Darebhar

شارك على مواقع التواصل

زاوية أولى
لا أعلم فيم تجمع كل هؤلاء الناس، ولكنني سعيد بالرغم من ملامح الحزن البادية على وجوه من حولي؛ فتلك أول مرة نستقبل كل هذا العدد من الزوار. في السرادق الواسع المنصوب بجانب منزلنا توافد أهل الحي، أرى عم عيسى البقال، وعم ثروت العطار، وعم خالد الفرارجي، أعرفهم جميعاً ويعرفونني حق المعرفة، فقد كانت أمي ترسلني إليهم في اليوم أكثر من مرة لجلب احتياجاتها، كنت أضيق بكثرة نزولي وتركي ألعابي، لكنها كانت تعدني بأخذ المال المتبقي مع وعد آخر بحرية التصرف فيه سواء أردت شراء حلوى أو قمت بتحويشه.
رأيت أصحاب أخي الكبير يدخلون ورؤوسهم متدلية لأسفل، يسلمون على والدي وعمي وخالي في أدب أعلم أنه مصطنع، يتمتمون ببضع كلمات لا يكادون هم أنفسهم يسمعونها، ثم يظهر أخي الكبير، يعانقهم، يبكي في أحضانهم، ثم يصحبهم إلى ركن بعيد داخل السرادق. يجلس أبي في مدخل السرادق، وكأنه قاطع تذاكر لابد أن يمر عليه كل من يريد الدخول، فرحت لما له من سلطة على الحاضرين جميعاً، سيشفع ذلك لي بعض شقاوتي المتوقعة.
لا أجد أمي بين الحاضرين، بحثت عن أخي لأسأله عنها فلم أجده، ذهبت إلى خالي لأسأله، لم يرد، الحقيقة أنني لا أجد أي من النسوة في السرادق ليست أمي فحسب. ذهبت صوب أبي لأسأله عن تلك الملاحظة الدقيقة التي لاحظتها للتو، لم يهتم بي هو الآخر، ثم نظر نحو الصورة المنصوبة على حامل خشبي ثلاثي على المدخل، فنظرت لها بدوري، صورة كبيرة لأحد لم اتبينه، ولكنه يبدو أنه من الأهمية لدرجة عدم اهتمام خالي أو أبي بي.
قررت أن ذلك السرادق هو ملعبي، ظللت أتنقل بين الكراسي بخفة وضحكاتي تتصاعد، لم يوبخني الناس، أظن أنهم لم يريدوا أن يغضبوا أبي قاطع التذاكر. ذهبت إلى أصحاب أخي، وجدتهم يجلسون بالقرب من بعضهم، أخي ليس بينهم، ترتسم على ملامحهم الجدية الزائفة، فقمت ببعض القفزات والحركات البهلوانية أمامهم على سجاد السرادق خشن الملمس، وضعوا أياديهم اليمنى فوق أفواههم كأنهم يكتمون ضحكاً، انفجر أحدهم في ضحك مكتوم، فشهق شهقة لفتت نظر الحاضرين إليه، فقام محرجاً إلى الخارج ودموع الضحك تكاد تنفجر من عينيه، تبعه بقية الأصدقاء.
قررت أن أفعل نفس تلك الشقلبات أمام بعض الحاضرين الأكبر سناً، لم تفلح محاولاتي المتكررة لإضحاكهم. بدأت أشعر بالفتور، لم يأت أيا من الحضور بصحبة أطفاله فيشاركونني اللعب ونبدد الملل سوياً. رجعت إلى أبي مرة أخرى، كان الكرسي بجانبه شاغراً فجلست عليه، لم يعد أحد يأتي ليسلم عليه، الكراسي بالسرادق شبه اكتملت، كانت كفوفه تغطي وجهه، وفمه يصدر أنات مكتومة، لما على نحيبه وجدت عمي يربت على كتفه في حنو، بينما بقى خالي ساكناً بملامح جامدة يستمع إلى ذلك الشيخ وهو يصدح بآيات قرآنية تشبه تلك التي نسمعها يوم الجمعة صباحاً على التلفاز قبل الذهاب إلى الصلاة.
تصاعد داخلي إحساس بالضيق، فقد كنت حاقداً على صاحب تلك الصورة الكبيرة على المدخل، أردت واحدة كبيرة أنا الآخر، هممت بالشكوى إلى أبي، لكني توقفت عندما لمحت دكتور عادل قادم من بعيد، كنا نذهب إليه أنا وأمي بين الحين والآخر لنجلس معه في عيادته، فأخذ منه لعبة وحلوى، وقبل أن نرحل كان يريني إحدى ألعابه كبيرة الحجم، كنت أجلس على كرسي عالٍ ساندا ذقني على حامل معدني، بينما يجلس هو قبالتي واضعاً جهازاً ما أمام عيني مخبراً إياي أنه سوف يعرض لي فيلماٍ كارتونياً إذا دققت داخل الجهاز، وقد كان صادقاً فكنت أرى طريق تحفه مراعي خضراء وبضع شجيرات على الجانب، لم يكن فيلماً مثيراً، ولكني تقبلته، بعد ذلك يخبر أمي بعض الأشياء ثم نسلم عليه ونرحل.
رآني فلم يبتسم، كان ذلك غريباً، ظننته صديقاً لي، سلم على والدي وعمي وخالي، ثم دخل السرادق، ازداد غضبي، لماذا لم ينتبه إلي، شعرت أن للأمر علاقة بصاحب الصورة هذا، صممت أن أقطع تلك الصورة على المدخل إرباً، فمن ذاك الذي حضر الجميع على شرفه، وجعل الجميع لا يأبهون بي، توجهت في حدة نحو الصورة، تطلعت إليها في غضب، ولكن فجأة تحولت ملامحي إلى الدهشة، فقد كانت صورتي أنا، وقد زينت من أعلى بشريطة سوداء سميكة مائلة، إذا فكل هؤلاء جاءوا من أجلي، غمرتني البهجة فجأة وذهبت لأكمل لعب داخل السرادق.
زاوية ثانية
لأول مرة في حياتي أشعر أن قطعة من جسدي لا تنتمي إلي، لقد انفصلت يدي عني ودب فيها نشاط عجيب وكأنها تحررت من عبء ثقيل ناء به بقية الجسد، لا، لا، رفقاً بمن صاحبتك منذ تكوينك حتى اللحظة الحالية، التمس لها عذراً، لا توصمها بالتمرد فربما هي تمارس مهنتها المعتادة منذ الأزل فحسب. كانت يداي تسلم على المعزين بتكرار ممل، وبالرغم من أن جرت العادة مصاحبة السلام ببعض التمتمات التي يتشارك فيها اللسان والشفاه في جمل معروفة مسبقاً في مثل هذه المواقف ك (حياتكم الباقية) أو (ما دايم إلا وجهه) أو (شكر الله سعيكم)، إلا أن تلك الشراكة أيضاً انفضت اليوم، فلم أنبس بكلمة طوال العزاء. أشعر - ولا أعلم كيف- أن قلبي لا ينبض منذ لحظة الحادثة. وراح عقلي يغرق في بحر من الوساوس لا أظنني سأنجو منها قريباً.
منذ شهرين وزوجتي تحثني على إصلاح السيارة، كثرت بها الأعطال، وكانت أعطالاً حميدة، لا تشي بغدر قريب، إلا أنها تخبثنت عندما علا صرير المكابح عدة مرات بشكل غير مسبوق، لم أعر الأمر انتباهاً في البداية خاصة أن الصرير كان يأتي في أوقات متقطعة ومتباعدة، ولكني أقسم أنني كنت ذاهب لمركز الصيانة في الغد، يوم واحد فقط غير كل شيء. زارتنا أختي وابنها القريب من قلبي، لم أدعهما يرحلان في تاكسي كما أرادا، بل صممت أن أوصلهما بنفسي إلى منزلهما الغير بعيد وليتني ما فعلت. في لحظة كنا ثلاثة، اللحظة التي تلتها أصبحنا اثنين أحدهما إصابته بالغة. توفى الابن، حجزت الأم في العناية المركزة، وخرجت أنا سليم الجسد محطم الكيان.
لم يتفرغ أحد للومي، لا فرق، أعلم أن زوج أختي غاضب، ولكنه مؤمن بالقدر، والحوادث تحدث، لا يعلم بالطبع تقاعسي عن صيانة السيارة، ولكني أعلم، وكان هذا منغصاً أقوى. لم أقوى على مبادلة أياً من الحضور النظرات، أشعر أنهم يعلمون أنني القاتل، شخصت ببصري نحو نقطة مجهولة كي اتجنب تلك النظرات. تناهى إلى أذني ضحك مكتوم لشاب صغير يخرج أمامي من السرادق، لا ألومه، كنت مثله يوماً، شابا صغيرا يملؤني الصفاء لدرجة أنني أجلس في العزاءات غير شاعرا بحزن أو متعظاً بعبرة، فتخرج مني نفس الضحكات المكتومة بحرج، وذلك أشر شعور وصلني وقتها، الحرج، أنظر لنفسي الآن، أغضب من نفسي، احتقرها، لا أريد أن أشعر بالندم، لأن الندم يسبق التوبة، والتوبة يتبعها قبول الذات وراحة النفس، وأنا لا أريد هذا النوع من الراحة، أريد أن أظل معذباً، جالداً لذاتي، أشعر أن هذا هو الصواب. أنظر للصورة على مدخل السرادق، أتذكر صورة لأختى الراقدة في المستشفى متصلة بالعديد من الأجهزة، أسمع نشيج الأب بجانبي، لازالت يدي تقوم بوظيفتها في السلام على الحاضرين والذاهبين، أتحسر، ترفض عيني أن تطيعني وتبكي، تكتم الدموع بداخلي كأنها تعاقبني، استجديتها كي تذرف ولو دمعة، لم تستجب، تزداد الوساوس في عقلي، تنبت في قلبي سكاكين تمزقه بلا رحمة، لا أشعر بالضيق، فقد استحققت كل ذلك عن جدارة.
زاوية ثالثة
كنت ماراً مصادفة بجانب العزاء المقام حديثاً في الحي الذي أسكنه، تطلعت إلى صورة المتوفى في مدخل السرادق، طفل صغير عمره لا يتعدى العشر سنوات، ثلاثة رجال في استقبال الوافدين، يبدوا أنهم أشداء في الظروف العادية، لكنهم انكمشوا على ذواتهم كأن كل واحد منهم يبغي أن يصير كأن لم يكن من فرط الحزن، تركتهم ودلفت إلى الداخل.
كان المقرئ في استراحة لشرب المياة، اقتربت منه وقد لاحظت عينيه المرهقتين، أخبرته في صوت خافت:
لم لا تدخن سيجارة واحدة فقط تنعشك وتساعدك على مرور تلك الليلة بسلام؟
صمت قليلاً، ثم استأذن الحاضرين في الذهاب إلى الحمام، اختبأ خلف السرادق، تأكد أن لا أحد يراه ثم أشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها في ارتياح.
تبعت شاباً يحمل زجاجات ماء بلاستيكية صغيرة، يتنقل في خفة بين الحضور يعرض عليهم الماء ويسألهم إن كانوا يودون شرب شاي أو قهوة، اقتربت منه في ود وأشرت إلى بعض الصبية في الركن البعيد قائلاً:
أنصحك ألا تقترب من هؤلاء الصبية الأشقياء، سوف يجعلون منك مادة خام للضحك، لا تعرهم انتباهاً، لن يلومك أحد على تجاهلهم.
تباطأت خطواته، يبدو أنه اقتنع، مر بجانبهم دون توقف، تضايق الصبية من تجاهله، لكنهم لم يصدروا أي ردة فعل.
اقتربت من هؤلاء الصبية الذي لم يبلغ أكبرهم السادسة عشر بعد وقد تجمعوا بجانب بعضهم يتحدثون بصوت خفيض، رأيت ذلك الطفل صاحب الصورة خارج السرادق يقترب منهم، يقفز على الأرض في حركات بهلوانية سخيفة، يحرك حاجباه ويشد في شعره يريد أن يضحكهم أو يثير انتباههم على الأقل، المسكين لا يعلم أن لا أحد يراه، لا أحد سواي، أشفقت عليه، لا عجب فأنا أيضا امتلك مشاعر، فمثلما استطيع أن أحقد وأكابر وأتمرد وأصمم، استطيع كذلك أن أشفق. رحت أوسوس للصبية في آذانهم دون أن يشعروا بي بكلمات لا تناسب الموقف، فذكرتهم بتلك المغامرة المجنونة منذ يومين عندما ذهبوا إلى مدرستهم ليلاً وكتبوا على جدرانها شتائم بذيئة ليأتي الصباح ويستشيط الناظر والمدرسون غضباً، فكاد أحدهم أن ينفجر ضاحكاً، تطلعت إليه أعين الحضور في لوم، فخرج وتبعه الباقون.
بدأ صوت المقرئ يعلو من جديد، لم أغضب أو أحرق كما هو شائع، في حقيقة الأمر لقد سمعت هذا الكلام الذي يصدح به قبل أياً من الحضور، منذ بداية كل شيء، بداية القطيعة الكبرى، وبداية طريق هلاكي المحتوم.
شعرت بالضجر ليس إلا، فهممت بالخروج من العزاء، توجهت إلى الرجل المكلوم أول العزاء، كانت دموعه تنهمر بلا توقف، حاول البعض تهدئته، لم يهدأ، احترمت حزنه، وانصرفت.
(تمت)
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.