساقط عندما دار بخلدها قصة هذه الزهرة السامة التي تودي بحياة من يلمس أوراقها، كذلك حذرها والدها منها فبرغم جمال ألوانها وبداعة منظرها الا أنهم يطلقون عليها أحيانًا "رأس الأفعى"، ويستخرجون منها بعض السموم.
حدثت دهب نفسها بصوت مسموع، وكأنها تحدث الزهرة:
 يبدو أننا متشابهتان كثيرًا منذ الصغر؛ فقد أصر أبى عليك عندما علم أنك تزهرين في شهر مارس وهو نفسه شهر ميلادى، وعندما عاد من سفره وخصص لك هذا المكان، دعانى إليك وعرفنى بك وحذرنى من ملامستك.
بعد أن أنهكتها الذكرى كفكفت دموعها وحملت حقيبة يدها التي تركتها على الطاوله ودلفت للداخل وقد راودها شك زال بعد قليل أن ربما تلك الزهرة هي السبب في وفاة أبيها.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.