hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

في الساعةِ الخامسة والنصف منصبيحة ذلك اليوم المشهود، حدَثشيءٌ غريب قُربَ الملهى.
حُرِّر المُنْطادُ المقيَّدُ وأزُيلتْ عنه أثقالُه التي كانت تُلصقُه بالأرض طوالَ الليل، بدأ يعلو
ببطءٍ في جلالٍ وعظمة وهو يخترقُ طبقاتِ الضبابِ وقتَ الشفَقِ. تهادَى إلى اليمين وإلى
الشمال مرَّةً أو مرتين، ثم ارتعشَ رعشةً كأنما أصابتْه دهشةٌ من إيقاظه في هذا الوقتِ غيرِ المعهود. شقَّتْ كرةُ المنطادِ طريقَها في كبدِ السماء باستقامة وبما أتاح له الحبلُ المرتخي منسرعة. وكان شخصٌما يتحكَّمُ في مكابح البكَرةِ التي كان الحبلُ ينسابُ منها. كان ذلك الشخصُ هو أنا. وحملت مقصورةُ المُنْطادِ فردَين لا ثالثَ لهما. أحدهما تايتس، والآخر كان امرأةً متدثِّرةً بالعديد من الشالات وتتوارَى وراءَ حجابٍ.
همَس تايتس إلى رفيقتِه المرتعشة وهو يأخذُ بيدها مساعدًا إياها كي تصعدَ على متْنِ
يا حبيبتي ومُهجةَ قلبي، هذه هي فرصتُنا الوحيدةُ للهروب. » : مقصورةِ المنطاد، وقال
فردَّتْ بهمهمةٍ وديعةٍ «. فبلا شكٍّ سيُلقَى القبضُ علينا عند الحدودِ إن حاولْنا الفرارَ برٍّا
مُلئَتْ بالرقَّة، وشابَها الضعفُ، وكان هذا هو الجواب الوحيد الذي حصل عليه.
راقبتُ هذه الكتلةَ الغامضةَ المعالم وهي ترتقي لتصلَ إلى أقصىطولٍ للحبل، ودفَع
النسيمُ الغربي اللطيف المنطادَ إلى فوق القصرمباشرةً حيث استقرَّ بلا حَراكٍ على ارتفاعٍ
يتراوحُ ما بين خمسمائة وستمائة قدَم.
وأثناءَ مغادرتي للملهى، خطوتُ فوق جسدِ أحدِ الحرَسِ وهو يَغِطُّ في النوم ويُصدر
شخيرًا قويٍّا على رصيفالشارع. كانت الشوارعُ خاليةً من الناسولكني مررتُ بمقهًى كان
مفتوحًا طوالَ الليل. ألقيتُ نظرةً سريعة من المدخل فرأيتُ زمرةً من محاربي دي موسلي
المحنَّكين في زِيِّهم الأحمر بين درجاتٍ متفاوتة من السُّكْر. صاح هؤلاء الذين لم تذهبْ
عقولُهم تمامًا وكانوا قادرين على الغناء، بنشيدٍ من أناشيد الحرب، والذي كان البيتُ الذي
يتكرَّر فيه عبارةً عن تهديدٍ لوطني ووعيدٍ بدمار يعجز عنه القولُ. على ما يبدو أن العُملاتِ
الذهبيةَ الخمس في يد جيوفاني قد أدَّتْ مهمتَها على أكمل وجْهٍ.
مرَّتْ ثلاث ساعاتٍ كنتُ قد انتهيتُ حينَها من فطوري الهادئ في الفندق، ثم شرعتُ
في البحث عن القنصل. فقد تغيَّر الوضعُ؛ فالمدينةُ قد استيقظتِ الآن وتَعِجُّ بالحركة،
وعمَّ أرجاءَها ارتباكٌ وفوضىلا يُوصفانِ. السُّكَّان عن بكرةِ أبيهم يندفعون عبرَ الشوارعِ
المؤدية إلى القصروالملهى، والأنشطةُ التجارية قد توقَّفتْ في كل مكان. شُوهد بضعةُ جنودٍ
في أماكنَ متفرقة، وكانت وجوهُهم متوعكةً وأرجلُهم ترتجفُ. كان القائدُ الأعلى للجيش
يستميتُ ليُلملِمَ شَتاتَ جيشِه الذي وهنَت عزيمتُه، لكن بلا طائلٍ. في الشرفة الأمامية للقصر،
حيثُ طالعْنا الاستعراضَالمتألِّقَ للجيش في اليوم السابق، وقف الأميرُ وبعضُأفراد عائلته
ومِن حولهم وزراءُ الإمارة. من بين هؤلاء الوزراء تعرَّفتُ على المحيا المنذر بالشرِّ لصاحب
السيادة توريه. كانت الساحةُ والشوارع المحيطة بها مكتظَّةً بالناس، وكلُّ الأنظار تتَّجه
للأعلى نحو المُنْطادِ الذي كان لا يزال يُحلِّق فوق القصر. فقد كان هو الشيءَ الساكنَ الوحيد
وسطَ هذا المشهدِ الصاخب.
حالما أظهر تايتس وجهَه للحشد من أسفله، اندفعوا جميعًا باتجاه الرافعة وهم
عازمون على شدِّ الحبل ولفِّه كي يستردُّوا المنطادَ ويُنزلوه أرضًا. لكن تايتس مالَ إلى
جانب المقصورة ولوَّح مهدِّدًا بخنجر عريضتلويحًا لم يُخالطْه شكٌّ أنه ينوي قطْعَ الحبل
ويستقلُّ بالمنطاد إن حاول أحدٌ أن يسحبَه للأسفل. وهكذا أصبح سيدَ الموقف. أما الأعداء
فقد ظلُّوا خاملين مذبذبين حيالَ أيِّ مسار يسلكون، بينما كان أصحابُ المقام الرفيع في
الشرفة بالأعلى منخرطين في مشاورةٍ انخراطًا جديٍّا.
في الساحة وتحت الشرفةِ مباشرة، لمحتُ القنصلَ وسطَ عُصبةٍ من الأمريكيين، فشققْتُ
طريقي إلى تلك البُقعةِ بصعوبة وبالمدافعة.
لفتَتْ غمغماتُ الحشدِ انتباهي إلى المنطاد. كان تايتسيُرسل إشاراتٍ معينة مستخدمًا
رايتَين صغيرتَين حمراوين. أخرجتُ رايتَين مماثلتَين من تحت مِعطفي، وهكذا أقُيمتْ قناةٌ
للتواصل بين طرفيَ جيش الولايات المتحدة الأمريكية. ودقَّت ساعةُ الكنيسة معلنةً تمام
الساعة التاسعة.
«. سلْ عمَّا إذا كان المرسومُ قد ألُغيَ أم لا » : أرسل تايتس إشاراتٍ معناها
ترجمتُ الرسالة إلى القنصل الذي طرَح بدَوره السؤالَ على أصحاب الشرفةِ بصوت
جهورٍ وبأكثر المصطلحات الدبلوماسية استحسانًا.
ردَّ صاحبُ السيادة توريه بصفته متحدِّثًا عن حكومة موناكو باستهزاءٍ قائلًا:
المرسومُ لم يُلغَ! وبُنودُه التي تنصُّعلى اعتقال الأمريكيين الموجودين على أراضينا ستكون »
ثم نقل هذا الردَّ إلى تايتس. «. حيِّزَ التنفيذِ خلالَ ساعة بالضبط
«! أعلِنْ حالةَ الطوارئ والأحكامَ العُرفية في موناكو » : ثم جاء الردُّ السريع واللاذِع
أحدثتْ جرأةُ هذا الإعلانِ الممزوجة برباطة الجأْشِأثرًا بالغًا في نفوسالناس. فما هي
هذه القوةُ الغريبة التي يحوزها هذا الرجلُ في السماء؟ هذا الرجلُ الذي يتحدَّثُ برايتَين
صغيرتَين ويتحدَّى أميرًا وجيشَه وأسطولَه البحريَّ ببرود أعصاب على هذا النحو؟ فما الذي
يُخبِّئه المستقبلُ يا ترى؟
اقطعوا الحبلَ! حينها ستعصفُ الرياحُ » : احتفظَ توريه بحضور ذهنِه، ثمصاح قائلًا
بهذا الوغدِ الأمريكي الوقِح قاذفةً إياه في الأراضيالإيطالية، وسنكون قد تخلَّصْنا منه مقابلَ
«. ثمنِ مُنْطَاد
اندفع الحشدُ من جديد باتجاه الحبلِ واستُلَّتْ مئاتُ الخناجر في استعدادٍ لتنفيذ
المهمة، لكن توريه الذي ظلَّ محدِّقًا للأعلى، شُوهد ووجهُه قد شَحَب شحوبَ الموت، ثم اتَّكأ
على سُورِ الشُّرفة ليقوَى على الوقوف.
توقَّفوا! هذا يكفي! لا يجرؤَنَّ أحدُكم على قطْع الحبل إن كان يخشى على » : ثم صاح
«! حياته! فالأميرةُ هناك في مقصورة المنطاد
بالتأكيد كان وجْهُ الأميرةِ المستدير والمتورِّد ظاهرًا من فوق حافةِ المقصورة المصنوعة
من القشِّ، فدوَتْ شهقةُ ذهولٍ وفزعٍ من حناجر الحشد. ثم ردَّت العصبةُ الأمريكية عليهم
بالصياح والتهليل.
«! فاز تايتس بالحرب » : قال القنصل
لكنَّ غضْبَ صاحبِ السيادة توريه كان عارمًا وأكثر مما تقتضيه الظروفُ الحالية.
فقد دفعَه منظرُ الأميرة في المقصورة إلى حافة الجنون؛ فأخذ ينتفُ شعرَ رأسِه ثم يضربُ
آه منكِ » : الهواءَ بكلتا قبضتَيه باتجاه المنطاد وهو يصرخُ كأن السيدةَ يُمكنها سماعه، وقال
يا فلورستين! أيتها الخائنةُ! لقد كانتِ الشكوكُ تُساورني. يا لكِ من غادرة لعينة! يا أسفاه
«! على قلبي الذي مزَّقتْه امرأةٌ حقيرة
لقد ساورتْني الشكوكُ أنا أيضًا. فنحن الدبلوماسيين » : قال القنصلُ بصوتٍ خفيض
«! لدينا عيونٌ في كل مكان. انظر إلى توريه! يا لها من فضيحةٍ وخِزْي
كان الأميرُ يرقُب عن كثَبٍ انفعالاتِ توريه ونوبةَ الغيرةِ التي كشفتِ الكثير. استدعى
الأمير دي موسلي وأمرَه بصوتٍ لم يسمعْه أيٍّا ممَّن كانوا أسفلَ الشرفة، ثم جاء جنديان
لقد اعتُقل » : وأخرجا صاحبَ السيادة توريه من الشرفة. صاح نفرٌ من الحشد وقالوا
وكانت أفواه الجميعِ فاغرةً من فرْط دهشتِهم لهذه الواقعةِ المفاجئة. «! المطران
والآن يا سيدي، ما هي مطالبُكَ؟ فعلى ما يبدو » : قال الأمير مخاطبًا القنصلَ جرين
«؟ أنكم نجحتُم في خطْف شقيقتنا بطريقة غامضة. فبماذا نفتديها إذن
بعد عدَّةِ إشاراتٍ من تايتس، أعلن جرين إنذارَه الأخير وعرْضَه النهائي: إلغاء المرسوم؛
واستعادة مكانة المواطنين الأمريكيين بما يُناسب كونَهم رعايا أعظمِ أمةٍ على الأرض؛ ورفْع
الحظر عن لُعبة البوكر؛ والحصول على ضمانٍ من الأمير شخصيٍّا بأن تُدفَع كلُّ الديون
المستحقة للمواطنين الأمريكيين؛ والحصول على تعويضٍ بعشرة آلاف فرنك عن الخسائر
المالية والنفسية التي سبَّبتْها هذه الحرب!
دارتْ مشاوراتٌ طويلة بين أصحاب الشُّرفة، وفي النهاية شُوهد الأميرُ وهو يهزُّ رأسَه
رافضًا؛ كأنه يردُّ على اقتراحٍ ينصحُه بالعدول عن خُطَّة عزَم على تنفذيها. تقدَّم النبيلُ
لقد خُيِّر سموُّه وفخامتُه، وصاحبُ أسمَى سلطة كنسية، » : الفارس فولفير زمْرتَه، وقال
بين عاطفتِه الفطرية التي يُكنُّها لأختِه؛ سموِّ الأميرة، وبين واجبِه تجاه شعبِه ورعيَّتِه.
لقد انتهى الصراعُ. إنه يذوق مرارةَ الندمِ على إحدى العواقبِ التي ترتبتْ على قراره. إنه
يشعرُ أنه يتعيَّن عليه أن يُقدِّمَ مصالحَ شعْبِ موناكو على أواصرِه الأسُريَّة. فلقد ضحَّى
بسموِّ الأميرة ليؤديَ واجبَه ومسئوليتَه؛ وبناءً على ذلك، سيدخل المرسومُ حيِّزَ التنفيذ بتمام
ثم أمرَ بالحبل أن يُقطَعَ وأن تجرفَ الرياحُ المُنْطادَ بعيدًا. «. الساعة العاشرة
أظنُّ أن هذه هي الطريقة » : ألمحتُ إلى جرين وقلتُ له بعد أن نقلتُ الكلامَ إلى تايتس
«! اللَّبِقة التي يقولُ من خلالها إنهسيكونُ ممتنٍّا لو تخلَّصمن هذه العجوزِ الغبية والمزعجة
لكنَّ مشاعرَ الخَيبة والغمِّ حلَّتْ بالقنصل وبمنَ معه من الأمريكيين بعد أن كانوا
يُحلِّقون في سماء الأمل. ظنُّوا أن قائدَهم الأعلى قد ألقَى ورقتَه الأخيرةَ في هذه اللُّعبة وخسِر
الحرب.
بيدَ أن تايتس كان له رأيٌ آخر؛ فلقد أخَذ يُرسِل عدةَ إشارات سريعة بالرايات لمدة
قصيرة من الوقت، ثم مدَّ ذراعَه ليصلَ إلى شبكةٍ من الحِبال حولَ المقصورة وما لبِثَ أن
أخرجَها حاملًا عُلبةً معدنية كبيرة كانت تتوهَّجُ وتلمعُ تحت أشعة الشمس.
كان تأثيرُ مثلِ هذه الحركة البسيطة ناجعًا وعجيبًا، فقد شَلَّت على الفور أيادي كلِّ
الذين كانوا على وشك قطْع الحبل، وحوَّلتْ جميعَ الأنظارِ تجاه المجموعةِ الواقفة في الشرفة.
حركة أثارتِ الذُّعرَ في الجمهور فأخَذ كلُّ واحدٍ منهم يفرُّ طلبًا للنجاة في جميع الاتجاهات،
وأطلقتْ آلافُ الحناجر صرخاتِ الرعبِ والفزع. وفي خِضَمِّ كلِّ تلك الضوضاء وكلِّ هذه
الفوضى، كان بمقدور الآذانِ أن تُميِّزَ كلمةً واحدة:
«! ديناميت »
كان الشعبُ الموناكي يعرفُ مما علَّمهم إياه تايتسكم هي قوية وفعَّالة فعالية مرعبة
أداة التدميرِ هذه؛ حتى ولو استُخدمت بكميات قليلة. والآن هم لا يدرون كم من هذه المادة
الشنيعة والغامضة معلَّقًا فوق رءوسهم وبيوتهم. حتى الأمير، ابيضَّ وجهُه خوفًا من
الاحتمالات التي قد تُسفِر عنها اللحظاتُ التالية.
إنه يُبلغكم أنه إن لم تُقبَل شروطُه خلال ثلاث دقائقَ يعدُّهم » : صِحْتُ بأعلى صوتي
عدٍّا على ساعته ودون أيِّ نقاشاتٍ أو مفاوضات أخرى، سيُلقي بعُلبة المتفجرات ويَدُكُّ
«. إمارتكم دكٍّا ويُصيِّرها رُكامًا
وعمَّ السلامُ بين الدولتين في غضونِ دقيقتين لا أكثرَ.

وضعتِ الحربُ أوزارَها. وبأخْذِه أغلظَ المواثيقِ وأكثرَها وضوحًا وتفصيلًا من حكومة الأمير
تشارلز الثالث، سمَح القائدُ المظفَّرُ بأن يُسحبَ من عنانِ السماء لينزلَ إلى الأرض وهو
ما يزال مُمسكًا بالعُلبةِ التي أرهبتِ الجميعَ بإحدى يدَيه، وباليد الأخرى كان يُساعد أسيرتَه
في نُبْل وشهامة لتهبطَ من مقصورة المنطاد ثم اصطحبَها إلىشُرفةِ القصر.
أعتذرُ منك » : قال بعد أن أودَع الأميرةَ فلورستين باحترامٍ وتوقيرٍ في معيَّة أخيها المهيب
يا صاحبَ السموِّ والجلالة. فلقد اضطرتْنيضروراتُ الحربِ إلى أسْرِ سموِّ الأميرة بينما
«. كانت تمضيفي طريقها هذا الصباحَ إلى زيارةٍ من زيارات أعمالِ البِر
انحنى الأميرُ في صمْتٍ، وكانت أعينُ الأميرة مثبتةً على الأرض.
كما أناشدُكَ يا سموَّ الأميرِ أن تُصدِّقَني حين أقولُ إنني لم أكنْ » : أكمل تايتس
لأخُاطرَ بحياةٍ نفيسةٍ لسيدةٍ جليلة ورفيعة المقام بأن أضعَها قرْبَ كميةٍ كبيرة وخطيرة
«! من الديناميت
وبعد أن فرَغ من كلامه، ألقى بالعُلبة من أعلى سور الشرفة، فهَوتْ على قارعة الطريق
وأصدرتْ صوتَ قعقعةٍ يدل على خَوائِها
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.