Darebhar

شارك على مواقع التواصل

لم أفعل حينها أكثرَ مِن أن أغلقتُ صفحةَ بريدي الإلكتروني بعد أن قرأتُ الرسالة، وتحت وسادتي وضعتُ هاتفي صامتًا ككلِّ شيءٍ حولي، وأغلقتُ النوافذ، وأطفأتُ الأضواءَ وأنا أبكي بحرقةٍ ملأتْ أركانَ المنزلِ الأصم، ثم غبتُ في نومٍ كملاذٍ وحيدٍ آمنٍ في كلِّ أيامي الأخيرة.
في الصباحِ استيقظتُ مبكرًا، والحقيقةُ أنَّ استيقاظي دون موتٍ كان شيئًا أدهشني. أعدتُ قراءةَ الرسالةِ منذ أن فتحتُ عينيَّ، ولكن هل لرسالةٍ كتلك أن تعيدني إلى سيرتي الأولى وإن كانت تحملُ خبرًا لي بأكثرَ مِن سبعةٍ وثلاثين مليون جنيه؟. قالوا إنهم يثقون في خبرتي وكفاءتي لتنفيذِ ما يريدون. لا يعلمون حزني، ثُمَّ هل تكفي تلك الأموالُ على كثرتها أن تضيءَ عتمةَ عُمْرٍ تفاصيله منذ مولدي تسعةٌ وأربعون عامًا مِن الفقرِ والرجاءِ ثم الفقدِ والقهر؟!. وماذا نفعلُ نحن حين يهطلُ المطرُ على أرضٍ قد جدبتْ وجدبتْ حتى اعتادت الجدب؟!
آهٍ مِن الأقدارِ وما تحملُ!. لو كان هذا قبل بضعةِ شهورٍ مِن الآن لامتلأتْ قلوبُ سبعةِ أحياءٍ نَدِيَّة مثل زهورِ الوردِ الربيعية بسعادةِ الدنيا وزينتها. فيا ربَّ الأرضِ والسماءِ وما فيهما سبحانك!. أَرشِدني إلى استيعابِ تلك الحكمةِ التي تخفيها خلفَ أقدارك، أو ابعث لي في منامي أو يقظتي بشارةَ خيرٍ أني بخير، هذا لأحتفظَ بصبري وثباتي ويقيني بك، فإني قد صرتُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ. هي دَفعةٌ واحدةٌ مِن الدنيا أضعفُ مِن دفعةِ أناملِ طفلٍ وسأهوى إلى قاع.
ذاك الشيطانُ وسوسَ لي: (ما نفعُ الأخبارِ السعيدةِ حين تأتي متأخرة؟! وما جدوى كلمةِ عشقٍ حين تباغتُ المشتاقَ بعد انقضاءِ حينها؟! وما جدوى بذرةٍ ألقيتها في الأرضِ اليباب؟! لا يُفيدُ الفمُ المفتوحُ دون طعام، وتسقطُ الأجنحةُ الممدودةُ دون هواء، وتبدو الحكمةُ فوضى بمدينةِ حمقى. نحن ننسى سنواتِ الانتظارِ بأعدادها، وننسى همومَ الانتظارِ مهما نحتتْ مِن قلوبنا، وقد ننسى مع الزمنِ جميعَ أمانينا التي كُنَّا نشغفُ شغفًا لا يوصفُ في ترقُّبها لأن تصيرَ واقعًا، لكنَّ العمرَ لا ينسى أن يمرَّ علينا مرَّ أرحيةِ القمحِ على القمحِ ليفتتنا إلى طحينٍ ممزوج، فلا يمكنُ لأيةِ قوةٍ في العالمِ بعد ذلك سوى الخالقِ أن تعيدَ ذاك المزجَ لكلِّ حبةٍ بغلافها.
ومع ذلك نظلُّ نسعى ونطمح. كنتُ صغيرًا حين قال لي أبي:
- إنَّ بقاءكَ بالدنيا كبقائك ببحرٍ، يجب أن تستمرَّ في تحريكِ قدميكَ كيلا تغرق.
حينها نظرتُ لأبي بابتسامةٍ تَعني أني لم أعِ قولَه، فقالت لي أمي جملةً عاشت تردِّدُها لي ولإخوتي حين نكسلُ عن أعمالِنا أو استذكارِ دروسنا:
- ربنا قال اسعَ يا عبد وأنا أسعى معك.
إخوتي الكبارُ فهموا المعنى ولم أفهم، فقد كنتُ في السادسةِ، لكني أودعتُ كلامَ أبي وأمي في ذاكرتي الطفلة، و في الكبرِ وعيتُه وآمنتُ به لسنواتٍ. علمتُ أنَّ ذلك ما يجبُ أن نفعله لتَستنيرَ العتمةُ ونعشقُ الحياة. أجل إنه السعي، وإن انطفأ المصباحُ اليومَ فسيضيء في الغد.
قصدتُ عملي بعد جهادٍ لأقوى على الخروجِ خارج حالتي اليأسِ والشكِّ اللتين تتملَّكاني كلَّ صباح، ولم أذهب للتيقُّنِ مِن إضافةِ الثلثِ الأولِ مِن تلك الأموالِ بحسابي كمُقدَّمٍ كما أخبرتْ الرسالةُ ونصَّ العقدُ المُرسَل لي قبلها. لم أفعل على الرغمِ مِن أنَّ مبنى البنكِ يوجدُ أسفلَ العمارةِ نفسِها التي أسكنها. كنتُ أنظرُ إلى الداخلين إليه والخارجين منه كلَّ يومٍ مِن نافذةِ سيارتي بعد أن أُدِيرها بابتسامةٍ ساخرةٍ مُتعجبًا قائلًا فيما أقولُ لنفسي: (يا قدري المسكين!. كيف أسكنُ فوق البنك وليس لي فيه سوى بضعةِ آلافٍ يتيمة لا تكفي معيشةَ شهر؟!)
مررتُ بالطريقِ قبل الدخولِ لمقرِ العملِ على عربةِ فول عم شِندي بشارعِ منصور قريبًا مِن قسم شرطة المنيرة. اعتدتُ تناولَ الفولِ الساخنِ الخارجِ للتو مِن قِدرته، خاصةً في مثل هذا الطقسِ الباردِ خلال شهر يناير. أقفُ بين عمالٍ وحرفيين وبوابين وجامعي قمامة وموظفين وطلبةٍ متهربين مِن مدارسهم. يعجبني مذاقُ الأكلِ بهذه العرباتِ كثيرًا، لذلك اعتدتُ أن أخرجَ مِن سيارتي المرسيدس لأصطفَّ بينهم. مَن لا يأكلُ الفولَ في بلادنا فليس منها. هو لذةُ الجائعِ، والجائعُ يهوى كلَّ صنوفِ الأكل، وتلك نعمةٌ تملكها الأسرابُ الصباحيةُ المستيقظةُ ليومٍ جديدٍ مِن المعاناة. في الغالبِ بات بعضُهم ليلَهم دون عشاء، فلا تسمعوا لمن يردِّدون: (لا أحد ينام دون عشاء) وطبقُ الفولِ هذا نعمةٌ في حياتهم مِن نوعٍ غريبٍ تفوقُ نعمةَ رفاهيةِ الانتقاءِ عند الأثرياء. أكلتُ في القصورِ عن شبعٍ، وأكلتُ في الأحياءِ الفقيرةِ عن جوع. في الثانيةِ لذةٌ عجيبة.
هنا تحت أشجارِ الكافور المتناثرةِ على حيدِ الطريقِ حول الفولِ والخبزِ تتزاحمُ الأفواهُ التي تلفظُ خارجها بخارَ صباحِ الشتاءِ، في حين يضربُ البردُ بالبطونِ لتزدادَ شغفًا بالأكل، فترى أحدهم يُلقِي داخل فمه المتربِّص لقماتٍ متتاليةً مِن خبزٍ فقيرٍ مغموسةً بماءِ الفول مِن طبقٍ معدني صغير، وإنه ليفصلُ بين اللقماتِ المقذوفةِ بقطعٍ مِن الباذنجان أو الفلفل الحار. يستطعمها وكأنها شرائحُ لحمٍ مَشوي داخل حديقةِ قصر، وهذا جائعٌ مِن نوعٍ أكثرَ يُسرًا يفتِّتُ بيضتين مع الفولِ بطبقٍ آخر تفتيتَ مغرمٍ احترف ذلك كاحترافِ العمِّ شندي، وهذا أحدهم يعصرُ شطرَ ليمونةٍ بطبقِه بكلِّ حقدٍ مع التلذُّذِ وكأنه يعصرُ رأسَ ظالمٍ متجبر، أو غني بخيل صار أحدهما بين يديه منفردًا به، وها هو صبي المعلم يُلقِي بالأطباقِ الفارغةِ بوعاءِ الماءِ الكبير ثم يُخرِجها وكأنها غُسِلتْ، وهذا جائعٌ شَرِهٌ قد أمسكَ بواحدةٍ مِن البصلِ الأخضر، فقضمَ الرأسَ بلذةٍ ونهمٍ كقضمةِ أسدٍ مفترسٍ قضى الليلَ يؤرقه الجوعِ، وتؤججه الرغبةُ لأن يفترسَ أية لبؤة تصادفه أول ما يفعل حين تشرقُ عليه الشمسُ الجديدة.
وشرعتُ بطرفِ العينِ أراقبُ مَن يقفُ جواري. وجدته يرفعُ إلى فمه حافةَ طبقٍ يمتلئ بماءِ السلطةِ المختلطةِ بشطتها الحارَّة. رأيتها على فمه أكثرَ لذةٍ مِن مرقِ لحومِ أثرى ثري. نحن أبرياءُ كما نحن جوعى، ومساكينُ بؤساء بذاكرةٍ لا تعي غيرَ الجوعِ والفقرِ والركضَ بهما. نملكُ ألسنةً صارت لا تنطقُ غيرَ الاستغناءِ، وأفواهًا لا تنفتحُ لشكوى بل لبضعِ لقيمات.
انثنيتُ بعد الفولِ لكوبِ الشاي مِن الست حنان، تلك الجالسة على القربِ وسط أوعيتها وأدواتها الفقيرة، تغمسُ كفعلِ صبي العربةِ الكوبَ الزجاجي المستعمَلَ في وعاءٍ بلاستيكي، ثم تخرجه وكأنه غُسِل؛ لتصبَّ الشاي به لشاربٍ جديد، وإن نهضتْ لشيءٍ فإنما ينهضُ حول قوامها الممشوق لعابُ كلِّ طالبي الشاي مثل سكارى ابتغوا رشفاتٍ أخرى، وينجذبُ الواقفُ أمامها أكثرَ شيءٍ لنهديها اللذين يبدوان كبيرين مستديرين تحت ملابسها اللامعةِ النظيفةِ على فقرها، ويبدو أنها تعمَّدتْ أن تتركَ أزرارها أسفلَ رقبتها تنزلقان شيئًا لينفتحا عن بشرةِ صدرها البيضاءِ تَسري بها حمرةُ أنوثةِ الأربعينات ووهجها.
الدنيا زاخرةٌ بوردٍ وزهورٍ تنبتُ في أحضانِ الشوكِ والصخر، ولا استغرابَ. فها هو زوجها يجلسُ على بعدٍ منها يراقبها. ربما يحميها، أو ربما ليضمنَ ألا تكونَ في المساءِ لغيره على غفلةٍ منه وغدرٍ منها، ويبدو أنه يكبرها عُمرًا، وتكبره نضوجًا. يقتربُ منها ويبتعدُ عنها تكرارًا بين وقتٍ وآخر، وسيجارته المُلغَّمة حتمًا لا تهجرُ إحدى يديه، وبالأخرى كوبُ الشاي. أرى كلَّ ذلك حين تمدُّ يديها لي في كلِّ مرةٍ مع غمزةٍ خاطفةٍ مِن عينيها بصوتٍ منخفضٍ لا يسمعه غيري.
- أحلى كوب شاي لأحلى رجل في الدنيا.
- هل غسلتِ الكوب جيدًا؟
- ها هو يبرق مثل عينيك الحزينتين.
- شكرًا يا ست حنان.
- الله يا دكتور!. اسمي على لسانك سكر.
وهي حقًّا كقطعةِ السكر. امرأةٌ جميلةٌ حلوةُ التقاطيع بأعلى وأسفل، لكنَّ القدرَ يبدو أنه وضعها لفقرها بين يدي ذَكرٍ يُعجِبه أن تعملَ وتشقى ليهنأَ هو دون رجولة، وكان غريبًا أن رأت الحزنَ في عيني وهي المرأةُ التي ألهتها الحياةُ في فقرها وعملها، وقليلون هم مَن يشعرون بغيرهم في دوامةِ تلك الحياة. مع ذلك كنتُ أقولُ لنفسي المنتشيةِ بحسنِ تعاملها: (لا تفرح كثيرًا أو تغتر، فربما توزع الكلماتِ نفسَها نُسَخًا على كلِّ المارين بها)
- ألا يغار عليكِ؟!
كان سؤالي عن زوجها هذا، فابتسمتْ وقالت:
- طبعًا يغار ويكتوي مِن الغيرة. ألا ترى جمالي.. أنوثتي؟!
قالتها ثم خفضتْ صوتها أكثر، وزادت وهي تتحسَّسُ بعضًا مِن جسمها، وللحقِّ فإني كنتُ أرى أنوثتها بعينِ رجلٍ فائرِ الذكورةِ كما هي فائرةُ الأنوثة، ومع ذلك لم أكن أتأثر بما أرى، ولم أفكِّر فيها أبدًا تفكيرَ ذَكرٍ بأنثى على الرغمِ مِن أنه كان يروقُ لي كلماتُ غزلها وحركاتُ عينيها الغامزة، ودائمًا يستهويني مِن فئاتِ الناسِ تلك حبُّ الاختلاطِ الظاهري دون اقترابٍ يضرُّ بي أو بهم، والست حنان في البدايةِ والنهايةِ مِن الكادحين الجوعى، جوعى قدامى أو جدد، وأنا أحبُّ منذ الصغرِ معرفةَ أخبارِ الجوعى والفقراءِ والمجانين والمتسولين وغريبي الأطوار، وهؤلاء الذين يتصارعون كلَّ صباحٍ مع الدنيا وتقلباتها، ويصارعون الظروفَ الطاحنة.
وعشتُ أكرهُ أصحابَ الأفواهِ الصخريةِ والقلوبِ الحجرية، هؤلاء الأثرياء، وأحبُّ الفطرةَ لا التصنع، ويلامسُ قلبي رقةُ القلوبِ وصدقها، وها هي بائعةُ الشاي يقذفُ فمها بما خالطه قلبها دون تصنيعٍ أو خلطٍ أو تزيينٍ ككلماتِ الأغنياء، ومثلها هؤلاء المتردِّدون عليها وعلى بائعِ الفول. أراهم على الرغمِ مِن فقرهم أنقياء أقربَ لي مِن أثرياء لوَّثتهم كثرةُ الأموال.
توجَّهتُ بعد الفولِ والشاي لعملي بديوانِ وزارةِ التربيةِ والتعليم. هناك صاروا ينادونني بالدكتور مروان سعيد بعد أن ناقشتُ رسالةَ الدكتوراة أخيرًا، وهناك لا حديثَ للكبيرِ والصغيرِ مِن نبلائهم إلا عن كفاءةِ مروان سعيد في مجالاتِ التوجيهِ والمتابعةِ والامتحاناتِ وطرقِ التدريسِ ووضعِ المناهجِ الصحيحةِ الحديثةِ التي ما إن يكتشفها مسؤولٌ كبيرٌ حتى يسارعَ بإقصائي جانبًا لأظلَّ منزويًا ليلمعَ وأنطفِئ، وعنِّي فإني دائمًا أبتسمُ وأنزوي في ركني الهادئِ داخل مكتبي بقدراتي وخبراتي ساخطًا حينًا، ومتجاهلًا في أحيانٍ أُخَر، فقد علمتني التجاربُ أنَّ الصمتَ حصنُ مَن لا يقوى بالكلامِ، وهذا أضعفُ الإصلاح.
قطعتُ لمسؤولي الإجازات ممرًّا طويلًا بين ملفاتٍ مكتظة على الجانبين. نظر الموظفُ إلى العقدِ المُرسَل لي مِن جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، ثم جحظتْ عيناه، ورفعهما لي وهو يحاولُ إخفاءَ ذهوله، وبدا أنه كان يريدُ الاستفسارَ عن كثيرٍ، لكنه تراجع وانتفض واقفًا.
- انتظرْ دقيقتين مِن فضلك. سأدخل بالعقد لمديري.
أشرتُ برأسي دون كلامٍ أني منتظر، ودخل الموظفُ وخرج قبل أن تمرَّ الدقيقتان. قال:
- رفض.
- لِمَ؟!
قلتها بهدوء، وأجاب ببرود:
- يقول إنه لن يفرط في شخص كفء مثلك.
ابتسمتُ ابتسامتي التي قد يظنها البعضُ سخريةً منهم وهي بريئة. قلتُ:
- هل أصبحتُ الآن مِن الأكْفاء؟!
- هذا ما قاله يا دكتور مروان.
ألقاها في وجهي، ثم اتجه لمكتبه ليجلسَ، فقلتُ له وأنا أتجهُ ناحية مكتب مديره:
- سأدخل لأحدِّثه.
انتفضَ مِن مقعدِه قبل أن تلتصقَ مؤخرته به مادًّا ذراعه اليمنى ليحجزني عن متابعةِ الدخولِ للمدير.
- لا تؤذِني أرجوك. هو يتحدَّث في التليفون وأمرني ألا يدخل عليه أحد.
لم أُطِل الحديثَ مع الموظف، إنما أخرجتُ هاتفي المحمول مِن حقيبةٍ صغيرةٍ، وأرسلتُ رسالةً إلى المسؤولِ الذي يتواصلُ معي مِن جامعة بن زايد، ثم غادرتُ دون أن أنتظر ردًّا.
صعدتُ إلى مكتبي. شربتُ القهوةَ مع بعضِ التوقيعات العاجلة، ثم نظرتُ في رسائلِ هاتفي فوجدتُ مسؤولَ الجامعةِ في الإمارات قد ردَّ عليَّ بأنَّ الأمورَ كلَّها على ما يُرام، وكنتُ أعلمُ يقينًا أنَّ الأمورَ ستصير لما يُرام وأكثر، فما كدتُ أتركُ الهاتفَ جانبًا حتى وجدتُ موظفَ شؤونِ العاملين يدخلُ مكتبي طالبًا مني العقدَ ليُنهِي كلَّ الأوراقِ الخاصَّة بالإجازة، ابتسمتُ ابتسامةَ ثقةٍ ونصر، وظلَّ الرجلُ يُقسِمُ لي أنه لا يملكُ مِن أمره شيئًا، وأنه يحبني ويحترمني ويريد أن يخدمني بيديه وعينيه وكلِّ ما يملك. ابتسمتُ وأخبرتُه أني لستُ غاضبًا.
غادرتُ ديوانَ الوزارة بعد أن صارت أوراقُ إجازتي لا ينقصها إلا أختامٌ قليلةٌ تنتهي في اليومِ اللاحق، ثم ستأتيني مستوفاةً حتى مكتبي. قطعتُ بسيارتي شارعَ قصر العيني حتى ميدان التحرير ثم عبد المنعم رياض، ثم اتجهتُ يمينًا لطريقٍ ضيق صاعدًا كوبري أكتوبر، قاصدًا شقتي القريبةِ مِن ميدانِ تريومف بمصر الجديدة، فهذا طريقي حين العودةِ مِن عملي، وقد تعودتُه لأنه يختصرُ الطريقَ لبيتي حيث أتعجَّلُ العودةَ لملاذي الآمن مِن فوضى الخارج.
ومِن العجبِ أني في الذهابِ كنتُ أتعمَّدُ المرورَ على أحبتي الفقراءِ. عشتُ أحبُّ رؤيتهم مِن سيارتي، فأقطعُ طريقًا طويلًا ينتهي بطرقٍ وسط زحامٍ يبدأ مِن العروبةِ مُحاذِيًا لمقابرِ الغفير عن يساري، وعن بعدٍ أرى بعدها أطلالَ وبيوتَ منشأة ناصر عاليةً متلاصقةً في عشوائيةٍ فوق هضبةِ المقطم حتى تلوحَ لي قلعةُ صلاح الدين، فأدلف مِن السيدةِ عائشة يمينًا للسيدةِ زينب حيث فولِ شندي، والأهمُّ منه شاي الست حنان قبل دخولي ديوان عام الوزارة.
في صباحِ اليومِ التالي حين كنتُ أُدِيرُ سيارتي أسفلَ بيتي جذبني عدمُ ازدحامِ البنكِ بعملائه، فأغراني ذلك لأن أدخلَ وأسألَ بدافعِ فضولٍ عن رصيدي الجديد، فوجدتُ به ما يقتربُ مِن ثلاثة عشر مليونًا، فلم يصبني أي شيءٍ مِن فرحٍ أو ابتهاج، وخرجتُ فقطعتُ طريقي المعتادَ لآكلَ الفولَ بين الفقراءِ مِن عربةِ عم شندي.
أكلتُ ثم مضيتُ جانبًا إلى حيث تجلسُ الست حنان، فابتسمتْ لي ما إن رأتني متجهًا ناحيتها، وسرعان ما مدَّتْ يديها لي بكوبِ الشاي.
- أحلى كوب شاي لأحلى رجل في الدنيا.
تناولتُه وأنا أقول لها:
- سأشتاق كثيرًا لهذا الكوب مِن يديكِ.
رفعتْ رأسها لي وقالت:
- بَعُد الشر عنك وعني. ماذا سيتغير؟!. هل سأموت أنا أم...؟!
- ليس هذا ما قصدتُه...
- وما قصدك يا قمر...؟!
ضحكتُ، ولم أتردَّد في أن أُخبِرها بسفري:
- سأسافر للإمارات.
تركتْ ما كان بيديها، ونظرتْ لي قائلةً:
- وكوب الشاي هذا!. مَن سيتناوله مِن يدي كلَّ يوم؟
ضحكتُ وقلتُ:
- هل كوب الشاي هو كل ما يهمك؟
- قيمتك عندي أغلى مِن مليون مليون كوب شاي.
ضحكتُ ولم أتكلَّم، فقالت:
- كان عندي سؤال لك لكني مُحرجَة......
- تفضلي.... اسألي....
تردَّدتْ قليلًا، ثم قالت وهي تصبُّ الماءَ المغلي في كوب:
- كان قد مرَّ عليك شهر وأكثر لم تأتِ لتشرب الشاي. هل كنتَ في الإمارت؟!
- لا. كنتُ في إجازة.
تردَّدتْ قليلًا، فأشرتُ لها أن تتحدَّث.
- حين عدتَ بعدها كنتَ.......
- ماذا.....؟
لم تتكلَّم، فقلتُ لها:
- كنتُ حزينًا ويائسًا وكارهًا للدنيا. كنتُ كمن خرج مِن قبر. هذا ما أردتِ قوله. أعرف.
ولمحتُ على البعدِ زوجها ينظرُ لنا مِن حينٍ لآخر، فأخرجتُ مسرعًا مِن حقيبتي عشرةَ آلاف جنيه، ومددتُ يدي بها إليها وأنا أبتسم:
- خذي هذا المبلغ. أظنُّه يكفي كلَّ أكواب الشاي لسنوات.
نظرتْ لي نظرةَ لومٍ مع عرفانٍ وقالت:
- ما هذا يا دكتور؟!. أنا لا أتسوَّل.
- هذه النقود ليستْ لكِ. هي لابنتكِ تلك التي أراها معكِ مِن وقتٍ لآخر. ما اسمها؟
- داليا.
- في أي صف دراسي هي؟
- ثانية إعدادي.
- إذن هذه النقود لدراسة داليا حتى أعود.
وضعتُ النقودَ جوارها وانصرفتُ قاطعًا عرضَ الشارعِ للجهةِ الأخرى، ثم استدرتُ ناظرًا لها، فوجدتها تبتسمُ وترفعُ يديها لي وداعًا، ثم نقلتْ عينيها عني لما كانت تفعل.
وفي مكتبي بديوانِ الوزارةِ جاءني موظفُ شؤونِ العاملين، فأعطاني أوراقَ إجازتي كاملةً مستوفاةً بأختامها، ولم أزد، فخرجتُ تاركًا المكان، ثم اتجهتُ بسيارتي عبر شارعِ قصرِ العيني إلى جراجٍ أسفلَ ميدان التحرير. تركتها وصعدتُ للسيرِ عبر كوبري قصرِ النيلِ قاصدًا مكانًا كنتُ أجلسُ فيه تكرارًا مع زوجتي وأولادنا الخمسة. رحمهم الله جميعًا.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.