Darebhar

شارك على مواقع التواصل

في البدء كنت بلا كلمات، لم استطع حتى أن أعبر عما يعتمل بداخلي من مشاعر بوضوح، كنت فارغاً، خالياً من المعنى، ثم صُففت ضمن آخرين يشبهونني، لدينا نفس تلك الصفة الوحيدة التي تميزنا جميعاً، البياض الطاغي. تلاحمنا بقوة، فلا يُرى أثر لفراغ ينفذ منه حتى الهواء. تحركنا صعوداً وهبوطاً بشكل آلي، سمعت البعض يئن، أعتقد أنهم أصيبوا بالدوار، بالرغم من ذلك كان يسود بيننا مشاعر طيبة، عرفت بعد ذلك أنها كانت الطمأنينة، والدفء والراحة لوجود الرفقة، اكسبتنا هذه المشاعر القدرة على تحمل الرحلة المرهقة والرجرجة المستمرة بلا انقطاع.
رأيت على الجانب الآخر أشباه لنا، يهبطون على سير جلدي متسخ كئيب، وقد بدا عليهم اليأس والإحباط، رأيتهم منكسي الرؤوس، ثم أدركت استحالة ذلك نظراً لطبيعتنا الجامدة التي تفرض علينا هيئة واحدة من المهد إلى اللحد، وأنني توهمت هيئتهم بعدما أصبغت عليهم أوصاف تناسب مشاعرهم. ازددت كآبة عندما سمعت أحد البشريين يصيح مشيراً إليهم:
- خذ هؤلاء إلى الإعدام.
وصلنا أخيرا إلى آلة معدنية عملاقة.
- "إنها المدمرة"
صاح أحد الرفقاء من بعيد. لا أعلم بالضبط ماذا تدمر، ولكني أُصبت بالقشعريرة عندما رأيت طريقة عملها، وعرفت وقتها لم سميت بـ "المدمرة". كانت تعلو في بطء، حتى تصل إلى نقطة ما، تنتظر لحظات، ثم تهبط بكل عنف وجبروت على أحدنا فتترك لديه آثاراً لا أظن أنها سهلة المحو فيما بعد. أدهشني ذلك السلوك، لماذا كل هذا العنف، فإننا لم نفعل شيئاً، كنا في حقيقة الأمر مجرد صفحات بيضاء.
صرنا نتقدم واحداً تلو الآخر تحت المدمرة ونحن نرتجف. من يأتي عليه الدور للوقوف تحتها كان يشق الفضاء حولنا من الصراخ، إلا أن في اللحظة التي تلي اصطدامها به، يسكن تماما فلا أثر لصراخ ولا عويل، زادنا ذلك رعباً. جاء دوري ووقفت تحتها وأنا ارتعد من الخوف، نظرت لها مستعطفاً، بادلتني بنظرة باردة وهي تعلو في تدرج، حتى وقفت لحظات، انخلع قلبي من مكانه في تلك اللحظات، لاح لي شبح ابتسامة منها لم أفهم مغزاها، فانطلقت مني صرخة تشبه صرخات رفقائي من قبل، سقطت من علِ لتضربني بأقصى قوتها.
لم أصرخ، لم أتألم، الحقيقة أن ما أحسست به كان العكس تماماً، أحسست بالامتلاء، بالفهم، والأفضل من هذا أنني أحسست أنني قادرا على التعبير عما بداخلي بواسطة الكلمات. بالفعل هي الكلمات، هي ما كانت تنقصني، منذ مولدي وأنا أصعد وأهبط بلا طائل أو أمل، الآن صار لصعودي وهبوطي غاية، لقد طبعت على صدر صفحاتي الكلمات، والكلمات هي المعاني، لقد صار لي غاية، بدت جلية بقوة، وهي أن أقع في يد من يقرأني، هذه رسالتي في الحياة، بعدها أموت وأفنى بلا حزن ولا خيبة أمل. عرفت لماذا لا نئن بعد تلك الصدمة، فهي صدمة محببة، هذه ليست بمدمرة، بل المنيرة التي أنارت بصيرتنا، منبع الحكمة، ومانحة الغايات في الحياة.
تسارعت الأحداث بعد ذلك، انتقلنا من مكان لآخر، من بشري إلى آخر، تطلعت إلينا العيون باختلاف ألوانها، قسمنا إلى أكوام، وحملتنا الأيدي إلى أماكن متفرقة، فافترقنا، وصارت كل كومة وحدة منفصلة، شدت علينا حبال غليظة قربتنا أكثر من بعضنا، تمزق أحدنا أو أكثر من شدتهم، تقطعت بعض وريقاتهم، تشتت كلماتهم، فأصبحوا غير مؤهلين لإكمال غايتهم، ربما تتولد لهم غاية جديدة، ولكنها مؤكد ستكون أقل شأناً من الرسالة العظمى، رسالة نقل الكلمات. لم تعتذر الحبال المتوحشة عن فعلتها، كأن هذه أيضاً هي رسالتها وغايتها في الحياة، فلا داعي لتخجل أو تشعر بالسوء، كم هي قاسية تلك الغايات التي تشتمل على عذاب وإيلام آخرين!.
حدث ما لم يتوقعه أي منا، سمعنا صراخاً صم آذاننا، تبينا بعد لحظات أن ذلك كان صوت الحبال وهي تتمزق بعنف من شيء أكثر منها وحشية، كان مقصاً عملاقاً حاد النصل تمسكه يد بشرية، إذاً فالمتوحش هناك الأكثر منه وحشية، وكل ميسر لما خلق له. تركت اليد البشرية المقص، وأخذت ترفعنا الواحد تلو الآخر لتضعنا بجانب أصحاب رسالات أخرين وقد افترشنا الأرض في استسلام واشتياق في آن واحد.
ثم بدأت الأيادي البشرية متعددة المصدر تعبث بنا واحداً تلو الآخر، تفرقنا عن بعض، ويا له من افتراق حلو المذاق، أخيراً نمضي إلى غايتنا ونحقق ذواتنا. تلك اليد تختار من صدارة الكومة، أخرى تختار من الوسط، كنت قابعا في القاع، انتظر في لهفة يد تنتشلني وتطويني في رفق وتمضي بي. مرت الساعات، لم يختارني أحد، تسللت برودة الأرض إلي، واخترقت الألياف التي خلقت منها. يتجدد الأمل كلما اقتربت أقدام أحدهم. سُحب جميع الرفقاء، ولم يكن هناك سواي ورفيق آخر، دب اليأس في قلوبنا، وتساءلنا هل هكذا ينتهي أمرنا؟. تذكرت منكسي الرؤوس وهم متجهين إلى إعدامهم، فأنقبض قلبي.
أخرجني من شرودي اقتراب يد قمحية اللون ذات شعيرات سوداء كثيفة، التقطت رفيقي في هدوء، وتركت بلا ونيس. لمحت نظرات رفيقي الشامتة مع ابتسامة هازئة، لم أفهم السبب، هو لم يختار مصيره ليظن نفسه أفضل مني، ما سر تلك السعادة التي يشعر بها البعض تجاه معاناة الآخرين؟ الآن صرت وحيداً، لحظات مرت كالدهر، ولكن المعجزة حدثت، فقد امتدت نفس اليد القمحية لتأخذني بصحبة الرفيق الشمات، لم يسعد أو يعتذر، وربما استشاط غضباً، ولكنني لم أنشغل بالتفكير فيه، كنت في حالة نشوة، لقد عاد الأمل، غمرتني سعادة لا تصفها حتى ملايين الكلمات التي انطبعت على صفحاتي.
استمتعت بنظرات متفحصة دقيقة، وأخرى مسرعة متعجلة، وأخرى فضولية خاطفة. أحسست بالفخر، فها قد تحققت أمنية حياتي. ولكن من الواضح أن دوام الحال من المحال. فقد نُزع رفيقي بغتة، ثم طُوى عدة مرات، إلى أن وضع على سطح مكتب خشبي، ثم رأيت يد بشرية تقترب منه وهي تحمل كوبا زجاجيا مملوء بسائل أحمر داكن تتصاعد منه الأبخرة. وُضع الكوب فوق رفيقي، ويبدو أن اليد البشرية لم تتمالك نفسها، فارتعشت، وانسكب نصف السائل على رفيقي. سمعت البشري يطلق سباباً عالياً، إلا أن صرخات رفيقي كانت أعلى منه حتى كادت تخترقني، انكمش على ذاته وهو يصيح:
- لا أقدر على التحمل، ألم شديد يخترق كل أليافي، ليتني أفنى، أتلاشى، ليتني لم أكن موجوداً من الأساس!.
شعرت بالشفقة عليه، كان واضحاً أنه يمر بألم لا يحتمل، كان كذلك يمر بما هو أصعب دون أن يدرك حتى، فقد كان السائل يخترقه مخلفاً وراءه ندوب قاتمة اللون، لأتبين بعد ذلك أن هذه الندوب ما هي إلا انصهار الكلمات على بعضها لتصير نقطة سوداء كبيرة. صار مسخاً مشوهاً صعب تمييزه. نظرت له نظرة عطف، نظر لي بدوره بما تبقى لديه من قوة ضئيلة، وقال:
- سامحني يا رفيقي، أظن أنني وصلت إلى نهايتي!…
لم يكمل، فقد انتزعته يد بشرية وألقته بعيداً في سلة مهملات قريبة.
سيطر عليّ حزن عميق، لم أدرِ كم من الوقت مر قبل أن يأخذني صاحب اليد القمحية، وضعني تحت إبطه وانطلق، تركت نفسي للمستقبل المجهول وقررت الغفو قليلاً. استفقت على أصوات مختلطة من الصياح والدعاء والبكاء.
- هل يملك أحدكم صحيفة؟
قالها بشري أصلع الرأس قصير القامة وهو يمسح المكان بعينه. ناوله ذو اليد القمحية إياي. فككني القصير إلى عدة صفحات، ثم أخذ يضعني على جسد فتاة مستلقية على الأرض غارقة في الدماء. غطت صفحاتي الجسد بأكمله من القدم إلى الوجه، يبدو أن هذه مهمة جديدة لي، أشعر بذلك، وبالرغم من الحزن البادي على وجوه البشريين من حولي، إلا أنني كنت سعيداً بحق.
(تمت)
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.