artherconan

شارك على مواقع التواصل

فنهضالدكتور ليزلي أرمسترونج من خلف مكتبه وقد اصطَبَغ وجهُهُ الداكن باللون
القرمزي من شدَّة الغضب.
تفضَّل بالخروج من بَيتي أيها السيد، يُمكنُك أن تُخبر مُوَكِّلك، اللورد » : وقال
ماونت-جيمس، أنَّني لا أريد أن يكون لي أية علاقة به أو بوكلائه. لا يا سيدي، لا تَزِد
«! جون، أوصِل هذَين السيِّدين إلى الخارج » : ودقَّ الجرَسَ في حنق، وقال «! كلمةً واحدة
فقادنا خادمٌ مُختال إلى الباب بصرامة، ووجدْنا أنفُسنا في الشارع، ثم انفجر هولمز في
الضحك.
لا شكَّ أنَّ الدكتور ليزلي أرمسترونج رجل ذو بأس ومكانة. لم أرَ رجلًا أكثر » : وقال
مُناسبةً منه لمَلْء الفجوة التي خلَّفها البروفيسور الشهير موريارتي، لو أنه حوَّل مَواهِبَهُ
إلى هذا الطريق. والآن يا صديقي الِمسكين واطسون، ها نحن أولاء بِلا أصدقاء في هذه
المدينة غَير الِمضيافة، وقد تقطَّعَت بنا السُّبل، ولا نستطيع مُغادرتها من دون أن نتخلى
عن قضيتنا. غير أنَّ هذا الفندق الصغير في مُواجهة منزل أرمسترونج تمامًا مُتناسِب
مع احتياجاتنا بصورةٍ غريبة. لو تفضَّلْتَ باستئجار غُرفةٍ أمامية وشِراء مُتطلَّبات الليلة
«. فسأتمكَّنُ من إجراء قليلٍ من الاستعلامات
ولكن تَبيَّن أن هذه الاستِعلامات القليلة تَطوَّرتْ إلى أحداثٍ أطولَ مِمَّا قد تخيَّلَ هولمز،
فلمْ يَعُد إلى الفندق إلَّا الساعة التاسِعة تقريبًا. كان شاحِبَ الوجه مُكتئبًا، يُلطِّخُه الغبارُ،
ويَنْهَكُه الجوعُ والتعب، كان ثَمَّ عشاءٌ بارِد مُهيَّأ على الطاولة، وعندما أشبع حاجاته منه
وأشعل غليونه أصبح مُستعدٍّا لاتِّخاذ هذه الهيئة السَّاخرة جُزئيٍّا والفلسفيَّة كليٍّا التي كان
مُعتادًا عليها عندما تَخرُج أمورُه عن مسارها الصحيح. لكن صَوت عجلاتِ عَربةٍ ما جعله
ينهَضُمن جلسته ويُلقي نظرةً خارجَ النافذة، فرأى عربةً يَجرُّها فَرَسان رمادِيَّان يَعلوهما
وَهَجُ مِصباح الغاز المُعلَّق بها، وقد توقَّفَت أمام باب منزل الطبيب.
لقد كانتْ هذه العَرَبة في الخارج مُدَّةَ ثلاث ساعات، بدايةً من السادسة » : فقال هولمز
والنصف، وها هي ذي تعود مرةً أخرى، ويَعني هذا أنها قطعَتْ مسافَةَ عشرة أو اثني
«. عشر ميلًا، وهو يفعل هذا مرة، أو أحيانًا مَرَّتَين في اليوم
«. ليس هذا بالشيء المُستغرَب بالنسبة إلى طبيب يُمارِس مِهنتَه »
ولكن أرمسترونج ليس طبيبًا مُمارِسًا لِمهنتِهِ في الواقع، إنه مُحاضِر واستشاري، »
ولكنه لا يهتمُّ بالمُمارسة العامة للمِهنة؛ لأنها تصرِفُه عن عمله النظري. لماذا إذن يقوم
«؟ بهذه الرحلات الطويلة التي لا بُدَّ أنها مُزعِجةٌ له جدٍّا، ومن هذا الذي يزوره يا تُرى
«… إن سائق عربته »
عزيزي واطسون، أتشكُّ أنه كان أول من تواصلتُ معه؟ لا أدري أكان ما فعله »
نابعًا من فساد أخلاقه الغريزي هو نفسه أم كان بتحريضٍ من سيده، ولكنَّهُ كان من
الفَظاظة بمكانٍ أنْ أطلقَ عليَّ كلبًا؛ لم يُعْجِبْ مَنظر عصاي الكلبَ ولا صاحِبَه ولم يَنجحِ
الأمر. تَوتَّرَتِ العلاقات بيننا بعد هذا، ولم يكن ثمَّةَ مَوضِعٌ لمزيد تَساؤلات. كلُّ ما عرفتُه
تحصَّلتُ عليه من رجلٍ ودودٍ من سكان المدينة في فناء الفندق، وهو الذي أخبَرَني عن
عادات الطبيب وعن رحلته اليومية. وفي تلك اللحظة، ومن أجل تأكيد كلامه، وصلتِ العربةُ
«. إلى بيت الطبيب
«؟ ألمْ تستطِعْ أن تتعقَّبَها »
مُمتاز يا واطسون! إنك مُتألِّق هذه الليلة، لقد جالت الفكرة برأسي بالفعل. لعلَّكَ »
لاحظتَ وجود محلِّ درَّاجاتٍ بجوار الفندق فأسرعتُ إليه واستأجرتُ درَّاجة وأصبحتُ
قادرًا على البَدْء في العمل قبل اختفاء العربة تمامًا عن ناظري، سُرعان ما لحقتُ بها، ثم
تعقبتُ أضواءها — مُحافظًا على مسافةٍ معقولة تُقدَّر بحوالي مائة ياردة — حتى ابتعَدْنا
عن المدينة. قطعْنا قدرًا لا بأس به على الطريق الريفي خارج المدينة ثم حدث شيء مُخزٍ
نوعًا ما؛ فقد توقَّفَتِ العربةُ وترجَّل الطبيب منها وعاد سريعًا إلى حيث توقَّفتُ أنا الآخر،
وقال لي بطريقةٍ ساخِرة من الطراز الأول إنه يَعتذِر لأنَّ الطريق ضَيِّقة وإنه يَرجُو ألَّا
تَعوق عربتَه طريق درَّاجتي، ما كان شيء يبْعثُ على الإعجاب أكثرَ من طريقة صِياغته
لِما قال. ولكني ركبتُ الدراجة وتخطَّيتُ العربة على الفور، وتابعتُ السير — على الطريق
الرئيسي — بِضعة أميال، ثم توقَّفتُ في مكان مُناسب لأرى إذا ما كانت العربة واصلَتِ
السير، ولكني لم أعثُر لها على أثر، وصار من الواضح أنها انحدرَتْ إلى أحد الطرق الفرعية
التي كنتُ قد لاحظتُ وجودها هناك، فسرتُ عائدًا بالدراجة، ولكني لمْ أرَ أثرًا للعربةِ
مُجدَّدًا، والآن كما تُلاحِظ، فقد عادتْ بعدي. بالطبع لم يكن لديَّ في البداية مُبرِّر دقيق
لربط هذه الرحلات باختفاء جودفري ستونتن، وكنتُ فقط أميل للتحقيق فيها على أساس
أنَّ كلَّ ما يَتعلق بالدكتور أرمسترونج مُهمٌّ لنا في الوقت الحاضر. ولكن الآن وأنا أرى أنه يُراقِب عن كثَبٍ كلَّ من قد يُلاحِقه في هذه الرحلات القصيرة، فإن المسألة تبدو أكثر أهمية،
«. ولن يهدأ لي بال حتى أستوضِح الأمر
«. نستطيع أن نَتعقَّبَه في الغد »
أيُمكننا هذا؟ ليس الأمر بالسهولة التي تتخيَّلها. إن الطبيعة في مُقاطعة »
كامبريدجشاير ليست مألوفة لديك. أليس كذلك؟ إنها لا تَسمح لأحدٍ أن يتَّخِذ منها مَخبأ.
إنَّ هذا الريف الذي مررتُ به الليلة كله مُنبسِط وخالٍ من العوائق مثل راحة كفِّك، وإن
الرجل الذي نُلاحِقه ليس مُغفَّلًا، وقدالمُصيبة التي حاقَتْ بهم. أظهر هذا بِجلاءٍ الليلة. لقد
أرسلتُ برقيَّةً إلى أوفرتن لكي يُطلِعنا على أية تطوُّراتٍ جديدة تحدُث في لندن على هذا
العنوان. والآن يُمكنُنا فقط أن نُركِّز انتِباهَنا على الدكتور أرمسترونج، والذي سمَحَتْ ليَ
الفتاة الخَدومة في مكتب البريد بقراءة اسمِه على بيانات رسالة ستونتن العاجلة. إنه يعلم
مكان الفتى — أنا مُستعدٌّ للقَسَم على هذا — وما دام يعرِف، فلا بُدَّ إذن أنَّ الخطأ سيكون
خطأنا نحن لو لم ننْجَحْ في معرفته كذلك. لا بُدَّ من الاعتِراف في الوقت الحالي أنَّ الورقة
الرابحة في حَوزته هو. وكما تعرِف يا واطسون، فليس من عادتي أن أترُك اللعبة في تلك
«. الحالة
ورغم هذا فلمْ يُقرِّبْنا اليوم التالي من حلِّ اللُّغز، لكنْ وصلتْنا رسالة بعد الإفطار،
فناوَلَنيها هولمز وهو يبتسِم، وكان نصُّها كالتالي:
سيدي
أؤكد لك أنك تُهدِر وقتك بمُلاحَقَتي. إنَّ لديَّ — كما اكتشفتَ ليلة أمس — نافِذة
في ظهر عربتي، وإذا كُنتَ ترغَب في جولةٍ تقطع خِلالها عشرين ميلًا تقودك
إلى المكان الذي بدأتَ منه، فليس عليك سوى أن تَتعقَّبَني. وحتى يَحينُ ذلك،
يُمكنني إخبارك أنَّ التجسُّس عليَّ لن يُفيد السيد جودفري ستونتن بأيِّ حالٍ
من الأحوال، وأنا على يَقينٍ أنَّ أفضَلَ خِدمةٍ يُمكنك تقديمها لهذا الرجل المُحترَم
هي أن تعود إلى لندن على الفور، وأن تُخبِر مُوكِّلَك أنك غير قادرٍ على اقتِفاء أثره.
سوف يَضيع وقتك في كامبريدج سُدًى لا محالة.
مع تحياتي
ليزلي أرمسترونج
خَصمٌصريحٌ ونزيهٌ هذا الطبيب. حسنٌ حسن، لقد أثار فضولي، ولا بُدَّ » : قال هولمز
«. لي حقٍّا أن أعرِف المَزيد قبل أن أترُكه
إنَّ عربَته أمام باب بيته الآن، ها هو ذا يركبها. لقد رأيته يختلس النظر إلى » : فقلت
«؟ نافِذَتِنا وهو يَستقلُّ العربة. ماذا لو جرَّبتُ حظِّي في قيادة الدراجة
لا، لا يا عزيزي واطسون! فمع كامِل احترامي لفِطنتك الفِطرية لكنَّني لا أظنُّك الندَّ »
الأنسب لهذا الطبيب البارز. أعتقِد أنَّني ربما أستطيع بُلوغَ غايتنا بإجراء بعضالتحرِّيات
المُستقلَّة بنفسي. يُؤسِفني أنَّني مُضطرٌّ لأن أدعَكَ تَعتمِد على نفسك؛ فظهور مُحقِّقَيْن غريبَيْن
في قريةٍ هادئة كهذه ربَّما يُثير القِيل والقال أكثر مِمَّا أريد. لا شكَّ أنك ستجِد بعضالمَعالم
«. التي ستُسلِّيك في هذه المدينة المَهيبة، وآمُل أن أعود إليك بأخبارٍ أفضل قبل حلول المساء
لكن كان مُقدَّرًا لصديقي أن يَخيب أمَلُه من جديد، فقد رَجَع في المساء مُنهَكًا بِخُفَّي
حُنَين.
لقد ضاع يومي سُدًى يا واطسون. فبعد أن عرفتُ وجهة الطبيب » : بادَرَني قائلًا
العامة، أمضيتُ اليوم في زيارة كلِّ القرى الواقعة على ذلك الجانب من كامبريدج، وفي مُقارَنة
مُلاحظاتي مع المعلومات المُستمَدَّة من أصحاب الحانات ووكالات الأنباء المحلية الأخرى.
لقد غَطَّيتُ بعضالمناطق: تشيسترتن وهيستن ووتربيتش وأوكينجتن. لقد استطلعتُ كلَّ
واحدة منها وخيَّبَ كلٌّ منها آمالي. لم يكن من السهل أن تظهر عَرَبة وحصانان يوميٍّا دون
أن يُلاحِظهم أحدٌ في أودية النعاسهذه. لقد تفوَّق عليَّ الطبيب مرةً أخرى. هل هناك برقيةٌ
«؟ من أجلي
نعم؛ وقد فتحتُها، ها هي ذي:
اطلُب بومبي من جيرمي ديكسون.
كلية ترينيتي.
ولكنِّي لا أفَهَمُها.
أوه! إنها واضحة بما يكفي. إنها منصديقنا أوفرتن، وهي ردٌّ على سؤال منِّي. سوف »
أبعَثُ برسالةٍ إلى السيد جيرمي ديكسون، ولا أشكُّ أنَّ الحظَّ سيُحالِفنا بعدها. بالمُناسبة،
«؟ ألا تُوجَد أية أخبارٍ عن المُباراة
بلى، يُوجَد بالجريدة المحلية المسائية تقريرٌ ممتازٌ في طبعتها الأخيرة؛ لقد فاز فريق
أوكسفورد بهَدَفٍ من كُرةٍ ثابتة وهدفَين مَيدانِيَّين. تقول السطور الأخيرة في وصف المباراة:
ربَّما ترجِع هزيمة الفريق الأزرق بِصورةٍ كلية إلى الغياب المُؤسِف للَّاعب الدولي
المُمتاز جودفري ستونتن، الذي احتاجه فريقه في كلِّ لحظةٍ من المباراة. لقد كان
لنقص التَّضافُر في الجناح وضَعفه في الهجوم والدفاع على حدٍّ سواء أكبر الأثَر
في تبديد جهود هذا الفريق القوي المُجتهد.
لقدصدقتْ هواجسُصديقنا أوفرتن إذن. بالنسبة إلى رأيي الشخصي، فإنَّني » : فقال هولمز
أتَّفِق مع الدكتور أرمسترونج، ولا تقَع الكرة ضِمن نِطاق اهتماماتي. فلنَنَمْ مُبكرًا الليلة
«. يا واطسون؛ فأنا أتوقَّع أن يكون الغدُ حافلًا بالأحداث
أفزَعَتْني أولُ نظرةٍ ألقَيْتُها على هولمز في صباح اليوم التالي؛ حيث كان يجلِس بجوار
نار الِمدفأة وفي يدِه مِحقنتُه الصغيرة. لقد كنتُ أقرِن بين هذه الأداة وبين نقطة الضعف
الوحيدة في شخصيته، وخشيتُ وقوع الأسوأ عندما رأيتُها تلتمِع في يده، لكنه ضحك من
تعابير الوجل التي اعتَلَتْ وَجْهي، ووَضَعها على الطاولة.
لا، لا يا زميلي العزيز، لا دَاعِيَ للفَزَع؛ فما هي بأداة شرٍّ هذه المرَّة، وإنما » : وقال
ستكون الِمفتاحَ الذي سيَحلُّ لُغزَنا، إنَّني أضَعُ آمالي كلها في هذه الِمحقنة. لقد عدتُ لتوِّي
من رحلةٍ استكشافية قصيرة، وكلُّ شيءٍ مُبشِّرٌ بالخير. تناوَلْ إفطارك جيدًا يا واطسون؛
لأنني عاقد العزم على اقتِفاء أثر الدكتور أرمسترونج اليوم، وبِمُجرَّد أن أبدأ فلن أتوقَّف
«. من أجل الراحة أو الطعام قبل أن أتعقَّبَه حتى يَصِل إلى جُحره
يَجدُر بنا في هذه الحالة أن نأخُذ إفطارنا معنا، لأنه سيبدأ جولته » : فرددتُ قائلًا
«. مُبكرًا؛ إن عربته على الباب
لا بأس، دَعْه يذهب، فسيكون من الذكاء بمكانٍ لو تمكن من الذَّهاب إلى حيث لا »
أستطيع تعقُّبَ أثره، وعندما تنتهي من تناول فَطورك رافِقْني إلى الطابق السُّفلي، فسوف
«. أعُرِّفك إلى مُحقِّقٍ يُعَدُّ مُتخصِّصًا بارزًا جدٍّا في العمل الذي نحن مُقدِمون عليه
عندما نَزلْنا تَبِعتُ هولمز إلى ساحة الحظيرة، وهناك فتح باب مقصورةٍ وأخرج كلبًا
قصيرًا ذا أذُُنَين مُتدلِّيَتَين، يجمع شعرُه بين اللَّونَين الأبيضوالبُنِّي، وكان شكله هَجينًا بين
نَوعَي البيجل والفوكسهاوند.
اسمحْ لي أن أعُرِّفَك إلى بُومبي. بُومبي هو أفضل كلاب الصيد المحليَّة التي » : قال هولمز
تقتفِي الأثر، وهو ليس سريعًا جدٍّا، كما يظهر من بِنْيَتِه، ولكنَّهُ لا يفوِّتُ رائحة طَريدةٍ
البتَّة. حسنٌ يا بومبي، قد لا تكون سريعًا، ولكني أتوقَّع أن تكون سريعًا جدٍّا بالنسبة إلى
رَجُلَين في مُنتصف العمر قادِمَين من لندن، لذا سأسمحُ لنفسيبربْطِ هذا الزِّمام الجلدي في
وساقَهُ هولمز إلى باب منزل «. طَوْق رقَبَتِك. والآن تَقدَّم أيها الفتى، وأَرِنا ما تستطيع فعله
الطبيب، فتشمَّم الكلبُ المكانَ للحظة، ثم انطلَقَ في الشارع وهو يَعوي عواءً صاخِبًا من
أثر انفِعاله، وكان يجرُّ زِمامه بقوةٍ مُحاولًا السير بِسُرعةٍ أكبر. بعد نِصف ساعة كنَّا قد
ابتعدْنا عن المدينة وأخذْنا نحثُّ السَّيْر على طريقٍ ريفي.
«؟ ماذا فعلتَ يا هولمز » : فسألتُ هولمز
حِيلةٌ مُبتذَلَةٌ وعتيقة لكنَّها تُفيد من حينٍ لآخر، لقد تَسلَّلتُ إلى فِناء مَنزل الطبيب »
هذا الصباح وأفرغتُ من مِحقَنَتي المليئة بسائل بُذور الأنيسون على عَجَلة العرَبَة الخلفية.
يستطيع أي كلبٍ من كِلاب الصيد واقتِفاء الأثَرِ أن يتتبَّع رائحة الأنيسون من هنا وحتى
قرية جون آو جروتس، وسيكون علىصديقنا أرمسترونج أن يَخوضبعربته نَهرَ كام لكي
يَتمكَّن من تضليل بومبي وصرفِهِ عن تعقُّب أثره. أوه، يا للوغد الماكر! هكذا أفلتَ منِّي في
«. الليلة السابقة
انحرف الكلب فجأةً عن الطريق الرئيسي واتَّجه إلى مَجازٍ ضَيِّق ينمو فيه العشب،
وبعد مسافة نصف ميلٍ أدَّى هذا المَجازُ إلى طريقٍ آخر مُتَّسِع، ثم اتَّخذ الطريق مُنعَطفًا
حادٍّا ناحية اليمين باتِّجاه المدينة، التي غادَرْناها لتوِّنا. بعد ذلك سار الطريق في مُنحنًى
باتِّجاه جنوب المدينة وواصلَ مَساره في اتِّجاهٍ مُعاكسٍ لذاك الذي كُنَّا قد بدأنا منه.
لقد كان هذا الالتِفاف في صالِحِنا تمامًا إذن. أليس كذلك؟ لا عَجَب » : وهنا قال هولمز
أنَّ تحقيقاتي في تلك القُرى لمْ تؤدِّ إلىشيء، لا شكَّ أنَّ الطبيب أجاد لُعْبته على أكمل وجه،
وإن المرء ليودُّ أن يَعرِف الدافع وراء مثل هذا التضليل المُتقَن. لا بُدَّ أن هذه التي إلى يَميننا
هي قرية ترامبينجتن، يا إلهي! ها هي ذي العربة قادمة على مَرمى حَجَرٍ مِنَّا. أسرع
«! يا واطسون، أسرع وإلا فسيُقضىعلينا
اندفَعَ هولمز عبر بوابةٍ إلى داخل أحد الحقول وهو يَسحَبُ خلفَه بومبي الذي كان
يأبى الانقِياد له. لم نَكدْ نَحتمي تحت السِّياج حتى سمِعْنا قعقعة العربة وهي تمر، ولمحتُ
الدكتور أرمسترونج داخلها، كانت كَتِفاه مُتقوِّسَتَين ورأسه غارقًا بين يدَيه، في صُورةٍ
مُعبِّرة تمامًا عن الأسى، ولاحظتُ من خلال ملامح وجه رفيقي الجادَّة أنه قد رآه هو الآخر.
أخشى أن تكون ثَمَّةَ نهاية قاتمة لتحقيقنا، لكن لن يَطول بنا الوقتُ قبل » : وقال لي
«! أن نعرِفَها. تعالَ يا بومبي. آه، إنه ذاك الكوخ الذي داخل الحقل
لم يكن ثَمَّ شكٌّ في أنَّنا وَصلْنا إلى نهاية رِحلتنا. انطلَق بومبي راكضًا هنا وهناك وأخذ
يعوي بشدَّة خارج البوابة، حيث كانت آثار عجلات العربة ما تزال بادِيةً للعَين. كان يُوجَد
مَمرٌّ يؤدِّي إلى الكوخ المُنعزل. ربَط هولمز الكلب في السياج، وتقدَّمْنا إلى الأمام مُسرِعَيْن.
طرَقَ صديقي الباب الريفي الصغير المَصنوع من أغصان الشجر، ثم طرَقَه مرَّةً أخرى،
ولكن لم يَرُدَّ أحد. ورغم هذا فلم يَكُنِ الكوخ خاليًا؛ فقد نما إلى سمْعِنا صوتٌ خفيض؛
صوتٌ أشبَهُ بأنين البُؤس والقنوط، يَفيض بالحُزن بطريقةٍ يَعجِزُ عنها الوَصْف. توقَّفَ
هولمز مُتردِّدًا، ثم ألقى نظرةً سريعةً خلفَه ناحية الطريق الذي كُنَّا قد اجتَزْناه لِتوِّنا، كان
ثَمَّة عربة قادمة فوقه، ولم يكن ذانِكُمُ الحصانان الرَّمادِيَّان لِيُخطئَهُما النظر.
يا إلهي، الطبيب عاد مرَّةً أخرى! إن ذلك لَيَحْسِم الأمر. ينبغي » : فصاح هولمز قائلًا
«. لنا استِكشاف ما يجري قبل أن يأتي
فتح هولمز الباب وخطَوْنا داخل الرَّدْهة، فأخذ صوتُ الأنين يعلو في آذانِنا حتى صار
نحيبَ تَفجُّعٍ عميقًا مُمتدٍّا، كان يأتي من الطابق العلوي، فانطلق هولمز إلى أعلى وانطلقتُ
في إثرِه، ثم دفَعَ بابًا كان مُوارَبًا ففتحه، فوقف كِلانا وقد راعَنا المنظرُ الذي أمام أعيُنِنا.
كانت امرأةٌ شابةٌ جميلةٌ ترقُدُ مَيِّتةً على الفِراش ووجهُها الهادئ الشاحِبُ ينظرُ لأعلى
بِعَينَين زَرقاوَيْن مُعتِمَتَين تُحدِّقان من بين غدائر شعرٍ ذَهبيةٍ وافرةٍ مُتشابكة، وعند نهاية
الفِراش يقبَعُ شابٌّ في وضعٍ بين الجلوس والجَثْو وقد دَفَن وجهَهُ في ثِيابه وأنْهَكَ جسدَه
نشيجُه. كان مُستغرِقًا تمامًا في حُزنه المرير لدرجة أنَّهُ لم ينظر إلينا قطُّ حتى استقرَّتْ يدُ
هولمز على كتِفِه.
«؟ هل أنت السيد جودفري ستونتن » : ثم سأله
«. أجل، أجل، أنا جودفري، ولكنكما تأخَّرْتُما جدٍّا؛ لقد ماتت »
كان الرجل ذاهِلًا تمامًا، بحيث لم يكن من المُمكن أن يرانا سوى طَبيبَين أرُسِلنا
لمُساعدته. حاول هولمز أن ينطِقَ ببعضكلمات التَّعزِية، وأن يُوضِّح ما تَسبَّب فيه اختفاؤه
المُفاجئ من ذُعرٍ في قلوب أصدقائه، ولكنَّنا سمِعْنا عندها وقْعَ أقدامٍ على الدَّرَج، ثم ظهر
وجهُ الطبيب أرمسترونج المُتجهِّم الصارِم المُرتاب عند الباب.
حسنٌ إذن أيُّها السيِّدان، لقد أدركتُما غايتَكما، واخترتُما لتَطفُّلِكما لحظةً » : فقال
بالِغة الحساسية من دون شك، أنا لن أتشاجَرَ في حضرة الموت، ولكنِّي أؤكد لكما أنَّني لو
«. كنتُ أصغر سِنٍّا لَما كان سُلوكُكما البَشِعُ هذا لِيمُرَّ دُون عقوبة
مَعذرةً يا دكتور أرمسترونج، أظنُّ أنَّ بينَنا القليل من سُوء » : فأجابهصديقي في وقار
التفاهُم. لو تفضَّلتَ بالنُّزول معنا إلى الطابق السُّفليِّ فرُبَّما تَمكن كلٌّ مِنَّا من إعطاء الآخَرِ
«. بعضالإيضاحات بشأنِ هذه القضية التَّعِسَة
بعد هُنَيهةٍصِرْنا نحن والطبيب المُتَجهِّم في غرفة الجلوس بالطابق السُّفلي.
«؟ حسن، ما الأمر يا سيدي » : فقال
أرجو أن تُدرِك، في المقام الأول، أنني لا أعمَلُ لحِساب اللورد ماونت-جيمس، وأنَّني »
لا أتعاطَفُ معه في هذه القضية بالمرة. إنَّ مُهِمَّتي عند اختفاء شخصٍ ما هي أن أتحقَّق
من مَصيره، ولكنْ حيث إنَّني قد فعلتُ هذا، فإن الأمر ينتهي بالنِّسبة إليَّ؛ وما دام لا يُوجَد
بُعْدٌ جِنائي في القضية فإنَّني أكون أكثرَ حِرصًا على كِتْمان الأشياء التي تُخزي أصحابَها
مِنِّي على إذاعَتِها للملأ. إذا لم يكن ثَمَّ انتهاكٌ للقانون في هذه القضية — كما أعتقد —
فإنَّ بإمكانك قَطْعًا أن تَثِقَ في تَعقُّلي وتَعاوُني من أجل إبقاء أحداث القضية بعيدةً عن
«. الصحافة
فخطا الدكتور أرمسترونج للأمام خطوةًسريعةً وصافَحَ هولمز بقوَّة.
أنت رَجُلٌ مُحترَم، لقد أسأتُ الحُكم عليك، وإني لأحمَدُ لله أنَّ نَدَمي على تَرْك » : وقال
ستونتن المسكين بِمُفردِه تمامًا في هذه الِمحْنة قد ساقَني إلى العَودة بِعَربتي مرةً أخرى،
ومن ثَمَّ إلى التعرُّف إليك، ما دام لديك هذا القَدْر من المعلومات عن المَوقِف، فإن شرحَهُ
سيكون من أسهل ما يكون. قبل سنةٍ من الآن أقام جودفري ستونتن لِمُدَّةٍ في منزلٍ
استأجَرَه في لندن وارتَبَط عاطفيٍّا بابنة صاحِبَةِ المَنزل وتزوَّجَها، كانتْ فتاةً طيبةً بقدْر ما
كانت جميلة، وذكيةً بقدْر ما كانتْ طيبة. ما كان أيُّ رجلٍ ليخجَلَ من زَوجةٍ مثلها، لكن
جودفري كان وَريث هذا العجوز الثري السيِّئِ الطباع، وكان من المؤكد جدٍّا أنَّ نبأ زَواجِهِ
هذا كان من الممكن أن يؤدي إلى حرمانه من ميراثه. كنتُ أعرِف الفتى جيدًا، وكنتُ أحبُّه
لمَيزاتِهِ الرائعة الكثيرة، ففعلتُ كلَّ ما أستطيع لمُساعَدَتِه على إبقاء الأمور في وَضعٍ طبيعي،
وبَذَلْنا أقصىجُهودنا لإخفاء الأمر عن الجميع، لأنه بِمُجرَّد أن يُهمَس بكلمةٍ عن الموضوع
فلن يَطول الوقت قبل أن يعرِف الجميع به. لقد نجح جودفري في ذلك حتى هذه الساعة؛
بفضل هذا الكوخ المعزول، وبفضل حصافته هو نفسه، لم يعرِف بِسرِّهما أحد سوايَ أنا
وخادِم مُخلِص ذهب في الوقت الحالي للخِدمة في قرية ترامبينجتن، ولكنَّ مصيبةً مُروِّعةً
وقعتْ في نهاية الأمر مُتمثِّلة في مرضٍخطيرٍ ألمَّ بزوجته، كان دَرَنًا من أخبثِ الأنواع، فكاد
الفتى يُجَنُّ بسبب الحُزن، ورغم هذا فقد كان عليه الذَّهاب إلى لندن للَعِبِ هذه المباراة؛
لأنه لم يكن يستطيع الاعتِذار عنها دون تقديم أسبابٍ يُخشى أن تكشِفسِرَّه. لقد حاولتُ
التخفيف عنه ببرقية، فردَّ عليَّ بأخرى يُناشِدُني فيها أن أبذُل كلَّ ما أستطيع. كانت هذه
هي البرقية التي يبدو أنك — وبطريقةٍ ما لا يُمكن تفسيرها — قد اطَّلَعْتَ عليها. لم أخُبِره
كم كان الخطر مُلِحٍّا، لأنني كنتُ أعرِفُأنه لم يكن بِوُسعه عملُشيءٍ هنا، ولكنِّي أرسلتُ إلى
والد الفتاة أخُبِرُه بالحقيقة، فما كان منه إلَّا أن نقَلَها إلى جودفري في طيشٍ شديد، فكانت
النتيجة أنْ جاء جودفري من فَوْرِه في حالةٍ تقترِبُ من حافة الجنون، وبقِيَ على الحالة
ذاتها، جاثيًا عند نِهاية الفِراش، حتى وضع الموت حدٍّا لمُعاناتِها هذا الصباح. هذا هو كلُّ
«. شيءٍ يا سيد هولمز، وأنا على يَقينٍ أنَّني أستطيع الوثوق في رُجحان عَقلِك أنت وصديقك
فشدَّ هولمز على يدِ الطبيب.
فخَرجْنا من البيت الحزين إلى شمس الشتاء الشاحِبة. «. هيا بنا يا واطسون » : وقال
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.