hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

في المرَّة الأخيرة التي زرتُ فيها إمارةَ موناكو، وجدتُ أنَّ المجتمعَ ذا الفكر المستنير حانقٌ
وناقمٌ على كلِّ ما هو أمريكي، حتى إني لاحظتُ عداءً مقنَّعًا في سلوك السيد إم بيرج،
الذي استقبلَني بحفاوةٍ ولطفٍ في السابق. بعد أن فرغتُ ،« بو ريفاج » أحدِ موظفي فندق
من طعامِ فَطوري الذي ظلَّ النادلُ خلالَه ينظرُ إليَّ شَزْرًا بوضوح لا يخفَى، ذهبتُ لأُلقيَ
التحيَّةَ على ممثِّلِنا الدبلوماسيِّ وأحدِ معارفي القدامى من ولاية أوهايو. كان وجهُ القنصُلِ
شاحبًا هزيلًا كأنما يُعاني من قلَقٍ متمادٍ. كان يضعُ اللمساتِ الأخيرةَ لهندامِه المنمَّقِ
والأنيق.
«؟ ما الذي يُزعجُكَ لهذه الدرجةِ يا جرين » : سألتُه مستفسرًا
تنهَّد القنصلُ المرَّةَ بعد المرَّةِ وهو يصوغ الإجابةَ؛ فقد كانتْ إحدى عاداتِ رفيقي
المدهش هذا أن يُزيِّن حديثَه الاعتياديَّ بالأساليب البلاغية والصِّيَغ الجَزْلة كأنه يخُطُّ
خطابًا رسميٍّا. كانتْ هذه العمليةُ تستغرقُ وقتًا قلَّ أو كثُر، لكنَّ النتيجةَ دائمًا ما تكون
ذاتَ وقْعٍ في النفس وتُثيرُ الإعجاب.
لِزامًا عليَّ أن أخُبركَ أنَّ العلاقاتِ الطيبةَ التي كانت واستمرَّت بين » : أجاب قائلًا
الولاياتِ المتحدة الأمريكية وإمارةِ موناكو فيما مضى، على شفا أزْمةٍ ملغَّمةٍ بالأخطار.
وأظنُّ أنَّ الأحداثَ الجاريةَ تُثبتُصحَّةَ التخوُّفاتِ التي كنتُ أعُرب عنها بين الحين والآخر في
محادثاتي مع وزارةِ الخارجية في واشنطن؛ فربما يكونُ من الحماقة أن نُخفيَ حقيقةَ أن
موقف بلاط الأمير تشارلز الثالث ليس موقفًا ودودًا تجاهَ حكومتِنا بأيِّ حالٍ من الأحوال،
حربنا مع إمارة موناكو
أو نغضَّ الطَّرفَ عن أن الوضعَ الراهنَ يتطلَّبُ منَّا أعلى درجاتِ اليقظةِ وأحصفَ قدْرٍ
من الدبلوماسية في التعامل. ويُشرفُني أن أضُيفَ أنني سأزنُ تصرُّفاتي بميزان الحكمة
«. والحزْم معًا
«؟ عظيم! ولكنْ علامَ هذا النزاعُ أصلًا » : قلتُ له
هذا التفاقُمُ تَسبَّبَ فيه أمران؛ حاشيةُ الأمير » : ردَّ على سؤالي وهو يُشدِّدُ على أول عبارة
الماكرة وما تحيكُه من دسائسَ خبيثةٍ من جانب، وسلوكُ الأمريكيين هنا وفي مدينة نيس،
«. وأخصُّبالذِّكر تايتس
«؟ ومَن هو ذا الذي تدعوه تايتس »
إنه جورج واشنطن تايتس؛ رجلٌ يُنغِّص وجودُه » : ردَّ وقد مُلِئتْ عيناه غمٍّا وكآبةً
حياتي الِمهنيَّة وتُكدِّرُ أفعالُه صفْوَ مائِها. ومع ذلك ما زلتُ أنصاعُ وأَنطوي تحت وطْأةِ
نفوذِه العجيب الذي يمارسُه عليَّ وعلى غيري ممَّن يحتكُّ بهم. جورج واشنطن تايتس هذا
هو مصدرُ تهديدٍ لا ينضُبُ للسلام الذي تمَّ الحفاظُ عليه بين الولايات المتحدة وموناكو
حتى الآن. ولكن عندما أكون بصحبته، لا أقدرُ إلا أن أنجرفَ في سَيل حماسه الطائش
الذي جُبل عليه. ولْأقُحِمْ بعضَالعاميَّة في كلامي؛ منذ وصولِه وأنا في موقفٍ لا أحُسَدُ عليه!
اعذرْني على ما سأقوله؛ ولكني أحُدِّثُ نفسيأحيانًاسرٍّا بصفةٍ شخصيةٍ بعيدًا عن منصبي
«! الرسمي وأَسُبُّ جورج واشنطن تايتس وأَلعنُه
«. احْكِ لي؛ فأنا ما زلتُ حصيفًا كما عهِدتَني » : علَّقتُ على كلامه وقلتُ
القصةُ يطولسرْدُها، فكما هي شيمةُ كلِّ القضايا ذاتِ الأهمية الدولية؛ » : أكمَل وقال
التفاصيلُ كثيرةٌ ومعقَّدة. سأجُري مقابلةً بعد قليل مع وريثِ العرش، وسأطلبُ رسميٍّا
«. تفسيرًا لعدَّةِ أمور. رافقْني إلى القصر، وسأطُلعُكَ على الحقائقِ أثناء سيْرِنا
كان القصرُعلى بُعْدِ خطواتٍ من القنصلية الأمريكية، وبدأسرْدُ القنصلِ يتوالَى رويدًا
رويدًا نظرًا لهيبة الأحداثِ وتوقيتها الحَرِج. ولفَهْمٍ أفضلَ، سأدُمِجُ فيما يلي بين ما قصَّه
عليَّ في ذاك الوقتِ وما اطَّلعتُ عليه من أمور بعدئذٍ حول هذا النزاعِ.
منذ عام ١٨٦٩ ، عندما ألغَى الأميرُ تشارلِز الثالث الضرائبَ المفروضة، أصبحَت
طاولاتُ الميسر في الملهى المصدرَ الوحيد لإيرادات حكومةِ موناكو، وازداد رعايا الأمير
الذين قاربوا على السِّتَّة آلافِ شخص، رخاءً وسعادةً؛ فهم لا يدفعون الضرائب، ويسلبون
المسافرين الكثيرين أموالَهم. كان إيرادُ الملهَى ضخمًا أيَّما ضخامة حتى إنه غطَّى جميع
النفقاتِ الإدارية، ودعم البلاطَ الملكيَّ دعمًا يليق بعظمة أقدمِ عائلة حاكمة في القارة
الأوروبية؛ فنَسَبُ الأميرِ تشارلِز كان يتصلُ اتصالًا مباشرًا بأسرة جريمالدي التي تولَّتْ
مقاليدَ الحُكمِ في القرن العاشرالميلادي، وبعد هذا كلِّه، يتبقَّى من ذلك الإيرادِ فائضٌسنويٌّ
سخيٌّ كان يُقتَطعُ جزءٌ منه ويُخصَّصُلمنظومةٍ من التحسينات الداخلية.
وعلى ضَوء تلك السياسة، عُقِد العزمُ قبل عام من الآن لتفجير جُلمودٍ ضخمٍ على ثغْر
الخليجِ الواقع خلفَ القصر؛ فقد كان أسطولُ الأميرِ البحري الذي عتادُه سفينةٌ بخارية
تَزِنُ قرابةَ اثنَي عشرَ طنٍّا وعلى ظهرِها مدفعٌ دوَّار، يعتادُ أن يرسوَ في ذاك الخليجِ عندما
لا يكونُ منخرطًا في إحدى المناوراتِ أو المهامِّ؛ وكان ذلك الجلمودُ الصخريُّ يُعيقُ حركةَ
دخولِ الأسطول وخروجِه. وكان عقْدُ أعمالِ الإزالةِ الذي وُقِّعَ بيَدِ رواسيو؛ وزيرِ البحرية،
من نصيبِ المهندس الأمريكي تايتس.
كان الأمريكيون، حتى خطا تايتس أولَ خطوةٍ له في موناكو، يتمتَّعون بشعبيةٍ لدى
رعايا الأمير؛ فقد كانوا يُنفقون أموالَهم بسخاء، ونادرًا ما يُجادلون الفنادقَ أو المقاهيَ
أو المتاجرَ في أسعار خدماتِهم، كما كانوا يُساهمون في إيرادات الملهَى مساهمةً كبيرةً.
وهكذا، كان المسارُ الرسميُّ أمام صديقي القنصلِ مفروشًا بالورود. حتى تايتس نفسه
حَظيَ بالكثير من الثناء والمدْحِ في البداية؛ فقد كان رجلًا وسيمًا فارعَ الطول من مدينة
بالتيمور، وكبيرَ المهندسين في جيش الاتحاد. كان بصحبة الرجالِ رجلًا لطيف المعشر،
صاخبًا وعِربيدًا في بعضالأحيان، وكان شهمًا متأدِّبًا في تعامُلِه مع سيدات البلاط، وبارعًا
في تعامله مع تلك الصخرة المقيتة؛ فتنعَّم في موناكو بنجاحٍ باهرٍ حينًا من الزمان. تابع
الناسُ بأعيُنٍ مُلئَتْ فخرًا عملياتِ فريقه من الغوَّاصين، وشُغْلَ جرَّافتِه المائية، ووصولَ
وتفريغَ عُلَبِ الديناميت القصديرية المربَّعة التي أرُسلتْ إليه من مارسيليا. كان إلى حدٍّ ما،
يُنظر إليه كأنه إحدى قُوَى الطبيعةِ الغامضة؛ ولذلك كان الناسُمنه في خِيفةٍ ورهبة. ومع
هذا، كانت جدارتُه باحترام السُّكَّان ووُدِّهم أمرًا مسلَّمًا به.
لكنْ سرعانَ ما جلَب عليه سوءُ حظِّه سخَطَ واستياءَ عدَّةِ شخصياتٍ ذاتِ نفوذٍ
وسُلطة. ورغمَ أن تايتس لم يكن يهتمُّ لذلك ولم يَطرِفْ له جَفنٌ إذا ما عبَس في وجهه
أحدٌ من عِلْيةِ القوم في شبْهِ الجزيرة، فإن القنصلَ كان يَشعُرُ أنه نوعًا ما مسئولٌ عنه وعن
تصرُّفاتِه، ومنذ ذلك الحينِ وهو يشعرُ كمَن يدوسُ بقدمَيه فوق أرضٍفُرشَتْ شوكًا. كان
انحطاطُ هيبةِ تايتس وانحدارُها نتيجةً لأسبابٍ عدَّة.
في ليلةٍ من الليالي كان ثَمِلًا، فطرَح القائدَ الأعلى للجيش، ويُدعَى إم دي موسلي، أرضًا
بعد أن تجرَّأَ وأبدَى اعتراضَه على ما فعلَه تايتس من صِياحٍ في الميدان العامِّ أمامَ القصرِ
مقلِّدًا صيحاتِ الحربِ عند هنود أمريكا. وفي الصباح التالي، تلقَّى من ذلك المحاربِ الثائرِ
دعوةً للتحدِّي. فضحِك تايتس، ثم اقترح أن يتنافسَهو ودي موسلي في سِباقِ سباحةٍ جنوبًا
عبرَ مياهِ البحر المتوسط إلى أن يغرقَ أحدُهما من التعبِ. رفَع النائبُ العامُّ إم جويبت هذا
النزاعَ إلى المحكمة العليا، لكن نجَح القنصلُ جرين في إخمادشَرارِ الأمرِ وإنهائِه.
ثم أعقب ذلك نكبةٌ أخرى أشدُّ وأنكى من واقعة دي موسلي؛ ففي خِضَمِّ حفْلٍ راقصٍ
فخْمٍ، رفضتايتسعن عمْدٍ طلبَ الأميرة فلورستين؛ شقيقةِ الأمير الحاكم، بأن يرقُصَمعها
رقصةَ البولكا للمرة الخامسة. هذه السيدةُ المبجَّلةُ هي أرملةٌ استطاعتْ أن تُحافظَ على
رغباتِ ونزواتِ شابَّةٍ عذراء رغمَ سنواتِها الخمسين وجسدِها ذي المائتي رطْل. إذا صدقنا
الشائعات، فلم تكن هذه المرأةُ لتميل لهذا المهندس الأمريكي الوسيم. وعندما سُئل تايتس
كنتُ قد رقصتُ معها » : منصديقٍ له عن سبب اختياره أن يقفَ في وجْهِ وليِّ نعمتنا، أجاب
أربعَ مرات! وعلى هذه السيدة العجوزِ أن تتذكَّرَ أن الناس تذهبُ لحفلات الرقصِ لتمرحَ
تنامى تعليقُه هذا إلى آذانِ الأميرة، ومن ذلك الحينِ فصاعدًا، سخَّرتْ كلَّ «. وتحظى بالمتعة
طاقتِها للقضاء على تايتس نهائيٍّا.
بعد ذلك، جرَّ الأمريكي المنحوسُ على نفسه خصومةَ وعداءَ كلِّ رجالِ الإدارة ذوي
النفوذِ في الملهى؛ بتقديم لُعبةِ البوكَر كلعبةٍ منافسة، في الحفلات الخاصة، للُعْبتَي الرُّولِيت
والأحمر والأسود اللتين تُسيطران على اهتمام رُوَّاد الملهَى. انتشرتِ اللُّعبةُ الجديدةُ كالنار
في الهشيم؛ وفي موناكو ونيس بدأ الناسُ يخسرون أموالَهم أمام بعضِهم بعضًا، بدلًا من
خسارتِها لصالح الملهى كما في السابق، وانخفضتْ إيراداتُ الملهَى إلى النصفِ أو يزيد.
وسعتِ الإدارةُ إلى الحصولِ على بيانٍ من السلطاتِ الكنسيَّةِ تُؤكِّدُ فيه أن هذه اللُّعبةَ منافيةٌ
للأخلاق والآداب، ولكن ذهَب سعيُها أدراجَ الرياح! ظلَّ الناسُ يلعبون البوكر، والأمَرُّ من
ذلك كلِّه، أن تايتس وحواريِّيه قد وجَّهوا هذه الآلةَ الجديدة الغاشمة صوْبَ رعايا الأمير
وجرَّدوهم من أموالهم. كان ذلك أمرًا مُفزعًا لا سابقةَ له، وقد أثار استياءً دفينًا. كما شاع
أنه لم يربحْ أحدٌ قطُّ ثلاثةَ عشرَ ألفَ فرنك في ثلاثة أدوار متتالية في لُعبة الروليت سوى
صاحبِ السيادة توريه؛ كبيرِ موزِّعي الصدقات، ثم خَسِرما ربحه كلَّه الليلةَ التاليةَ في لُعبةِ
البوكر أمام تايتس. ليس هذا فحسب، بل شاعَ أيضًا أنه اضطُرَّ إلى أن يكتبَ وصْلًا بمبلغ
كبير كدَين عليه للأمريكي. هذا غَيضٌمن فَيض.
وعندما كان رخاءُ سكَّانِ موناكو يعتمد كليٍّا على ازدهار إيراداتِ الملهى، تنامَى على إثرِ
ذلك سخطٌ شعبيٌّ عارمٌ ضدَّ الأمريكيين وبالأخصِّ تايتس. فشقَّتْ قضيةُ البوكر طريقَها
بين الساسة وتداولوها، ولم يدخر أعداءُ تايتس جهدًا للطعن فيه في حضرةِ البلاط الملكي،
ولم يتركوا بابًا لإشعالِ نارِ التعصُّبِ لدى العامة إلا وطرَقوه.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.