artherconan

شارك على مواقع التواصل

يبدو أن صديقتَنا في » : قال هولمز وهو مُستغرِق في التفكير، بعدما أنهى الرسالة
موقفٍ لا تُحسَد عليه. لا شكَّ في أن هذه القضية تزداد إثارةً، واحتمالات تطوُّرها أكثر مما
ظننتُ في البداية. أظن أن لا ضيرَ من قضاء يومٍ هادئ في الريف، كما أنني أميلُ إلى الذهاب
«. إلى هناك عصراليوم، واختبار نظريةٍ أو نظريتَين كوَّنتهما بشأن هذا الأمر
انتهى يوم هولمز الهادئ في الريف نهايةً استثنائية؛ إذ وصل إلى شارع بيكر في وقتٍ
متأخرٍ من المساء بجُرحٍ في شفتِه، وبروزٍ تغيَّر لونُه عن لون الجلد في جبهته، بالإضافة إلى
انطباعٍ عامٍّ بالثمالة كان من شأنه أن يجعله موضعًا لتحقيقات سكوتلاند يارد. أما هو
فقد كان مبتهجًا للغاية بمغامراته، وانفجر ضاحكًا وهو يحكيها.
أنا لا أمارس الرياضة بنشاطٍ إلا قليلًا، حتى إنها دومًا ما تكون تجربةً ذات » : قال لي
طابعٍ خاص. أنت تعلم أني أجُيد رياضة الملاكمة البريطانية القديمة بعض الشيء. إنها
«. مفيدة في بعضالأحيان؛ فلولاها لتعرضتُ اليومَ، على سبيل المثال، لكارثةٍ شائنة للغاية
رجوتُه ليخبرني بما حدث.
وجدتُ الحانة الريفية التي لَفتُّ انتباهك إليها، وهناك أجريتُ تحرِّيات حذِرة. كنتُ في »
الحانة وأعطاني صاحب الحانة الثرثار كلَّ ما أردتُه. علمتُ أن ويليامسون رجلٌ ذو لحيةٍ
بيضاء، يعيش وحده مع مجموعةٍ صغيرة من الخدم في تشارلينجتون هول. وثَمَّة شائعةٌ
بأنه رجلُ دينٍ أو كان كذلك، لكنَّ ثَمَّة واقعةً أو اثنتَين حدثتا خلال فترة إقامته القصيرة
في هذا المنزل لم يكن لهما أي صلة بالدِّين، كما بدا لي. فقد أجريتُ بعض التحرِّيات في
إحدى الهيئات الكَنَسية، وأخبروني بوجودِ رجلٍ بهذا الاسم بين رجال الكنيسة كانت حياته
المهنية قاتمةً على نحوٍ استثنائي. بعدها أخبرني صاحب الحانة أن ثَمَّة زائرِين دومًا في
عطلة نهاية الأسبوع — مجموعة مقرَّبة يا سيدي — في هذا المنزل، وعلى وجه الخصوص
سيدٌ ذو شارب أحمر، اسمه السيد وودلي، دائمًا ما يكون هناك. كنَّا قد وصلنا إلى هذا
الجزء في حوارنا حين دخل علينا هذا السيد نفسه، الذي كان يَشرب جِعَتَه في الحانة وسَمِع
الحوار بأكمله. مَن أنا؟ وماذا أريد؟ وماذا أقصد بطرحي لتلك الأسئلة؟ كانت لُغته سلِسةً
ومتدفِّقة، ونُعوتُه في غاية الحدَّة. وأنهى سلسلة إهاناته بضربةٍ ماكرةٍ بظهر يده فشِلتُ في
تفاديها بالكامل. كانت الدقائق التالية مُمتعة؛ فقد وجَّهتُ لكمةً مستقيمةً بيدي اليسرى
ضد همجيٍّ مترنِّح. وخرجتُ كما تراني الآن، أما السيد وودلي فقد ذهب إلى المنزل في عربة.
وعليه أنهيتُ رحلتي إلى الريف، ولا بدَّ لي من الاعتراف بأنه، على الرغم من أن يومي على
«. حدودسَري كان ممتعًا، فلم يكن مُثمرًا أكثر من يومك
وصلَنا يوم الخميس خطابٌ آخَر من عميلتنا.
لن تندهش، يا سيد هولمز، [على حدِّ قولها]، عندما تعلم أني سأترك وظيفتي لدى
السيد كاروثرز. فحتى الأجر المرتفع لا يُمكِنُه تعويضي عن منغِّصات موقفي.
سآتي يوم السبت إلى البلدة ولا أنوي العودة. لقد أحضرالسيد كاروثرز عربة،
ومِن ثَمَّ فإن أخطار الطريق المهجور، إن كانت ثَمَّة أخطار بالفعل، قد انتهت
الآن.
وأما عن السبب المحدَّد لمُغادرتي، فلا يتعلَّق فحسب بالوضع المتأزم مع
السيد كاروثرز، بل بعودة ظهور ذلك الرجل المَقيت، السيد وودلي. لقد كان
دومًا بغيضًا، ولكنه يبدو أكثر بشاعةً من أي وقتٍ مضى؛ إذ يبدو أنه تعرَّض
لحادثٍ شوَّه ملامحه. لقد رأيتُه من النافذة، لكن يُسعدني القول إنني لم أقابله.
دار بينه وبين السيد كاروثرز حوار طويل، وبدا على السيد كاروثرز الانفعالُ
الشديدُ بعدها. لا بدَّ أن وودلي مقيمٌ في الجوار؛ لأنه لا يقضيالليل هنا، ومع ذلك
لمحتُه مرةً أخرى هذا الصباح يتسلَّل خُفية بين الشجيرات. وعما قريب سأجد
حيوانًا همجيٍّا متوحِّشًا طليقًا في المكان. إنني مشمئزَّة منه وأخشاه على نحوٍ
يفوق الوصف. كيف يستطيع السيد كاروثرز تحمُّل مثل هذا المخلوق للحظة؟
ومع ذلك، فإن جميع متاعبي ستختفي يوم السبت.
أعتقد يا واطسون، أعتقد أن ثَمَّة مكيدةً خطيرةً تُحاك حول هذه » : قال هولمز بوقار
السيدة الشابة، ومن واجبنا التأكُّد من عدم مضايقة أحدٍ لها في رحلتها الأخيرة هذه. أعتقد
يا واطسون أن علينا تخصيصَ بعض الوقت للذهاب معًا إلى هناك في صباح يوم السبت،
«. والتأكُّد من أن هذا التحقيق الغريب وغير الحاسم لن ينتهيَ نهايةً مشئومة
أعترف بأني حتى هذه اللحظة لم أتعامل بصورةٍ جدية مع القضية، التي بدت لي
غريبةً وغير مألوفةٍ بعضالشيء أكثر من كونها خطيرة؛ فلم يكن تربُّصشخصٍوتعقُّبه
لامرأةٍ شديدة الجمال شيئًا غريبًا على الأسماع، وإذا كان يَفتقِر إلى الجرأة؛ بحيث إنه لم
يكن يَعزُف عن مخاطبتها فحسب، بل يَهرُب منها عند اقترابها منه، فهو إذن ليس مُعتدِيًا
خطيرًا. أما وودلي الهمجي فقد كان شخصًا مختلفًا عن هذا، لكنه لم يُضايق عميلتنا،
باستثناء مرةٍ واحدة، والآن هو في زيارة لمنزل كاروثرز دون للتطفُّل على وجودها. أما
الرجل الراكب الدرَّاجة فلا شكَّ أنه أحد أعضاء حفلات نهاية الأسبوع هذه التي تُقام في
تشارلينجتون هول، التي تحدَّث عنها صاحب الحانة، لكنَّ ثَمَّة كثيرًا من الغموضيحيط
بهُويته أو بما يريده. كانت جدِّية أسلوب هولمز وحقيقة أنه وضع مسدسًا في جيبه قبل
مغادرة مسكننا، هما ما دفعاني إلى الشعور بأنه قد يتبيَّن أن وراء هذه السلسلة الغريبة
من الأحداث مأساة.
كانت ليلة مطيرة تَبِعها صباحٌ مشرق، وبدا الجزء المغطَّى بالمرج من القرية بما
فيه من كتلٍ متلألئةٍ من نبات الجولق المزهر أكثرَ بهاءً للأعيُن التي أرهقتها رؤيةُ الألوان
الرمادية الكئيبة القاتمة الموجودة في لندن. سِرْنا أنا وهولمز على طول الطريق الرملي
الواسع، نستنشق هواء الصباح المنعش، ونستمتع بسماع تغريد الطيور وبنسيم الربيع
المُنعِش. ومن منطقةٍ مرتفعةٍ في الطريق على حافة كروكسبيري هيل استطعنا رؤية منزل
هول القاتم بين أشجار البلوط القديمة، التي على قِدَمِها تظل أكثر حداثةً من المبنى الذي
تحيط به. أشار هولمز إلى الطريق الطويل المتعرِّج، ذلك الشريط الأصفر المُشرَّب بالحُمرة،
المُمتد بين المرج البُني والغابة الخضراء المُتبرعِمة. لاحت من بعيد بقعة سوداء، فرأينا عربة
تتحرَّك في اتجاهنا. فأصدر هولمز صيحةً تدلُّ على نفاد صبره.
لقد منحتنا هامشًا مقداره نصف ساعة، لكن إن كانت هي التي في العربة، » : قال
فلا بد أنها ستذهب للحاق بالقطار المبكِّر. أخشى يا واطسون أن تمرَّ بتشارلينجتون قبل
«. أن نتمكَّن من اللحاق بها
منذ اللحظة التي تخطينا فيها المرتفع في الطريق لم يَعُد باستطاعتنا رؤية المركبة،
لكننا أسرعنا نحوها بسرعةٍ بدأ في الظهور معها تأثيرُ نمط حياتي الكسول عليَّ، فاضطُررت
إلى التخلُّف عنه. أما هولمز، من ناحيةٍ أخرى، فكان مُواظبًا على التدريب؛ إذ إن لديه مخزونًا
لا ينضب من الطاقة العصبية بإمكانه الاعتماد عليه. لم تقِلَّ سرعة خطواته على الإطلاق،
حتى توقَّف فجأة، وكان على بُعد مائة ياردة أمامي، ورأيتُه يحرِّك يده في الهواء في حزنٍ
ويأس. وفي اللحظة ذاتها، ظهرت عربةٌ فارغةٌ من منعطف الطريق والحصان يخُبُّ،
واللجام مجرجر على الأرضوراءه، وانطلق بها مسرعًا نحونا.
تأخرنا كثيرًا يا واطسون، تأخرنا كثيرًا! » : صاح هولمز، وأنا أركض لاهثًا إلى جواره
يا لحماقتي إذ لم يكن القطار المبكر في حسباني! إنها قضية اختطاف يا واطسون؛ قضية
اختطاف! أو قتْل! لله وحده يعلم ما حدث! أغلِق الطريق! أوقف الحصان! هذا جيد، والآن
«. اقفز بداخلها، ودعنا نرَ إن كنَّا نستطيع إصلاح عواقب خطئنا
قفزنا داخل العربة، وبعدما أدار هولمز الحصان، أعطاه ضربة حادة بالسوط،
فانطلقنا عائدَين على الطريق. وعندما انحرفنا في المنعطف كان الطريق الطويل بين
تشارلينجتون هول والمرج مفتوحًا. أمسكتُ بذراع هولمز.
«! ذاك هو الرجل » : وقلتُ وأنا ألهث
كان راكبُ دراجةٍ وحيدٌ قادمًا نحونا. كان رأسه مُنخفضًا وكَتِفاه تقترب كلٌّ منهما
من الأخرى وهو يضع كل ذرَّة لديه من الطاقة في التبديل وتحريك الدراجة. كان ينطلق
مسرعًا كما لو كان في سباق. وفجأةً رفع وجهه الملتحي ورآنا بالقرب منه، فأوقف دراجته
ونزل عنها. كان ثَمَّةَ تناقُض واضح بين لحيته الحالكة السواد وشحوب وجهه، وكانت
عيناه تلمعان كما لو أنه مُصاب بحمَّى. حدَّق فينا وفي العربة، ثم علت وجهَه نظرةُ ذهول.
أنتما! توقَّفا هناك! من أين » : صاح فينا وهو مُمسك بدراجته ليسدَّ علينا الطريق
كان يَصيح فينا وهو يُخرِج مسدسًا من جيبه «! لكما بهذه العربة؟ أوقِف العربة يا رجل
«. قلتُ لك أوقِف العربة، وإلا أقُسم بالرب أني سأطُلِق على حصانك الرصاص » . الجانبي
رمى هولمز اللجامَ على ركبتي، وقفز من العربة.
أنت الرجل الذي جئنا لرؤيته. أين الآنسة فيوليت » : قال بطريقته السريعة الواضحة
«؟ سميث
«. هذا ما أريد سؤالكما عنه. أنتما في عربتها، فلا بد أنكما تَعرفان أين هي »
لقد عثرنا على العربة في الطريق، ولم يكن فيها أحد. فركبناها وعُدنا بها من أجل »
«. مساعدة السيدة الشابة
يا إلهي! يا إلهي! ماذا أفعل؟ لقد ظفِرا بها، هذا » : صاح الغريب بنبرةٍ يَملؤها اليأس
الشيطان وودلي والوغد الآخر. تعالَ يا سيدي، إن كنت حقٍّا صديقها. قِف معي وسننقذها
«. معًا، حتى إن كلَّفني الأمرُ التضحيةَ بحياتي في غابة تشارلينجتون
ركضالرجل وهو مُرتبِك ممسكًا مسدَّسه في يده نحو فجوةٍ في السياج. تَبِعه هولمز،
ثم تبعتُ أنا هولمز تاركًا الحصان يرعى على جانب الطريق.
لقد مروا من » : قال الرجل وهو يُشير إلى علامات آثار أقدام كثيرة على الطريق الموحل
«؟ هنا. أنت! توقَّفْ لحظة! مَن هذا الذي بين الشجيرات
كان شابٍّا صغير السن، في السابعة عشرة تقريبًا من عمره، يرتدي زي سائس الخيل،
بواقي حذاء ورابطات ساق من الجلد. كان مُستلقيًا على ظهره ورُكْبتُه مرفوعة، وفي رأسه
جرح كبير. كان غائبًا عن الوعي، لكنه ما زال حيٍّا. واستطعتُ أن أرى بمجرد النظر إلى
جرحه أنه لم يَخترِق العظم.
إنه بيتر، السائس. لقد كان يقود العربة، وألقاه هؤلاء الوحوش » : صاح الغريب
وضرَبُوه. دعُوه مستلقيًا، فلا سبيل أمامنا لإنقاذه، لكن ربما نستطيع إنقاذها هي من أسوأ
«. مصير قد تتعرَّضله امرأة
ركضنا مسرعين عبْر الطريق، الذي كان متعرِّجًا بين الأشجار. وصلنا إلى مجموعةٍ من
الشجيرات التي تحيط بالمنزل، وعندها توقَّف هولمز.
إنهم لم يَذهبوا إلى المنزل. هذه آثار أقدامهم على اليسار، هنا بجوار شُجيرات نبات »
«! الغار! آه، هذا ما توقعته
وبينما هو يتحدَّث، صدرتصرخةٌ لسيدة —صرخة تنطق برعبٍ بالغ — من وسط
مجموعة الشجيرات الكثيفة الخضراء الموجودة أمامنا. توقَّفَت الصرخةُ فجأةً وهي في قمة
حدَّتها، وصاحبَ ذلك صوتُ اختناقٍ وقرقرة.
من هذا الطريق! من هذا الطريق! » : قال الغريب، وهو يركضمسرعًا عبْر الشجيرات
إنهم في ممر البولنج. آه! الكلاب الجبناء! اتْبعاني أيها السادة! تأخرنا كثيرًا! تأخرنا كثيرًا!
«! يا للهول
دخلنا فجأةً في أرضٍفضاء جميلة تُغطيها المروج وتحيط بها أشجار قديمة. وفي أبعد
جانب فيها، تحت ظل شجرة بلوط هائلة، وقفَت مجموعة غريبة من ثلاثة أفراد. كانت
بينهم سيدة، وهي عميلتنا، خائرة القوى وغائبة عن الوعي، وحول فمها منديل، ويقف
أمامها شابٌّ همجي كبير الوجه له شارب أحمر، وكانت ساقاه اللتان لبسَ فيهما حذاءً
نصفيٍّا واقيًا متباعدة إحداهما عن الأخرى كثيرًا، ويضع إحدى ذراعيه في خصره، والأخرى
تُلوِّح بسوطٍ للخيل، وكان أسلوبه كله معبِّرًا عن سعادة مُتبجِّحة بالظفر بغنيمته. كان
يقف بينهما رجل مُسِن، ذو لحية رمادية، ويرتدي رداءً كهنوتيٍّا قصيرًا على بذلة صوفية
فاتحة اللون، وكان من الواضح أنه قد أنهى مراسم الزواج؛ إذ كان يضع كتاب الصلوات
في جيبه مع دخولنا عليهم، وضرب العريسَ الشريرَ على ظهره في تهنئة مرحة.
«! لقد تزوَّجا » : قُلت وأنا ألهث
وانطلق مندفعًا عبْر الأرض الواسعة وأنا وهولمز في «! تعاليا! تعاليا » : صاح مرشدنا
أعقابه. حين اقتربنا منه، وقفَت السيدة مترنحةً متكئةً على جذع شجرة من أجل الحصول
على الدعم. انحنى ويليامسون، رجل الدين السابق، لنا في تهذيبٍ ساخر، وتقدَّم وودلي
المُحتال نحونا وهو يُصدر ضحكة وحشية ومُغتبطة.
يُمكنك نزع لحيتك يا بوب، فأنا أعرفك جيدًا. حسنًا، لقد جئتَ أنت ورفاقك في » : قال
«. الوقت المناسب تمامًا حتى أعُرِّفكم بالسيدة وودلي
كان ردُّ مرشدنا فريدًا من نوعه؛ فقد نزَع اللحية الداكنة التي كان يتخفَّى بها،
وألقاها على الأرض، فظهر من تحتها وجهٌ طويلٌ شاحبٌ حليق. ثم رفع مسدسه ووجَّهه
نحو المُحتال الشاب، الذي كان يتقدَّم نحوه وهو يُلوِّح بسوطه الخطير في يده.
أجَل، أنا بوب كاروثرز، وسأَحرص على أن تأخذ هذه السيدة حقَّها، » : قال حليفنا
حتى لو اضطُررت إلى القتل لتحقيق ذلك. لقد أخبرتُكَ بما سأفعله إن ضايَقْتها، وأقسم
«! بالله أني سأكون على قدْر كلمتي
«! لقد تأخرتَ كثيرًا، إنها زوجتي »
«. لا، بل هي أرملتك »
أصدر مسدسُه صوتًا، ورأيت الدم ينبجس من صدرية وودلي. دار حول نفسه في
مكانه وأصدر صرخةً ثم سقط على ظهره، وتحوَّل وجهُه الأحمر البَشِع فجأةً إلى لونٍ
شاحب مخيف مُرَقط. انفجر الرجل العجوز، الذي ما زال متشحًا برداء الكاهن، في سلسلة
من التهديدات والبذاءات لم أسمعها من قبلُ، وأخرج مسدَّسًا هو الآخر، لكن قبل أن
يستطيع رفعه باغته مسدس هولمز.
يكفي هذا، ألقِ مسدسك! واطسون، التقِطِ المسدس! ووجِّهه » : قال صديقي ببرود
نحو رأسه! شكرًا لك. أما أنت يا كاروثرز فأعطِني هذا المسدس. كفى عنفًا عند هذا الحد،
«! هيا ناولني إياه
«؟ مَن أنت إذن »
«. اسمي شيرلوك هولمز »
«! يا إلهي »
«. أرى أنكَ سمعتَ عني من قبلُ. سأكون ممثلًا للشرطة الرسمية حتى وصولهم »
أنت يا هذا، تعالَ » . صاح هولمز في سائس خيل مُرتعِد ظهرَ على حافة المساحة الواسعة
وكتب بضع كلمات على ورقةٍ من «. إلى هنا. خذ هذه الرسالة بأسرع ما يُمكنك إلى فارنهام
أعطِها إلى قائد الشرطة في مركز الشرطة، وحتى مجيئه سأتحفَّظ عليكم » : مفكرته، وقال
«. جميعًا رهن اعتقالي الشخصي
سيطرت شخصية هولمز القوية والسيادية على المشهد المأساوي، وخضع الجميع
لإرادته. فوجد ويليامسون وكاروثرز نفسَيهما يحملان وودلي المصاب إلى المنزل، بينما
أعطيتُ ذراعي للفتاة المذعورة لتتوكَّأ عليها. وُضع المصاب علىسريره، وفحصتُه بِناءً على
طلب هولمز. وذهبت إليه بتقريري حيث كان يجلس في غرفة الطعام القديمة ذات الجدران
المزدانة بأبسِطة الحائط المزخرفة، وسجيناه يَجلسان أمامه.
«. سيعيش » : قلتُ
ماذا! سأصعد وأقضيعليه أولًا. هل تقول لي » : صاح كاروثرز وهو يقفز من مقعده
«؟ إن هذه الفتاة، هذا الملاك، ستَرتبِط برورينج جاك وودلي مدى الحياة
لا تشغَل نفسك بذلك؛ فثَمَّةَ سببان وجيهان للغاية لعدم إمكانية أن تكون » : قال هولمز
زوجته تحت أي ظرف؛ أولًا: من حقِّنا التشكيك في أهلية السيد ويليامسون في إتمام مراسم
«. الزواج
«. أنا كاهن مُرسَّم » : صاح الوغد العجوز
«. وعُزلتَ من منصبك أيضًا »
«. حين يُصبحُ المرء رجل دين، يظلُّ كذلك طول العمر »
«؟ لا أظن ذلك. ماذا عن التصريح »
«. لدينا تصريح بالزواج، هنا في جيبي »
إذن فقد حصلتَ عليه بخدعة. لكن على أي حال فإن زواج الإكراه ليس زواجًا، بل »
جناية غاية في الخطورة، كما سيتَّضح لك قبل نهاية حياتك. وسيتوافر لك متَّسع من الوقت
للتفكير في هذه النقطة في خلال السنوات العشر التالية أو نحو ذلك، إن لم أكن مخطئًا.
«. أما أنت يا كاروثرز، فكان من الأفضل لك الاحتفاظ بمسدَّسِك في جيبك
بدأتُ أعتقد ذلك يا سيد هولمز، لكن حين فكرتُ في كل الاحتياطات التي اتخذتها »
لحماية هذه الفتاة — لأني أحببتها يا سيد هولمز، وهذه هي المرة الأولى التي أعرففيها على
الإطلاق معنى الحب — أصابني الجنون عندما فكَّرت في أنها قد أصبحَت في قبضة أكثر
شخصٍهمجي ومُتنمِّر في جنوب أفريقيا، رجل اسمه يُلقِي الرعب في النفوسمن كيمبرلي إلى
جوهانسبرج. ربما تجد صعوبة في تصديق الأمر يا سيد هولمز، لكن منذ عَمِلَت هذه الفتاة
لديَّ لم أتركها قط تمر أمام هذا المنزل — حيث يَختبئ هذان الوغدان حسبما عَلمت —
دون أن أتبعها على دراجتي لمجرَّد التأكد من عدم إصابتها بأي سوء. كنتُ أحافظ على
مسافةٍ بيني وبينها، ووضعتُ لحيةً حتى لا تتعرَّف عليَّ؛ إذ إنها فتاة طيبة ونبيلة، وما
«. كانت ستبقى في العمل لديَّ طويلًا إن علمَت أني أتعقَّبها في طرقات القرية
«؟ لماذا لم تُخبرها بما يُحدِق بها من خطر »
لأنها كانت ستَتركني أيضًا، وأنا لا أطيق مواجهة هذا. فحتى إن لم يكن باستطاعتها »
«. أن تُحبَّني، كان يكفيني مجردُ رؤيةِ طلعتِها البهيةِ في المنزل، وسماع صوتها
«. حسنًا، أنت تُسمِّي هذا حبٍّا يا سيد كاروثرز، لكني أسُميه أنانية » : قلتُ
ربما الاثنان معًا، على أي حال، لم يكن باستطاعتي أن أتركها تذهب. إلى جانب أنه »
في ظل وجود هؤلاء الأشخاص، كان لا بد من وجود شخصٍبالقرب منها ليرعاها. وعندما
«. جاءت البرقية علمتُ أنهم على وشْك التحرُّك
«؟ أي برقية »
«. ها هي » : أخرج كاروثرز برقيةً من جيبه، وقال
كانت البرقية قصيرة وموجزة:
الرجل العجوز مات.
حسنًا! أعتقد أني أعرف الآن كيف سارت الأمور، ويُمكنني أن أفهم الآن » : قال هولمز
كيف تُشير هذه الرسالة، كما قلتَ أنت، إلى بدء تحرُّكهما. لكن بينما نحن نجلس منتظرين
«. يمكنك إخبارنا بما تستطيع
انفجر الشخص الفاسد الذي يرتدي معطف الكاهن في وابل من الألفاظ البذيئة،
بحق السماء، إن وشيتَ بنا يا بوب كاروثرز، فسأقتلُكَ كما قتلت جاك وودلي. » : وقال
يُمكنك التحدُّث عن الفتاة كما تشاء، فهذا شأنك الخاص، لكن إن تحدثتَ عن رفاقك لهذا
«. الشُّرطي ذي الملابس المدنية، فسيكون هذا أسوأ عمل تفعله في حياتك
لا داعي للانفعال يا قداسة الكاهن؛ فالقضية واضحة » : قال هولمز وهو يشعل سيجارة
للعِيان، وكلُّ ما أطلبُه بضعة تفاصيل إرضاءً لفضولي الشخصي. لكن إن كنت تُواجه أي
صعوبة في إخباري، فسأتولَّى أنا الحديث، وسترى إلى أيِّ مدًى لديك فرصة للاحتفاظ
بأسرارك. في البداية أتيتم أنتم الثلاثة من جنوب أفريقيا من أجل ممارسة هذه الخدعة،
«. أنت يا ويليامسون وأنت يا كاروثرز، وأنت يا وودلي
الكذبة الأولى، أنا لم أرَ أيٍّا منهما إلا منذ شهرَين مضَيا، ولم أذهب إلى » : قال العجوز
«! أفريقيا في حياتي؛ يُمكنك أن تضع هذا في غليونك وتُدخِّنه يا سيد هولمز الفضولي
«. ما يقوله صحيح » : قال كاروثرز
حسنًا، حسنًا، جاء اثنان منكم فقط. أما قداسته فهوصنيعتكما المحلية. لقد تعرفتما »
على رالف سميث في جنوب أفريقيا، وعلمتما بأنه لن يعيش طويلًا. وعلمتما أن ابنة أخيه
«؟ هي التي ستَرِث ثروته. ماذا عن هذا؟ … هاه
أومأ كاروثرز وسبَّ ويليامسون.
«. كانت هي أقربَ أقاربه، بلا شك، وعلمتُما بأن العجوز لن يترك وصية »
«. لم يكن يَعرف القراءة ولا الكتابة » : قال كاروثرز
لذا جئتما إلى هنا، أنتما الاثنان، وبحثتما عن الفتاة. كانت الفكرة أن يتزوَّجها أحدكما »
«؟ ويحصل الآخر على نصيبٍ من الغنيمة. ولسببٍ ما وقع الاختيار على وودلي ليتزوجها. لماذا
«. لقد تراهنَّا عليها في لعب الورق أثناء رحلتنا إلى هنا، وكان هو الفائز »
هكذا إذن. استدرجتَ الفتاةَ لتعمل لديك، ثم كان يُفترض بِوودلي التودُّد إليها. »
وعرفتْ هذا الهمجي السِّكير على حقيقتِه، ولم تُرِد التعاملَ معه. وفي الوقت نفسه فشلَت
ترتيباتك بسبب وقوعك أنت نفسك في حبِّ الفتاة. ولم تَعُد تتحمَّل فكرةَ امتلاك هذا المحتال
«. لها
«! نعم، بحق الرب، لم أستطِع »
«. حدث شجار بينكما، وغادر هو غاضبًا، وبدأ في وضع خططه منفردًا بعيدًا عنك »
يبدو لي يا ويليامسون، أن ليس » : صاح كاروثرز وهو يبتسم ابتسامةً تشوبها مرارة
لدينا الكثير مما نُخبر به هذا السيد. أجل، لقد تشاجرنا، وأسقطني أرضًا. على أيِّ حال،
لقد رددتُ له الصاعصاعين. بعد هذا لم أرَه ثانيةً. وفي تلك الأثناء تعرَّف على هذا القسيس
المنبوذ هنا. علمتُ أنهما أقاما في هذا المنزل معًا في هذا المكان على الجانب الذي لا بد لها أن
تمر به وصولًا إلى المحطة. ومنذ ذلك الحين وأنا أراقبها؛ إذ كنتُ أعلم بوجود خطرٍ يلوح في
الأفق. كنت أراهما من وقتٍ لآخر؛ إذ كنتُ قلقًا بشأن ما يسعيان إليه. ومنذ يومينجاء وودلي
إلى منزلي بهذه البرقية، التي تُخبرنا بأن رالف سميث قد تُوفيِّ، وسألني إن كنتُ ما زلتُ
ملتزمًا بالصفقة. قلتُ له إني لم أَعُد كذلك. فسألني إن كنتُ أريد أن أتزوَّج الفتاة وأعطيه
نصيبًا من الثروة، فقلتُ له إني أرغب في ذلك بشدة، لكنها لا تريد الارتباط بي. قال لي:
«. دعنا نُجبرها على الزواج أولًا، ثم بعد مرور أسبوع أو اثنين ربما تختلف رؤيتها للأمور »
قلتُ له إني لن أمارس العنف أبدًا؛ لذا ذهب وهو يسُبُّ، كعادته كوغد بذيء اللسان،
وأقسم بأنه سينالها على الرغم من ذلك. كانت ستترك العمل عندي في نهاية هذا الأسبوع،
وأحضرت لها عربةً لتأخذها إلى المحطة، لكني لم أكن مطمئنٍّا وتبعتها بدراجتي. غير أنها
انطلقت في وقتٍ مبكر، وقبل أن أستطيع اللحاقَ بها ارتُكبت الجريمة. وكانت أول معرفتي
«. بالأمر حين رأيتكما أيها السيدان وأنتما تستقلان عربتها
لم أكن بالذكاء الكافي يا واطسون؛ » : وقف هولمز ورمى عقب سيجارته في الموقد، وقال
فحين أخبرتَني في تقريرك أنك رأيت راكبَ الدراجة كما ظننتَ يُهندِم رابطة عنقه بين
الشجيرات، كان لا بد أن يكون هذا وحده كفيلًا بتوضيح كلشيء لي. ومع ذلك، يُمكننا أن
نهنِّئ أنفسنا بحصولنا على قضيةٍ مثيرةٍ للاهتمام وفريدة من نوعها في بعضالنواحي. أرى
ثلاثة منشرطة القرية في الممر، وأنا سعيد برؤية هذا السائس الصغير قادرًا على مسايرة
خطواتهم؛ ومِن ثَمَّ فمن غير المرجَّح أن يلحق به أو بالعريسالمُثير للاهتمام عاهة مستديمة
جراء مغامراتهما الصباحية. أعتقد يا واطسون أنك يُمكنك، بصفتك الطبية، متابعةُ حالة
الآنسة سميث، وإخبارها أنها إن تعافت بما يكفي، فستُسعدنا مرافقتُها إلى منزل والدتها.
وإن كانت لم تتماثل للشفاء التام، فهذا سيعني إشارة إلينا لإرسال برقية إلى مهندس
كهربائيٍّ شابٍّ في ميدلاند ليأتي ويكمل العلاج. أما بالنسبة لك يا سيد كاروثرز، فأعتقد
أنك فعلتَ ما بوسعك للتكفير عن اشتراكك في مؤامرةٍشريرة. إليك بطاقتي، يا سيدي، وإن
«. كانت شهادتي ستُفيدك في محاكمتك، فلن أتأخر عن تقديمها
في خضمِّ نشاطنا المستمر غالبًا ما كان يصعب عليَّ، كما لاحظ القارئ على الأرجح،
إنهاء قصصي، وتقديم التفاصيل النهائية التي يتوقَّعها القراءُ ذوو الفضول. فقد كانت كل
قضية مقدمة لأخرى، وبمجرد انتهاء الأزمة يغيب أبطالها عن حياتنا المزدحمة. غير أنني
وجدتُ ملحوظة قصيرة في نهاية كتاباتي عن هذه القضية، كتبتُ فيها أن الآنسة فيوليت
سميث ورثت بالفعل ثروة طائلة، وأنها أصبحت الآن زوجة سيريل مورتون، الشريك الأكبر
في شركة مورتون آند كينيدي، المعروفة في مجال الكهرباء في ويستمنستر. أما ويليامسون
وَوودلي، فقد مَثُلا للمحاكمة بتهمة الاختطاف والاعتداء، وحصل الأول على سبع سنوات،
والثاني على عَشْر سنوات. أما عن مصير كاروثرز، فلم أكتب شيئًا، لكني متأكِّد من أن
المحكمة لم تنظر إلى اعتدائه على أنه اعتداء فادح، بسبب سُمعة وودلي كواحد من أخطر
المحتالين، وأعتقد أن بضعة أشهر كانت كافية لتحقيق العدالة
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.