Darebhar

شارك على مواقع التواصل

أنا ابنُ حاملِ النعوشِ في قريتنا والقرى المجاورة، أول مَن يرى أثرَ الفقدِ في الناسِ مِن أقربِ المسافات، فقيرٌ أبي إلا مِن أسبوعين على مدى حياته، لكنه كان سعيدًا بي وإخوتي على الرغمِ مِن أنفِ الفقر. عاش ومات لا يملكُ إلا مالًا يأتيه في الغالبِ كلما أذاعت المساجدُ والسياراتُ المتنقلةُ بين القرى عن جنازةٍ جديدة. أمضى عمره امتدادًا مِن صغره يحملُ النعوشَ، وإن تركها لعملٍ آخرَ فإنما يكونُ مضطرًّا لنقصِ ماله، أو لانقطاعِ الأحياءِ عن الموت.
كان يقولُ لأمي إنه يؤدي أكبرَ خدمةٍ للمكلومين بفقدِ الأحبة، حيث يحملُ عن كاهلهم عبءَ حملِ الجنازاتِ في أشدِّ أحوالهم وهْنًا وابتلاء، وكفى بالحزنِ يُلهِبُ قلوبهم ألمًا. بدأ الأمرُ معه تطوعًا حتى اعتاده واستطابه، فصارت النعوشُ وأعمالها مع الوقتِ أكثر مهنةٍ يرتزقُ منها. كنتُ صغيرًا جدًّا، لكني وعيتُ ما يدورُ جيدًا لقوةِ ملاحظتي التي لا أعلمُ إن كانت نعمةً أم نقمة. قال ذات يومٍ لأمي ضاحكًا مع بعضٍ مِن حسرةٍ:
- مصائبُ قوم عند قوم فوائد يا هنيَّة.
- والله معك حق يا سعيد.
- اللهم أَدِمها نعمة واحفظها مِن الزوال.
- آمين، فهذا رزق العِيال.
- أنا أفعل مِن أجل عِيالي أي شيء.
- حفظك الله لهم وحفظهم لك.
قالتها، فانتفض أبي في جلسته، وأشار إليها وهو يقول مازحًا:
- وحفظ لنا عزرائيل. لا تنسي الدعاء له يا ولية.
فاستلقتْ أمي على الأرضِ مِن الضحكِ، وعلا صوتها به، فخاف أبي أن يصلَ مسامعَ الجيران، فأقبل عليها يتابعُ وكزها لتتوقَّف، فتوقَّفتْ بعد حين، فانخرط هو في ضحكاتٍ هستيريةٍ متتاليةٍ دون اهتمامٍ بمسامعِ الجيران، ثم قطعها فجأة رافعًا يديه للسماء، وظلَّ يدعو وأمي تؤمن لاهيةً وجادةً.
- اللهم أكثر مِن الأموات، وأكثر مِن السواد وأكل الجنازات.
- آمين.
- اللهم لا تحوجنا وأولادي لأحدٍ مِن الأحياء.
- آمين.
- اللهم احفظ هذا البيت ببركة الأموات.
- آمين.
وكان البيتُ مِن الطوبِ اللبن المَطلي بالطينِ المخلوطِ مع القش، يتوسطه حوشٌ متوسطُ الاتساع، وعلى جانبيه حجرةُ أبي وأمي بسريرٍ حديدي ذي أربعةِ أعمدة معدنية. ينتهي كلُّ منها بغطاءٍ نحاسي. كان السرير كل ما امتلكاه حين زواجهما مع خزانةٍ صغيرةٍ لحفظِ ملابسهما، وبالبيتِ حجرةٌ صغيرةٌ مستطيلةٌ لأختي هند بها كنبةٌ مُنجَّدةٌ هي سريرها ومَجلسها حين تجلسُ للاستذكار، وحجرة مربعة لي مع ثلاثةِ بنين. نعلِّقُ ملابسنا على مساميرَ بالحائط، ونفترشُ الأرضَ على حصيرةٍ متجاورين، وفوقها وسادةٌ واحدةٌ طويلة تكادُ تمتدُّ لرؤوسنا المتجاورة دون زيادة، وغطاء واحد قديم به ثقوبٌ لطولِ العهدِ عليه، وللبيتِ حمَّامٌ بلدي بستارةٍ دون باب خشبي، وحجرة بها أوعيةُ الطبخِ الصغيرة مع أوانٍ بلاستيكية مملوءة بالماء الصالح للطهي والشرب. تذهب أمي وأختي كلَّ يوم بعد الفجر وعلى رأسيهما جرتان فارغتان، ثم تعودان بهما قبل أن نستيقظَ ممتلئتين مِن طلمبةِ ماءٍ وحيدةٍ على أطرافِ القريةِ بجوارِ بيتِ العمدة.
وعن ماءِ الاستحمامِ والغسيلِ، فقد كانت أمي وأختي يجلبانه إلى البيتِ مِن ماءِ الترعةِ الممتدةِ أمام قريتنا، أو كُنَّا نذهبُ وإخوتي الثلاثة ليلًا فنغتسلُ بها ونستحمُّ ثم نعود.
قبل أن أدخلَ المدرسةَ كنتُ أستحمُّ في طستٍ مصنوعٍ مِن الألومنيوم. تضعُ أمي وهند الماءَ فيه إلى نصفه، ثم تأخذان الماءَ منه إلى رأسي بكوزٍ بلاستيكي صغير. إحداهما تغسلُ رأسي بالصابونةِ السوداءِ نفسها التي يغسلان بها أوعيةَ الطبخِ، والأخرى تُمسِكُ بقطعةٍ مِن ليفٍ خَشِن تدعكُ بها جسمي حتى يحمر، وفي الشتاءِ تقومان بتسخينِ مقدارِ الحلةِ التي يطبخان فيها الأرز، ثم يضيفانها لماءِ الطست البارد فيصير دافئًا. مع الوقتِ لاحظتُ أنَّ الطستَ مَلحومٌ بخمسِ لحماتٍ متفرقةٍ، فسألتُ أمي عن السببِ.
- أبوك مَن فتح فيه الفتحات الخمسة وأنتَ بعمر تسعة أشهر.
سألتها متعجبًا:
- لِمَ؟!
- كانت الطائرات وقت حرب أكتوبر تحوم فوقنا كالغربان. خاف أن تقع طائرة على البيت، فصنع لكلِّ منكم مخبأ ووقاية.
- وما علاقة ذلك بالطست؟
- وضعكَ على فراش، ووضع الطستَ فوقك حتى لا تتأذَّى إن تهدَّم البيت.
- والفتحات...؟!
- فتحها لتتنفَّس منها.
أحببتُ مِن يومها هذا الطستَ كثيرًا، لكني مع الكبر صرتُ أخجلُ مِن أن أتعرَّى أمام أمي وهند، فامتنعتُ عن الاستحمامِ فيه، وعندما صرتُ صبيًّا في التاسعةِ صار يروقُ لي أن أذهبَ مع الرفاق، فنخلع عن أجسامنا معظمَ ما يسترنا لنعومَ ونغوصَ ونقفز مرحًا إلى الماء، وحدث ذات مرةٍ أن اعتلى أحدُ الرفاقِ حافةَ جسرٍ ممتد فوق الترعة، ثم قفز إلى الماءِ برأسه في حركةٍ بهلوانية بارعة. أردتُ تقليده فيما فعل حتى أنال تصفيقَ الرفاقِ كما نال، فاعتليتُ حافةَ الجسر، ومددتُ يدي للأمام، ثم سحبتُ شهيقًا وأخرجته زفيرًا، وعلوتُ بأطرافِ قدمي قليلًا وهبطتُ تباعًا حتى كانت المرة الأخيرة، ارتفعتُ لأعلى بكاملِ قوتي، ثم نزلتُ إلى الماءِ برأسي، فارتطمتْ بسنٍّ مُدبَّبٍ لصخرةٍ في القاع، وخرجتُ أتألمُ وأبكي والدماءُ تتخللُ شعري المبلل.
وفي مرةٍ تاليةٍ جاء أخي الأكبرُ محمد ينهبُ الأرضَ نهبًا وعلاماتُ الغضبِ تغطي ملامحَ وجهه. وقف بحزمٍ على حافةِ الترعةِ يطلبُ مني ما أمره به أبي.
- هيا يا مروان اخرج مِن الماء لتعود معي إلى البيت.
أبَيتُ إلا أن أظلَّ بعضَ الوقت، فما كان مِن محمد إلا أن نفَّذ ما أمره به أبي إن عصيتُ. أخذ ثيابي كلَّها، وعاد بها لبيتنا تحت إبطيه، ثم خرج الرفاقُ، وارتدوا ثيابهم عائدين لبيوتهم قبل أن يحلَّ الظلام، أما عني فقد مكثتُ بالماءِ حتى جاء الليلُ ليسترني، فخرجتُ للطريقِ كما تلد الأم أولادها خائفًا أترقَّبُ وأجري دون أن أتلفتَ حولي خشيةَ أن أرى مَن قد يراني هكذا بلا ثياب، فتصير معرة الزمنِ ما حييتُ بالقرية.
منذ النشأةِ تلك كُنَّا نعيشُ أسرةً سعيدةً بعيدًا عن التفكيرِ في ثنائيةِ الفقرِ والغنى. كُنَّا قانعين على الرغمِ مِن أننا اعتدنا في صغري أن نأكلَ اللحومَ في الغالبِ مما يتبقى مِن أكلِ الجنازات، وكان يؤلمني أني وإخوتي الأربعة قد نشأنا نشعرُ بسعادةٍ أكثرَ مع صراخِ أطفالِ مَن ماتَ ذووهم، ومع ارتداءِ النساءِ حولنا للسواد. قالت أمي أني أحببتُ اللونَ الأسودَ لذلك.
وظننتُ ظنًّا غريبًا أنَّ للموتِ لونًا، وعشتُ فيما بعد أتساءلُ عن لونه، فكنتُ أظنُّه في طفولتي أسودَ، ربما لسوادِ ثيابِ هؤلاء النساءِ اللاتي يقطعن القرى وشوارعها للتعزية، أو لأنَّ معظمَ مَن ماتوا ممن حملَ أبي نعوشهم ماتوا تحت ظلامِ الليل، ثم في صباي ظننتُه أبيضَ لأني تعلمتُ في المدارسِ مِن معلمي الدينِ أنه ينقلُ الناسَ الطيبين إلى حياةٍ أبديةٍ في الجنةِ ليس فيها حقدٌ وضجر، ولما صرتُ شابًّا وتجرأتُ على أن أنظرَ إلى صورِ القتلى ودمائهم كلَّ يوم حول العالمِ في نشراتِ الأخبار ظننتُه أحمرَ، ومع الكبرِ توقفتُ عن أن أبحثَ له عن لون، إنما تيقَّنتُ أنه أحنُّ صديقٍ للفقراء، وأقوى عدوٍ للأثرياء. ربما صرتُ في الكبرِ حكيمًا.
هذا الموتُ كان قد دنا مِن بيتنا أكثرَ مِن مرة، ثم نأى عنَّا خالي اليدين، منها حين طلبتْ أمي مِن أخي أحمد أن يُحضِر لها قرصين مِن روثِ الحيواناتِ الجاف لتُوقِدَ بهما الفرن، وكانت أمي تجمعُ تلك الأقراصَ فوق سطحِ البيتِ لتجفَّ. اتجه أحمد تجاه السلم الخشبي وهو يتغنَّى بكلماتِ أغنية (جبَّار) لعبد الحليم حافظ، ثم صعد في ثقةٍ واقتدار حتى وصل أعلاه، وما تبقَّى إلا مسكةٌ بيد لبعضِ القش مع قفزةٍ صغيرة ليصلَ مبتغاه، لكنَّ يده خانته فسقط على رأسه مِن أعلى لأسفلَ والسلمُ فوقه، وعلا الصراخُ، فأسرعنا وبه نزيفٌ داخلي نحمله على حمارنا مِن قريتنا حَنُّورة حتى المستوصف في صان الحجر ، فحقنه الطبيبُ لوقفِ النزيفِ أول شيء، ومع تتابعِ العلاجِ استردَّ وعيه ونجا، لكنَّ أبي لم يتوقَّف عن أن يردِّدَ داعيًا:
- اللهم لا تجعلني أحمل نعش أحد مِن أبنائي. يا رب اجعل موتي قبل موتهم جميعًا.
وتكرَّر ذلك الأمرُ بعدها بشهرين حين صعدتْ أختي هند لتملأ طبقًا مِن جَّرةِ (المِش) فوق السطح، فمال بها السلَّمُ الخشبي اللعين، وسقطتْ صارخةً، وانكسرتْ قدمها اليسرى، لكن الطامة الكبرى أنها أصيبتْ بنزيفٍ في رحمها جعل أمي على وشكِ أن تُجَن، فأمي تعلمُ أنَّ نساءَ حَنُّورة والقرى المجاورة لا يصدقن الحقيقة، إنما دائمًا يستهويهن الخيالات، فينسجن منها أكاذيبَ وأكاذيب، ولا يتوقَّفن عن ترديدها حتى يصدِّقن أنها الأصلُ والحقيقة.
كان النزيفُ محدودًا وستر الله، واستعادت هند حالتها الطبيعية دون أن يصلَ الأمرُ لنساءِ القرية، ومِن حينها لم تعرف هند للسطحِ طريقًا بأمرٍ قطعي مِن أبي.
- اعلموا أنه ليس لي في الدنيا غيركم. سأموت لو حدث لأحدكم مكروه.
قالها أبي وبكى، ثم بكت أمي، ثم بكينا جميعًا، ورُفِعتْ طبليةُ العشاءِ وطُوِيَتْ الحصيرةُ دون أن يضعَ أحدنا لقمةً واحدةً في فمه، وعرفنا جميعًا في هذا اليومِ كم أننا نحبُّ بعضنا كأسرةٍ واحدةٍ حبًّا جمًّا وإن كانت فقيرة، كان حبًّا مِن نوعٍ وطيدٍ لا يعرفه أو يعيشه عمدةُ حَنُّورة في بيته بكلِّ معارفه وأراضيه ومزارعِ أسماكِه وحظائرِ ماشيته.
وأذكرُ حين صرتُ في العاشرةِ أني عدتُ مِن مدرستي فوجدتُ أخي حسن يجلسُ حزينًا على بابِ البيتِ المفتوحِ دائمًا أثناء النهار، وكان أبي يقطعُ الحوشَ جيئةً وذهابًا، فلما انتبه لي ذهب واعتلى الفرنَ، ومدَّد جسمه، ووضع يديه تحت رأسه وهو يخفي علاماتِ بكائه ودموعه عني ناظرًا لفروعِ الأشجارِ الجافة التي تحملُ السقفَ فوق الفرنِ وكأنه يحصيها واحدة واحدة.
- ما الأمر يا أمي؟!
- لم يمت أحد منذ خمسة شهور.
إذن، فهذا سببُ الحزنِ الذي حلَّ في بيتنا السعيد. في هذا اليومِ لم أجد ما آكله وإخوتي غير بقايا الخبزِ الحافي، وفي اليومِ التالي لم نأكل غيرَ القليلِ مِن الأرزِ الأبيضِ مع ليمونٍ كانت أمي تتقنُ تخليله، واعتدنا في الأيامِ التاليةِ أن نشربَ ماءً كلما جُعنا، ولم نعد نملكُ نقودًا لشراءِ السكرِ مع الشاي، فكنا نشربُ شايًا إن وجدناه بملعقةِ سكرٍ واحدة لكلِّ سبعةِ أكواب، ثم صرنا نضيفُ لبقايا الشاي المستخدمِ من قبل ماءً، ثم نغليه مِن جديد.
وطال الأمرُ لشهرٍ آخرَ على تلك الحال، وثَقُل على أبي استدانته مِن القريبِ والبعيد، وبدأ يعملُ أعمالًا أخرى، ثم انتهيتُ وإخوتي مِن الامتحاناتِ، فعقدنا ما يشبهُ اجتماعاتِ اليومِ بعيدًا عن عيني والدينا، وتعاهدنا خلاله على أن نعملَ أيةَ أعمالٍ لتوفيرِ الطعامِ لأسرتنا، وكان أبي قبل ذلك يرفضُ ذلك رفضًا قاطعًا، كان يرى أنه وحده المسؤولُ عن دراستنا وإطعامنا وكسوتنا، وأنه مَن أنجبنا بكاملِ إرادته وحبه لنكونَ له سندًا حين ننتهي مِن تعليمنا، وعزوةً تعوِّضُه عن نشأته وحيدًا بلا عزوة، وكان قد نشأ وكبر كأمي مقطوعيْن مِن شجرة.
اضطررنا لإخبارِ أمي بما نخطِّطُ له لتساعدنا في أن نخرجَ مِن البيتِ للعملِ وندخل دون علمِ أبينا بما نصنع، فابتسمتْ وتفاءلتْ خيرًا وقالت:
- الأحوال تتغيَّر كلَّ يوم والأفضل أن يعلم. لذلك سأخبره.
- ربنا يسترها.
أختي الكبرى هند هي أجملُ بنتٍ في الناحية، صارت تخرجُ كلَّ صباحٍ لتعملَ في غرسِ شتلاتِ الأرز بنصفِ جنيهٍ في اليوم، وحسن الأصغر مني بعام كان يعملُ في عزلِ أوراقِ القطنِ المصابةِ بالديدان لحفظِ بقيتها عن التلف. يظلُّ منذ شروقِ الشمسِ مَحني الظهر وسط أطفالٍ مثله في صفوفٍ حتى المغرب في شيءٍ يُسمَّى (الفِرقَة أو الدودة)، ويسوسهم سائسٌ غليظُ الطبعِ يمنعهم مِن رفعِ ظهورهم الطرية الطفلة ليستقيموا طلبًا لبعض الراحة، فهذا محظورٌ على الرغمِ مِن الألمِ حتى يصلوا وبأمره لنقطةٍ معلومةٍ محدَّدةٍ في الحقل، ومَن يرفع مِن الصغار رأسه يُلهِب ذاك السائسُ ظهره بعصاه، ولا راحةَ إلا لساعةٍ بعد أذانِ الظهر.
أحيانًا كنتُ أرافقُ حسن تحت وطأةِ تلك السُّخرة، وأحيانًا كنتُ أرافقُ هند في حقولِ الأرز وجمعِ القطن، أو أذهب مع محمد وأحمد لنعملَ بمزارعِ السمك، أو لتنظيفِ حظائرِ الماشيةِ في دوَّار العمدة، وقد أراحنا موافقةُ أبي على خروجنا للعملِ.
- كنتُ مخطئًا، والآن تيقنتُ أنَّ العمل سيصنعُ منكم رجالًا.
- إذن أنتَ مع عمل المرأة يا أبي.
- طبعًا يا هند تخرج، لكن بأصول وشروط تحفظها وترتضيها.
وحدث ذات يومٍ بعد انتهائي ومحمد وأحمد مِن أعمالِ تنظيفِ الماشيةِ في دوَّارِ العمدة أن جاءتنا الست حميدة زوجته لتُعطِينا أجرَ ما عملنا، فوجدتني حافي القدمين، فأخذتني مِن يدي لحجرةٍ جانبية، ثم فتحتْ خِزانةَ أحذية، وانحنتْ تُلبِسني منها الكثيرَ وتنزعه حتى وجدتْ مقاسًا يناسبني، ثم قالت:
- انتظر يا مروان.
- ماذا؟!
- قلتُ انتظر.
انتظرتُ قليلًا وأنا أُدِير بعقلي التخامينَ حول سببِ الانتظار، ثم وجدتها تعود بخبزٍ في يديها، وقطعتي جبنٍ كبيرتين، وأكثر مِن عشرِ بيضاتٍ مسلوقة. قالت:
- هذا لكَ ولأخويك.
- أشكرك، لكني لا أحبُّ البيض المسلوق.
- ماذا تحب؟
- العدس والأرز.
ضحكتْ، وسألتها مشيرًا على الحذاءِ بقدمي:
- حذاء مَن هذا؟
- حذاء العمدة. حظك حلو، فقدماه صغيرتان.
- يشبه حذاء البنات. ظننتُ أنه حذاء ابنتكما ريهام.
- هل تعرفها؟!. إنها أصغر منكَ بعامين.
- أعرفها طبعًا.
- سمعتُ أنكَ الأول على المدرسة.
- فعلًا أنا أول مدرستي، لكني أنظِّف حظائر ماشيتكم.
قلتها في ضيقٍ وسخط، فنظرتْ زوجةُ العمدةِ لي، وقالت في رفقٍ وهي تربتُ على كتفي:
- غدًا تكبر وتملأ عين الشمس.
لم أُعقِّب، فقالت:
- لا تمشِ حافي القدمين بعد اليوم.
ولم أمشِ حافي القدمين بعد ذاك اليومِ إلا حين كنتُ أعملُ مع أختي هند في حقولِ الأرز، ويا لقسوة العمل في حقول الأرز!. أذكر أني عطشتُ عطشًا شديدًا ولم أحتمل مزيدًا، وبحثتُ فلم أجد ماءً صالحًا للشربِ لأشرب، فشربتُ مِن ماءِ الحقلِ العَكِر. أجلستني أختي بجانبها وسط الأرز المشتول الأخضر، وأحنتْ رأسي لأشرب منه فبكيتُ وبكتْ، ثم أزاحت قدر الإمكان بيديها الشوائبَ وولدان السمك العائم بحجم الدودة، وملأتْ كفيها، فدنوتُ بفمي وشربتُ.
أربعون عامًا تقريبًا بعد هذا اليومِ قد مرَّتْ، ولا يزالُ طعمُ ذاك الماءِ بفمي، وقد كان الأمرُ صعبًا أول مرة، ثم تكرَّر وتكرَّر حتى اعتدتُه، وكنتُ أقولُ لأختي:
- البلهارسيا ستسكن جسمي وتحتلُّه. سأموت قريبًا.
وكانت أختي تقولُ وهي مغروسةٌ بطينِ حقولِ الأرزِ والشمسُ تحرقُها وتحرقني:
- سأكون طبيبة، وسأداويك يا عمري.
أختي الآن طبيبة وتملك مع زوجها الطبيب مركزَ هند الطبي الشامل، وفروعه في كلِّ مكان، لكني كنتُ قد تداويتُ مِن البلهارسيا في صباي، فقد أخذني أبي إلى مستوصفِ صان الحجر حين لم أحتمل المرض، فأعطاني الطبيبُ قرصَ دواءٍ واحد، وقال لأبي:
- يأخذ ابنك هذا القرص ثم يأكل وحده بعده ديك بلدي. يأكله وحده. هذا القرص يهدُّ شخصًا مثل الجبل.
وظلَّ الطبيبُ يكرِّر:
- يأكله وحده. لا تنسَ.
وخرجتُ وأبي في طريقنا مِن المستوصفِ لموقفِ السيارات صامتيْن حتى وجدتُ ورقةً بخمسةِ جنيهات ملقاة على الأرض، فانحنيتُ لأخذها مسرعًا مسرورًا، وناولتها لأبي.
- خُذها واشتري الديك.
فغضب وقال:
- ليستْ لنا.
- بل هي لنا.
وظلَّ يسألُ حولنا لعله يجدُ صاحبها، فلما لم يجد ارتضاها لي، لكنه قال:
- ألم تكن تحلم يا مروان بأن تشتري كرةً وكتابًا؟!
- بلى. لكني لا أريد الكرة الآن أو أي كتاب. بل نأتي بديك أو ديكين.
- بل كرة وكتاب. هذا آخر الكلام.
عصر اليومِ نفسه أدخلتني أمي حجرة هند وقالت:
- انتظرني هنا.
انتظرتُ حتى عادت تحملُ بيدها اليمنى حلةَ أرز يعلوها ديكٌ بلدي مسلوق، وباليسرى طبقٌ عميق يمتلئ مرقًا. وضعتْه أمامي وخرجتْ، ثم عادت بطبقِ عدس. قالت:
- كُلْ وتغذَّى يا عمري. أنتَ صاحبُ مرض.
- وأنتم؟!
- كُلْ يا مروان.
- لكن كيف هذا مع ذاك؟
- العدس والأرز مِن الست حميدة. قالت هذا لمروان.
لم آكل شيئًا مِن لحمِ الديك، لكني شربتُ المرقَ كلَّه، وبعده أتيتُ على طبقِ العدس. كان لذيذًا جدًّا. وأنا أعشق أي طبيخٍ به سوائل، حتى إني كنتُ أطلبُ مِن أمي دومًا إعدادَ العدسِ أو المرقِ دون دجاجٍ أو أية لحوم، فكانت تضحكُ مِن طلبي هذا وتستغربه وتردِّد: (كيف؟!) فأجيبُ دومًا: (لا أعرف. تصرَّفي).
وسألتُ أمي عن ثمنِ الديك، فقالت:
- أبوكَ تصرَّف.
وعلمتُ أنَّ المهدي زميله في حملِ النعوش أقرضه نقودًا، والمهدي رجلٌ أقلُّ طولًا مِن أبي، لذلك فالحملُ كله يكون على أبي الأطولِ، ثم على الحامليْن الخلفيين الأكثر طولًا مِن المهدي هذا، لذا لا تخلو جنازةٌ مِن شجارٍ يدور بعدها أو خلالها حين يصبُّ الخلفيان غضبهما على الرابعِ القصير، ولا يحفظُ المهدي مِن شدةِ غضبهما إلا تدخُّل أبي.
قال يومًا له في وجودي:
- أحبُّ العمل معك كثيرًا يا سعيد. أنتَ طيب وتختلف عن الآخريْن.
فضحك أبي، ثم نصحه بأن يرتدي حذاءً عاليًا قدر ما يمكنه، وقال مازحًا:
- سأظلُّ أحمل عنك نعش غيرك بسبب قصرك، وغدًا حين تموت سأحملك.
وكان المهدي صاحبُ فكاهةٍ وخيالٍ واسع، ويصدق كلَّ ما يُقال عن كراماتِ الموتى وحكاياتهم الغريبة، بل وينسج بنفسه قصصًا خرافية عن ذلك. سمعتُه يُقسِمُ لأبي ذات ليلةٍ مِن ليالي الصيفِ حين كانا ساهريْن في أرضِ فضاءٍ جوار بيتنا:
- والله يا سعيد لم أكن أحمل نعش الشيخ الصفتي. بل كان يحمل نفسه.
- كيف عرفتَ ذلك؟!
- نظرتُ لأكتافكم فرأيتُ النعش لا يلامسها. كان يسير وحده. بل كان يطير. هذا الرجل ولي مِن أولياء الله الصالحين.
وبالطبعِ لم يكن أبي يتوقفُ عن الضحكِ والسخرية منه، ومع ذلك كان يوافقه في بعض الأحيان، حتى لقد قال أبي له:
- فعلًا لقد سمعتُ فلانًا يدعو لنفسه بأن يغفر الله ذنوبه حين كُنَّا نحمل جنازته.
وزاد على ذلك المهدي قائلًا في جديَّة:
- وأنا سمعتُ فلانًا يدعو على زوجته
- ماذا كان يقول؟!
- كان يقول: لا جعلها الله تتهنَّى بمليم واحد مِن أموالي بنت ال....
فقاطعه أبي متلهفًا:
- مَن هذا؟!
- لن أخبرك. إنها أسرار أموات.
لم يضحك أبي، إنما غضب غضبًا شديدًا وقال:
- أنتَ كذَّاب
فظلَّ المهدي يُقسِمُ بأغلظِ الأيمانِ أنَّ ذلك حدث، وظلَّ أبي يقولُ إنه كذَّابٌ أَشِر.
P
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.