artherconan

شارك على مواقع التواصل

هذا هو الخطاب الذي تلقَّيتُه للتوِّ يا سيد هولمز، وقد عقدتُ العزم على قَبول العرض.
وعلى الرغم من ذلك فقد فكرتُ أن أضع المسألة برمَّتِها بين يديك للنظر فيها قبل أن أتَّخِذ
«. أيَّ خطوة أخيرة
حسنًا يا آنسة هانتر، إن كنتِ قد قرَّرتِ بالفعل، فالأمر » : قال هولمز وهو يبتسم
«. مَحسوم إذن
«؟ ولكنَّكَ لن تَنصحَني أن أرفُض. صحيح »
«. أعترِف أنه ليس العمل الذي أحبُّ أن تتقدَّم شقيقتي إليه »
«؟ ما معنى كلِّ ذلك يا سيد هولمز »
أوه، ليس لديَّ بيانات، لا يُمكنني الجزْم. ربما تكونين قد كوَّنتِ رأيًا صحيحًا »
«؟ بالفعل
حسنًا، يبدو لي أنه ليس هناك سوى احتمالية واحدة. بدا أنَّ السيد روكاسل رجلٌ »
ودود شديد الطيبة. أليس من المُحتمَل أن تكون زَوجتُه مجنونة، وأنه يرغَبُ في أن يُبقي
الأمر سِرٍّا خَوفًا من أن تُنقَل إلى مصحَّةٍ عقلية، وأنه يُساير رغَباتِها بكلِّ طريقةٍ مُمكنة
«؟ حتى يتجنَّبَ أيَّ ثَورةٍ مُحتمَلة
هذا أحدُ التفسيرات المُمكنة؛ في الواقع، هو التفسير الأرجَح حسبما تبدو عليه الأمور »
«. في الوقت الراهن. ولكن على أيِّ حال، لا يبدو أنه منزلٌ يليق بسيدة شابة
«! ولكن المال يا سيِّد هولمز، المال »
حسنًا، الأجرُ جيِّد بالطبع؛ جيِّد على نحوٍ مُبالَغٍ فيه، وهذا هو ما يُقلِقني. لِمَ قد »
يدفعون لكِ ١٢٠ جنيهًا في السنة، بينما بإمكانهم أن يُوظِّفوا أيَّ مُربية أخرى لقاء ٤٠
«. جُنيهًا؟ لا بُدَّ أن يكون هناك سبب قوي وراء ذلك ظننتُ أنَّني إن أخبرتُك بالظروف كلها فستتفهَّمُ بعد ذلك رغبتي في مُساعدتِك. »
«. سأشعُر بثقةٍ أكبر بكثيرٍ إذا شعرتُ بأنَّك تُسانِدُني
أوه، تأكدي من ذلك تمامًا. أؤكد لكِ أنَّ مشكلتك الصغيرة تُبشِّر بأن تكون أكثر »
قضية مُثيرة للاهتمام مَرَّت عليَّ منذ بضعة أشهر. هناكشيء ما غَير مألوفٍ يخصُّبعض
«… تفاصيلها. إن تشكَّكتِ أو وجدتِ نفسك في خطر
«؟ خطر! ما هو الخطر الذي تتوقَّعه »
لن يُصبِح خطرًا إن تَمكنَّا من تحديده. ولكنَّني إن » : هزَّ هولمز رأسه بعبوسٍ وقال
«. تلقيتُ منكِ برقيةً في أيِّ وقت، ليلًا أو نهارًا، فسآتي لمُساعدتك على الفور
هكذا قالتْ ونهضتْ بِسرعة من مقعدها وقد أغرَق القلق قسَمات وجهها. «. هذا يكفي »
سأذهب لهامبشير وأنا مُطمئنَّة الآن. سأكتُب للسيد روكاسل على الفور، وسأضحِّي »
ثم ودَّعتْنا مُوجِّهة بعضكلماتِ الامتنان «. بشعري المسكين الليلة وأتَّجِه إلى وينشستر غدًا
لهولمز، وتمنَّت لنا ليلةً سعيدة، ومشتسريعًا.
على الأقل، » : وبينما كنَّا نَسمع وقعَ خطواتها السريعة الثابتة وهي تَهبِطُ الدَّرَج، قلت
«. يبدو أنها شابَّة قادِرة للغاية على الاعتِناء بنفسها
وهو ما ستحتاجه. سأكون مُخطئًا بشدَّة إن لم نسمَعْ أيَّ شيءٍ » : قال هولمز بِعُبوس
«. عنها قبل مرور أيام
لم يمْضِ وقتٌ طويل حتى تحقَّقتْ نُبوءة صديقي. مرَّ أسبوعان كنتُ كثيرًا ما أجدُ
نفسيخلالهما أفكر فيها وأتساءل عن ماهية التجربة الإنسانية الغريبة التي توَرَّطتْ فيها
هذه المرأة الوحيدة. الراتب الاستثنائي والشروط الغريبة والمهامُّ الخفيفة، كانت كلها تُشير
إلىشيءٍ غير طبيعي. غير أنَّ تحديد ما إذا كان الأمر هوَسًا أو مَكيدة، أو ما إذا كان الرجل
خيِّرًا أو شريرًا، كان يفُوق قُدراتي. أمَّا بالنسبة لهولمز، فقد لاحظتُ أنه كان يجلِسُ لمدَّة
نِصف ساعة مُتواصلة مَعقود الحاجِبين وشاردَ الذهن، ولكنَّه كان يلوِّح بيدِه مُقلِّلًا من
لا» ، هكذا كان يصيح بنفادصبر «! معلومات! معلومات! معلومات » . شأن الأمر كلما ذكرتُه
إلَّا أنه كان ينتهي به الحال دائمًا وهو يُغمغِم «. يُمكنني أن أصنع الطُّوب من دُون طين
قائلًا إنه إن كانت له أخت، فما كان يَنبغي أن تقبَلَ وَضعًا كهذا على الإطلاق.
وصلت البرقية التي تَسلَّمناها أخيرًا في وقتٍ مُتأخِّر من إحدى الليالي بينما كنتُ أوشِكُ
على أن آوي إلى الفِراش، وكان هولمز يُحضِّرنفسه لقضاء ليلةٍ كاملة من الليالي التي كان
يُكرِّسها للأبحاث الكيميائية التي كان ينخرِط فيها باستمرار، والتي كنتُ أتركه فيها مُنكبٍّا

على إحدى المُعوجَّات وأنابيب الاختبار في المساء، وأجِده في نفس الوَضْع عندما أنزل في
الصباح لتناوُل الإفطار. فتح الظرف الأصفر وألقى نظرةًسريعة على الرسالة ثُمَّ ألقاه لي.
هكذا قال ثُمَّ عاد لدراساته الكيميائيةسريعًا. «. تفَقَّد دليل قطارات برادشو »
كان استدعاؤها لهولمز مُوجَزًا ومُلحٍّا.
أرجوك قابِلْني في فندق بلاك سوان في وينشستر ظهيرة غد. تعالَ أرجوك! أنا في
حيرةٍ من أمري.
هانتر
«. هل ستأتي معي » : سأل هولمز وهو ينظر لأعلى
«. أجل، أريدُ ذلك »
«. تفقَّد جدول القطارات إذن »
هكذا قلتُ وأنا ألقي نظرةً على دليل «. يُوجَد قطار سينطلِق في التاسِعة والنصف »
«. سيصِل وينشستر في الحادية عشرة والنصف » ، برادشو للقطارات
هذا مُناسب تمامًا. إذن ربما من الأفضل أن أؤجِّل تحليلي للأسيتونات، لأننا قد نحتاج »
«. لأن نكون في أفضل حالاتنا في الصباح
بحلول الساعة الحادية عشرة منصباح اليوم التالي كنَّا في طريقِنا بالفعل إلى العاصمة
الإنجليزية القديمة. كان رأس هولمز مَدفونًا في الصُّحف الصباحية طوال الطريق، ولكن
بعد أن مرَرْنا بحدود هامبشير، ألقى بها وبدأ في الاستمتاع بالمناظر الطبيعية. كان يومًا
ربيعيٍّا مثاليٍّا؛ سماء زرقاء فاتحة مُرقَّطة بسُحب بيضاء صغيرة صافية تتحرَّك من الغرب
إلى الشرق. كانت الشمس مُشرقة للغاية، وعلى الرغم من ذلك كانت هناك قَرصةٌ من البرد
تُقلِّل من طاقة الناس. ظهرت الأسطح الحمراء والرماديَّة الصغيرة لمَباني المَزارع من وسط
اللون الأخضرالفاتح لأوراق الشجر الجديدة في جميع أنحاء الريف حتى التلال المُتموِّجة
حول ألديرشوت.
هكذا صحْتُ بحماس شخصٍكان يُعاني لتوِّهِ من ضباب «؟ أليست جميلة ومُنعشة »
شارع بيكر.
ولكن هولمز هزَّ رأسه بعُبوس.
هل تعلم يا واطسون، هذه إحدى اللعنات التي يُعاني منها عقلٌ لا يهدأ مثل » : وقال
عقلي، فأربِط بين كلِّ شيءٍ أراه وبين المسألة التي أبحثُها. عندما تنظُر أنت إلى تلك البيوت

المُتفرِّقة، يَبهرُك جمالها؛ أمَّا عندما أنظر أنا، فكلُّ ما أفكر فيه هو شعورٌ بِكَمْ هي مَعزولة،
وبإمكانية ارتكاب جرائم فيها والإفلات دُون عِقاب.
يا إلهي! من ذا الذي يربِط بين الجريمة وبين هذه المنازل القديمة » : صحتُ قائلًا
«؟ الجميلة
إنها دائمًا ما تُصيبني بشيءٍ من الرُّعب. أنا مُقتنِع يا واطسون بناءً على تجربتي أنَّ »
الجرائم التي تُرتكَب في أحقر أزقَّة لندن وأقذرِها لا تُضاهي في فظاعتها تلك التي تُرتكبُ
«. في الريف الجميل اللطيف
«! إنك تُفزعُني »
ولكن السبب شديد الوضوح؛ فضغْط الرأي العام في المُدن قد ينجح في تحقيق ما »
يفشل فيه القانون. لا يُوجَد زقاق مهما كانت حقارَته لا تستدرُّ فيهصرخة طفلٍ مُعذَّبٍ
أو صوت وقوع سكِّير أرضًا بعدما تلقَّىضربة، تَعاطُفَ الجيران وتُثير سخَطَهم، وحينئذٍ
تُصبِح كل آليات العدالة مُتاحةً بحيث إنَّ كلمةً واحدة قد تُحرِّكها، فلا يفصل بين ارتكاب
الجريمة وقفص الاتهام سوى خُطوة واحدة. ولكن انظر لهذه البيوت المُوحِشة، كُلٌّ في
حقلِه الخاص، والتي يَسكنها في الغالب أناس فقراءُ جُهَلاء لا يَعلمون سوى القليل عن
القانون. فكِّر في الأعمال الوَحشيَّة الشَّيطانية والشرِّالخَفيِّ الذي يُمكن أن يستمرَّ عامًا وراء
عام في أماكن كهذه، وما خَفِيَ كان أعظم. إن كانت هذه السيدة التي طلبتْ منَّا المُساعدة
قد ذهبت إلى وينشستر، ما كنتُ لأخاف عليها مُطلقًا. أمَّا هذه الخمسة الأميال في الريف
«. فهي ما تُمثِّل خطرًا حقيقيٍّا. ومع ذلك، فمِنَ الواضح أنها ليست مُهدَّدة شخصيٍّا
«. لا، إن كانت تقدِر على أن تأتي لمُقابلتِنا في وينشستر، إذن يُمكنها الهرب »
«. بالضبط، إنها تتمتَّع بِحُريَّتها كاملة »
«؟ فماذا يُمكن أن يكون الأمر إذن؟ هل تقترِح أيَّ تفسير »
لقد فكرتُ في سبعة تفسيرات مُختلفة، يُغطي كلٌّ منها الحقائق كما نعرِفها. ولكن »
لن يُحدِّد مدى صحة أيٍّ منها سوى المعلومات الجديدة التي سنَجِدُها في انتظارنا بلا شك.
«. حسنًا، ها هو برج الكاتدرائية، وسنعلَمُ قريبًا كلَّشيءٍ من الآنسة هانتر
إن نُزُل بلاك سوان نُزُلٌ شهيرٌ في الشارع الرئيسي، على مسافةٍ قريبةٍ من المحطة،
وهناك وجدْنا الآنسة الشابَّة في انتظارنا. كانت تجلِس في إحدى قاعات الجلوس، وكان
الغداء جاهزًا على الطاولة.

أنا في غايةِ السعادة بمَجيئكم. إنه لُطفٌ شديد منكم، ولكنَّني لا أعلم » : قالت بحماس
«. ما يتوجَّبُ عليَّ فعله. ستكون نَصيحتُك لا تُقدَّر بثمنٍ بالنسبة لي
«. أخبرينا بما حدَث لكِ أرجوكِ »
سأفعل، ويجِبُ أنْ أسُرِع؛ إذ إنَّني وعدتُ السيد روكاسل أن أعود قبل الثالثة. أخذتُ »
«. إذنه أن آتي إلى المدينة هذا الصباح، ولكنه لا يَعلم شيئًا عن سبب قُدومي
هكذا قال ثُمَّ مدَّ ساقَيه الطويلتَين «. لنضعِ النِّقاط على الحروف إذن » : قال هولمز
النَّحيلتَين إلى الأمام نحوَ نِيران المدفأة وهيَّأ نفسه للإنصات.
أولًا، يُمكنني القول إنَّني لم ألقَ أيَّ سوء مُعاملة من السيد والسيدة روكاسل في »
«. المُجمل. من الإنصاف لهما أن أقول ذلك، ولكنَّني لا أستطيع فَهمَهما ويُثيران قلقي
«؟ ما الذي لا يُمكنكِ فهمُه »
أسباب سلوكهما. ولكنَّني سأخبرُك بكلِّشيءٍ كما حدَث تمامًا. عندما أتيت، استقبَلَني »
السيد روكاسل هنا واصطحَبَني في عربةٍ يجرُّها حصان إلى كوبر بيتشيز. إنه مكان جميل
كما قال، ولكن المنزل في حدِّ ذاته ليس كذلك؛ فهو عبارة عن كُتلة كبيرة مُربعة مَطليَّة
بماء الكلس، ولكنها مُلطَّخة وتَمتلِئ بالبُقَع التي تُخلِّفها الرُّطوبة والجوُّ السَّيِّئ. تُوجَد
أفنِيَة حوله، وأشجار على ثلاثة جوانب، ويُوجَد على الجانب الرابع حقل ينحدِر نزولًا إلى
طريق ساوثامبتون السريع، وينعطِفُ على بُعدِ حَوالي مائة ياردة من الباب الأمامي. يتبع
الفناء الأمامي المنزل، أما الأشجار التي تُحيط به فهي جُزء من مُمتلكات اللورد ساذرتون.
وقد سُمِّي المكان نسبة إلى مجموعة من أشجار الزان النُّحاسية اللون (كوبر بيتشيز) التي
تُوجَد أمام باب الرَّدهة مُباشرةً.
أقلَّني السيد روكاسل، وكان في غاية اللطف، وعَرَّفَني ذلك المساء على زَوجته وابنه. لم
تثبُت صحَّة التَّخمين الذي بدا لنا مُحتَملًا يا سيد هولمز في منزلك ببيكر ستريت. فالسيدة
روكاسل ليست مجنونة؛ بل وجدتُ أنها امرأة صامتة ذات وجهٍ شاحِب، وأصغر كثيرًا
من زَوجها، إذ لا يَتجاوز عُمرها ثلاثين عامًا، كما أعتقد، بينما لا يقلُّ عمره عن خمسةٍ
وأربعين عامًا. استنتجْتُ من مُحادثاتِهما أنهما مُتزوِّجان منذ حوالي سبع سنوات، وأنه
كان أرْملَ، وأنَّ طِفلته الوحيدة من الزَّوجة الأولى كانت ابنَته التي سافرَتْ إلى فيلادلفيا.
أخبرتْني السيدة روكاسل على انفرادٍ أنَّ السببَ وراء سفر ابنته هو أنها كانت تنفِر من
زَوجة أبيها نُفورًا غير مُبرَّر. وبما أن ابنته لم يكن عُمرها ليقلَّ عن عشرين عامًا، فيُمكِنُني
أن أتخيَّل أنَّ وضعها لا بُدَّ أنه كان غير مُريح في وجود زَوجة أبيها الشابَّة.

لم يكن هناك أيُّ شيءٍ يُميِّز السيدة روكاسل كما بدا لي، لا في طريقة تفكيرها ولا
في مَظهرها؛ فهي لم تُبهِرني لا سلبًا ولا إيجابًا؛ كانت نَكِرة. كان من السهل مُلاحظة كَمْ
كانت شديدةَ الإخلاصلزَوجها وابنها الصغير. كانت عَيناها الرَّمادِيَّتان الفاتِحَتان تتنقَّلان
باستمرارٍ من زَوجها لابنها، وتَرصُدان كلَّ رغبةٍ صغيرة قد يُريدانِها وتُهرَع لتلبيتِها إن
أمكن. أما هو فقد كان لطيفًا معها بأسلوبه الوَدود الصَّاخِب، وقد بدا أنهما زَوجان سعيدان
في المُجمَل. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت هذه المرأة تُخبِّئ حُزنًا دفينًا بداخلها؛ فغالبًا
ما تكون غارقةً في التفكير ويرتَسِم على وجهها نظرةُ حزنٍ عَميق. كما أنني رأيتُها على
حينِ غرَّةٍ أكثر من مرَّةٍ وهي تبكي. كنتُ أفكِّر أحيانًا في أنَّ سلوك طفلها هو ما أثقلها
بالهموم، إذ إنَّني لم يَسبِقْ أنِ التقيتُ مَخلوقًا صغيرًا مُدلَّلًا ومُشاكسًا كهذا. إنَّ حجمَهُ
صغير بالنِّسبة لسِنِّه، ورأسه ضخم لا يُناسِبُ حجمَه، وهو يقضيحياتَهُ كلَّها إمَّا في نَوباتِ
غضبٍ وحشيَّة أو في فتراتٍ من العُبوس والحُزن. وفكرتُه الوحيدة عن التَّسلية كما يبدو،
هي تَعذيب أيِّ مخلوقٍ أضعفَ منه، كما أنه يُظهِر موهبةً استثنائية في التَّخطيط للإمساك
بالفئران والعصافير الصغيرة والحَشَرات. ولكنَّني أفُضِّل ألَّا أتحدَّث عن هذا المخلوق يا سيد
«. هولمز، كما أنه لا علاقة له بقِصَّتي لا من قريبٍ ولا من بعيد
أنا سعيد بكلِّ هذه التفاصيل، سواءً أكانت تبدو ذات صلةٍ لكِ » : عَلَّقَ صديقي قائلًا
«. أم لا
سأحاول ألَّا أغُفِلَ أيَّ تفصيلةٍ مُهمة. الشيء الوحيد غير المُريح في المنزل، والذي أذهلَني »
على الفور، هو مظهر الخدَم وسلوكهم؛ لا يُوجَد سوى خادِمَين فقط، رجلٌ وزَوجته. اسمه
تُولر، وهو رجل فظٌّ خشِنٌ أشيَبُ الشَّعر والذقن، وتفوح منه رائحة الخمر دائمًا. وجدتُه
مخمورًا بشدَّة مرَّتَين منذ أن بدأتُ العمل، ومع ذلك فقد بدا أنَّ السيد روكاسل لم يُلاحظ
ذلك. أما زوجة تولر فقد كانت فارعة الطول قويَّةً عابِسة الوجه، وصامتة كالسيِّدة روكاسل
تمامًا، ولكن أقلَّ ودٍّا منها بكثير. إنهما زَوجان شديدا التَّعاسة، ولكنَّني أقضيمُعظم وقتي،
لحُسن الحظ، في غرفة الأطفال وفي غرفتي الخاصَّة، وكلتاهما مُتجاورتان وتقَعان في ركنٍ
من أركان المبنى.
كانت حياتي هادئة جدٍّا لمدة يَومَين بعد وصولي إلى كوبر بيتشيز؛ أمَّا في اليوم الثالث،
فقد نزلَتِ السيدة روكاسل بعد الإفطار مُباشرة وهمَسَتْ بشيءٍ لزَوجها.
أوه، أجل، إنَّنا في غاية العِرفان لكِ يا آنسة هانتر على » : فقال وهو يلتفتُ ناظرًا إليَّ
تلبيَتِك لرغباتنا فيما يتعلَّقُ بقصِّشعرك؛ أؤكد لكِ أنه لم ينتقِصذرَّةً من جمال مظهرك.

سنرى الآن إن كان الثوب الأزرق البرَّاق سيُناسِبُك. ستَجدينه موضوعًا على السرير في
«. غرفتك، وسنكون في غاية الامتِنان إن تكرَّمتِ بارتِدائه
كان الثوب الذي جهَّزوه لي ذا لونٍ أزرقَ مُميَّزٍ، وكان مصنوعًا من مادَّةٍ مُمتازة، نوع
من أنواع الصُّوف الطبيعي، ولكنه كان به علاماتٌ لا تُخطِئها عَين بأنه قد تَمَّ ارتداؤه من
قبل. لم يكن هذا الثَّوبُ لِيُناسِب مقاسيعلى هذا النحو إن كان قد فُصِّلَ لي خصيصًا. أبدى
كلٌّ من السيِّد والسيدة روكاسل إعجابًا شديدًا بمظهري وأنا أرتديه، وهو ما قد بدا إعجابًا
مُبالغًا في شدَّتِه. كانا يَنتظرانِني في غُرفة الاستقبال، والتي كانت كبيرة جدٍّا بحيث إنها
تمتدُّ بطول واجهة المنزل بأكمله ولها ثلاث نوافذ طويلة تمتدُّ إلى الأرض. كان قد وُضِعَ
مقعدٌ بالقُرب من النافذة الوسطى وظهره يُقابلها. طلبوا منِّي أن أجلسعلى هذا المقعد، ثم
بدأ السيد روكاسل وهو يَذرَع الغرفة ذهابًا وإيابًا يَقُصُّعليَّ مجموعةً من أطرف القصص
التي سمِعتُها على الإطلاق. لا يُمكنك أن تتخيَّل كم كان مُضحكًا! فظللتُ أضحكُ حتى
أصابَني التَّعَب. أما السيدة روكاسل على الجانب الآخر، التي كانت تفتقِر لحسِّ الدُّعابة
بوضوح، فلم تبتَسِم، بل جلستْ واضعةً يدَيها على رُكبَتَيها، وعلى وجهها نظرةٌ حزينة
قلِقَة. بعد ساعةٍ أو نحو ذلك، قال السيد روكاسل فجأةً إنه قد حان الوقت للشُّروع في مهامِّ
اليوم، وإنه يُمكنني أن أغُيِّر ثوبي وأذهب لإدوارد الصغير في غُرفته.
بعد ذلك بيومَين، قام بالأداء نفسه في ظروفٍ مُشابِهة تمامًا. ومرة أخُرى بدَّلتُ ثَوبي
وجلستُ على المقعد بالقُرب من النافذة وضحكتُ بحرارةٍ شديدة على القصص المُضحكة
التي كان لدى السيد روكاسل مخزونٌ ضخم منها، والتي كان لا يُضاهِيه في قَصِّها أيُّ
شخص. بعد ذلك، سلَّمني روايةً ظهر غلافها أصفر، وحَرَّكَ مقعدي إلى الجانب قليلًا،
بحيث لا يَقَعُ ظِلِّي على الصفحة، وطلب منِّي أن أقرأ له بصوتٍ عالٍ. قرأتُ لمدَّةِ عشردقائق
تقريبًا، وبدأتُ القراءة من مُنتصف الفصل، ثم فجأة، وأنا في مُنتصف الجملة، أمرَني أن
أتوقَّف وأن أذهب لتغيير ثَوبي.
يُمكِنك أن تتخيَّل بسهولةٍ يا سيد هولمز مدى الفضول الذي اعتراني بشأن ما قد
يَعنيه هذا السلوك الغريب. لقد كانوا في شدَّة الحِرص، كما لاحظتُ، على أن يكون وَجهي
مُشيحًا عن النافذة، بحيث مَلأتْني رغبةٌ محمومة أن أرى ما كان يجري خلف ظهري.
بدا الأمر مُستحيلًا في البداية، لكنني سُرعان ما وجدتُ وسيلة. كانت مرآة يدي مكسورة،
فتملَّكتْني فِكرة مُبهِجة وأخفيتُ جُزءًا من المرآة في منديلي. في المرة التالية، وبينما كنتُ أضحك بحرارة، رفعتُ منديلي ووضعتُه على عَيني، وتمكنتُ بالقليل من التعديل أن أرى
كلَّ ما كان يحدُث خلفي. أعترِف أن خيبة الأمل قد أصابتْني، فلم يكن هناك أيُّشيء. على
الأقلِّ كان هذا هو انطباعي الأول، ولكن عندما نظرتُ ثانية رأيتُ رجلًا يقِف في طريق
ساوثامبتون. رجل مُلتحٍ صغير الحجم يرتدي بدلةً رماديَّة، بدا كأنَّهُ ينظر في اتِّجاهي. إنه
أحد الطرق السريعة المهمَّة، وعادة ما يُوجَد أناس هناك. إلَّا أن هذا الرجل كان يستنِد على
السور الذي يُطوِّقُ حقلَنا وكان ينظر بِتَوقٍ لأعلى. خفضتُ منديلي وألقيتُ نظرةً خاطفة
على السيدة روكاسل، فوجدتُ عينَيها مُثبَّتَتين عليَّ وهي تُحدِّق فيَّ مُتفحِّصة. لم تَقُل أيَّ
شيء، ولكنني مُقتنِعة أنها تنبَّأتْ أنَّني أمُسِكُ بمرآةٍ في يدي، وأنَّني قد رأيتُ ما يُوجَد خلفي؛
فنهضَتْ في الحال.
«. جيفرو، يُوجَد رجلٌ وقِحٌ يقِف على الطريق هناك ويُحدِّق في الآنسة هانتر » : وقالت
«؟ هل هذا أحدُ أصدقائك يا آنسة هانتر » : فسألني
«. لا، أنا لا أعرِف أيَّ شخصٍفي هذه الأنحاء »
«. يا إلهي! يا لَوَقاحَتِه! أرجوكِ التفِتي إليه ولَوِّحي له أن يذهب بعيدًا »
«. من الأفضل بلا شكٍّ ألَّا نُعيرَه أيَّ انتباه »
لا، لا، لا يَجِبُ أن نَترُكه يتسكَّع هنا باستمرار. استديري أرجوكِ ولوِّحي له هكذا أن »
«. يذهب
فعلتُ كما أخبرَتْني، وفي اللحظة نفسها أغلقتِ السيدة روكاسل الستائر. كان ذلك
منذ أسبوع، ومنذ ذلك الوقت لم أجلس عند النافذة، ولم أرتدِ الثوب الأزرق مرَّةً أخرى، ولا
«. رأيتُ الرجل ينتظِر على الطريق
«. أكملي أرجوكِ، تُبَشِّر حكايتُك أن تكون شديدة الإثارة » : قال هولمز
أخشى أنك ستَجِد أنَّ الحكاية غير مُترابِطة، وقد يَتبيَّن أنه لا يُوجَد سوى علاقة »
طفيفة بين الوقائع المُختلفة التي سأحكيها. في يومي الأول في كوبر بيتشيز، أخذتْني
السيدة روكاسل لمبنًى خارجي صغير بالقُرب من باب المطبخ. وعندما اقتربْنا منه، سمعتُ
«. صوت صليل مِنشار، وصوتًا آخَرَ كأنَّه حَيوان كبير يتحرَّك
هكذا قالت السيدة روكاسل وهي تُريني شقٍّا بين لَوحَين. ثم أردفت: «! انظري إلى هذا »
«؟ أليس جميلًا »
نظرتُ من خلاله ولاحظتُ زَوجًا من العُيون المُتوهِّجة، وشكلًا مُبهمًا مُكوَّمًا في الظلام.
إنه كارلو، كلبي » . هكذا قالت رَبَّة عملي وهي تَضحك عليَّ عندما جفلتُ «. لا تخافي »
الماستيف. إنه كلبي اسمًا، ولكنَّ سائِسنا تُولَر العجوز هو الوحيد الذي يستطيع التعامُل
معه. لا نُطعمه سوى مرة واحدة في اليوم، ولا نُعطيه الكثير من الطعام حتى يكون مُفعمًا
بالنشاط دائمًا. يُطلقه تولر كلَّ ليلة. وليُساعِدِ الربُّ المُعتديَ الذي سيُطبِقُ أنيابه عليه.
أتوسَّل إليكِ ألَّا تطأ قدمُك عتبة الباب ليلًا تحتَ أيِّ ظرفٍ مهما كان، فقد يُكلِّفك ذلك
«. حياتك
لم يكن تحذيرها مُبالغًا فيه؛ إذ إنَّني بعد ليلتَين لاحِقَتَين حدَث أن نظرتُ من نافذة
غُرفة نَومي في حوالي الساعة الثانية فجرًا. كانت ليلةً جميلة يَسطعُ فيها ضوء القمر
ويعكس ضوءه على العُشب الموجود أمام المنزل، فبدا فِضِّيٍّا لامعًا كلَمَعان ضوء النهار.
كنتُ أقف مُستغرقةً في الجمال الهادئ للمنظر، عندما أدركتُ أنَّ شيئًا ما كان يتحرَّك أسفل
ظلِّ أشجار الزَّان، وعندما ظهر في ضوء القمر رأيتُ ماهيَّتَه. كان كلبًا ضخمًا في حجم
العِجْل، يَميل إلى اللَّونِ البرونزي، ذا فكٍّ مُتهدِّلٍ وخطمٍ أسود وعظام ضخمة بارزة. كان
يسير ببطء عبر العُشب، واختفي في الظلِّ في الجهة الأخرى. ألقى شكل هذا الحارسالمُفزِع
بالرُّعبِ في قلبي، رُعبٌ لا يُمكن أن يَتسبَّب فيه أيُّ لِص.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.