artherconan

شارك على مواقع التواصل

تمنَّيتُ لو أستطيع بطريقة ما استِمالة رفيقي للعودة إلى الهدوء الذي كان الهدف من
رحلتنا، لكن بمجرد النظر إلى وجهه المنفعل وحاجبيه المقطبين أدركتُ مدى عبثِ توقُّعاتي؛
فقد جلس لفترة قصيرة في سكون، شاردًا في المأساة الغريبة التي أفسدت علينا ما نَنعم به
من سلام.
سأفحص هذه المسألة، فهي في ظاهرها قد تبدو ذات طبيعة استثنائية » : قال أخيرًا
«؟ للغاية. هل ذهبتَ إلى هناك بنفسِك يا سيد راوندهاي
لا يا سيد هولمز، فقد عاد السيد تريجنس إلى منزلي وهو يحمل هذه القصة، وهرعتُ »
«. معه على الفور من أجل استشارتك
«؟ كم يَبعُد هذا عن المنزل الذي حدثت فيه هذه المأساة الاستثنائية »
«. نحو ميلٍ على اليابِسة »
إذن، سنَسير معًا إلى هناك، لكن قبل أن نبدأ يجب أن أَطرح عليك بعض الأسئلة »
«. يا سيد مورتيمر تريجنس
ظلَّ الرجل الآخرصامتًا طوال هذا الوقت، لكني لاحظتُ أنَّ توتُّره الذي يُحكم السيطرة
عليه فاقَ حتى المشاعر المَلحوظة للكاهن. لقد جلس ووجهه شاحبًا ويبدو عليه الإعياء،
ويُثبِّت نظره في قلقٍ على هولمز، وهو يُشبِّك يدَيه في تشنُّج معًا. كانت شفتاه الشاحبتان
تَرتعِشان حين جلسيسمع التجربة المروعة التي تعرضت لها أسرته، وبدا كما لو أن بعضًا
من رعب المشهد يظهر في عينَيه الداكنتَين.
اسأل ما تشاء يا سيد هولمز، فهو أمر سيِّئ لا أريد الحديث عنه، لكني » : قال بلهفة
«. سأجُيب عن أسئلتك بالحقيقة
«. أخبرني عن ليلة أمس »
حسنًا، يا سيد هولمز، لقد تناولتُ العشاء هناك، كما قال الكاهن، واقترح أخي الأكبر »
جورج أن نلعب لعبة بالورق بعد ذلك. فجلسنا نلعب في نحو الساعة التاسعة. ثم هَممتُ
«. بالمغادرة في نحو العاشرة والربع، وتركتُهم جالسِين جميعًا حول الطاولة، في سعادة بالغة
«؟ مَن أوصلَك إلى الخارج »

كانت السيدة بورتر قد أخلدت إلى النوم، فخرجتُ بمفردي، وأغلقتُ باب الغرفة »
خلفي. كانت نافذة الغرفة التي يَجلسون فيها مُغلَقة، لكن الشيش لم يكن مغلقًا. لم يطرأ
أيُّ تغيير على وضع الباب أو النافذة هذا الصباح، ولا يوجد أي سبب يدعو إلى التَّفكير في
دخول أي غريب إلى المنزل. ومع ذلك فقد كانوا جالِسين هناك، أصابَهم الجنون بالكامل
من الخوف، وبريندا جثَّة هامدة من الرُّعب، ورأسها يتدلى على ذراع المَقعد. لن يُمحى منظر
«. هذه الغرفة من ذهني أبدًا ما حييت
إنَّ الوقائع كما تَسردها تبدو بالتأكيد غريبة للغاية، أعتقد أنك لم تكوِّن » : قال هولمز
«؟ نظريةً بنفسك عما يمكن أن يكون قد تسبَّب في هذا، أليس كذلك
إنه عملٌ شيطانيٌّ، يا سيد هولمز، عملٌ شيطاني! إنه لا » : صاح مورتيمر تريجنس
ينتمي إلى هذا العالم؛شيء ما دخل إلى هذه الغرفة وأذهب عقولهم. ما الحيلة البَشرية التي
«؟ يُمكنها فعل هذا
أخشى أنه لو كان الأمر غير بشري، فإنه سيكون بالتأكيد بعيدًا عن » : قال هولمز
تخصُّصي. ومع ذلك علينا أن نَستنفِد كافة التفسيرات الطبيعية قبل اللجوء إلى مثل هذه
النظرية. وبالنسبة إليك يا سيد تريجنس، فأرى أنك انفصلتَ بطريقة ما عن عائلتك، بما
«؟ أنهم جميعًا يَعيشون معًا وأنت تعيش في مكان مُنفصِل عنهم، أليس كذلك
هذا صحيح يا سيد هولمز، إلا أنَّ هذا أمرٌ قديم مُنتهٍ؛ فقد كانت أسرتنا تعمل في »
تعدين القصدير في بلدة ريدروث، لكنَّنا بِعنا مشروعنا لإحدى الشركات، وتقاعَدنا عن العمل
ومعنا ما يكفينا من المال. لا أنُكر وجود بعض الضغائن بسبب تقسيم المال، وظلَّت هذه
الضغائن بيننا لفترة من الوقت، لكننا نسينا كلَّ شيء وتغاضَينا عنه، وأصبحنا أصدقاء
«. مُقرَّبين
عند استرجاعك لأحداث الليلة التي قضيتموها معًا، هل ثمة أيشيء يَرِد على ذاكرتك »
بإمكانه إلقاء أي ضوء مُمكن على هذه المأساة؟ فكِّر بتأنٍّ يا سيد تريجنس في أي دليل
«. يُمكنه أن يُساعدني
«. لا أتذكَّر أيشيء على الإطلاق يا سيدي »
«؟ هل كان رفاقك في حالتهم المزاجية المُعتادة »
«. كانوا في أحسن حال »
«؟ هل كانوا أشخاصًا عصبيِّين؟ هل بدا عليهم أي خوفٍ من خطرٍ وشيك »
«. لم يبدُ عليهم أيشيء من هذا النوع »

«؟ إذن ليس لديكَ ما تُضيفه ويُمكنه مساعدتي، أليس كذلك »
ثمَّة أمر واحد يَخطر على بالي. » : فكَّرَ مورتيمر تريجنس للحظةٍ بجدِّية، ثم قال أخيرًا
فحين كنا جالسين حول الطاولة كان ظهري باتجاه النافذة، وكان أخي جورج، الذي كان
شريكي في اللعبة، يَجلس في مواجهتها. رأيته في إحدى المرات وهو يَنظُر بتمعُّن خلفي،
لذلك استدرتُ ونظرتُ أيضًا. كان الشيش مفتوحًا والنافذة مُغلَقة، لكني كنتُ أستطيع
رؤية الشُّجَيرات الموجودة في الحديقة، وبدا لي للحظة أني رأيتُ شيئًا يَتحرَّك بينها. لم
أَستطِع تمييز إن كان إنسانًا أم حيوانًا، لكني ظننتُ فقط أن ثمة شيئًا هناك. وحين سألتُ
«. أخي عما ينظر إليه، أخبَرَني أن لديه الشعور نفسه. هذا كل ما يُمكنني قوله
«؟ ألم تتحرَّ الأمر »
«. لا؛ فقد اعتبرنا المسألة غير مُهمة »
«؟ لقد تركتَهم إذن دون وجود أي نذيرِشر، أليس كذلك »
«. لم يكن ثمَّةشيء على الإطلاق »
«. ليس واضحًا لي كيف علمتَ بالخبر في وقتٍ مُبكِّر للغاية هكذا، من هذا الصباح »
من عادتي الاستيقاظ مبكرًا، وبوجهٍ عام أذهب للسَّير قبل الإفطار. وهذا الصباح »
لم أكد أبدأ حتى التقيتُ الطبيب في عربته، وأخبرني أن السيدة بورتر أرسلت صبيٍّا إليه
برسالة عاجلة. ركبتُ العربة على الفور بجواره وذهَبنا معًا. وحين وصلنا دخلنا إلى هذه
الغرفة المُفزِعة. كان من الواضح أن النار والشموع قد انطفأت منذ ساعات، وظلُّوا جالسين
في الظلام حتى بزوغ الفجر. قال الطبيب إن بريندا لا بد أنها لقيَتْ حتْفها منذ ستِّ ساعات
على الأقل، ولم يكن ثمة أي أثر للعنف؛ فقد كانت مُستلقية على ذراع المقعد وعلى وجهها
هذه النَّظرة. أما جورج وأوين فقد كانا يُغنِّيان قِطعًا من أغنيات ويُثرثِران مثل القِرَدة
العليا. آه، لقد كان مَشهدًا مُروِّعًا! لم أَستطِع تحمُّله، وكان الطبيب شاحب اللون مثل ورقة
بيضاء. في الواقع لقد تهاوى في أحد المقاعد شِبه فاقد الوعي، وكِدنا نَحتاج إلى إسعافه هو
«. أيضًا
عجيب، عجيب للغاية! أعتقد أن » : قال هولمز وهو يَنهض من مقعده ويَخلع قبَّعته
من الأفضل أن نذهب إلى تريدانيك وارثا دون أي تأخير. فأنا أعترف أني لم أرَ قضيةً بدت
«. للوهلة الأولى ذات طابع فريد مثل هذه من قبلُ
لم تُسهم إجراءاتُنا في صباح اليوم الأول كثيرًا في تطور التحريات، لكن ما ميَّزها
من البداية كانت حادثة بعثت في ذهني أسوأ انطباع بوجود شيء مشئوم. فحين اقتربنا

من مكان وقوع المأساة وجدنا أنفسنا في ممرٍّ ريفيٍّ ضيق ومتعرِّج. وبينما كنا نَسير فيه
سمعنا صوت عربة قادمة نحونا ووقَفنا على جانب الطريق حتى ندعها تمر. وبينما كانت
العربة تمر بجوارنا لمحتُ عبر النافذة المُغلَقة وجهًا عابسًا به قسَمات واضحة بَشِعة ينظر
إلينا. لمَعت عيناه المُحدِّقتان وأسنانه المُطبقة على بعضها وهو يمرُّ بجوارنا في منظر مروع.
«. شقيقاي! إنهم يأخذونهما إلى هيلستون » : صاح مورتيمر تريجنس، الذيشحَب لونه
نظرنا بفزع نحو العرَبة السوداء، التي تتحرَّك بتثاقل في طريقها. ثم وجَّهنا خطواتنا
نحو المنزل المشئوم الذي لقيا فيه مَصيرهما الغريب.
كان منزلًا ضخمًا ومشرقًا، به حديقة كبيرة ممتلئة بالفعل، في مناخ كورنوال هذا،
بأزهار الربيع. عبْر هذه الحديقة رأينا نافذة غرفة الجلوس في الواجهة، التي في رأي
مورتيمر تريجنس دخل عبرها هذا الشيء الشرِّير الذي أذهب عقولهم في لحظة واحدة بما
بثَّه فيهم من رُعبٍ تام. سار هولمز ببطء وتأنٍ بين رُقَع الأزهار، وعلى طول الممر، قبل
أن نَدخُل إلى الرُّواق. كان مُستغرِقًا في أفكاره، على ما أَذكُر، لدرجة أنه تعثَّر في رَشاش
الماء، وسكَب ما فيه، فغمَر الماءُ كلٍّا من أقدامنا والممر. وداخل المنزل التقينا بمُدبِّرة المنزل
العجوز ابنة كورنوال، السيدة بورتر، التي كانت تهتمُّ باحتياجات هذه الأسرة بمُساعَدة
فتاة شابة. أجابت عن كافة أسئلة هولمز بسهولة، فلم تسمَع شيئًا في الليل، وكانت معنويات
جميع أصحاب المنزل مرتفعةً مؤخَّرًا، ولم تعهدهم أكثر بهجة وسعادة. وقد فقدت وعيها
من الرعب حين دخلت الغرفة في الصباح ورأت هؤلاء الأشخاص المُرعبين حول الطاولة.
وحين استعادَت وعيها فتحت النافذة حتى تدع هواء الصباح يدخل إلى الغرفة، وركضت في
المَمرِّ حيث أرسلت فتًى مُزارعًا إلى الطبيب. كانت السيدة في سريرها في الطابق العلوي إن
كنا نُريد رُؤيتها، بينما تطلَّب حمل الشقيقَين إلى داخل عربة المصحة العقلية أربعة رجال
أقوياء. ولم تكن هي نفسها ستَبقى في هذا المنزل ليوم آخَر، وكانت تَعتزِم الرحيل في مساء
هذا اليوم حتى تنضمَّ إلى أسرتها في سانت إيفز.
صعدنا الدَّرج ورأينا الجثة. كانت الآنسة بريندا تريجنس فتاةً رائعة الجمال، رغم
أنها الآن شارَفَت على مُنتصَف العمر. كان وجهُها مميَّز الملامح وسيمًا، حتى وهي مُتوفَّاة،
لكن ظلَّ عليه بعضٌ من تشنُّجات الرعب التي كانت آخِرَ مشاعر بشَرية تعيشُها. نزلنا
من غرفتِها إلى غرفة الجلوس حيث وقَعَت هذه المأساة حقٍّا. وجدنا الرماد المُحترق للنار
التي ظلت طوال الليل في المدفأة. وعلى الطاولة وجدنا أربع شمعات ذائبة ومُحترقة، مع
أوراق لعب مُبعثَرة على سطح الطاولة. تحرَّكت المقاعد إلى الخلف لتستند على الحائط،

لكن فيما عدا ذلك كان كل شيء كما كان في الليلة الماضية. تحرَّك هولمز بخطوات رشيقة
وسريعة في جميع أرجاء الغرفة، وجلس في مُختلِف المَقاعد، ورفعها إلى أعلى وأعاد وضعها
في أماكنها. فحصكذلك المقدار الذي يُمكن رؤيته من الحديقة، وفحصالأرضية، والسقف،
والمدفأة، لكني لم أرَ قط مثل هذا اللمعان المُفاجئ في عينَيه والضغط على شفتَيه، واللذَين
أدركت منهما أنه رأى بصيصًا من الضوء في هذا الظلام المُدقِع.
لماذا أوقدوا النار؟ هل من عادتهم دومًا إشعال النار في هذه الغُرفة الصغيرة » : سأل
«؟ في مساء أيام الربيع
فسَّر مورتيمر تريجنس هذا بأنَّ هذه الليلة كانت باردةً ورطبة، ولهذا السبب، عقب
«؟ ما الذي ستَفعله الآن يا سيد هولمز » : وصوله أشعلوا النار. وتساءل
أَعتقِد يا واطسون أني سأوُاصِل » : ابتسم صديقي ووضَع يده على ذراعي، وقال
جرعات التسمُّم بالتبغ، التي كنتَ محقٍّا دومًا في استنكارها. بعد إذنكما أيها السادة
سنعود الآن إلى كوخنا؛ إذ إنني لا أَعتقِد أن ثمة عاملًا جديدًا سيتَّضح لنا من وجودنا هنا.
سأفُكر مليٍّا في الوقائع يا سيد تريجنس، وإن تبادر أيشيء إلى ذهني سأَتواصل معك ومع
«. الكاهن بالتأكيد. والآن طاب صباحكما
مرَّ وقتٌ طويل بعد عودتنا إلى الكوخ في بولدو قبل أن يَخرج هولمز عن صمته التام
والمُستغرِق. جلس مُنكمِشًا في مقعده الوثير، بالكاد يَظهر وجهُه المُنهَك حادَّ الملامح وسط
الدوَّامة الزرقاء لدخان التبغ الذي يُدخِّنه، كان حاجباه الأسودان مُنخفضَين إلى أسفل
وجبهتُه مُقطِّبة، وعيناه تخلوان من التعبير وتنظران إلى بعيد. أخيرًا أنزل غليونه ووقَف
على قدميه.
هذا لن يُجدي نفعًا يا واطسون! دعنا نسير على طول الجروف » : ثم قال وهو يَضحك
معًا ونبحَث عن أطراف أسهُم من حجر الصَّوَّان. فاحتمال أن نَجدها أكثر من احتمال
العُثور على أدلةٍ لحلٍّ هذه القضية. إنَّ تشغيل العقل دون موادَّ كافيةٍ تمامًا مثل تشغيل
محرِّك سريعًا دون هدف، فيَعمل على تَفتيتِ نفسه ذاتيٍّا. هواء البحر وأشعَّة الشمس
«. والصبر يا واطسون؛ كلشيء آخر سيأتي
والآن يا واطسون دعني أشرح موقفَنا » : استمرَّ قائلًا ونحن نسير بجوار الجروف معًا
بهدوء. ولنَستَوضِح الأشياء القليلة التي نَعرفها بالفعل، حتى إذا ظهَرت لنا حقائق جديدة
نكون مُستعدِّين لوَضعِها في أماكنها. أفترض، في المقام الأول، أن كلينا ليس مُستعدٍّا
للاعتراف بوجود تدخُّل شيطاني في شئون البشر. فدعنا نُخرِج هذه الفكرة من أذهانِنا

تمامًا. جيد جدٍّا، والآن يظلُّ لدينا ثلاثة أفراد تعرَّضوا إلى إصابة بالغة بأحد الأفعال البشَرية
المعروفة أو غير المعروفة. هذا ما نحن متأكِّدون منه. والآن، متى حدث هذا؟ من الواضح،
وعلى افتراضأن رواية السيد مورتيمر تريجنسصحيحة، حدَث هذا عقب مغادرته للغرفة
مباشرةً. هذه نقطة في غاية الأهمية. والافتراضأن هذا حدث في غضون بضع دقائق عقب
مُغادرَتِه. ما زالت أوراق اللَّعِب في مكانها على الطاولة. وكان هذا الوقت قد تخطَّى بالفعل
موعدَهم المُعتاد للإخلاد إلى النوم، ومع ذلك لم يُغيِّروا موقعَهم أو يَدفعوا مقاعدهم إلى
الخلف. أكُرِّر إذن أن الواقعة حدثَت بعد مُغادرته مُباشرةً، ولم تتعدَّ الحادية عشرة من
ليلة أمس.
الخطوة التالية الواضحة أمامنا أن نتحرَّى، قدر المُستطاع، عن تحرُّكات مورتيمر
تريجنس عقب مغادرتِه للغُرفة. ولا نجد صعوبة في هذا؛ إذ إنها تبدو فوق مستوى
الشبهات. وبما أنك تَعرف طرقي جيدًا، فمن المؤكَّد أنك أدركتَ حيلتي الخَرقاء المُتمثِّلة في
سكب رَشاش الماء، والتي حصلت عن طريقها على أثرٍ واضح لقدمِه لم يكن يتسنَّى لي
الحصول عليه بخلاف ذلك؛ فقد بدت الآثار واضحةً على نحوٍ رائع على المَمر الرملي الرطب.
وكما تذكر كانت ليلة أمس رطبة أيضًا، ولم يكن من الصعب — مع الحصول على أثرٍ
واضح لقدمه — تتبُّع مساره وتعقُّب تحرُّكاته بين آثار الأقدام الأخرى. ويبدو أنه سار
مُبتعِدًا بسرعة في اتجاه منزل الكاهن.
إذن، إن كان مورتيمر تريجنس قد اختَفى من مشهد الحادث، ومع ذلك جاء شخص
من الخارج وأصاب لاعبي الورَق، فكيف يُمكِننا التعرُّف على هذا الشخص، وكيف أحدث
تعبير الفزع هذا؟ يُمكن استِبعاد السيدة بورتر، فمِن الواضح أنها غير مُؤذِية. هل يوجد
أي دليل على أن شخصًا ما زحف إلى نافِذة الحديقة وأحدث بطريقة ما تأثيرًا مُرعبًا للغاية
دفع مَن شاهَدُوه إلى أن يَفقِدوا عقولهم؟ الاقتراح الوحيد في هذا الاتجاه يأتي من مورتيمر
تريجنس نفسه، الذي يقول إنَّ أخاه تحدَّث عن وجود حركةٍ ما في الحديقة. وهذا بالتأكيد
أمرٌ مُثير للاهتمام؛ إذ كانت هذه الليلة مُمطرة وغائمة ومُظلِمة، وأيُّ شخصيَعتزِم ترويع
هؤلاء الأفراد سيتعيَّن عليه لصقُ وجهه بالزجاج قبل أن يَراه أحد. كذلك يوجد حاجز من
الأزهار عرضُه ثلاثة أقدام خارجَ هذه النافذة، لكن لا يوجد أثرٌ لأي قدم. وعليه من الصعب
تخيُّل كيف يُمكن لدخيلٍ من الخارج أن يُحدث مثل هذا التأثير في هذه المجموعة، كما أنَّنا
لم نَعثُر على أي دافع مُحتمَل لمثل هذه المُحاوَلة الغريبة والمَدروسة. أترى ما نُواجِهه من
«؟ صعوبات يا واطسون

«. إنها واضحة للغاية » : أجبتُ باقتناع
ومع ذلك، ربما بمَزيد من المعلومات نتمكَّن من إثبات أنها ليست قضية » : قال هولمز
تعجيزية. وأعتقد أنك ربما تجد يا واطسون ضمن أرشيفك الواسع بعض القضايا التي
كانت بمثل هذا الغموضتقريبًا. وفي هذه الأثناء سنُنحِّي هذه القضية جانبًا حتى تُصبِح
«. لدينا بيانات دقيقة، ونُكرِّس ما بقيَ من الصباح إلى مهمَّة رجل العصرالحَجري
ربما لم أعُلِّق قطُّ على قُدرة صديقي على الانفصال الذهني، لكنِّي لم أتعجَّب منها
أكثر مما حدَث في الصباح الربيعي هذا في كورنوال حين ظلَّ يتحدَّث لساعتَين عن البلطات
الحجَرية ورءوس الأسهُم والشظايا باستهتار تامٍّ كما لو لم يكن ثمَّة لغز مشئوم يَنتظِر
توصُّله إلى حلٍّ له. حين عُدنا إلى كُوخنا بعد الظهيرة وجدنا زائرًا في انتظارنا، وسرعان ما
أعاد تفكيرنا إلى القضية المطروحة علينا. لم يَحتَج أيٌّ منا إلى أن يُخبره أحد بماهية هذا
الزائر؛ فقد كان جسمُه الضخم، ووجهه المُجعَّد الغائر التقاسيم بعينَيه الشرستَين وأنفه
الذي يُشبه أنف الصقر، وشعره الرمادي اللون الذي كاد يصل إلى سقف الكوخ، ولحيته
الذهبية اللون عند الأطراف والبيضاء اللون بالقرب من شفتَيه، فيما عدا مَوضِع بقعة
نيكوتين ناتجة عن تدخينه الدائم للسِّيجار؛ كل هذه السمات كانت ذائعة الصِّيت في لندن
تمامًا كحالها في أفريقيا على أنها لا تَنتَمي إلا إلى شخصية الدكتور ليون ستيرندال المُروِّعة،
صائد الأسود والمُستكشِف العظيم.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.