hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

وكماسردتُ لكم، كان ذلك هو ما حدَّثني به القنصلُ جرين عندما رافقْتُه إلى القصر.
وعلى أعتابِ القصرِ الذي توارثَه أحفادُ أسرةِ جريمالدي، قابلْنا حاجبًا بهيٍّا يرتدي
سلسلةً غليظةً من ذهَبٍ فوق صدر ثوبِه المُخْمَليِّ القِرْمِزيِّ اللون، قادَنا عبرَ ساحةٍ داخليَّةٍ
ثم ارتقيْنا دَرَجًا من رُخام، وما إن وصلْنا إلى قِمَّتِه، حتى سلَّمْنا بانحناءةٍ جليلةٍ إلى معيَّة إم
بونسار، قائدِ حرَسِ القصرِ. ثم أرشدَنا بونسار هذا بدَورِه عبرَ رُواقٍ طويل، فيه مجموعةٌ
من الأجنحة الفاخرة، إلى مكتب رئيسِ الديوان الملكي الذي تأخَّر قليلًا قبلَ أن يقودَنا إلى
حضرةِ كبيرِ مُوزِّعي صدقاتِ أهلِ بيتِ الأميرِ. كانتْ هذه الشخصيةُ الرفيعة مقامًا تجلسُ
خلفَ مكتبٍ منخرطةً في الكتابة. وجَّه التحيَّةَ إلى جرين واستقبلَه بحفاوة، كان على علْمٍ
بأن جنابَ الوزيرِ الأمريكي قد جاء في زيارةٍ رسميةٍ مُزمَعة هذا الصباح مع الأمير وَريثِ
العرش، لكنْ كان سُموُّه وفخامتُه يستعرضالجيشَآنذاك في السَّاحة أمامَ القصرِوسيعود
عمَّا قريب. وإنْ شاءَ جنابُ الوزير وصديقُه وأحبَّا أن يُشاهدَا الموكِبَ الاستعراضي، فكانت
هناك إطلالةٌ رائعةٌ على ساحة القصرِ من شُرفةِ قاعةِ الفنِّ والإلهام؛ وهو الجناحُ الثالث
على اليسار. سيقودُنا الحاجبُ إلى هناك.
«! ما ألطفَه من عجوزٍ نبيل » : علَّقتُ ونحن نتبعُ الحاجبَ إلى قاعة الفنِّ والإلهام
ذلك الرجل الخارق هو صاحب السيادة توريه، » : همَسجرين وقد شابَ صوتَه رهبةٌ
داهيةٌ من دواهي رجال الدولة في أوروبا، ونفوذُه في البلاط الملكي لا حدودَ له تقريبًا؛ فهو
يجمعُ ما بين السُّلطة الكنسية والعلمانية؛ فهو مسئول بابويٌّ ومَطْران في الكنيسة، وفي
الوقت ذاتِه، هو كبير موزِّعي صدقات الأسرة الملكيَّة، ومُشرِفُ الصالة الثالثة بالملهى، وهو أحد القادة الرئيسيين للزُّمرة الكارهةِ لتايتس والناقمةِ عليه. هو أيضًا يكرهُني بشدَّة،
«؟ ولكنه يهابُني ويخشاني في الوقت نفسه. أَلاحظْتَ كيف تمكَّنَ من إخفاءِ مشاعرِه
«! ما يُدهشُني وأجدُه مضحكًا هو تعدُّدُ الأدوارِ الوظيفيةِ هذا » : قلتُ له
هذا أمرٌ ضروريٌّ هنا في موناكو، حيث إجمالي عددِ » : ردَّ جرين بنبرةٍ رزينةٍ تمامًا
السكَّانِ ليس بالضخم؛ فإليكَ مثلًا كبيرَ أمُناءِ القصرِالذي يسيرُ أمامنا هذا، وقائدَ حرَسِ
القصر، والحاجبَ ذا السلسلةِ الذهبيَّة، إذا جَنَّ عليهم الليلُ تراهم يشتغلون كموظَّفين في
الملهى. حتى النبيل فولفير؛ وزير الخارجية الحاصل على وسام جوقةِ الشرف من رُتبةِ
فارس، يعملُ قائدًا لفِرقةِ الملهَى الموسيقية؛ فهو موسيقيٌّ بارعٌ ومعاملتُه لنا ولمصالحنا
ودودةٌ بالنظر إلى أنِّي قد قدَّمتُ له بعضَ الخدماتِ البسيطةِ ذاتِ الطبيعةِ المالية، لكن
والحقُّ يُقالُ، هذا النبيلُ متخاذل متزعزِعٌ ولا يَفقه شيئًا في شئونِ السياسة؛ فهو لا يعدو
كونه أداةً طيِّعةً في يد صاحب السيادة توريه الذي لا يَعرفُ طموحُه حدودًا، تمامًا مثل
«. قُدراتِه الشيطانية
غادرَنا كبيرُ أمناءِ القصر عندما وصلْنا إلى الشرفة. من تلك الشرفةِ لم نحظَ برؤيةٍ
شاملةٍ للساحة أسفلنا فقط، بل بإطلالةٍ على الإمارةِ بأكملِها تقريبًا، حتى إنَّ المرءَ كان
بإمكانه أن يُطلقَ رصاصةً من مسدسِه لتسقط غربًا أو جنوبًا بين أمواج البحر المتوسط،
أما الحدودُ الفرنسية فقد كانت تقبعُ شمالًا وعلى بُعْد رصاصةٍ أيضًا، ولكن رصاصة من
بُندقيَّة. كانت أبنيةُ القصرِ تحجبُ الجانبَ الشرقي، لكن جرين أخبرني أن حافةَ البحر،
حيث الشرمُ الصغير الذي اعتاد الأسطولُ الملكي أن يرسوَ به، كانت على مقرُبةٍ مِنَّا. أمَّا
أمامنا، فكنَّا نرى الملهى، والواجهاتِ الطويلةَ المزخرفة، ومنصَّةَ الفرقةِ الموسيقية المدورة،
والمسرح، والمطاعم، والسوق وما به من متاجر. وفوق ذلك الموقعِ الخلَّاب، كان هناك مُنْطادٌ
مقيَّدٌ بحبلٍ يمكن للزُّوَّار أن يَصعدوا على متْنِه فيرتفعَ بهم المنطادُ قدْرَ طول الحبل لقاء
عشرين فرنكًا.
حوَّلتُ ناظِرَيَّ من ذاك المُنْطادِ العالي إلى المشهدِ الكبير في الساحة الواسعة أمام القصر.
كانت الممرَّاتُ والسلالمُ والنوافذُ والمداخلُ مكتظَّةً برعايا الأمير تشارلز الثالث المخلصين.
وتحت الشرفةِ مباشرةً، كان وريثُ العرشيجلسساكنًا تمامًا علىصَهْوة جَوادٍ أدهمَ فحْل.
وكان الجيشُ الموناكي وعلى رأسِه القائدُ الجَسور دي موسلي، يزحفُ تارةً ويتقهقرُ تارةً
أخرى أمام الأمير في استعراضٍلمهاراتهم في كلِّ جانبٍ من جوانبِ العلومِ العسكريةِ الحديثة
والمتطورة. قدَّم اثنان وثلاثون جنديٍّا في زِيِّهم الأحمرِ ذي الأشرطة البيضاء أداءً مبهرًا في
هيئةٍ مَهيبةٍ وهم يتحرَّكونَ إقبالًا وإدبارًا في تشكيلٍ رائعٍ وفعَّالٍ تحتَ قيادةِ دي موسلي؛
فقد درَّبهم القائدُ الأعلى للجيشعلى السير بتلك الِمشيةِ العسكريةِ التي يدفعون فيها أرجلَهم
للأمامِ بشراسةٍ وقوة؛ وهي الطريقةُ التي كانت تُدرَّسُ في فنِّ التنظيمِ الحربي البروسي.
وعندما جاءوا يدبُّون بأقدامهم على أرض الميدان في صفوفٍ متراصَّةٍ من أربعةِ جنود،
أعادوا تشكيلَ أنفسِهم على نحوٍ مفاجئٍ إلى صفَّين من ستَّة عشر جنديٍّا ثم توقَّفوا أمام
الأمير وريثِ العرش، بعدها خفضوا أسلحتَهم وضربوا الأرضَ بها، فعَلَا صوتُ اصطدامِ
اثنتين وثلاثين بندقيةً بالبلاط في وقت واحد. ارتفعت أصواتُ الهُتاف والاستحسان من
المتفرِّجين المسرورين المرَّة تِلوَ الأخرى، بينما ارتسمت فورًا ابتسامةُ فخرٍ ورِضًا على وجْه
سُمُوِّه وفخامتِه.
حينها، لاحظتُ تصرفاتٍ غريبةً لشخصما في منتصف الميدان كأنه يحاولُ أن يجذبَ
انتباهَنا. وضَع أصُبعَين في فمِه وأطلق صفيرًا، ثم أخذ يُلوِّح بكلتا يدَيه في الهواء. ولمَّا أحسَّ
أن أملَه قد خاب ولا طائلَ من تلك الإشارات، خطَف بندقيةً من أقرب جنديٍّ له ثم رفَع
قلنسوتَه الحريريةَ ووضعها على فُوَّهةِ البندقيةِ ورفعهما عاليًا فوق رءوسالحشد. وعندما
أعاد البندقيةَ إلى ذلك المقاتل المَشْدوه، عبَّر عن ازدرائِه للجيش بإيماءةٍ ساخرة صامتةٍ
لحسن حظِّنا، ثم بدأ يَشُقُّ الصفوفَ بذراعَيه متَّجهًا نحونا.
إنه تايتس! دائمًا ما يُسيءُ إليَّ ويُعرِّضني للأذى بمثل هذه » : قال جرين متأوِّهًا
«. الأفعال
جاهَد القنصلُ عبثًا ألا يُعيرَ أخانا المواطنَ بالأسفل أيَّ اهتمامٍ لينتهيَ، فثبَّت نظرَه في
مرحبًا! » : اتجاهٍ معاكسٍ له، ولكن تايتس لم يكن ليُصَدَّ ويُزدرَى هكذا، فأخَذ يصيحُ قائلًا
وهكذا حتى استرعَى الانتباهَ ،«. أووه! جرين » : ثم يُتبِعُها بصياحٍ آخرَ ويقول «. جرين
الكاملَ لرفيقي الشاعر بالحرج.
احرصْ أن تعودَ إلى البيتِ قبل الثانيةِ ظهرًا يا جرين؛ فلديَّ » : صاح تايتس، وقال
ثم لوَّح بسرورٍ شديدٍ أمام أعينِنا بشيءٍ يُشبه وثيقةً رسميَّة، بعدها أسرَع «. أخبارٌ مهمَّة
مبتعدًا.
وعندما جاء كبيرُ أمناءِ القصرليستدعيَ جرين لمقابلتِه مع الأمير وريثِ العرش، عدتُ
أدراجي إلى القنصليةِ كي أنتظرَه. بعد ذلك لَحِق بي هناك قبل تمام الثانية بقليل، فبادرتُه
«؟ حسَنٌ، كيف صار الأمرُ » : باستفسارٍ
المستقبل غائمٌ وقاتم! لم يكن الاجتماعُ مُرضيًا إطلاقًا. ولكي » : ردَّ في توتُّرٍ قائلًا
ألُزمَ حكومةَ موناكو بأن تُحدِّدَ امتعاضَها في شكوى بعينها، طلبتُ من سُموِّه أن يُخبرَني
بصراحةٍ ما الذي فعلَه المواطنون الأمريكيون ليستاءَ وينزعجَ منهم؟ رمقني الأميرُ وحدَّق في
يا ألله! أنتم الأمريكيون ترفعون » : وجهي بعينَيه السوداوين الثاقبتَين، ثم تكلَّم أخيرًا، وقال
أصواتَكم عاليًا إذا تحدَّثتُم وأنتم جلوسٌ على موائد الطعام، وتُضايقون موظفي الملهى،
تنبَّهتُ «. وتُرهبون رجالَ الشرطة أمام أعيننا، وتُثيرون البغضاءَ نحوكم في أنفُس الآخرين
على الفور لتلك الإجابةِ المراوغةِ والماكرة، ومع ذلك تمكَّنتُ من كظْمِ غيظي. بعد ذلك، طرَح
سموُّه عليَّ بضْعَ أسئلةٍ جيدة عن المواردِ المالية والمادية للحكومة الأمريكية، وعن كفاءةِ
جيشِها وقواتها البحرية، ثم عن الديونِ والدخل السنوي وهلمَّ جرٍّا. من نافلةِ القولِ أنَّ
إجاباتي على كلِّ تلك الأسئلةِ جاءتْ حَذِرةً ومتحفِّظة. بعد ذلك ضغطتُ على الأمير ليُخبرَني
إنْ كان هناك أيُّ أساسٍ من الصحة لما يُقال إنَّ شخصيةً رفيعةً في البلاط الملكي لها
مصالحُ ماليةٌ في إثارةِ الاضطراباتِ بين الولايات المتحدة وموناكو. أكادُ أجزمُ أن الأميرَ قد
محض » جفَل من هذا الهجوم الشخصي، لكنه أجاب بالنفي وأشار إلى تلك الشائعةِ بأنها
عندها انتهى اللقاء، لاحظتُ على وجهِ صاحبِ السيادة توريهَ الماكرِ وأنا «! أقاويل باطلة
أهُمُّ بالخروج؛ تعبيرًا لم أفهمْه. كان الأمرُ أشبهَ بحالةٍ من البهجة التي ظهرت في توقيتٍ
«… غير ملائمٍ كما لو كانت
وهنا، قاطَع حديثَ القنصل دخولُ تايتس المفاجئ غيرُ المتروِّي ويتبعه ثلاثة أو أربعةُ
رجالٍ أمريكيين.
مرحبًا يا جرين، ما لي أراكَ حزينًا مغتمٍّا؟ سأزفُّ لك خبرًا » : قال ذلك الإنسانُ الفظُّ
«! تُسَرُّ له الآن
كانت نبرتُه بطَيْشها المعتاد يَشوبُها شيءٌ ما هذه المرَّة. شيءٌ ما أثار حفيظةَ جرين
وأخرجَه عن وقارِه الرسمي.
«؟ يا إلهي الرحيم! ماذا حدَث » : تعجَّب القنصلُ وقال متسائلًا
غمزَ تايتس بعينه إلى باقي رِفاقِه، ثم أخرج غليونًا من جيبه ومدَّ يدَه ليتناول علبةَ
التَّبغِ من فوق الطاولة. وبينما هو يفعلُ ذلك، قلَب محتوياتِ المحبرة فوقَ كومةٍ من الأوراق
الرسمية. لم يهتزَّ له جَفْنٌ إثرَ ما حدَث، فأخذ يملأُ غَليونَه بهدوءٍ وانشغل لبِضع دقائقَ
في نفْثِ حلقاتٍ كبيرةٍ من الدخان؛ الحلقة تلوَ الحلقة، ثم نفَث حلقاتٍ صغيرةً لتمرَّ وسطَ
الحلقاتِ الأكبر.
ألسْنا جميعًا أبناءَ أمةٍ واحدة » : ثم قال في النهاية موجِّهًا نظرةً استقصائية باتجاهي
فأومأتُ موافقًا. فأخرج تايتس الوثيقةَ التي رأيناه يُلوِّح بها في الساحة. «؟ وهي أمريكا
إليكم دعابةً! أخذتُ هذه الوثيقةَ ظهر اليوم من فوق لوحة الإعلانات » : ثم قال
والنشرات المعلَّقة أمام مكتب وزير الخارجية؛ بابا فولفير. ليسامحني الربُّ على هذه
«. السرقة! لكني فعلتُ ذلك لصالح بلادي
ثم استهلَّ القراءةَ وأخَذ يُترجِمُ نصَّالوثيقة من الفرنسية إلى الإنجليزية. استمعْنا إليه
ونحن عاجزان عن النطق، وتبلَّل جبينُ جرين عرقًا فأَطبق على الأوراق التي على المكتب
دون تفكيرٍ، فتلطَّختْ أناملُ يديه بالحِبر.
كانت هذه الوثيقةُ عبارةً عن مرسومٍ وقَّعه الأميرُ تشارلز الثالث شخصيٍّا، وصدَّق
عليه وزير الخارجية النبيل الفارسفولفير، وقد مُهِر بخاتم الإمارة العظيم. وكان ملخَّصُ
هذا المرسوم بعد حذف الحشو والإسهاب على النحو التالي:
أولًا: يُحظرُ على أيِّ فردٍ من رعايا الأمير أو أيِّ أجنبي مقيم على أراضيالإمارة أن ينخرطَ في
اللُّعبة الأمريكية المسمَّاة بوكر؛ فهذه اللُّعبةُ المذكورة تنتهكُ الآدابَ العامة وتُهدِّدُ بخراب
المؤسسات القائمة.
ثانيًا: كلُّ الالتزامات أو المديونيات المبرمة بين أيِّ فردٍ من رعايا الأمير وأيِّ فردٍ من رعايا
الرئيس الأمريكي، في إطار هذه اللعبةِ المسمَّاة بالبوكر أو تحت أيِّ مسمٍّى آخرَ، تُعدُّ من
ثَم ملغاةً.
ثالثًا: من الآن فصاعدًا، يحظرُ دخولُ المواطنين الأمريكيين إلى إمارة موناكو لأغراضٍ
تجارية أو سياحية أو ترفيهية. ويُمهَل الرعايا الأمريكيون في الإمارة أربعًا وعشرين
ساعة من وقت نشْر المرسوم لمغادرة الإمارة قسرًا، وإلا كانوا عُرضةً للحبس حسبما
يتراءى للمحكمة العليا، ولمصادرة ممتلكاتهم الشخصية.
توجَّهت جميعُ الأنظار إلى جرين الذي ظلَّ مشدوهًا فترةً من الوقت حتى استعادَ قُدرتَه
لكن هذا قرارٌ غيرُ مسبوق! إنه لا يُعَدُّ فحسب قرارًا » : على النُّطقِ مجدَّدًا. ثم قال متعجِّبًا
مهينًا في عمومه، لكنه خارجٌ عن اللياقة والأدب على المستويَين الشخصي والرسمي. فأنا
الممثلُ الدبلوماسي للولايات المتحدة الأمريكية والمعتمد رسميٍّا لدى البلاط الملكي، وها هي وثيقةٌ غايةٌ في الأهمية، تُهدِّدُ العلاقاتِ بين الحكومتين تهديدًا جديٍّا، وبدلًا من أن يجريَ إطْلاعي عليها حسبَ الأصولِ المتبعة، إذا بها تُعلَّق على لوحةٍ للإعلانات كأمرِ حجزٍ قضائي وفوق كلِّ هذا، لم يكتفوا بتجاهُلي » : ثم أكملَ وقد استشاطَ غضبُه وانتفخت أوداجُه «. بائس
وإهانتي، بل تلاعبوا بي بتهاونٍ وبلا اكتراثٍ. لا بد أن هذا المرسومَ قد عُلِّق قبل مقابلتي
«! مع الأمير وريثِ العرش. عارٌ عليهم
حسنًا يا إخوتي المواطنين، ماذا نحن فاعلون حيالَ » : قال تايتس وقد تبسَّم ضاحكًا
«؟ هذا الأمر
أمامنا خيارٌ واحد لا غير! نُرسل خطابًا مكتوبًا بعنايةٍ يَشرحُ » : أجابه جرين قائلًا
القضيةَ من الألف إلى الياء إلى وزارة الخارجية بواشنطن؛ لكي يتخذَ الكونجرسالإجراءاتِ
«. المناسبة
ماذا » : انفجر تايتس في الضحك ونفَث سحابةً من الدخان وقال ملحٍّا في طلَب إجابة
عن الوقت الحالي؟ لا أرى مصرفًا عن التفكير أنه بالوضع الحالي لقواتنا البحرية المجيدة،
سيستغرق الأمرُ عامين وستة أشهر قبل أن نرى أسطولًا من العمالقة الحديدية يرسو على
«! مقرُبةٍ من هنا
أظنُّ أنَّ علينا مغادرةَ موناكو إذن. فنحن الآن تحت رحمةِ قوةٍ » : قال القنصلُ بحزن
«؟ نغادر » : فجأرَ تايتس وزأرَ وقال «. غاشمةٍ عديمةِ الشفقةِ
«. لنستمعْ إذن إلى اقتراحاتِكَ يا سيد تايتس » : قلتُ له أنا
حسنًا! أقترحُ أن نُجرِّبَ طريقتي في صياغة المراسلاتِ الرسمية؛ » : ردَّ تايتس قائلًا
فقلد أخذتُ على عاتقي مهمَّاتٍ أقسَى من ذلك في الأيام الخوالي. أحضِرْورقةً فارغةً وقلمًا
«! جيِّدًا مسنونًا ثم اكتُبْ ورائي ما أمُليه عليك
ثم أملَى البيانَ الرسمي التالي:
إلى تشارلز المبجَّل أمير إمارة موناكو
عندما يصير لزامًا على أمةٍ عظيمة، في خِضَمِّ الأحداثِ الإنسانية، أن تثأرَ لجِراحٍ
أصابتْها إثر فجيعتها في مجموعة من أهم أبنائها وأعظمهم شأنًا، فإن عقابها
الذي سيطال المعتدي سيكون عنيفًا وساحقًا ومباغتًا.
وإذا لم يُلغَ مرسومُكَ المؤرَّخ بهذا التاريخ قبل الساعة التاسعة من صباح
الغد، ويَصدر اعتذارٌ لائقٌ ووافٍ بهذا الشأن، فإننا نُعلن نحن الولايات المتحدة
الأمريكية بموجب هذا المرسوم، شنَّ الحرب على إمارة موناكو برٍّا وبحرًا وجوٍّا؛
على الأرضوفي باطنها. وليتغمدْكم الربُّ بواسع رحمته!
(الموقِّعون)
جورج واشنطن تايتس؛ القائد الأعلى
جون جيه جرين؛ الوزير المفوَّض
حسنًا يا جرين، والآن مُرْ رجُلَك » : ثم قال تايتس بشيءٍ من التعالي وعدمِ الاكتراث
جيوفاني أن يذهبَ ويُعلِّقَ هذه المقالةَ القصيرة على لوحة إعلانات وزير الخارجية وسأتولَّى
«! أنا ما تبقَّى من أمور
ولكنَّ هذا مخالفٌ للقواعد والأصول! فوفقًا للدستور، إعلانُ » : احتجَّ القنصلُ وقال
الحرب حقٌّ من حقوق الكونجرس؛ لذلك لا نستطيعُ إعلانَ الحرب. وإلى جانب هذا، في مثل
«. هذه الأمور، هناك دائمًا إجراءاتٌ شكلية يجب اتِّباعُها
تبٍّا لإجراءاتِكَ الشكلية! في مثل هذه الأوقاتِ العصيبة والطارئة لأمَّتِنا » : أجابه تايتس
كما نحن الآن، هناك سُلطةٌ تعلو فوق سُلطةِ الدستور؛ ففي مثلِ هذه الأزمات، يجب أن
يتقدَّمَ رجالاتُ العزمِ الصفوفَ. ثم بعد أن نَصِلَ إلى مرحلة التفاوض من أجل السلام،
حينها يمكنُكَ أن تمضيَ في اتِّباع الأصول الدبلوماسية والمسودات التحضيرية وكلِّ هذا
الهُراء الرسمي. أنا من الآن القائدُ الأعلى، وعليك وعلى بقيةِ هؤلاء الرجال أن ينتشروا وسطَ
الأمريكيين هنا ويُخبروهم بألَّا يَفزعوا وأن يتصرَّفوا كأنَّ شيئًا لم يكن؛ هذا هو الأمرُ الأول.
«؟ ولكن انتظروا لحظةً! هل يَفهمُ أيُّ أحدٍ منكم الإشاراتِ العسكرية
أخبرتُ القائدَ الأعلى باحترامٍ أني على دراية بتلك الإشاراتِ والرموز.
حسنًا! أنت تتحلَّى بالشجاعة، وتُعجبني رسمةُ ذقنِكَ. ابقَ هنا معي؛ لقد » : فقال
«. نصَّبتُكَ رئيسًا للأركان
والآن، خُذْ أربعةً من مناديل القنصلِ الحريرية » : ثم أردفَوقال بعد أن غادَرَ الآخرون
«. الحمراء واصنعْ منها راياتٍ صغيرةً كإشارات. فلديَّ خطابٌ آخرُ ذو أهميةٍ أريد أن أكتبَه
على ما يبدو أنَّ صياغةَ هذا الخطابِ أزعجتْه بشدة؛ فقد مرَّ حِينٌ من الزمان منذ
أن انتهيتُ من صنْعِ الرايات وقبل أن يفرغ من الكتابة. وأخيرًا، مرَّر إليَّ ورقة ملاحظات
أكره من صميم قلبي أن أفعلَ هذا، ولكن كما يقال في » : صغيرة، ثم قال وهو يَفتِل شاربَه
«! الأمثال؛ في الحبِّ أو الحرب، اسلُكْ أيَّ درْب
لم يحملِ الخطابُ أيَّ عنوانٍ أو توقيع:
سيِّدتي، قرأتُ ما باحتْ به عيناكِ، ففرح قلبي وتراقَص على ذكراكِ. قرأتُ
أيضًا على وجوهِ أقاربكِ نظراتِ الغَيْرةِ السوداء، وهم أناسٌذوو سلطةٍ وسلطان؛
فاعذريني إن بدَا عليَّ شيءٌ من الفتور واللامبالاة. ولا تحسبي أني خشيتُ على
نفسي سوءَ المآل، بل أقُسِم سيدتي ما كنتُ أبتغي لكِ إلا راحةَ البال.
أمَا وقد جارَ علينا ذلك المرسومُ الفظُّ كالموت الزؤام، فلْتعلمي إذن أني لا
أهتمُّ إنْ أبُعدتُ عن موناكو؛ فالعالمُ فسيحٌ، ولكن أن أبعُدَ عنكِ فهو عينُ هلاكي؛
ففي ثَغرِكِ الباسمِ تتعلَّق روحي البائسةُ التي تهواكِ!
فإن كانت جسارتُكِ بمثْل حُسنِك وجمالِك، وكان البَونُ الشاسعُ بين طبقتَينا
لا يشغلُ بالَك، وأمام العاطفةِ الجياشة ضئيلٌ متهالك؛ إن كنتِ ستقفينَ أمامَ
كلِّشيءٍ لأجلِ رجلٍ تألَّمَ، وقاسَىفي صمْتٍ دون أن يتكلَّم، فقابليني غدًا صباحًا
قبل أن تُشرقَ الشمسُ بساعة عند محطةِ ضخِّ الوقود خلفَ تمثالِ جدِّكِ النبيل
الفارس فينتشنزو جريمالدي، وتعالَي وحدَكِ.
يا له من خزْيٍ وعارٍ » : علَّق تايتس وقال وهو يُحدِّثُني ويُحدِّث نفسَه في الوقت ذاتِه
«! أن نُحضرَها مبكِّرًا في ذلك الجوِّ الرطب وهي بتلك السنِّ؛ ولكن لا مفرَّ من ذلك
كان خادمُ القنصلِ قد عاد لتوِّه بعد أن علَّق الورقةَ على لوحة الإعلانات كما أمرَه
صاحبُ السعادة وقد التفَّ حولها جمهورٌ غفير كي يُطالعوها.
«! رائعٌ! والآن يا جيوفاني، لديَّ مهمةٌ أخرى لك. فأنتَ رجلٌ فطِن » : صاح تايتس
ثم أعطاه الخطابَ وهمَس له ببضع كلمات توجيهية، فأومأَ الرجلُ اللبيبُ برأسِه موافقًا
ومتفهمًا.
«؟ وبالمناسبة يا جيوفاني، أأنتَ على علاقةٍ جيدةٍ بالجيش »
«. بلى، يا صاحبَ السعادة »
«؟ كم سيكلفُنا أن نجعلَ الجيشَ بأكمله يسكَر الليلة »
«؟ أتقصد أن يسكَروا حتى تغيبَ عقولُهم يا صاحبَ السعادة »
«! هذا ما أقصدُه بالفعل »
أظنُّ أن » : أجرَى جيوفاني حسبةًسريعة مستعينًا بأصابعه ثم قال بابتسامة عريضة
فأعطاه تايتس خمسَ عملات «. هذا سيُكلِّفُنا ما يُقاربُ الستين فرنكًا يا صاحبَ السعادة
ذهبية.
بعد ساعة، ذهبتُ أنا والقائدُ الأعلى نمشي بمحاذاةِ السور الغربي؛ طريقِ تنزُّه رائج
في موناكو في فترةِ ما بعد الظهيرة. لم يكن يرى سوى قلَّةٍ قليلة من الأمريكيين، ولكن أينما
نظَر المرء، كانت هناك مظاهرُ تدلُّ على حالةٍ غيرِ معهودة من الضغينة الشعبية المتنامية.
فقد قابلْنا في كلِّ خطوةٍ وجوهًا عابسةً ومتجهمة، وسمعْنا مَن يهمسون بسبِّنا وإهانتنا.
ومع ذلك، كان رفيقي يُواصل المشيَ بلا اكتراثٍ بخطواتِه الواسعة ومِشيتِه المتمايلة. ثم
مجلسُ الدولة منعقدٌ الآن. » : سمعتُ مصادفةً أحدَ رعايا الأمير وهو يُحدِّثُ رفيقًا له ويقول
أتى صوتُ قرْعٍ للطبول ورأينا دي موسلي يمرُّ بنا بهمَّةٍ «. وغدًا سيكون يوم عمل مضنٍ
ونشاطٍ على رأْسِ فرقةٍ من أربعةِ جنود، فلوَّحتِ السيداتُ للجيش بالمناديل. قال تايتس:
القائدُ الأعلى للجيش ينشرُالحرسَ في الأرجاء. من حُسْنِ حظِّنا أن عددَ المقاهي في موناكو »
أوصدَ بعضُ أصحابِ المحال التجارية أبوابَهم في وقتٍ باكرٍ من «! أكبرُ من عددِ جنودِه
ذلك اليوم. عدَّل تايتس فجأةً من وتيرةِ سَيرِه واعتلى تقاسيمَ وجهِه تعبيرٌ فريدٌ يُوحي
باستغراقِه في التفكير الحزين. ثلاثٌ من النسوة كنَّ يقتربْنَ منَّا. بالكادِ لاحظتُ أن إحداهنَّ
كانت تتقدَّم الأخُريَين في مِشيتها بدرجةٍ طفيفة. كانت امرأةً بدينةً في منتصف العمر،
وكانت ملابسُها تَشِي بنوعٍ من الأبَُّهة، وقد أفرطت في استخدام أحمر الشِّفاه. وبينما هي
تمرُّ بنا، رفَع تايتس قبَّعتَه وانحنى انحناءةً تشي بالحزن؛ فغضَّت المرأةُ السمينة طرْفَها
ونظرت إلى الأرضعلى استحياء. وأظنُّ أني قد لمحتُ آثارَ تورُّدٍ على أجزاء وجهِها التي لم
تكسُها حمرةُ مساحيقِ التجميل.
«. كلُّشيءٍ على ما يُرام! كفَّةُ الحربِ في صالحنا » : همَس تايتس في أذُُني قائلًا
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.