artherconan

شارك على مواقع التواصل

لقد سمعنا بوجودِه في هذه المُقاطَعة ولَمَحناه مرةً أو مرتَين ببِنيَته الطويلة في الممرات
التي تتخلَّل المُستنقَعات. ومع ذلك فلم يُبادِر ولا مرة بالتعرفإلينا، ولم نحلم قطُّ بالتعرُّف
إليه أيضًا؛ إذ كان من المعروفأن حبَّه للعزلة هو الذي دفعه إلى قضاء أكبر وقتٍ من الفترات
التي تَفصِل بين رحلاته في منزل صغير مدفون داخل غابة بيتشام أريانس. فهناك كان
يَعيش في عزلة تامة بين كتبِه وخرائطه، يُلبي احتياجاته البسيطة بنفسِه ولا يَكترِث
بشئون جيرانه. وعليه كانت مفاجأةً لي أن أسمعه يسأل هولمز بصوت قَلِق عما إذا كان
لقد أخطأَت شُرطة المقاطعة » : قد أحرز أيَّ تقدُّم في تفسير هذه الحادثة الغامضة. قال
في تفسيرها بالكامل، لكن ربما بخبرتك الواسعة توصَّلتَ إلى تفسير معقول أكثر. والمبرر
الوحيد الذي يجعلك تضع ثقتك فيَّ أني في أثناء فترات إقامتي الكثيرة هنا تعرفتُ جيدًا على
أسُرة تريجنس هذه — وفي الواقع ثمَّة صلة قرابة بيني وبينهم من جانب والدتي الكورنية
الأصل — وبطبيعة الحال صدمني ما تعرَّضوا له من مصيرٍ غريب. ويُمكنني إخبارك أني

كنتُ قد وصلتُ إلى مدينة بليموث في طريقي إلى أفريقيا، لكن الأخبار وصلَتْني هذا الصباح،
«. فعدتُ مباشرةً كي أسُاعد في التحقيق
«؟ هل فوَّتَّ سفينتك نتيجةً لهذا » : رفع هولمز حاجبيه، وقال
«. سآخُذ السفينة التالية »
«. يا إلهي! هذه هي الصَّداقة الحقيقية »
«. قلت لك إنهم كانوا أقاربي »
«؟ آه حقٍّا، أقاربك من جهة والدتك. هل كانت أمتِعتُك على متن السفينة »
«. بعضٌمنها، لكن الجزء الرئيسي في الفندق »
هكذا إذن، لكن من المُؤكَّد أن هذه الحادثة لم يَرِد ذِكرُها في صحف بليموث »
«. الصباحية
«. لا يا سيدي؛ فقد وصلَتْني برقية »
«؟ هل لي أن أسأل ممَّن »
أنت كثير الأسئلة » : خيَّمت سحابةٌ من الحزن على الوجه المُكتئب لهذا المُستكشِف، وقال
«. للغاية يا سيد هولمز
«. هذا عملي »
استعاد دكتور ستيرندال رباطة جأشه ببعضالجهد.
لا مانع عندي أن أخُبرَك بذلك، لقد كان السيد راوندهاي، الكاهن، هو مَن أرسل » : قال
«. البرقية التي استدعَتْني للحُضور
أَشكرك، يُمكنني القول ردٍّا على سؤالك الأصلي إنني أصفِّي ذهني بالكامل » : قال هولمز
بشأن موضوع هذه القضية، لكن عندي أمل في الوصول إلى نتيجة ما. وسيكون من السابق
«. لأوانِه أن أقول أكثر من هذا
ربما لن تُمانع في أن تُخبِرني بما إن كانت شكوكُك تذهب في اتجاهٍ معيَّن، أليس »
«؟ كذلك
«. لا يُمكِنني الإجابة عن هذا »
خرج هذا الطبيب الشهير «. إذن فقد أضعتُ وقتي، ولا حاجة بي إلى إطالة زيارتي »
بخُطًى واسعة من الكوخ في مزاج سيئ للغاية، وبعد خمس دقائق تبعه هولمز. لم أرَه بعد
هذا حتى المساء، وحين عاد بخُطًى مُتثاقلة ووجهٍ مُنهَك، تأكَّدتُ من أنه لم يُحرِز تقدمًا
كبيرًا في تحرياته. نظر إلى برقية كانت بانتظاره وألقى بها في المَوقِد.

إنها من فندق بليموث يا واطسون، لقد علمتُ اسمه من الكاهن، وأرسلتُ إليه » : قال
رسالة حتى أتأكد من صحة قصة الدكتور ليون ستيرندال. ويبدو أنه بالفعل قضىالليلة
الماضية هناك، وأنه ترك بالفعل بعضأمتعته تذهب إلى أفريقيا، بينما عاد حتى يشهد هذا
«؟ التحقيق. ما الذي تَستنتِجه من هذا يا واطسون
«. أنه مُهتم للغاية »
مهتم للغاية، أجل، ثمة خيط هنا لم نَفهمه بعدُ وربما يقودنا إلى حلِّ هذه المعضلة. »
تفاءل يا واطسون، فأنا مُتأكِّد من أننا لم نحصل على كل ما نحتاج إليه من معلومات بعدُ.
«. وحين نحصل عليها ستزول كافة الصعوبات التي تُواجهنا الآن
لم أعتقد أن كلمات هولمز ستتحقَّق بمثل هذه السرعة، أو كيف فتح لنا هذا التطور
الجديد الغريب والمشئوم خطٍّا جديدًا بالكامل من التحقيق. في الصباح كنت أَحلِق ذقني
بالقُرب من نافذة غرفتي حين سمعتُ صوت حوافر خيل، وحين رفعتُ رأسي رأيت عربةً
تجرُّها الخيول قادمة بسرعة على الطريق. توقفَتِ العربة أمام باب منزلنا، وقفَزَ منها
صديقنا الكاهن، وأسرع عبر المَمر في حديقتِنا. كان هولمز مُرتديًا ملابسه بالفعل ونزَلنا
مُسرِعين للقائه.
كان زائرنا مُنفعِلًا للغاية لدرجة أنه كان يستطيع الكلام بالكاد، لكنه استطاع في
النهاية أن يسرد علينا وهو يلهث وكلامه يخرج مُتقطِّعًا، ما يحمل من قصةٍ مأساوية.
إن الشيطان يترصَّدنا يا سيد هولمز! إنَّ الشيطان يَترصَّد أبرشيتي » : صاح قائلًا
وبدأ يتقافز «! المسكينة! إنَّ إبليس نفسه حرٌّ طليقٌ فيها! إنه يَتلاعَب بنا كيفما يشاء
بانفعال، وهو أمرٌ ربما بدا مُضحِكًا لولا وجهه الشاحب وعيناه المحدقتان. وأخيرًا صاح
بالأخبار المُروِّعة.
مات السيد مورتيمر تريجنس في أثناء الليل، بالأعراض ذاتها التي أصابت باقي »
«. أفراد أسرته
هَب هولمز واقفًا على قدمَيه، مُفعمًا بالحيوية في لحظة.
«؟ هل يُمكن لكلينا الركوب معك في عربَتِك » : قال
«. أجل يُمكنكما »
حسنًا يا واطسون سنُؤجِّل تناول الإفطار. سيد راوندهاي، نحن مُستعدَّان. أسرِع، »
«. أسرِع قبل أن يَفسد ترتيب الأدلة
يعيش هذا المُستأجِر في غرفتَين داخل منزل الكاهن، تقعان في ركنٍ وحدهما، الواحدة
فوق الأخرى. توجد في الأسفل غرفة جلوس ضخمة، وفي الأعلى غرفة نوم. كانت الغُرفَتان

تُطلَّان على ملعب كروكيه يَصِل ارتفاع عُشبه حتى النوافذ. وصَلْنا قبل الطبيب أو الشرطة،
بحيث كان كلشيء على حاله تمامًا دون أن يَعبَث به أحد. دعوني أصِف لكم المشهد بدقةٍ
كما رأيناه في هذا الصَّباح الضَّبابي من شهر مارس؛ فقد ترَك انطباعًا لا يُمكِنُني محوه
من ذاكرتي.
كان جو الغرفة خانقًا على نحوٍ مروِّع وكئيب. ففتحت الخادمة، التي كانت أول مَن
يدخل إلى الغرفة، النافذة، وإلا كان الأمر سيُصبح لا يُطاق أكثر من هذا. ربما كان السبب
في هذا جزئيٍّا حقيقة أن المصباح ظلَّ متوهجًا ويُصدِر دخانًا في منتصف الطاولة. بجوار
الطاولة جلس الرجل المُتوفىَّ، مُتكئًا إلى الخلف في مقعده، ولحيته الرفيعة ناتئة إلى الأعلى،
ونظارته مُرتفعة على جبهته، ووجهه النحيل الداكن متَّجه نحو النافذة، وتبدو عليه علامات
الفزع ذاتها التي بدت على وجه أخته المُتوفَّاة. كانت أطرافه مُتشنِّجة وأصابعه مُلتوية كما
لو أنه تُوفي بنَوبة شديدة من الخوف. كان مرتديًا ملابسه بالكامل، على الرغم من ظهور
علاماتٍ على أنه ارتدى ملابسه على عجل. عَلِمنا بالفعل أنه نام في سريره وأنه تعرَّضإلى
هذه النهاية المأساوية في وقتٍ مُبكِّر من الصباح.
أدركتُ الطاقة المُلتهبة الكامنة تحت مظهر هولمز الخارجي غير المُكترِث حين رأيتُ
التغيُّر المفاجئ الذي طرأ عليه منذ لحظة دخوله هذه الغرفة المشئومة. ففي لحظة أصبح
مُتوتِّرًا ونشيطًا، ووجهه جامدًا، ولمعت عيناه، وارتعشَت أطرافه في حركة مُنفعِلة. خرج إلى
الحديقة، ودخل عبر النافذة، وطاففي أرجاء الغرفة، وصعدَ إلى غُرفة النوم، تمامًا مثل كلب
صيد مندفع يُحاول الكشفعن مخبأ الفريسة. تجوَّلسريعًا في غرفة النوم وانتهى به الحال
إلى فتح النافذة، التي بدا أنه حصل منها على سبب جديد للابتهاج؛ إذ انحنى خارجها وهو
يَصيح صيحة تنمُّ عن الإثارة والسعادة. ثم أسرع بالنزول إلى الأسفل، وخرج عبر النافِذة
المفتوحة، وألقى بنفسه على وجهِه على العُشب، وانتفض واقفًا، ثم دخل إلى الغرفة مرةً
أخرى، بكامل طاقة الصياد الذي يتعقَّب فريسته. فحصالمصباح، الذي كان شكلُه عاديٍّا،
بدقة مُتناهية، وأخذ يُجري قياسات معينة على إنائه. استخدم عدستَه المُكبِّرة في فحص
الغطاء المصنوع من فلذِّ التلك الذي يُغطي قمة المدفأة، وكشَط عنه بعضًا من الرماد كان
مُلتصقًا بسطحه العُلوي، ووضع بعضًا منه في ظرف ووضَعه في محفظته. وأخيرًا، بمجرد
ظهور الطبيب وضابط الشرطة، أشار هولمز إلى الكاهن وخرَجْنا نحن الثلاثة إلى الحديقة.
يُسعدني أن أقول إن التحقيق لم يذهب سُدًى بالكامل. لا يُمكنني البقاء » : علَّق قائلًا
ومناقشة المسألة مع الشرطة، لكني سأكون مُمتنٍّا لك كثيرًا يا سيد راوندهاي إن نقلتَ إلى

المُحقِّق تحياتي ووجَّهت انتباهه إلى نافذة غرفة النوم، والمصباح في غرفة الجلوس؛ فكلٌّ
منهما يوحي بشيء ما، ويُمكنهما معًا حسم الأمر. وإن رغبَ رجال الشرطة في الحصول
على معلومات إضافية سيُسعدني استقبال أيٍّ منهم في كوخي. والآن يا واطسون، أعتقد
«. أن من الأفضل أن نكون في مكانٍ آخر
ربما استاءت الشرطة من تدخُّل هاوٍ، أو ربما تخيَّلوا أنفسهم يسيرون في خطِّ تحقيق
واعد، لكن الأكيد أننا لم نسمَع منهم أي شيء طوال اليومَين التاليَين. في أثناء هذا الوقت
قضىهولمز بعض الوقت في التدخين والأحلام داخل الكوخ، لكن مُعظَم وقته كان يَقضيه
في الذهاب في نزهات ريفية على الأقدام وحدَه، ويعود بعد ساعات طويلة دون الإشارة
إلى مكان ذهابه. عرَّفتني إحدى التجارب على مسار التحقيق الذي يَتتبَّعه؛ فقد اشترى
مصباحًا مماثلًا لذلك الذي كان مُشتعلًا في الغرفة التي تعرَّض فيها مورتيمر تريجنس
لمأساته الصباحية. ملأ هذا المصباح بالزيت نفسه الذي كان مُستخدَمًا في منزل الكاهن،
وحسب بدقةٍ الفترة التي سيَستغرِقها حتى ينفد. وأجرى تجربة أخرى ذات طابع بغيض
أكثر، وهي تجربة من غير المُحتمَل أن أستطيع نسيانها.
تذكَّرْ يا واطسون أن ثمَّة نقطة تشابُه واحدة مشتركة » : علَّق قائلًا في مساء أحد الأيام
في التقارير المختلفة التي وردَتْنا؛ وتتعلَّق هذه النقطة بتأثير مناخ الغرفة في كل حالة على
أول مَن دخَلوها. أتذكر أن السيد مورتيمر تريجنس، عند وصفه لواقعة زيارته الأخيرة
لمنزل أخيه، قال إنَّ الطبيب حين دخل الغرفة تهالَك على أحد المقاعد؟ هل نسيت؟ حسنًا
يُمكنني التأكيد على أن هذا ما قاله. والآن، أتذكر أيضًا أن السيدة بورتر، مُدبِّرة المنزل،
أخبرتنا أنها هي نفسها فقدت الوعي حين دخلت الغرفة وبعدها فتحت النافذة؟ وفي الواقعة
الثانية — واقعة مورتيمر تريجنس نفسه — لا يُمكن أن تكون قد نسيت الاختناق الرهيب
في جوِّ الغرفة حين وصلنا إليها، على الرغم من أنَّ الخادمة فتحت النافذة. وحين سألتُ عنها
علمتُ أن هذه الخادمة أصُيبَت بإعياء جعلها تذهب إلى الفراش. عليك الاعتراف يا واطسون
أن هذه الحقائق مُوحية للغاية. ففي كلتا الحالتَين ثمة دليل على وجود مناخ سامٍّ. وفي كلتا
الحالتَين أيضًا حدث احتراق داخل الغرفة؛ في الحالة الأولى كانت النار، والِمصباح في الثانية.
كانت ثمة حاجة لإشعال النار، لكنَّ المصباح ظلَّ مشتعلًا — كما سيتضح من مقارنة
الزيت المُستهلَك — بعد طلوع النهار بوقتٍ طويل. لماذا؟ بالتأكيد بسبب وجود علاقة ما
بين هذه الأشياء الثلاثة: الاحتراق، والجو الخانق، وأخيرًا جنون هؤلاء الناس المساكين أو
«؟ وفاتهم. الأمر واضح، أليس كذلك

«. يَبدو كذلك »
على الأقلِّ يُمكننا تقبُّله بوصفه افتراضًا جائزًا. سنَفترضإذن أن شيئًا ما احترق في »
كلتا الواقعتَين نتج عنه مناخ تسبَّب في آثار سامة غريبة. جيد جدٍّا. في الحالة الأولى — وهي
واقعة عائلة تريجنس — وضع هذا الشيء في النار. والآن، كانت النافذة مُغلَقة، لكن النار
بطبيعة الحال تَحمِل الأدخنة إلى حدٍّ ما أعلى المدخنة؛ وعليه يتوقع المرء أن تكون آثار السمِّ
أقل منها في الحالة الثانية، إذ لم يكن يوجد منفذ لخروج الأبخرة. ويبدو أن النتيجة تُشير
إلى هذا أيضًا؛ فلم تتسبب المادة إلا في قتل السيدة فقط، على افتراض أنها الكائن الأكثر
حساسية، بينما ظهَرت على الرجُلَين الآخرَين علامات جنون مؤقَّت أو دائم، من الواضح
أنها أول تأثيرات هذا العقار. أما في الواقعة الثانية فكانت النتيجة مُكتمِلة. وعليه، يبدو أن
الوقائع تُؤيد نظرية وجود سمٍّ يظهر مفعوله بالاحتراق.
في ظل وجود هذه الأفكار في رأسي بحثتُ بطبيعة الحال في غُرفة مورتيمر تريجنس
من أجل العثور على بعضٍمن بقايا هذه المادة. وكان من البديهي البحث في الرفِّ المَصنوع
من التلك أو الإناء الذي يوضع فيه المصباح. وكما توقعتُ، وجدتُ عددًا من رقاقات الرماد،
وعلى الأطراف حافة من المسحُوق البُني اللون، لم يَحترق بعدُ. أخذتُ نصف كميَّته، كما
«. رأيتَني، ووضعتُه داخل ظرف
«؟ لماذا نصف الكمية يا هولمز »
ليسمن طبعي يا واطسون أن أعُيق تحقيقات الشرطة الرسمية. فأنا أترك لهم كافة »
الأدلة التي أعثر عليها. فلا يَزال السمُّ موجودًا على الغطاء التلكي إن تبادر إليهم العثور
عليه. والآن يا واطسون، نحن سنُشغِّل مصباحنا، إلا أننا سنأخذ حذرنا ونفتح النافذة
حتى نتجنَّب الوفاة المُبكِّرة لاثنين من أجدر أفراد المجتمع، وأنت ستَجلِس بالقرب من
هذه النافذة المفتوحة في كرسي وثير، إلا إن قررتَ كرَجُل عاقل عدم الاشتراك في هذا الأمر.
آه، أنت ستُشارك في الأمر إلى النهاية، أليس كذلك؟ علمتُ أني أَعرف صديقي واطسون
جيدًا. سأضع هذا المقعد أمام مقعدك، حتى نبتعد عن السم المسافة ذاتها، ونَجلِس وجهًا
لوجه. أما الباب فسنتركه مفتوحًا جزئيٍّا. والآن سيجلس كلٌّ منا في مكان يُمكِّنه من مراقبة
الآخر وإنهاء التجربة في حال بدَت الأعراضمُقلِقة. هل هذا واضح؟ حسنًا، إذن، سأخُرِج
المسحوق — أو ما بقيَ منه — من الظرف، وسأضعه فوق المصباح المُشتعِل. والآن،
«. يا واطسون دعنا نجلس ونَنتظِر التطورات
لم يستغرق الأمر طويلًا، فلم ألبث أن جلستُ في مقعدي حتى شممتُ رائحة مسك
ثقيلة ونفَّاذة ومُسبِّبة للغثيان. مع أول نفحة منها خرج عقلي ومُخيلتي عن التحكم تمامًا.

فظهرت أمام عيني سحابة سوداء كثيفة، وأخبرني عقلي أن بداخل هذه السحابة يَكمُن
كلُّ ما هو مُروِّع ورهيب وبغيض على نحوٍ لا يمكن تصوره في العالم، لكنه لم يظهر لي
بعدُ، وسيَخرُج وينقضُّعلى حواسيالتي يتملكها الرعب. بدأت أشكال مُبهَمة تدور وتسبح
بين جنبات السحابة السوداء، كلٌّ منها يمثِّل تهديدًا وتحذيرًا بشيءٍ ما قادم، بظهور قاطنٍ
ما لا يمكن تصوُّره على أعتابها، يُمكن لظلِّه فقط أن يُزهق روحي. شعرتُ بأن شعري
يقف، وعينيَّ تخرجان من مكانهما، وفمي يُفتَح، ولساني يتجلَّد. كان الاضطراب في عقلي
بالغًا للغاية كأن شيئًا ما سيَنفجِر بالتأكيد. حاولتُ أن أصرخ وشعرتُ بصوتٍ أجشَّ،
كان صوتي أنا، لكنَّه كان بعيدًا ومنفصلًا عني. في الوقت نفسه، في محاولة مني للهروب،
اخترقتُ سحابة اليأس هذه ونظرتُ في وجه هولمز، ورأيتُه أبيضاللون ومُتصلِّبًا ويكسوه
الرعب، وعليه النظرة ذاتها التي رأيتُها في ملامح المُتوفَّين. كان هذا المنظر ما منحني لحظةً
من التعقُّل والقوة. فانتفضتُ من مقعدي، ووضعتُ ذراعي حول هولمز، وخرجنا معًا من
الباب، وبعد لحظةٍ ألقينا أنفسنا على رقعة العشب واستلقينا بعضنا بجوار بعض، لا ندرك
إلاضوء الشمسالمُشرِق الذي يخترق سحابة الهلع الشيطانية التي تُطوِّقنا. وبدأت تَنحسِر
ببطء عن أرواحنا كما ينقشع الضباب من على مشهد طبيعي، حتى عاد السلام والعقل لنا
مرةً أخرى، وجلَسْنا على العشب نمسح جباهنا المبتلَّة، وينظر أحدنا إلى الآخر في ذُعر يُعبِّر
عن آخر آثار باقية لدينا من التجربة المُروِّعة التي مرَرْنا بها.
أقسم يا واطسون أني مَدين لك بشكر واعتذار. » : قال هولمز أخيرًا بصوت مُتذبذب
فلم يكن ثمة مُبرِّر لتطبيق هذه التجربة على نفسي، فضلًا عن تطبيقها على صديق. أنا
«. آسِفٌ للغاية
رددتُ وأنا مُتأثِّر إلى حدٍّ ما؛ إذ لم أكن قد رأيتُ هولمز يُعبِّر عن مشاعره هكذا من قبلُ
«. أنت تعلم أني أَشعُر بسعادة وشرف عظيمَين عند مساعدتك » : قط
عاد إلى أسلوبه نصف المرح ونصف الساخر الذي اعتاد معاملة مَن حوله به، وقال:
مِن غير الضروري إصابتنا بالجنون يا عزيزي واطسون؛ فأيُّ ملاحظٍ أمين سيَقول »
بالتأكيد إننا كنا كذلك بالفعل قبل أن نبدأ في مثل هذه التجربة الجامِحة. أَعترِف أنني لم
أسرع بالدخول إلى الكوخ وعاد «. أتخيَّل قط أن التأثير سيكون بمثل هذه السرعة والحدة
إلى الظهور مرةً أخرى وهو مُمسك بالمصباح المشتعل على طول ذراعه، ثم ألقى به بين
يجب أن نترك الغرفة فترةً حتى يَزول تأثير العقار، وأعتقد » : كومة من توت العُلَّيق، وقال
«. الآن يا واطسون أنه لم يَعُد لدينا أي مجال للشك في طريقة حدوث هاتين المأساتين

«. على الإطلاق »
لكن يظلُّ السبب مُبهمًا. تعالَ إلى هذه التعريشة ودعنا نُناقش الأمر معًا. تبدو آثار »
هذه المادة البغيضة لا تزال موجودة في حلقي. أعتقد أن علينا الاعتراف بأن كافة الأدلة
تُشير إلى كون هذا الرجل، مورتيمر تريجنس، المجرم في المأساة الأوُلى، على الرغم من
كونه الضحية في المأساة الثانية. وعلينا أن نتذكَّر، في المقام الأول، وجود بعض القصص
عن خلافٍ أسُري، أتبعه التصالُح. نحن لا نعرف مدى حدَّة هذا الشجار، أو إلى أي مدًى
كانت المصالحة جوفاء. وحين أفُكِّر في مورتيمر تريجنس بوجهه الماكر وعينَيه الصغيرتَين
الداهيتَين المستديرتَين تحت نظاراته، فإني لا أراه ممَّن يُمكِنني الحكم عليهم بأنَّهم من
الأشخاص المُتسامِحين. وفي المقام الثاني، تذكَّر بالتأكيد أن فكرة تحرُّك شخص ما في
الحديقة، التي حولَّت انتباهنا للحظةٍ عن السبب الحقيقي للمأساة، كانت نابعةً منه؛ فقد
كان لدَيه دافعٌ ليُضلِّلنا. وأخيرًا، إن لم يكن هو مَن ألقى بالمادة في النار قبل مُغادرة الغرفة،
مَن يُمكنه فعل هذا؟ فقد حدثت الواقعة بعد مغادرته مُباشرةً. وإن كان أي شخص آخر
قد دخل إلى الغرفة، فبالتأكيد كانت الأسرة ستَنهض من حول الطاولة. بالإضافة إلى أنه،
في كورنوال المسالِمة، لا يصل الزائرون بعد الساعة العاشرة مساءً. وعليه يُمكننا استنتاج
«. أن كافة الأدلة تشير إلى كون مورتيمر تريجنس هو المتَّهم
«؟ إذن كانت وفاتُه انتحارًا »
حسنًا، يا واطسون في ظاهر الأمر لا يبدو هذا احتمالًا مُستحيلًا. فيمكن لرجلٍ يحمل »
على عاتقِه شعورًا بالذنب لما فعله بأسرته أن يَدفعه الندم إلى تعريضنفسه للمصير ذاته.
ومع ذلك، ثمَّة بعضالأسباب المقنعة التي تُناهضهذا الافتراض. ولحُسنِ الحظ، ثمَّة رجل
واحد فقط في إنجلترا لديه كافة المعلومات عن هذا، وقد أَجريتُ الترتيبات اللازمة وسنَسمع
منه كافة الحقائق هذا المساء. آه! لقد أتى قبل موعدِه بقليل. فلتتفضَّل بالدخول يا دكتور
ليون ستيرندال. لقد كُنا نُجري تجربة كيميائية داخل الكوخ، مما جعل الغرفة لا تصلح
«. قليلًا لاستقبال زائر مُميَّز مثلك
سمعتُ صوت مزلاج بوابة الحديقة وظهَرت أمامنا في المَمر البنية المَهيبة لهذا
المستكشف الأفريقي الكبير، واستدار ببعض الاندهاش نحو التعريشة البسيطة التي كُنا
نَجلس فيها.
لقد أرسلتَ في طلبي يا سيد هولمز. وصلَتْني رسالتك منذ ساعة تقريبًا، وأتيت بناءً »
«. على هذا، على الرغم من أني لا أعرف حقٍّا لماذا عليَّ الاستجابة لاستدعاءاتك

ربما يُمكننا استيضاح الموضوع قبل أن نَفترِق، أما الآن فأنا مُمتَنٌّ لك » : قال هولمز
لقَبولك المهذب لدعوتي، وأرجو أن تَعذرنا على هذا الاستقبال غير الرسمي في الهواء الطَّلق،
لكني كدتُ أنا وصديقي واطسون أن نُضيف مأساةً إضافية إلى ما تُطلِق عليه الصحف
ونُفضِّل الوجود في هواء نقي في الوقت الحالي. وبما أن الأشياء التي ،« رعب كورنوال »
سنتحدَّث عنها سيكون لها تأثير وثيق عليك شخصيٍّا، فربما من الأفضل أيضًا أن نتحدَّث
«. في مكان لا يسمعنا فيه أحد
أنا أعجز » : أخرج المستكشف السيجار من فمِه وحدَّق بصرامةٍ في رفيقي، وقال
«. يا سيدي عن التفكير فيما يُمكننا الحديث عنه ويُمكنه أن يُؤثِّر عليَّ شخصيٍّا تأثيرًا وثيقًا
«. قُتل مورتيمر تريجنس » : قال هولمز
تمنيتُ للحظة لو كنتُ مُسلَّحًا؛ فقد احمرَّ وجه ستيرندال غضبًا، وتأجَّجت عيناه،
ونتأت عروق الانفعال الملفوفة في جبهته، واندفع في حدَّةٍ نحو رفيقي وهو يُطبق على يده.
ثم توقَّف وبجهد بالغٍ عاد إلى هدوئه البارد والصارم، الذي ربما كان مُوحيًا بالخطر أكثر
من اندفاعه المنفعل.
لقد عشتُ طويلًا بين الهمجيِّين وبعيدًا عن القانون، حتىصنعتُ قانونًا لنفسي. » : قال
«. فمن الأفضل يا سيد هولمز ألا تَنسى هذا؛ إذ لا رغبة لديَّ لإلحاق الأذى بك
ولا أنا أيضًا أريد إلحاق الأذى بك، يا دكتور ستيرندال. وبالطبع الدليل الأوضح على »
«. هذا أنه في ظلِّ ما أَعرفه، استدعيتُك أنت ولم أستدعِ الشرطة
جلس ستيرندال وهو يَلهث، ويَشعُر بالرُّعب ربما للمرة الأولى في حياته العامرة
بالمغامرات. أوحى أسلوب هولمز بتأكيد هادئ على السلطة لا يُمكن مُقاومته. تمتم زائرنا
للحظة ببعضالكلمات، وظلَّ يفتح يديه ويُغلقهما في انفعال.
ماذا تعني؟ إن كانت هذه خدعة منك يا سيد هولمز، فقد اخترتَ الرجل » : وأخيرًا سأل
«؟ الخطأ لتُجري عليه تجاربك. دعنا ندخل في صلب الموضوع، ماذا تعني
سأخُبرك، والسبب الذي جعلني أخُبرك بهذا هو أني أرجو أن ينتج عن » : قال هولمز
الصَّراحة صراحة مُماثلة. والخطوة التالية التي سأتَّخذها ستعتمد بالكامل على طبيعة
«. حجة دفاعك عن نفسك
«؟ دفاعي عن نفسي »
«. أجل يا سيدي »
«؟ دفاعي عن نَفسي ضد ماذا »

«. ضد تُهمة قتْل مورتيمر تريجنس »
يا إلهي! أنت لا تتوقَّف. هل يعتمد نجاحك » : مسح ستريندال جبهتَه بمنديله وقال
«؟ كلُّه على قوة الخداع الرهيبة هذه
الخداع هو ما تقوم به أنت يا دكتور ليون ستيرندال، وليس » : قال هولمز بحزم
من جانبي، والدليل على هذا ما سأخُبِرُك به من بعض الحقائق التي اعتمدتُ عليها في
استنتاجاتي. أما عن عودتك من بليموث، وترك بعضٍ من مُمتلكاتك تذهب إلى أفريقيا،
فلا يسعني القول إلا أن هذا كان أول ما أنبأني بأنك أحد العوامل التي يَجب وضعها في
«… الاعتبار عند حلِّ هذه الدراما
«… لقد عدتُ »
لقد سمعتُ أسبابك ورأيتَ أنها غير مُقنعة وغير كافية. سنتخطَّى هذا. لقد جئتَ »
إلى هنا حتى تَسألني عمَّن أشك فيه، وأنا رفضتُ الإجابة عليك. بعد ذلك ذهبتَ إلى منزل
«. الكاهن وانتظرتَ بعضالوقت في الخارج وأخيرًا عدتَ إلى الكوخ الذي تعيش فيه
«؟ كيف عرفتَ هذا »
«. لقد تبعتُك »
«. لم أرَ أحدًا »
هذا ما تتوقَّع رؤيته حين أتبعك. بعدها قضيتَ ليلةً عامرة بالقلق في كُوخك، ووضعت »
بعض الخطط، التي شرعت في تنفيذها في وقتٍ مُبكِّر من صباح اليوم التالي؛ فقد تركتَ
منزلك بمجرد طلوع الصباح وملأت جيبك ببعضالحصىالأحمر اللون الذي كانت توجد
«. كومة منه بجوار بوابتك
جفل ستيرندال ونظر إلى هولمز في دهشة.
بعدها سرتَ مُسرعًا لتقطع الميل الذي كان يَفصلك عن منزل الكاهن. وتجدر بي »
الإشارة إلى أنك كنتَ ترتدي حذاءَ التنس المضلَّع ذاته الذي ترتديه في هذه اللحظة. وفي
منزل الكاهن، مررتَ عبر البستان والسياج الجانبي وخرجتَ منهما تحت نافذة المُستأجِر
تريجنس. كان الصباح قد أشرق في هذا الوقت، لكن سكان المنزل لم يكونوا قد استيقظوا
«. بعدُ. فرميتَ بعضًا من الحصىمن جيبك إلى الأعلى، نحو النافذة التي تقف تحتها
«! أعتقد أنك أنت الشيطان نفسه » : انتفضستيرندال واقفًا على قدميه، وقال
ربما تطلَّب الأمر إلقاء حفنتين أو ثلاث من » : ابتسم هولمز لهذا الإطراء وواصَل قائلًا
الحصىقبل أن يأتي المُستأجِر إلى النافذة، فطلبت منه النزول إلى أسفل. ارتدى ملابسه على

عجل ونزل إلى غرفة الجلوس، فدخلت أنت عبر النافذة. جرىحوار بينكما—حوار قصير—
تجوَّلت خلاله في أرجاء الغرفة. بعدها خرجتَ وأغلقتَ النافذة ووقفتَ على العشب تُشاهد
ماذا يحدث. وأخيرًا عقب وفاة تريجنس، عدتَ من حيث أتيت. والآن يا دكتور ستيرندال
كيف تُبرِّر فعلتك، وما دوافعك لمثل هذا العمل؟ إن راوغتَ أو تلاعبت معي، فإني أؤكد لك
«. أن الأمر سيَخرُج من يدي إلى الأبد
كان وجه زائرنا قد تحوَّل إلى اللون الرمادي الشاحب وهو يستمع إلى كلمات مُتَّهِمه.
جلس لبعضالوقت يُفكر وهو يضع يديه على وجهه، ثم، في حركة انفعالية مفاجئة أخرج
من جيبٍ في صدره صورةً وألقاها على الطاولة البسيطة الموجودة أمامنا.
«. هذا سبب ارتكابي لهذا » : قال
أظهرت الصورة وجه وصدر سيدة رائعة الجمال، وانحنى هولمز لينظر إليها.
«. بريندا تريجنس » : ثم قال
أجل، بريندا تريجنس، لقد أحببتُها لسنوات طويلة، وأحبَّتْني » : كرَّر زائرنا الاسم وقال
هي أيضًا لسنوات طويلة. وهذا هو سرُّ عُزلتي في كورنوال التي تعجَّب منها الناس؛ فهذا
المكان جعلني أقترب من الشيء الوحيد العزيز على قلبي على وجه هذه الأرض. لم أَستَطِع أن
أتزوجها؛ إذ إن لديَّ زوجة تركَتْني منذ سنوات، ولا أستطيع تطليقها بسبب قوانين إنجلترا
تنهَّد «. المُؤسفة. انتظرتني بريندا لسنوات، وأنا أيضًا انتظرتها. وهذه كانت نتيجة انتظارنا
تنهيدةً شديدة اهتزت لها بِنيَتُه الضخمة، وأطبق على حلقِه تحت لحيته الرمادية الداكنة،
ثم تمالك نفسه بصعوبة واستمر قائلًا:
كان الكاهن على علمٍ بهذا، فقد كنا نَثِق فيه. وسيُخبرك أنها كانت ملاكًا يسير على »
الأرض، ولهذا بعَث إليَّ برقيةً فعدتُ من رحلتي. فما أهمية أمتعتي أو أفريقيا حين علمتُ
أن حبيبتي تعرَّضَت لمثل هذا المصير؟ وهكذا تكون قد حصلتَ على المُبرِّر المفقود لأفعالي
«. يا سيد هولمز
«. أكمل » : قال صديقي
أخرج الدكتور ستيرندال من جيبه رزمةً ورقيةً ووضَعها على الطاولة. كان مكتوبًا
وتحتها علامة السمِّ الحمراء اللون. دفعها « راديكس بيديس ديابولي » عليها من الخارج
«؟ أعتقد أنك طبيب يا سيدي، هل سمعتَ من قبل عن هذا المُستحضَر » : نحوي وقال
«. جذر قدم الشيطان! لا لم أسمَع عنه قط »
هذا لا يَنتقِصمن معرفتك العملية؛ إذ أعتقد أنه باستثناء عيِّنةٍ واحدة في مختبر » : قال
في بودا، لا وجود لعيناتٍ أخرى في أوروبا. فهو لم يصل بعدُ لا إلى دستور الأدوية ولا إلى

كتابات عِلم السموم. إنه جذر على شكل قدم نصف إنسان ونصف عنزة، ومن هنا جاءت
تسميتُه الخيالية التي منَحها له مبعوث تبشيري مُتخصِّصفي النباتات. إنه سم يستخدمه
رجال المُداواة في المحاكمة بالتعذيب في ضواحٍ معيَّنة في غرب أفريقيا، ويظلُّ سرٍّا بينهم.
«. وهذه عيِّنة خاصة حصلتُ عليها تحت ظروف استثنائية للغاية من منطقة أوبانجي
وبينما هو يتحدث فتح الورقة وأخرج منها حفنة من مسحوقٍ بُنيٍّ مُحمرٍّ يُشبه النشوق.
«؟ حسنًا يا سيدي » : سأل هولمز بصرامة
أنا على وشكِ أن أخُبرك يا سيد هولمز بكل ما حدَث حقيقةً، فأنت تعرف الكثير »
بالفعل ومن الواضح أن من مصلحتي أن تعرف كل شيء. لقد شرحتُ لك مُسبقًا العلاقة
التي تربطني بعائلة تريجنس، ومن أجل الأخت أصبحتُ صديقًا لأشقَّائها. حدَث شجار
عائلي حول المال تسبَّب في إبعاد هذا الرجل مورتيمر، لكن كان من المُفترضأن يُعقَدصُلح،
وبعدها التقيتُ به كما التقيت بالآخرين. كان رجلًا خبيثًا وماكرًا ومخادعًا، وحدث كثير
من الأشياء الأخرى التي جعلتني أشك فيه، لكن لم يكن ثمَّة أي سبب للشِّجار معه.
في أحد الأيام، منذ أسبوعَين فقط، جاء إلى كوخي وأريته بعضًا من مُقتنَياتي الأفريقية
الغريبة. أريتُه هذا المسحوق، من بين كثيرٍ من الأشياء الأخرى، وأخبرته عن خصائصه
الغريبة وكيف يُحفِّز مراكز المخ التي تتحكم في الشعور بالخوف، وكيف يكون الجنون أو
الوفاة المصير الذي يَلحق بالمحليِّين التعساء الذين يتعرضون للتعذيب على يد كاهن القبيلة.
أخبرتُه أيضًا كيف يعجز العلم الأوروبي عن اكتشاف هذه المادة. لا يُمكنني معرفة كيف
أخَذها، إذ لم أَترُك هذه الغُرفة قط، لكن لا شك أنني بينما كنتُ أفتح الخزانات وأنحني على
الصَّناديق استطاع الحصول على بعضٍمن جذر قدم الشيطان. أذكر جيدًا كيف انهال عليَّ
بالأسئلة عن المقدار والوقت اللازمَين لظهور تأثيرها، لكني لم أتصور قطُّ أن لديه أسبابًا
شخصية لطرحها.
لم أفُكِّر في الأمر حتى وصلتني برقية الكاهن في بليموث؛ فقد ظنَّ هذا المجرم أني
سأكون قد سافرتُ قبل أن تَصلني الأخبار، وأني سأغيب لسنوات طويلة في أفريقيا؛ لكني
عدتُ على الفور. بالطبع لم يَسعْني عند سماع التفاصيل إلا التأكد من أن هذا تأثيرٌ سُمِّي.
ثم جئت لمقابلتك أملًا في أن يكون قد تبادر إليك أيُّ تفسير آخر، لكني لم أجد هذا.
اقتنعتُ أن مورتيمر تريجنس هو القاتل، وأنه فعل هذا من أجل المال؛ ظنٍّا منه أنه إن
فقَد باقي أفراد أسرته عقولَهم فسيُصبِح الوصيَّ الوحيد على مُمتلكاتهم المشتركة، ولهذا
استخدم معهم مسحوق قدم الشيطان، مما تسبَّب في جنون شقيقيه ومقتل شقيقته بريندا،

الإنسانة الوحيدة التي أحببتُها وأحبَّتْني على الإطلاق. هذه كانت جريمته، فكيف تظنُّ أن
يكون عقابه؟
هل كان يتحتَّم عليَّ اللجوء للقانون؟ ما دليلي؟ كنت أعلم أن الوقائع صحيحة، لكن
هل سأتمكَّن من جعل هيئة محلَّفين من القرويِّين يُصدقون مثل هذه القصة الخيالية؟
ربما أستطيع وربما لا. لكني لم أتحمل الفشل، فقد كانت نفسي مُتعطِّشة للانتقام. وقد
أخبرتك من قبلُ يا سيد هولمز أني قضيتُ معظم حياتي بعيدًا عن القانون، حتى انتهى بي
الحال بأن صنعتُ قانونًا لنفسي. والآن تحقَّقتِ العدالة؛ فقد اعتزمتُ أن يتعرضللمصير
ذاته الذي ألحَقَه بالآخَرين. إما هذا وإما أن أنُفِّذ فيه العدالة بيدي، ففي الوقت الحالي لم
يَعُد لحياتي أيُّ قيمة أكثر من أي شخصآخر في إنجلترا كلها.
والآن لقد أخبرتُكَ بكل شيء، وأنت أضفتَ التفاصيل الباقية. فكما قلتَ بالضبط بعد
قضاء ليلة مُضطربة انطلقتُ في وقتٍ مُبكِّر من الصباح من كوخي. توقعتُ الصعوبة التي
سأوُاجِهها في إيقاظه، لذلك جمعتُ بعض الحصى من الكومة التي ذكرتَها، وألقيتُها على
نافذته. أسرع بالنزول إلى الأسفل وأدخلني عبر نافذة غُرفة الجلوس. واجهته بجريمته،
وأخبرته أنني جئتُ إليه بصفتي قاضيًا ومُنفِّذًا لحكم الإعدام أيضًا. سقط هذا البائس في
مقعده، مصعوقًا من رؤية مسدَّسي. فأشعلتُ المصباح، ووضعتُ المسحوق فوقه، ووقفتُ
خارج النافذة مُستعدٍّا لتنفيذ تهديدي بإطلاق النار عليه إن حاول مغادرة الغرفة. توفيِّ
في غضون خمس دقائق، ويا إلهي! كم كان الأمر بشعًا! لكن قلبي كان مُتحجِّرًا؛ فهو
لم يتعرَّض إلى أي شيء أكثر مما تعرَّضت له حبيبتي البريئة من قبله. هذه هي قصتي
يا سيد هولمز. ربما إن أحببتَ امرأة، كنت ستتصرَّف مثلي. على أيِّ حال، أنا تحت تصرُّفك،
يُمكنك اتخاذ الإجراءات التي تُريدها. فكما أخبرتك أنا أكثر شخصلا يهاب الموت على وجه
«. الأرض
«؟ ماذا كنتَ تَنوي فعله » : جلس هولمز صامتًا لبعضالوقت وأخيرًا قال
«. كنت أعتزم أن أَدفن نفسي في وسط أفريقيا، فلم أنتهِ إلا من نصف عملي هناك »
اذهب وانتهِ من النِّصف الآخر؛ فأنا على الأقل لستُ مُستعدٍّا لحِرمانك » : قال هولمز
«. منه
نهضالدكتور ستيرندال ببِنيَتِه الضخمة، وانحنى بوقار، وسار مُبتعِدًا عن التعريشة.
ربما بعض الأدخنة غير السامة ستكون » : أشعل هولمز غليونه وأعطاني محفظتَه، وقال
تغييرًا محمودًا. أعتقد أنك تتَّفق معي يا واطسون بأن هذه القضية لا تحتاج إلى تدخُّلنا؛

فقد أجرَينا تحريات مستقلة، وستكون تصرفاتنا هكذا أيضًا. فأنت لا تُدين هذا الرجل،
«؟ أليس كذلك
«. بالطَّبع لا » : أجبته
أنا لم أقع قطُّ في الحب يا واطسون، لكني إن فعلتُ وإن تعرَّضتِ المرأة التي أحببتها »
لمثل هذه النهاية، فربما كنت سأتصرَّف مثلما تصرَّف صائد الأسود المُتمرِّد على القانون
هذا. مَن يدري؟ حسنًا يا واطسون، لن أقُلِّل من شأن ذكائك بشرح ما هو بديهي؛ فقد كان
بالطبع الحصىالموجود على حافة النافذة نقطة البداية التي انطلقتُ منها في بحثي؛ فقد
كان هذا الحصى مختلفًا عن أي شيء موجود في حديقة منزل الكاهن، ولم أجد نظيرًا له
إلا حين حولت انتباهي إلى الدكتور ستيرندال وكوخه. بعدها كان إشعال المصباح في وضح
النهار وبقايا المسحوق الموجودة على وعائه الحلقات التالية في سلسلة بديهية إلى حدٍّ ما.
والآن يا عزيزي واطسون، أعتقد أن الوقت قد حان لنتوقَّف عن التفكير في هذه القضية
ونعود بضمير مرتاح إلى دراسة الأصول الكلدانية التي يُمكن بالتأكيد تتبُّعها في الفرع
«. الكورني من اللغة السلتية الكبرى
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.