أكاد أجزم أنك لا تستطيع تصديقَ الأمر. لقد راوَدَني الشعور نفسه أمام ذلك الشيء.
لقد ظلت البيضة مطمورةً تحت ذلك الطين الأسود البارد، ربما لثلاثمائة عام. لكنْ لم
يكن هناك أدنى شك فيما رأتْ عيناي. كان هناك … ما هذا؟ جنين، برأسه الضخم وظهره
المنحني وقلبه النابض أسفل حلقه، وقد تقلَّص المُحُّ حوله مع انتشارِ أغشيةٍ كبيرة داخلَ
القشرة وفي المُحِّ بأكمله. ها أنا أفتح بيضَأكبرِ الطيور المنقرضة على الإطلاق، داخلَ زورقٍ
صغير وسطَ المحيط الهندي. ليْتَ دوسن العجوز كان يعلم ذلك! كان الأمرُ يستحقُّ راتبَ
أربع سنوات. ما رأيك؟
غير أنني اضطررتُ إلى التهام تلك البيضة الثمينة عن آخِرها قبل أن ألمح الجزيرةَ
المرجانية، وبعضالقضمات كانت بَشِعة المذاق للغاية. تركت البيضة الثالثة؛ رفعتُها تحت
ضوء الشمس، غير أن قشرتها كانت سميكةً للغاية فلم أتبيَّن ما قد يكون كامنًا داخلها؛
على الرغم من أنني خِلْتني أسمع خفقانَ دم، ربما كان ذلك صوتًا خافتًا في أذنيَّ، كالذي
تسمعه عند وضع صدفة بجوار أذنك.
ثم ظهرت الجزيرة المرجانية. بزغَتْ فجأةً من المشرق، إذا جاز التعبير، وراحت تدنو
مني. حملني التيار نحوَها مباشَرةً حتى لم يَعُد يفصلني عنها سوى نصفِ ميل تقريبًا،
ليس إلا، وإذا بالتيار ينحرف بي بعيدًا عنها، فكان عليَّ أن أجدِّف قدرَ جهدي باستخدام
يديَّ وقِطَع من قشرالبيضفي سبيل الوصول إلى مبتغاي. وأخيرًا نجحتُ في بلوغ الجزيرة.
لم تكن سوى جزيرة مرجانية عادية تمتد مساحتها لأربعة أميال، وفي أحد جوانبها بعض
الأشجار وعين ماء بَدَتْ كبحيرة شاطئية مُترَعة بأسماك الببغاء. حملتُ البيضة معي إلى
الشاطئ ووضعتُها في مكان مناسب، فوق خطِّ المد تمامًا وتحت أشعة الشمس لأمنحها
كلَّ فرصةٍ ممكنة للحياة، ثم جذبتُ الزورقَ إلى اليابسة وتجوَّلت في المكان مستكشفًا. إنه
لَغريب مدى رتابة تلك الجزر! وبمجرد عثوري على عين الماء، شعرتُ أنَّ كل اهتمامي بها قد
تلاشى. حين كنت طفلًا، اعتقدتُ أنَّه ما منشيء أروع أو أكثر إثارةً من مغامرات روبنسون
كروزو، إلا أن ذلك المكان كان في رتابةِ كتابٍ للخُطَب والمواعظ. طفتُ بالمكان مفكِّرًا وباحثًا
عن شيءٍ يُؤكَل، ولكن أؤكِّد لك أن الضجر كاد يقتلني قبل أن ينقضي يومي الأول، ولم
تكن البداية مبشِّرةً؛ فقد تحوَّلَ الطقس في اليوم ذاتِه الذي حللتُ فيه على الجزيرة؛ إذ هبَّتْ
عاصفةٌ رعدية متَّجهة نحو الشمال، لكنها لم تمر دون أن تجتاح الجزيرة، وحين حلَّ الليل
هطل وابلٌ من المطرصحبَتْه ريحٌصرصرٌعاتية. وكان ذلك كفيلًا، كما تعلم، بقلب الزورق
رأسًا على عقب.
كنت نائمًا أسفل الزورق وكانت البيضة، لحُسْن الحظ، وسطَ الرمال أعلى الشاطئ،
وكان أول شيء أتذكَّره صوتًا كأنَّ مائةَ حصاة ارتطمَتْ بالقارب دفعةً واحدة، ثم فيضًا
من الماء غمر جسدي. كنت أحلم بأنتاناناريفو، ثم نهضت من نومي وجلست وناديت على
إنتوشيلأسألها عمَّا كان يجري، ورحت أنبشبيدي باحثًا عن الكرسيالذي اعتدتُ أن أضع
أعوادَ الكبريت عليه. ثم تذكَّرتُ أين كنت. كانت الأمواج الفسفورية تنقضُّ عليَّ متدافِعةً
وكأنها وحوشٌ تروم افتراسي، ولا شيءَ حولي سوى قِطَع الليل المظلم. كان للهواء عويلٌ
حقٍّا. دنَتِ السُّحُب وكأنها توشك أن تقع فوق رأسي، وانهمر المطر الغزير عليَّ حتى خِلْت
الكونَ يغرق فلجأ إلى تصريف مياهه فوق السماء الدنيا. تسلَّلتْ نحوي موجةٌ عاتية، كأنها
حيةٌ من نار، فأجفلتُ بسرعة، ثم خطر ببالي الزورق؛ فهرعتُ إليه بينما كانت الأمواج تعاوِد
مهاجمتي من جديد، لكنه اختفى. تفقَّدتُ البيضةَ حينها، وتحسَّستُ طريقي إليها. كانت
سليمةً وبمنأًى عن أعتى الأمواج؛ لذا جلستُ إلى جوارها وضممتُها طلبًا للرفقة. يا إلهي!
يا لها من ليلة!
انقضَتِ العاصفة قبل طلوع الصبح، وحين بزغ الفجر لم يكن للسحب أثرٌ في السماء،
ووجدتُ قِطَعًا من ألواح خشبية متناثرة بطول الشاطئ، كانت في الأصل هيكلَ زورقِي
المفكَّك. وبالرغم من فداحة خسارتي، فإن تلك الألواح أوحَتْ إليَّ بفكرة؛ فقد أنشأتُ ما
يشبه ملجأً من العواصف باستخدام ذلك الحطام، مستفيدًا من شجرتين متقاربتين. وفي
ذلك اليوم، فقسَتِ البيضة.
فقسَتْ، يا سيدي، حين كنت نائمًا متوسِّدًا إياها. سمعتُ صوتَ قعقعة وشعرت
برجَّة؛ فنهضت جالسًا، ووجدت الجزءَ العلوي من البيضة وكأنَّ منقارًا قد نقره، وإذا
وخرج «. يا إلهي! مرحبًا بك » : برأسٍصغير عجيب بنيِّ اللون يبرز ناظرًا إليَّ. هتفتُ حينها
الطائر من البيضة بقليلٍ من الصعوبة.
كان في البداية فرخًا صغيرًا، لطيفًا وودودًا، في حجمِ دجاجةٍ صغيرة تقريبًا؛ لم يكن
يختلف كثيرًا عن غيره من أفراخ الطيور، غير أنه كان أكبر. كان زغبه، في بادئ الأمر، بنيٍّا
مَشُوبًا بلون رمادي يغطِّيه شيءٌ كقشرة رمادية سرعان ما تساقطت، وكان دون ريش
تقريبًا، بل كان مغطٍّى بما يشبه الشعر الناعم. لا يمكنني أن أصف بهجتي برؤيته؛ لا شكَّ
أن روبنسون كروزو كان يعاني من وحدته، أما أنا فكانت لديَّ تلك الصحبة الممتعة. نظر
الفرخ إليَّ وغمز بعينه من الأمام إلى الخلف، كما تفعل الدجاجة، وأصدَرَ صوتَ سقسقة
ثم بدأ ينقر الأرض حوله في الحال، وكأن خروجه للحياة متأخرًا عن موعده بثلاثمائة
فمنذ اللحظة التي وجدتُ «! سعيد برؤيتك يا فرايداي » : عام لا يعني شيئًا. خاطبْتُه قائلًا
فيها البيضة وقد اكتمَلَ نموها في الزورق، عقدتُ العزم — بطبيعة الحال — على تسمية
كنتُ قَلِقًا قليلًا بشأن مأكله؛ لذلك أعطيته على الفور كتلةً من .« فرايداي » الفرخ إذا فقسب
أسماك الببغاء النيئة. أكلها، ثم فتح منقاره طالبًا المزيد. سُرِرتُ بذلك؛ إذ لو نما وسمن،
فربما أضطر — في ظل ظروفي هذه — أن آكله على أية حال.
ستندهش حين ترى كم كان ذلك الإيبيورنيس الصغير طائرًا مسلِّيًا. كان يتبعني في
كل مكان منذ البداية؛ اعتاد أن يقف إلى جواري ويراقبني بينما أصطاد من عين الماء،
ويقاسمني في كل ما كنت أحصل عليه من الصيد. كان حسَّاسًا أيضًا؛ فكان من المعتاد أن
تستقرَّ على الشاطئ أشياء خضراء مقزِّزة مليئة بالثآليل، تشبه الخيار المخلَّل، وقد تذوَّقَ
أحدَها فلم يعجبه، ولم يقرب أيٍّا منها ثانيةً قطُّ.
وكبر الفرخ، وكان بإمكانك أن تلحظ نموه. كانت طريقته الهادئة الودودة ملائمةً
تمامًا لطبيعتي غير الاجتماعية. ظللنا نحن الاثنان نعيش على مدار عامين تقريبًا في أقصى
درجات السعادة الممكنة على تلك الجزيرة. لم تساورني مخاوف بشأن عملي؛ فقد كنت
على علمٍ بأن راتبي يتجمَّع شهرًا بعد الآخَر لدى دوسن. كنا نرىشراعًا بين الحين والآخَر،
لكنْ ما من قاربٍ ولا سفينة اقترَبَ منَّا البتَّة. نجحتُ أيضًا في تسليةِ نفسيبتزيين الجزيرة
بتصميماتٍ مزجتُ فيها بين قنافذ البحر والأصداف الملوَّنة المُبهِجة بمختلف أنواعها. كتبتُ
في جميع أنحاء الجزيرة تقريبًا، بأحرف كبيرة، كالتي تراها « جزيرة الإيبيورنيس » كلمة
مصنوعةً من الحجارة الملوَّنة في محطات السكك الحديدية في مسقط رأسي، كما دوَّنتُ
عملياتٍ حسابيةً وصنعتُ رسوماتٍ لمختلف الأشكال. اعتدتُ أن أتَّكِئ مسترخيًا وأشاهد
الطائر الميمون وهو يخطو متجوِّلًا ويكبر أكثر فأكثر، وأفكِّر في المال الذي يمكن أن أجنيه
إذا عرضتُه على الناس في حالِ غادرتُ تلك الجزيرة يومًا ما. صار الطائر حسنَ المنظر
بعد تبديلِ ريشه لأول مرة؛ إذ ظهر له عُرْف، وغَبَب أزرق، وكثير من الريش الأخضر في
ظهره. ثم اعتدْتُ التساؤلَ عمَّا إذا كان لشركة دوسن أيُّ حقٍّ في المطالَبة بالحصول على
الطائر. كان من عادتنا خلال الجو العاصف وفي موسم الأمطار أن نستلقي متضامَّيْن تحت
الملجأ الذي صنعتُه من زورقي القديم، وأمُضيالوقتَ في سرد الأكاذيب حول أصدقائي في
موطني، حتى إذا ما انقضت العاصفة، كنا نخرج من الملجأ متجولَيْن في الجزيرة بحثًا عن
أيشيءٍ يكون قد دفعه التيار إلى الشاطئ. يمكنك أن تعتبرها جنةً خالية من الهموم، ولو
كان لديَّ فقط بعضُالتبغ، لَصارت أشبهَ بالفردوس.
عندما شارَفَ العام الثاني على الانتهاء، حدث ما أفسَدَ جنتنا الصغيرة. كان طول
فرايداي يبلغ حينها حوالي أربع عشرة قدمًا، من قدمَيْه إلى منقاره، برأسٍ عريض وكبير
يشبه رأس الِمعْوَل، وعينين كبيرتين بنيَّي اللون أصفرَي الجفن، وكانتا متقاربتين كعينَي
الإنسان، لا متباعدتين كعينَي الدجاجة. كان ريشه ناعمًا، ليسكئيب المنظر كريشالنعام،
بل أشبه بريش طائر الشبنم في لونه وملمسه. ثم بدأ فرايداي يصوِّب عُرفه نحوي ويغترُّ
بنفسه ويُبدِي بوادرَ سوء الأدب …
في النهاية، جاء الوقت الذي تعثَّرَ فيه حظي في الصيد بعض الشيء، وبدأ فرايداي
يحوم حولي بطريقة غريبة ونظرات متمعنة. حسبتُ أنه ربما يكون قد تناوَلَ بعضًا من
خيار البحر أو ما شابه، لكنها كانت علامات السخط والضجر من جانبه. كنت جائعًا أنا
الآخَر، وحين ظفرت بسمكة في نهاية المطاف أردتُها لنفسي. كان الانفعال في ذلك الصباح
سيدَ الموقف ومسيطرًا على كلٍّ منا؛ فراح ينقر السمكةَ بمنقاره واختطفها، فوجَّهتُ إليه
«… ! ضربةً على رأسه ليبتعد، وحينها أقبَلَ نحوي مهاجِمًا. يا إلهي
ثم ركلني. كانت » : ثم أردَفَ «. ترك هذه على وجهي » : قال الرجل مشيرًا إلى الندبة
كركلة فرس، لكنني نهضت، وحين رأيته عازمًا على مواصَلة هجومه، بادرتُ بالهجوم
بأقصىسرعةٍ مُحتَمِيًا بوضع ذراعيَّ مطويتين أمام وجهي، غير أنه هُرِع برجلَيْه الخرقاوين
بسرعةٍ تفوقسرعةَ فرسالسباق، وظلَّ يوجِّه إليَّ ركلاتٍ باطشة، ويضرب بمنقاره مؤخرةَ
رأسي. توجَّهت إلى البحيرة وغطست بها حتى رقبتي، فتوقَّف عند حافتها؛ لأنه كان يكره
ابتلالَ رجلَيْه، وبدأ يُصدِر صوتَ زمجرة؛ شيئًا يشبه صوتَ الطاوُس لكنه أكثر خشونةً،
وراح يتبختر في مشيته على طول شاطئ البحيرة جَيْئةً وذهابًا. لا أنكر أنني شعرتُ بالصَّغَار
والمَهانة وأنا أرى هذا الطائر المنقرض اللعين وهو يتصرَّف كأنه سيدُ الجزيرة. كان الدم
يسيل من رأسيووجهي و… حسنًا، كان جسدي عبارة عن كتلة هلامية من الكدمات.
قرَّرتُ أن أسبح إلى الجانب الآخَر من البحيرة وأتركه وشأنه قليلًا إلى أن تنتهي
المشكلة، وتسلَّقتُ أعلى نخلة على الجزيرة وجلست هناك أفكِّر بالأمر برمَّته. لا أعتقد أن
شيئًا ما سبَّبَ لي كلَّ هذا القدر من الألم النفسي قبل تلك الواقعة ولا بعدها. إنه الجحود
الشَّرِس الذي أبداه ذلك المخلوق. لقد كنتُ أكثر من أخٍ بالنسبة إليه، لقد فقس على يديَّ
وأنا مَن ربيته. طائر أرعن ضخم عَفَاه الزمن! وأنا، الإنسان، وريثُ العصور والأزمان.
ظننت أنه سيبدأ هو نفسه بعد حينٍ في رؤية الأمور من هذا المنظور، وسوف يشعر
بقليلٍ من الأسف حيالَ تصرُّفه. حسبتُ أنني إنْ صدْتُ قليلًا من الأسماك اللذيذة وأقبلتُ
عليه توٍّا بأسلوبٍ متبسط تلقائي وقدَّمت إليه الطعام، فربما يُحسِن التصرُّفَ ويعود إلى
صوابه. احتجتُ إلى بعضالوقت حتى أدرك مدى القسوة والشراسة التي قد يُبدِيها طائرٌ
منقرض. يا له منشرير!
لن أخبرك بكل الحِيَل الوضيعة التي جرَّبتُها في سبيل التحايُل على ذلك الطائر
وترويضه مرةً أخرى؛ لأنني ببساطة لن أستطيع. إن وجهي لم يزل ينضح بالحمرة خزيًا
وعارًا حتى الآن كلما تذكَّرتُ الإهانات واللكمات التي تلقَّيْتُها من هذا الكائن الغريب اللعين.
جرَّبتُ العنف، فألقيت عليه من مسافةٍ آمِنةٍ كتلًا من المرجان، فلم يكن منه إلا أن ابتلعها.
رميتُه بمِطْواتي المفتوحة وكدت أفقدها، لولا أنها كانت كبيرة فلم يتمكَّن من ابتلاعها.
حاولتُ تجويعَه؛ فتوقَّفتُ عن الصيد، لكنه اتجه إلى التقاط الديدان التي يخلفها الجَزْر على
طول الشاطئ، وواظَبَ على ذلك بالرغم من صعوبته. كنت أمُضينصفَ وقتي مغمورًا في
البحيرة حتى رقبتي، والنصفَ الآخَر مستقرٍّا فوق أشجار النخيل. لم تكن إحداها مرتفعةً
بما يكفي، وحين أمسَكَ بي فوقها أقام وليمةً على رَبْلة ساقي وأوسَعَها عضٍّا ونقرًا. لم
يَعُد الأمر محتملًا. لا أدري إنْ كنتَ قد جرَّبتَ في حياتك النومَ أعلى نخلة؛ لقد عانيتُ خلال
نومتي تلك من أسوأ الكوابيس وأشدها فزعًا. تخيَّلْ ما ينطوي عليه الأمر من خزي أيضًا!
فها هو ذلك الحيوان المنقرضيتسكَّع في أنحاء جزيرتي كملك ناقم، أما أنا، فمحظورٌ عليَّ
أن أطأها. اعتدتُ أن يصل بي الإنهاك والغيظ حد البكاء. أخبرته مباشَرةً أنني لم أقصد
البتَّة أن أكون طريدةً فوق جزيرة مهجورة لأي كائنٍ لعينضلَّ طريقَه إلى زمان غير زمانه.
رجوتُه أن يرحل ويجد شخصًا آخَر غيري ليزعجه، لم أجد منه جوابًا سوى أن نقرني
بمنقاره. يا لك من طائر ضخم قبيح، ليس فيك سوى أرجل ورقبة!
لا أودُّ أن أخبرك كم من الوقت مضى ونحن على هذا الحال. كنت سأبادر بقتله لو
كنت أعرف سبيلًا إلى ذلك، لكنني توصَّلتُ في النهاية إلى وسيلةٍ للتخلُّص منه. إنها حيلة
من أمريكا الجنوبية؛ ربطتُ كلَّ خيوط الصيد التي أملكها بسيقانٍ مجموعةٍ من الطحالب
البحرية وما شابَهَها، وصنعتُ حبلًا متينًا ربما بلغ طوله اثنتي عشرة ياردة تقريبًا أو
أكثر، وربطت في طرفَيْه كتلتين من صخرة مرجانية. استغرق الأمر مني بعض الوقت؛
فقد كنت أضُطر إلى نزول البحيرة أو تسلُّق النخيل بين الحين والآخَر كلما دعت الحاجة.
أدرتُ الحبلَسريعًا فوق رأسي، ثم ألقيتُه على الطائر. أخطأته في المرة الأولى، لكنني أصبتُه
في التالية والتفَّ الحبل حول رجلَيْه مرةً تلو الأخرى، تمامًا كما أردتُ، وسقط أرضًا. كنت
واقفًا في البحيرة مغمورًا فيها حتى خصري حين ألقيت الحبل، ثم غادرتها بمجرد سقوطه،
وانقضضت على رقبته بسكيني وذبحته …
لا أحب تذكُّرَ ذلك حتى الآن. شعرتُ أنني قاتل وأنا أذبحه، بالرغم من سخطي الشديد
عليه. لما وقفت أراقبه ورأيت دمه نازفًا فوق الرمال البيضاء، ورجليه العظيمتين ورقبته
الجميلة تتلوَّى وهو في نزعه الأخير … تبٍّا!
بعد تلك المأساة، حلَّتْ عليَّ الوحدة مثل اللعنة. يا إلهي! لن تستطيع أن تتخيَّل كم
افتقدتُ ذلك الطائر. جلستُ بجوار جثته وأسفت لموته، وانتابتني رجفةٌ وأنا أجُيل بصري
في أرجاء تلك الجزيرة المرجانية المُوحِشة الساكنة. تذكَّرت كم كان فرخًا ظريفًا حين خرج
من بيضته، وعاودتني ذكرى مئات الحِيَل والحركات اللطيفة التي كان يؤدِّيها قبل أن
يسوء حاله ويَئُول أمره إلى ما صار عليه. خطر ببالي أنني لو كنت اكتفيت بجرحه فقط،
فلربما أمكنني مداواته وإعادته إلى صوابه. كنت سأدفنه لو كانت لديَّ أية وسيلة للحفر
في الصخرة المرجانية. لقد شعرت حقٍّا كأنه آدمي؛ ومن ثَمَّ لم أستطع التفكيرَ في أكله،
ولم يكن أمامي سبيلٌ سوى إلقائه في البحيرة، وتولَّتْ أسماكها الصغيرة إخلاءَ عظامه من
اللحم. لم أحتفظ حتى بريشه. وذات يوم، مر عليَّ رجلٌ كان يَجُوب البحر بيخته يَحْدُوه
شغفٌ باكتشافِ ما إذا كانت جزيرتي لم تزل موجودة.
كاد الرجل يأتي بعد فوات الأوان؛ فقد سئمت الوحدة وبلغ الضجر مني مبلغه، وكنت
متردِّدًا فقط بين إلقاءِ نفسي في البحر ليبتلعني، والانكبابِ على تلك الطحالب الخضراء
للتغذِّي عليها …
بعت العظامَ لرجلٍ يُدعَى وينسلو — وهو تاجر يقع متجره بالقرب من المتحف
البريطاني — ويقول إنه باعها لهافرز العجوز. يبدو أن هافرز لم يفطن إلى أن حجم
العظام أكبر من المعتاد، ولم تلفت الأنظار إلا بعد موته. لقد أطلقوا عليها اسم إيبيورنيس
«. … لا أذكر بقية الاسم
إيبيورنيس فاستس. يا له من أمر غريب! لقد أخبرني صديقٌ لي بالشيء » : قلت له
ذاته. حين وجدوا طائرَ إيبيورنيس يبلغ طولُ عظمة فخذه ياردة كاملة، ظنوا أنه أكبرُ
أفرادِ جنسه، فأطلقوا عليه اسم إيبيورنيس ماكسيمس، ثم ظهر آخَرُ بعظمةِ فخذٍ طولها
أربع أقدام وست بوصات أو أكثر، فسمَّوه إيبيورنيستيتان، ثم عثروا على عظامِ طائرك في
مجموعةِ هافرز العجوز بعد وفاته، فسمَّوه إيبيورنيسفاستس، وأخيرًا اكتشفوا إيبيورنيس
«. فاستيسيمس
أخبرني وينسلو بشيءٍ من هذا القبيل. إنه يتوقَّع زخمًا علميٍّا » : ردَّ الرجل ذو الندبة
وجهودًا بحثية مكثفة لو أنهم وجدوا المزيدَ من ذلك المخلوق. لكن ما مررتُ به كان أمرًا
«؟ عجيبًا؛ أليس كذلك؟ … أَلَا تتفق معي