في الفترة من عام ١٨٩٤ إلى ١٩٠١ كان السيد شيرلوك هولمز مشغولًا للغاية. ويُمكنني
القول بكل ثقةٍ إنه ما من قضيةٍ عامة، أيٍّا كانت درجة صعوبتها، إلا وكان يُستشار فيها
طوال هذه السنوات الثماني، إلى جانب مئات القضايا الخاصة التي كانت ذات طابعٍ
استثنائي وبالغ التعقيد، وكان له دورٌ بارزٌ في حلِّها. وكان نتاجُ هذه الفترة الطويلة
من العمل المتواصل الكثيرَ من النجاحات المُبهِرة، وبعض الإخفاقات التي لم يكن منها
مَناص. ونظرًا لاحتفاظي بما دوَّنتُه بالتفصيل عن كل هذه القضايا، ولمشاركتي شخصيٍّا
في كثيرٍ منها، يُمكن تصوُّر مدى صعوبة مهمة اختيار واحدةٍ منها لعرضها للعامة.
ومع ذلك، سأظل ملتزمًا بقاعدتي السابقة، وأعُطي الأفضلية للقضايا التي لا تَستمد
أهميتها من بشاعة الجريمة بقدْر ما تستمدها من براعة حلِّها وطبيعته الدرامية؛ ولهذا
السبب سأعرِض للقارئ وقائعَ قضيةِ الآنسة فيوليت سميث، راكبةِ الدرَّاجة الوحيدة في
تشارلينجتون، والنتيجة الغريبة لتحرِّياتنا، التي انتهت بمأساةٍ غير متوقَّعة. صحيح أن
الملابسات لا تجعلها مثالًا توضيحيٍّا بارزًا للقدرات التي اشتُهر بها صديقي، لكن ثَمَّةَ
بعضالنقاط في هذه القضية جعلتْ لها مكانًا بارزًا في السجلات الطويلة الحافلة بالجرائم
التي أستمدُّ منها المادةَ التي تقوم عليها هذه الروايات القصيرة.
بالرجوع إلى مفكرتي لعام ١٨٩٥ ، أجد أنه في يوم السبت، الثالث والعشرين من
أبريل، زارتنا لأول مرة الآنسة فيوليت سميث. لم تكن زيارتُها موضعَ ترحيبٍ على الإطلاق
من جانب هولمز كما أذكر؛ إذ كان مُنهمكًا في تلك اللحظة في قضيةٍ عويصة ومعقَّدة للغاية
تتعلَّق بالاضطهاد الاستثنائي الذي كان جون فينسنت هاردن، مليونير التبغ الشهير،
يتعرَّضله. فكان صديقي الذي كانت أحب الأشياء إليه الدقة والتركيز عند التفكير، يستاء
مغامرة راكبة الدراجة في الطريق المهجور
من أي شيءٍ يُشتِّت انتباهه للمسألة التي يَدرسها. ومع ذلك، ودون فظاظة، على خلاف
طبيعته، كان من المستحيل أن يرفضسماعَ قصةِ سيدةٍ شابةٍ جميلةٍ وطويلةٍ وأنيقةٍ ذات
طلَّة ملَكية مهيبة، جاءت لزيارتنا في شارع بيكر في وقتٍ متأخِّر من المساء، وناشدَته العون
والنُّصح. ولم تكن هناك جدوى من الإصرار على أن وقته مشغول بالكامل؛ إذ جاءت هذه
السيدة الشابة وكلها إصرار على إخبارنا بقصَّتها، وكان من الواضح أن لا شيء إلا القوة
سيدفعها إلى ترك الغرفة حتى تفعل ذلك. وبنبرةٍ مستسلِمة وابتسامةٍ فاترة إلى حدٍّ ما،
طلب هولمز من المتطفِّلةِ الجميلةِ الجلوسَ وإخبارنا بما يُزعجها.
على الأقل لا يُمكن أن يكون له علاقة » : قال لها، موجِّهًا عينَيه الحادتَيْن نحوها
«. بصحَّتك؛ فراكبةُ درَّاجةٍ نشيطةٍ مثلك لا بد أن تكون مُفعمةً بالطاقة
نظرت بدهشةٍ إلى قدمَيها، ولاحظتُ التمزُّق البسيط على جانبَي نعلها الذي يُسبِّبه
الاحتكاك مع حافة البدال.
«. أجل؛ فأنا أركب دراجتي كثيرًا يا سيد هولمز، وهذا له علاقة بزيارتي لك اليوم »
أمسَك صديقي بِيَدِ السيدة التي نزعَت عنها القفاز، وفحَصَها باهتمامٍ بالغ، ودون
إبداء أي مشاعر، تمامًا مثلما يفحصالعالِم عيِّنتَه.
أستمحيكِ عذرًا، فهذا عملي. لقد كدتُ أخطئ في افتراض » : قال لها وهو يترك يدها
أنكِ تُمارسين الطباعةَ على الآلة الكاتبة، لكن بالطبع إنها الموسيقى. أتُلاحظ يا واطسون
— « الأطرافَ المسطَّحةَ لأصابعها، الشائعةَ في المهنتَين؟ إلا أن وجهها يحمل طابعًا روحانيٍّا
لا ينشأ لدى الكاتب على الآلة الكاتبة. إنَّ هذه السيدة » — وأدار وجهها نحو الضوء بلطف
«. عازفة موسيقى
«. أجل يا سيد هولمز؛ فأنا أدُرِّس الموسيقى »
«. في الريف، على ما أظنُّ، من لون بشرتك »
«. أجل، بالقرب من فارنهام، على حدودسَري »
إنها منطقة جميلة وعامرة بأكثر المعارف المُثيرين للاهتمام. أتذكَّر يا واطسون أننا »
ألقينا القبضَ، بالقرب من هذه المنطقة، على أرتشيستامفورد المزوِّر. والآن يا آنسة فيوليت،
«؟ ماذا حدث لكِ بالقرب من فارنهام على حدودسَري
أخبرتنا السيدة الشابة، بوضوح وهدوء بالغَيْن بهذا التصريح المُثير للاهتمام:
إن والدي متوفىٍّ يا سيد هولمز. إنه جيمس سميث الذي كان يقود الأوركسترا في »
مسرح إمبريال القديم. وقد تركَنا أنا ووالدتي دون أيِّ معارف في العالم باستثناء عمٍّ واحد،
يُدعى رالف سميث، كان قد ذهب إلى أفريقيا منذ ٢٥ عامًا، ولم نسمع عنه شيئًا منذ
ذلك الحين. حين تُوفيِّ والدي ترَكَنا في فقر شديد، لكن في أحد الأيام نمَى إلى علمنا وجود
يَستعلم عن مكاننا. لك أن تتخيَّل مدى سعادتنا الغامرة؛ إذ « التايمز » إعلانٍ في صحيفة
ظنَنَّا أن أحدًا قد ترك لنا ثروة. ذهبنا على الفور إلى المحامي الذي ذُكر اسمه في الصحيفة.
وهناك التقَينا بسيِّدَيْن، السيد كاروثرز والسيد وودلي، اللذَين عادا إلى الوطن في زيارةٍ من
جنوب أفريقيا. قالا إن عمي كان صديقهما، وإنه تُوفيِّ منذ بضعة أشهر في فقرٍ مُدقِع في
جوهانسبرج، وإنه طلب منهما وهو في النَّزع الأخير البحثَ عن أقاربه والتأكُّدَ من أنهم لا
يُعانون الحاجة. بدا غريبًا لنا أن العمَّ رالف، الذي لم يهتمَّ لأمرنا في حياته، يهتمُّ برعايتنا
بعد وفاته، لكن السيد كاروثرز شرح لنا أن السبب في هذا أن عمِّي لم يكن قد عَلِم بوفاة
«. أخيه إلا توٍّا، وعليه شَعَر بأنه مسئول عن مصيرنا
«؟ عفوًا، متى دار هذا الحوار » : قال هولمز
«. في ديسمبر الماضي، منذ أربعة أشهر »
«. أكملي رجاءً »
بدا لي السيد وودلي شخصًا بغيضًا للغاية. كان ينظر إليَّ طوال الوقت — كان »
شابٍّا فظٍّا مُمتلئ الوجه ذا شارب أحمر، وشعره يتدلَّى على كلا جانبَي جبهته. فكَّرتُ في
أنه شخص بغيض تمامًا، وكنتُ متأكِّدةً من أن سيريل لن يَرغب في أن أعرف مثل هذا
«. الشخص
«! آه، اسمه سيريل إذن » : قال هولمز مبتسِمًا
احمرَّ وجه السيدة الشابة خجلًا وضَحِكَت.
أجل يا سيد هولمز، سيريل مورتون، مهندسكهرباء، ونعتزم الزواج بنهاية الصيف. »
يا إلهي! كيف وصلتُ إلى الحديث عنه؟ ما أردتُ قولَه أن السيد وودلي كان بغيضًا للغاية،
لكن السيد كاروثرز، الذي كان يَكبُره بكثير، كان أكثر لطفًا. كان شخصًا داكن اللون،
شاحب الوجه، حليق الذقن، وصامتًا، لكنه كان دمث الخلق وابتسامته لطيفة. سأل عن
حالنا، وحين عَلِم أننا فقراء للغاية، اقترح أن أذهب إلى منزله وأدَُرِّس الموسيقى لابنته
الوحيدة، التي تُناهز العاشرة. قلتُ له إني لا أحبُّ ترْكَ والدتي، وعليه اقترحَ عليَّ العودةَ
إلى المنزل في عطلة نهاية الأسبوع، وعرضَعليَّ مائة جنيه في السنة، وهو بالطبع أجرٌ مُجزٍ
للغاية؛ لذلك انتهت بي الحال إلى الموافَقة، وذهبتُ إلى تشيلترن جرينج، التي تَبعُد نحو ستة
أميال عن فارنهام. كان السيد كاروثرز أرملَ، لكنه عيَّن مُدبِّرة منزل، وهي سيدة مُسنَّة في
غاية الاحترام تُدعى السيدة ديكسون، من أجل رعاية المنزل. كانت الطفلةُ رقيقةً للغاية،
وبدا كلُّشيءٍ مبشِّرًا بالخير؛ فقد كان السيد كاروثرز بالغَ الطيبة ومُحبٍّا للموسيقى، وكنَّا
نقضي أمسياتٍ رائعةً معًا. وكنتُ أذهب إلى المنزل في عطلة نهاية الأسبوع إلى والدتي في
البلدة.
كان أوَّل ما أفسد عليَّ سعادتي وصول السيد وودلي ذي الشارب الأحمر؛ فقد جاء
لزيارتنا لمدة أسبوع، وآه، بدا لي كأنه ثلاثة أشهر! فقد كان شخصًا مقيتًا، يُضايق الجميع،
لكنه كان معي أسوأ بكثير؛ فقدصرَّح بحبٍّ سمجٍ تِجاهي، وتفاخَر بثروته، وقال إنني إن
تزوَّجتُه فسأَمتلِك أروع الماسات في لندن، وأخيرًا حين تجاهلتُه، أمسك بي بين ذراعَيه في
أحد الأيام بعد العشاء — فكان بالغ القوة — وأقسم أنه لن يَدعَني حتى أقُبِّله. دخل علينا
السيد كاروثرز وأبعده عني، عندها انقضَّعلى مُضيفِه وطرحه أرضًا وجرَح وجهَه. هكذا
انتهت زيارته، كما يُمكنك أن تتخيَّل. اعتذَرَ لي السيد كاروثرز في اليوم التالي، وأكَّد لي أني
لن أتعرَّضلمثل هذه الإهانة مرةً أخرى. ولم أرَ السيد وودلي منذ ذلك الحين.
والآن يا سيد هولمز أصِلُ أخيرًا إلى الشيء الخاص الذي جعلني آتي طلبًا لنصيحتك
اليوم. لا بد أن تعلم أني كلَّ يوم سبت قبل الظَّهيرة أركب درَّاجتي إلى محطة فارنهام حتى
أستقل قطارَ الثانية عشرة و ٢٢ دقيقة المتَّجه إلى البلدة. والطريق من تشيلترن جرينج
طريقٌ مهجور، وفي إحدى البقع يكون مهجورًا تمامًا؛ إذ يمتد لأكثر من ميل بين مرج
تشارلينجتون هيث، على أحد جانبَيه، والغابة التي تمتد حول منزل تشارلينجتون هول، على
الجانب الآخر. لا يمكنك أن تجد أي طريق مهجور أكثر منه في أي مكان آخر، ومن النادر
للغاية أن تقابل عربةً أو فلاحًا حتى تصل إلى الطريق السريع بالقُرب من كروكسبيري
هيل. منذ أسبوعين كنتُ أمرُّ بهذا المكان حين تصادف أن نظرتُ من فوق كتفي، ورأيتُ
خلفي على بُعد نحو مائتَي ياردة رجلًا يركب درَّاجة أيضًا. بدا رجلًا في منتصف العمر،
ذا لحية قصيرة داكنة. نظرتُ خلفي قبل وصولي إلى فارنهام، لكن الرجل كان قد اختفى؛
لذا لم أفكِّر كثيرًا في الأمر. لكن لكَ أن تتخيَّل، يا سيد هولمز، مدى دهشتي حين رأيتُ
عند عودتي في يوم الإثنين الرجلَ نفسَه في المنطقة ذاتها من الطريق. وزادت دهشتي حين
تكررت الواقعة مرةً أخرى، تمامًا مثلما حدث من قبلُ، في يومَي السبت والإثنين التاليَين.
كان يُحافظ دومًا على مسافةٍ بيننا ولم يُضايقني بأي شكل، لكن ظل الأمر بالتأكيد غريبًا.
أخبرتُ السيد كاروثرز بهذا، وقد بدا مهتمٍّا كثيرًا بما قلتُ، وأخبرني أنه طلب إحضار
حصانٍ وعربة، حتى لا أضُطر في المستقبل إلى المرور من هذه الطرق المهجورة دون رفقة.
كان من المُفترض أن يأتي الحصان والعربة هذا الأسبوع، لكن لسببٍ ما لم يَصِلا،
ومرةً أخرى اضطُررتُ إلى ركوب درَّاجتي إلى المحطة. وكان ذلك في صباح يومنا هذا. لك
أن تعتقد أني انتبهتُ عند مروري بجوار تشارلينجتون هيث، وبالطبع، وجدتُ الرجل،
وفعل تمامًا مثلما فعل في الأسبوعَين الماضيَين. كان بعيدًا عني طَوال الوقت كثيرًا حتى
إنني لم أستطِع رؤيةَ وجهه، لكنه بالتأكيد شخصلا أعرفه. كان يَرتدي بذلةً داكنةً وقبعةً
من القماش. كان الشيء الوحيد الذي استطعتُ رؤيته في وجهه لحيته الداكنة. واليوم لم
أشعُر بالانزعاج، بل تملَّكني الفضول، وقررتُ معرفة مَن هو، وماذا يريد؛ لذا أبطأتُسرعة
درَّاجتي، لكنه أبطأ سرعته أيضًا. ثم توقفتُ تمامًا، لكنه توقَّف هو الآخر؛ لذا صنعت له
فخٍّا. يوجد منعَطفٌ حادٌّ في الطريق؛ فأسرعتُ في التبديل حين اقتربتُ منه، ثم توقَّفتُ
وانتظرتُ. لقد توقعتُ أن ينزلَ فيه مندفعًا ويمرَّ بي قبل أن يستطيع التوقُّف، ولكنه لم
يظهرْ قَط. بَعدَها عُدتُ إلى الطريق ونظرتُ عند الناصية. كان بإمكاني رؤية الطريق
أمامي لمسافة ميل، لكنه لم يكن فيه. والأكثر عجبًا في الأمر عدم وجود أي طريق جانبي في
«. هذه البقعة يُمكنه الذهاب منه
هذه القضية بالتأكيد لها طابع خاص. كم مضىمن » : ضحكَ هولمز وفركَ يديه، وقال
«؟ الوقت بين دورانك عند المنعطف واكتشافك خلوَّ الطريق من المارة
«. دقيقتان أو ثلاث »
إذن لا يمكن أن يكون قد عاد عبْر الطريق، وأنتِ تقولين إنه لا توجد طرقٌ جانبية، »
«؟ أليس كذلك
«. ولا واحد »
«. إذن لا بد أنه ذهب في ممرٍ للمُشاة على أحد الجانبَين »
«. لا يمكن أن يكون قد ذهب على جانب المرج، وإلا كنتُ رأيته »
إذن نستنتج، عبْر عملية الاستبعاد، أنه قد ذهب نحو تشارلينجتون هول، الذي »
«؟ يُوجد، بحسب ما أفهم، على أرضه الخاصة على جانب الطريق، هل ثَمَّةَشيءٌ آخر
لا شيء يا سيد هولمز، عدا أنني كنتُ في حيرةٍ بالغة، وشعرتُ بأني لن أرتاح إلا إن »
«. قابلتُك وأخذتُ مشورتك
«؟ أين يَعمل خاطبك » : جلس هولمز صامتًا لبعضالوقت، ثم سألها في النهاية
«. فيشركة ميدلاند إلكتريكال، في كوفنتري »
«؟ لا يزوركِ زياراتٍ مفاجئة »
«! آه يا سيد هولمز! كما لو أني لا أعرفه »
«؟ هل كان لديكِ مُعجَبون آخرون »
«. كثيرون قبل سيريل »
«؟ ومنذ ارتباطك به »
«. لم يكن إلا هذا الرجل البغيض، وودلي، إن كان لنا أن نُطلِق عليه مُعجَبًا »
«؟ لا أحد آخر »
بدت عميلتُنا الجميلةُ مرتبكةً قليلًا.
«؟ مَن هو » : فسأل هولمز
حسنًا، ربما أتوهَّم فحسب، لكن كان يبدو لي أحيانًا أن ربَّ عملي، السيد كاروثرز، »
يهتم كثيرًا لأمري؛ فقد جمعنا القدَر معًا إلى حدٍّ ما. فأنا أعزف بمصاحبته في المساء، لكنه
«. لم يَقُل لي أيشيء؛ فهو رجل مهذَّب للغاية، لكن الفتاة تَعرف دومًا
«؟ هاه! ما العمل الذي يَتكسَّب منه » : قال هولمز، وهو يبدو متجهِّمًا
«. إنه رجل ثري »
«؟ أليس لديه عربات أو خيول »
حسنًا، على الأقل هو موسِر إلى حدٍّ ما. لكنه يذهب إلى المدينة مرتَين أو ثلاثًا في »
«. الأسبوع؛ فهو يهتم كثيرًا بأَسهم الذهب في جنوب أفريقيا
أرجو أن تُعْلميني بأي تطور جديد يا آنسة سميث. أنا منشغل جدٍّا الآن، لكني »
سأخُصِّص وقتًا للتحقيق في قضيتك. وفي غضون هذا رجاءً لا تتخذي أي خطوة دون أن
«. تُعْلميني بها. إلى اللقاء، وأنا متأكد من أننا لن نسمع منكِ إلا كلَّ ما يَسُر
إنه جزء من منظومة الطبيعة الراسخة أن » : قال هولمز، وهو يُدخِّن غليونه في تأمُّل
تجد مثلُ هذه الفتاة مَن يُلاحقها لتختار خاطبًا، لا أن تكون الملاحَقة بدرَّاجة في طرقٍ
ريفية مهجورة. هذا عاشق سرِّي، لا محالة. لكن ثَمَّةَ تفاصيل غريبة ومعبِّرة في هذه
«. القضية يا واطسون
«؟ أتقصد بشأن أنه لا يظهر إلا عند هذه المنطقة فقط »
بالضبط، لا بد من توجيه أول جهودنا نحو معرفةِ مَن قاطنو تشارلينجتون هول. »
ثم، أيضًا، ماذا عن العلاقة بين كاروثرز وَوودلي، بالنظر إلى الاختلاف الرهيب بين الرجلين
على هذا النحو؟ كيف أصبح كلاهما مهتمٍّا بالبحث عن أقارب رالف سميث؟ وثَمَّةَ نقطة
أخرى؛ أيُّ أسرةٍ تلك التي تدفع ضعف السعر السائد في السوق لمُربية، بينما لا تمتلك
حصانًا على الرغم من بُعدهم ستة أميال عن محطة القطار؟ أمر غريب يا واطسون، غريب
«! للغاية
«؟ ستذهب إلى هناك، صحيح »
لا يا صديقي العزيز، بل أنت مَن سيذهب؛ فربما تكون هذه خدعة تافِهة، وأنا »
لا يُمكنني قطع أبحاثي المهمة من أجلها. عليك أن تذهب في وقتٍ مبكِّر من صباح يوم
الإثنين إلى فارنهام، وتختبئ بالقرب من تشارلينجتون هيث، وتُراقب هذه الوقائع بنفسك،
وتتصرَّف حسبما يتراءى لك. ثم، بعدما تسأل عن قاطني تشارلينجتون هول، ستعود إليَّ
وتُعطيني تقريرك. والآن يا واطسون، لن نتكلَّم عن هذه القضية مرةً أخرى حتى نحصل
«. على بعضالدعائم الصُّلبة التي قد نأمُل الارتكاز عليها من أجل الوصول إلى الحل
تأكدنا من السيدة أنها عادت في يوم الإثنين بالقطار الذي يُغادر ووترلو في التاسعة
و ٥٠ دقيقة؛ لذلك بدأتُ رحلتي مبكِّرًا ولحقتُ بقطار التاسعة و ١٣ دقيقة. وفي محطة
فارنهام لم أجد صعوبة في معرفة الطريق إلى تشارلينجتون هول. كان مُستحيلًا لأي عين
أن تُخطئ المشهد الذي تخوض فيه السيدة الشابة مغامرتها؛ إذ كان الطريق يمتد بين
المَرج المفتوح من جهة، وسياجٍ من أشجار الطقسوس القديمة من الجهة الأخرى، وهو
يُحيط بحديقةٍ تُزيِّنها أشجارٌ مذهلة. كان هناك بوابةٌ رئيسيةٌ مصنوعةٌ من أحجارٍ عليها
بُرقعٌ من نباتٍ أخضر، وأعلى كل عمود على كلا الجانبين شعاراتُ نبلٍ مهترئة، لكن بجوار
ممر العربات المركزي هذا لاحظتُ وجودَ عِدَّة أماكن بها فجوات في السياج وممراتٌ تمر
خلالها. لم يكن المنزل واضحًا من الطريق، لكن البيئة المحيطة كانت كلها تُوحي بالكآبة
والخراب.
أما المرج فكان مغطٍّى برُقَعٍ ذهبيةٍ من نبات الجولق المُزهِر، تتلألأ ببهاء تحت أشعة
شمس الربيع الساطعة. اتخذتُ موقعي خلف واحدةٍ من تلك الأجمات، حتى أطَّلع على كلٍّ
من بوابة تشارلينجتون هول وطريق طويل ممتد على كلا الجانبَين. كان الطريق مهجورًا
حين تركته، أما الآن فقد رأيتُ راكبَ درَّاجة قادمًا عليه من الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي
جئتُ منه. كان متَّشحًا ببذلة داكنة، ورأيت أن لديه لحيةً سوداء. عندما وصل إلى نهاية
أراضيتشارلينجتون ترجَّل عن درَّاجته وسار بها إلى فجوةٍ في السياج، واختفى عن نظري.
مرَّت ربع ساعةٍ ثم ظهر راكبُ درَّاجةٍ آخر؛ وهذه المرة كانت السيدة الشابة قادمةً من
المحطة. رأيتها تنظر حولها وهي تمرُّ أمام سياج تشارلينجتون، وبعد لحظةٍ ظهر الرجل
من مخبئه، وركبَ درَّاجته على الفور، وتَبِعها. لم يكن يتحرَّك، في كل هذا المنظر الطبيعي
الواسع، إلا هذان الشكلان؛ الفتاة الرشيقة التي تجلس منتصبةَ الظهر على درَّاجتها،
والرجل الذي يسير خلفها منكفئًا على مِقْود درَّاجته، ومُصدرًا إيماءاتٍ خفيةً على نحوٍ مثيرٍ
للاهتمام مع كل حركة. نظرَت الفتاة إلى الوراء نحوَه وأبطأت من سرعتها، فأبطأ سرعته
هو أيضًا. توقَّفت، فتوقَّف هو الآخر على الفور، مُحافظًا على مسافةِ مائتَي ياردة بينهما.
كانت حركتها التالية غيرَ متوقَّعة وجريئةً كذلك؛ فقد أدارت درَّاجتها فجأة، وانطلقت
مسرعةً نحوه! غير أنه كان سريعًا مثلها تمامًا، فانطلق مسرعًا في هروبٍ مُستمِيت. والآن
عادت لتسير في طريقها مرةً أخرى، رافعةً رأسها في زهو وفخر، غير عابئةٍ بإيلاء مزيدٍ
من الانتباه لمُراقِبها الصامت. أما هو فقد استدار أيضًا، وظلَّ مُحافظًا على المسافة بينهما
حتى أخفاهما منعطَفُ الطريق عن نظري.
ظللتُ في مخبئي، وخيرًا فعلتُ؛ إذ عاود الرجل الظهور مرةً أخرى، يَسير عائدًا بدرَّاجته
ببطء. دخل عبْر بوابات تشارلينجتون هول ونزل عن دراجته. واستطعتُ أن أراه لبضع
دقائق أخرى وهو يقف بين الأشجار. كانت يداه مرفوعتَين وبدا أنه يُهندِم رابطة عنقه.
بعد ذلك اعتلى درَّاجته وسار بعيدًا عني عبْر الممر نحو تشارلينجتون هول. ركضتُ عبْر
المرج ونظرتُ عبْر الأشجار، فلَاحَ لي من بعيدٍ المبنى الرماديُّ القديمُ بما فيه من مداخِن
تيودور المجعَّدة، لكن الممر كان يمتدُّ عبْر شجيراتٍ كثيفة، ولم يَعُد بإمكاني رؤيةُ الرجل.
ومع ذلك، بدا لي أني أديتُ عملًا جيدًا نوعًا ما هذا الصباح، فسِرتُ عائدًا بمعنوياتٍ
مرتفعة إلى فارنهام. لم يَستطِع سمسارُ المنازل المحلي أن يُخبرني شيئًا عن تشارلينجتون
هول، وأحالني إلى شركةٍ شهيرة في بول مول، مررتُ عليها في طريقي إلى المنزل، وقابلني
ممثل الشركة بلُطف، وأخبرني أنني لا أستطيع استئجار تشارلينجتون هول في الصيف؛
فقد تأخرتُ كثيرًا؛ فقد استُؤجر منذ شهر، ومُستأجِره يُدعى السيد ويليامسون. كان رجلًا
محترمًا مسنٍّا، واعتذر مُمثِّل الشركة عن عدم قدرته على البوح بالمزيد عنه؛ إذ لم تكن
شئون عملائه أمرًا يمكنه مناقشته.
استمع السيد شيرلوك هولمز بانتباهٍ إلى تقريري الطويل، الذي استطعتُ تقديمَه له
ذلك المساء، لكنه لم يَنتزع منه الثناء المقتضَب الجاف، الذي كنت أرجوه منه، والذي كنتُ
سأقُدِّره. على العكس من ذلك؛ فقد ازداد وجهه العابس عبوسًا عن المعتاد وهو يُعلِّق على
الأشياء التي فعلتُها والأشياء التي لم أفعلها.
إن مكان اختبائك، يا عزيزي واطسون، كان خطأً للغاية. كان يُفترضبك أن تقف »
خلف السياج، حتى يتسنَّى لك رؤيةُ هذا الشخص المثير للاهتمام عن قُرب. ما حدث أنك
كنتَ تبعُد عنه بنحو مائتَي ياردة، ووصفتَه بأقل مما وصَفتْه به الآنسة سميث. إنها تعتقد
أنه رجل لا تعرفه، لكني مُقتنِعٌ بأنه أحد معارفها؛ وإلا فلماذا يضطرب إلى هذا الحد من
اقترابها منه ورؤية ملامحه؟ لقد وصفْتَه بأنه يَنحني فوق مِقْود الدرَّاجة، وهذا نوعٌ آخَر
من التخفِّي، ألا ترى؟ لقد أخفقتَ إخفاقًا بالغًا بالفعل. إنه يعود إلى المنزل، وأنت تُريد
«! معرفةَ مَن هو، فتأتي إلى سمسار منازل في لندن
«؟ ماذا كان يُفترضبي أن أفعل » : صحتُ فيه ببعضالانفعال
تذهب إلى أقرب حانة؛ فهذا مركز القيل والقال في الريف؛ فهناك كانوا سيُخبرونك »
باسم كل شخص، مِن السيد إلى الخادمة. ويليامسون! لا يوحي لي الاسمُ بشيء. إن كان
رجلًا كبيرًا في السن، فإنه لن يكون راكبَ درَّاجةٍ نشيطًا يُمكنه الهرب من ملاحقة سيدةٍ
شابة رياضية. ما الذي حصلنا عليه من رحلتك؟ معرفة أن قصة الفتاة حقيقية. أنا لم
أشُكَّ في هذا قَط. إن ثَمَّة علاقةً بين راكب الدرَّاجة وتشارلينجتون هول. أنا لم أشُكَّ قَط في
هذا أيضًا. إن تشارلينجتون هول يَسكنه ويليامسون، ما الجدوى من ذلك؟ حسنًا، حسنًا
يا سيدي العزيز، لا تكتئب هكذا، يُمكننا فعلُ المزيد يوم السبت القادم، وحتى هذا الحين
«. سأجُري بعضالتحرِّيات بنفسي
في صباح اليوم التالي وصلَتْنا رسالةٌ من الآنسة سميث، تحكي لنا فيها بإيجازٍ ودقةٍ
الأحداثَ التي شاهدتها، لكن جوهر الرسالة ورَدَ في حاشية الرسالة، فقالت:
أنا متأكِّدة من أنك ستحفظسرِّي، يا سيد هولمز، حين أخبرك بأن بقائي في هذا
المكان أصبح صعبًا بسبب حقيقة أن رب عملي قد عرضَ عليَّ الزواج. أنا على
يقينٍ من أن مَشاعره عميقةٌ ومحترمةٌ إلى أقصى حد. ولكنَّني في الوقت نفسه
أعطيتُ وعدًا بالزواج لشخصٍآخَر بالطبع. لقد تلقَّى رفضيبجديةٍ بالغة، لكن
أيضًا بلُطفٍ بالغ. ومع ذلك، يُمكنك إدراكُ أن الموقف متأزِّم بعض الشيء.