hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

في عصر أحد أيام شهر أكتوبر، وبينما كنت أتلمَّس طريقي عبر الغابة متوجهًا إلى
أفضل الجداول التي يعيش فيها سمك السلمون المرقط، والتي تتوفَّر بكثرة في حي كانان
بفيرمونت، كادت ساقي اليسرى تتعرضللكسر في حفرة عميقة بالأرض.
أول ما فكرت فيه كان صنارتي، التي كانت قد تشابكت مع الشجيرات، وأما ثاني ما
فكرت فيه فكان ساقي اليسرى، التي لم يُصبها — لحسن الحظ —ضرر كبير، وأما ثالث
ما فكرت فيه فكان الحفرة التي تعثرت فيها. كانت تلك الحفرة تقع مباشرة تحت أغصان
شجرة بلوط أحمر كبيرة، نَمَتْ على منحدر تل، أو حَيْدٍ من الحجر الجيري المتحوِّل. كانت
شجيرات العرعر والعُلَّيْق تكاد تُخْفِي الفتحة، لكنني نحَّيت كل ذلك جانبًا، وانحنيت على
أطرافي الأربعة منقِّبًا في الحفرة السوداء، لأي سبب؟ هذا ما لا أدريه. فلم تعد ساقي اليسرى
هناك، ولم يكن يهمني بالطبع أن أتعرَّف على قاطني هذه الحفرة أيٍّا ما كانوا. لا شك
أنهم إما أن يكونوا من الثعابين، وإن كان ذلك غير مرجَّح، وإما من الفئران الجبلية، وإما
من الظَّرِبَان؛ وذلك هو الاحتمال الأرجح، ولهذا لم أزحف إلى الداخل كي أستكشف تلك
الحفرة، بالرغم من أنَّني كنت أستطيع فعل ذلك، فقط إن تحملت بعض المشقَّة، لكنني
تابعتُ طريقي عبر مرعى رودني برينس، قاصدًا الجدول الموجود فيه. وعند الغروب،
أحضرت معي إلى المنزل سمكة كبيرة تزن عدة أرطال، لكنني لن أذكر عنها شيئًا لرودني
برينس؛ مراعاةً لمشاعره. فقد كان جرانجر الكريم قد أكد لي بجدية يغلب عليها الود في
مساء اليوم السابق أنه لم يعد في ذلك الجدول أي من أسماك السلمون المرقط؛ إذ صادها
الصبيان قبل وقت بعيد حتى أجهزوا عليها، وإن كان هناك أيشيء بعد، فلن يعدو مجرد
أسماك بائسة صغيرة لا يتجاوز حجمها طول أصابع اليد، لا تستحق اهتمام رجل من
المدينة يستخدم صنارة بخمسة عشر دولارًا وجعبة مليئة بالحشرات.
كهف الاسبلرجلز
بعد العشاء انضممت كعادتي إلى ذلك الجمع الصغير منصفوة الرفاق الذين يلتقون
كل مساء في الجزء الخلفي من متجر الشمَّاس بليمبتون؛ لكي يستمتعوا بتدخين الغليون
وينتفعوا بما ينطق به مالك المتجر من حكم فَطِنة. وفي محاولة متواضعة مني للمساهمة
في تلك المحادثة ذكرتُ عَرَضًا أنني قد تعثرت في حفرة عميقة عصراليوم، بينما كنت ذاهبًا
إلى الصيد. شعرت بالإطراء لما لاقته مغامرتي التافهة من احترام من جانب الرفاق، حتى
الشمَّاس الكتوم مال من مقعده على برميل اللحم، ليعيرني أذنًا مصغية، ثم تحدث قائلًا:
«؟ حقٍّا! في مرعى رودني »
«. أجل »
«؟ تحت شجرة البلوط الأحمر »
«. أجل »
«. هممم! لقد أفلتَّ بالكاد » : غمغم وهو ينفث كتلة من الدخان
«؟ من ماذا؟ الظربان » : سألته وقد عزمت أن أكون موجزًا مثله
«! كلا، الاسبلرجلز »
وهمس أندرو هينكلي، وهو في أحد براميل أثمن أنواع الدقيق لدى الشمَّاس:
وردد أخوه جون من أحد صناديق صابون الغسيل تلك الكلمة الغامضة ،« الاسبلرجلز »
أيضًا، وحتى سكويار ترول المسئول عن الميزان، وأوريسون ريبلي الذي كان على أحد
براميل القالب المُحلى والذي كان الشمَّاسالأمين يبيعه على أنه مسحوق السكر مقابل شلن
«! أجل، الاسبلرجلز » : للرطل، التقطا تلك اللازمة أيضًا وردَّدا في وقار وفي نبرة متناغمة
كنت أعرف أنني لو سألتُ أي سؤال فسوف أضع نفسي في موقف محرج مع هؤلاء
وأومأت برأسيكما لو ،« أوه. الاسبلرجلز » : الرجال المهمِّين؛ لذلك اكتفيت بأن أردِّد أنا أيضًا
أنَّ الهروب من الاسبلرجلز تجربة مألوفة لي.
من حسن الحظ أنها لم تسحبك » : وبعد لحظات قليلة من الصمت، قال سكويار ترول
«. إلى الداخل
لم يتورَّط أحد في مأزق كهذا منذ أن تعثَّر فولار حين كان ثَمِلًا وخُلع حذاؤه من »
«؟ قدميه، أليس كذلك أيها الشمَّاس
حينها، نزل الشماس من فوق برميل اللحم، ملبِّيًا النداء، واتجه إلى الطرف الآخر من
المتجر، وعاد بعود ثقاب في يده، ثم أعاد إشعال غليونه وهز رأسه بجدِّية ووقار.
من تلك المحادثة المفكَّكة التي انبثقت واستمرت حتى دقات الساعة التاسعة، والتي
حثت الشمَّاس على أن يدخل لحومه المبردة ويُغلق مصراع النافذة، توصلتُ إلى الحقائق
والمزاعم التالية:
لسنوات عديدة، منذ أن كان المبجل أوريسون ريبلي طفلًا، كان أهل كانان ينظرون
إلى تلك الحفرة الموجودة تحت شجرة البلوط الأحمر برهبة خرافية؛ فلم يكن أحد ليجازف
بالاقتراب من تلك البقعة في وَضَح النهار سوى قلة منهم، وأما في الظلام، فلم يكن أحد
ليقربها تمامًا. بدا الرأي السائد عن تلك الحفرة وجيهًا وراسخًا؛ فكثيرًا ما كانت تُسمع
منها أصوات غريبة وكأنها ضحكات شيطانية تصدر من المغارة، وأصوات أخرى لا يمكن
وصفها، تشبه أصوات الخرير والخشخشة. ووفقًا لما عرفته، فقد كان ذلك هو التفسير
الوحيد لاشتقاق اسم الاسبلرجلز، والذي جرت العادة على استخدامه للإشارة إلى قاطني
هذا الكهف. كان أهل البلدة يعتقدون أنَّ هذه الكائنات الخرافية كائناتشريرة، ليسفقط
لما يصدر عنهم من ضحكات ذات فظاظة غريبة، والتي سمعها الكثيرون مرات عديدة على
مدى نصف القرن الأخير فحسب، بل أيضًا بناء على شهادة البعضبأنهم قد رأوا رءوسًا
شيطانية تبرز من الحفرة، وكأنها الشياطين قد صعدت من الأسفل لكي تستنشق بعض
الهواء النقي. ثم هناك ذلك المصير المروِّع الذي لاقاه جيرميا ستاكبول، وهو شاب متهوِّر
يميل إلى الأفكار الإلحادية. ففي الحادي والعشرين من أكتوبر عام ١٨٥٨ ، أعلن بفخر
عن نيته استخدام منجل وجمع جوز البلوط من تحت شجرة البلوط الأحمر، وبعدها، عُثر
على قبعته بجوار الحفرة، وكان ذلك هو الأثر الوحيد الذي عُثر عليه منه. كان هناك أيضًا
جاك فولار، وهو شقيق أمين سجلات البلدية، والذي راح يتجول ثَمِلًا في مرعى رودني
برينس قبل أربع سنوات، ثم عاد إلى المنزل وقد أفاق تمامًا وفقد زوجًا من حذائه. وقد
أعلن أنه بينما كان يتجوَّل بحثًا عن ثمار عنب الأرض، تعثَّر في حفرة الاسبلرجلز، وأطبقت
أَيْدٍ مشتعلة على قدمه؛ كانت مشتعلة للغاية حتى إنَّ أصابعها اخترقت الجلد والصوف
في حذائه وأحرقت قدمه، ولم ينجُ من سحب جسده إلى الحجرة إلَّا بعد أن بذل مجهودًا
خارقًا. ولحسن الحظ أنه كان مصابًا بمسمار القدم؛ فكان يرتدي حذاءً واسعًا للغاية،
وهذا ما أنقذه من الوقوع في قبضة الاسبلرجلز البشعة. أكد فولار بجدية أنه حتى بعد أن
خلع جوربه بفترة طويلة، وفرَّ إلى مكان آمن، كان لا يزال يشعر بأثر تلك الأصابع الملتهبة
التي أطبقت على مُشْط قدمه.
كان ما أخبرني به الشمَّاس من حكايات مختلفة عن حفرة الاسبلرجلز، والتي
استمتعت بها، مختصرًا وموجزًا وشاملًا، وكذلك مدهشًا، فقد كان مما أخبرني به أنها:
«. الباب الخلفي للجحيم »
فولار، » : في اليوم التالي، ذهبت إلى بطل قصة الحذاء الذي خطفته الشياطين وسألته
كم يلزمك من الرَّم لكي تستجمع ما يكفي من الشجاعة لزيارة حفرة الاسبلرجلز معي في
«؟ عصرهذا اليوم
ما يقرب من » : أجاب فولار بعد أن تفحَّص ملامحي لكي يتأكد من أنني لا أختبره
ربع جالون على ما أعتقد، فليكن ربع جالون بأكمله من باب الحيطة؛ فسوف يجعلني ذلك
«. ثَمِلًا تمامًا
هلا تأتي معي أولًا ثم تأخذ الرَّم بعد ذلك مع قسيمة بقيمة خمسة » : سألته قائلًا
«؟ دولارات كجزء آخر من الصفقة
راح فولار يوازن بين المخاطرة والمكسب، وكان ذلك واضحًا للغاية حتى إنَّ المرء ليرى
من جلده صراع الإغراء مع الخوف، ثم فاز الرَّم كما ينبغي له. وفي الساعة الثالثة، جاء
السيد فولار في كامل وعيه، وهو يحمل حبلًا ومصباحًا يمكن حجب ضوئه، وصحبني عبر
مرعى رودني برينس، إلى شجرة البلوط الأحمر الموجودة على جانب التل.
حين تفحصت الحفرة عن قرب اقتنعت بأنها ليست جُحْرًا لأي نوع من الحيوانات،
وحين استكشفتها بعصا طويلة، وجدت أنها تقع بعد طبقة الغبار الموجودة بالقرب من
الفتحة، وكانت الجدران من الصخر الصلب. لقد كان ذلك في الواقع نفقًا يؤدي إلى الحَيْد،
نفقًا طبيعيٍّا قديمًا كتلال فيرمونت؛ أي إنه يرجع إلى العصرالبلوري الأصغر. وخلف فتحة
النفق، حيث كان الغبار وتربة السطح قد سدَّاها جزئيٍّا، كان الممر واسعًا بحجم أحد
التفرعات الأساسية من نهر كروتون. وعلى مسافة نحو عشرة أقدام، كانت القناة تتجه
إلى أسفل بزاوية ستين أو سبعين درجة. وأما بالنسبة إلى مسارها، فوفقًا لما تمكنت من
تحديده بعصاي، فكان أفقيٍّا ويتجه مباشرةً إلى قلب التل.
خطوت إلى الداخل وصرخت في فوهة الكهف؛ فأتاني رجْع صوتي مشوَّشًا ومبهمًا،
وعندما توقفصدى الصوت، سمعتُ بوضوحصوتضحك خفيضوغريب، يشيبالذكاء،
لكنه ليس بشريٍّا. كان قريبًا من أذني، لكنه بدا وكأنه من عالم آخر مجهول.
سمعه فولار كذلك؛ فامتُقع لونه وجرى مبتعدًا مسافة قصبة أو اثنتين، لكنني ناديته
بحدَّة فعاد مرتعدًا.
ذلك الضحك الذي سمعناه، نصفه ينبع من أصداء الكهف ونصفه » : تحدثت إليه قائلًا
«. من خيالنا. سوف أزحف إلى الداخل
وبناءً على نصيحة فولار الصادقة قررت أن أدخل الكهف عكسيٍّا، حتى إذا طرأ أمر،
تمكنت من الخروج بسرعة أكبر. أضأتُ المصباح، وربطت أحد طرفي الحبل تحت ذراعَيَّ،
إذا ناديتك فاسحبني بكل قوتك، وإن لزم » : أما الطرف الثاني، فقد أعطيته فولار، وأخبرته
بعد ذلك، تقهقرت ببطء إلى الوراء، ودخلت بحذر «. الأمر، دُر مرتين حول شجرة البلوط
إلى كهف الاسبلرجلز.
قبل أن يختفي رأسي وكتفاي من ضوء النهار، شعرت بقبضة قوية من الأسفل
تمسك بكاحلَيَّ، وأدركتُ أنَّ ثمة قوةً خارقة تشدُّني إلى أعماق التل. رحت أصيح بفولار في
يأس، لكنَّصراخي غرق وسط طنين مدٍّ لضحكات انتصار مرعبة راحت تتردَّد في جنبات
الكهف. رأيت رفيقي يقفز نحو جذع شجرة كبيرة. لقد بذل قصارى جهده لكي ينقذني،
لكنَّ قدمه علقت في شجيرات العرعر وسقط على الأرض، وانزلق الحبل من بين أصابعه
التي خدَّرها الخوف. أما أصابعي، فقد علقت بلا جدوى في التراب عند فوهة الحفرة. كانت
القوة التي تشدني لأسفل لا تُقاوم. التقت عيناي بعينَي رفيقي اللتين قد امتلأتا رعبًا، ثم
«! فليكن لله في عونك » : أطبق الظلام من حولي وسمعته وهو يصيح
وبينما كانت تلك القوة تشدُّني إلى أسفل بسرعة متزايدة، زال عني الرعب في غمرة
هذا الابتهاج الغريب بالحركة؛ فقد شعرت بأنني قطار سريع يمرق في الظلام. لم أكن
أعرف إلى أين، ولم أعبأ بذلك، وأصبحت كقارب خفيف مربوط في باخرة تجرُّه في أعقابها
وهي تشقُّ الماء بسرعة، فتُخلِّف من بعدهاصفيرًا. كانصوت هدير الماء يشبه إيقاع الغناء،
ثم شعرت بإحساس الدوار الذي يسبق الإغماء، وغبت عن الوعي.
كان أول ما عاد إليَّ من حواسي بعد أن فقدتها جميعًا لفترة غير معلومة من الوقت،
هي حاسة التذوق. شعرت بمذاق نوع رائع منشراب البراندي لا مثيل له.
كان صوتًا «. إنه يستعيد وعيه، لم يعد ثمة حاجة لوجودك » : سمعت صوتًا يتحدث
أجش فظٍّا، لكنه لم يكن قاسيًا.
فتحتُ عيني ونظرت من حولي، ووجدتني راقدًا على أريكة وثيرة في شقة صغيرة،
على كل جانب منها ارتخت ستائر ثقيلة تحدُّ من مجال الرؤية. ليس من السهل أبدًا أن
أصف أبرز ما يميز هذا المكان؛ إذ كان به سمة لم أجد لها مقابلًا دقيقًا في أي لغة من
لغات البشر. كان كلشيء مضيئًا من تلقاء نفسه ويشعضوءًا، إن جاز التعبير، لا يعكسه.
كانت الستائر القرمزية تضيء بوهج قرمزي معتم غير شفاف. كانت الأريكة مصنوعة من
النُّحاس، ولكنه كان نُحاسًا يتوهج وكأنه مصدر للضوء، وحتى الشخص الطويل الذي
كان واقفًا إلى جواري وهو ينظر إلى وجهي بنظرة ودودة وعطوفة، كان يسطع بالضوء؛
فكانت ملامحه تشع بالضوء، وحتى حذاؤه المطلي بملمع نقي خالص، كان يشع سوادًا
عجيبًا، حتى اعتقدت أن بإمكاني أن أقرأ الجريدة على ضوء حذائه فحسب.
كان تأثير هذه الظاهرة الفريدة عجيبًا للغاية، حتى إنني تناسيت آداب اللياقة
والسلوك وضحكت بصوت عالٍ.
اعذرني، لكنك شديد الشبه بمصباح صيني؛ فما استطعت أن » : لكنني اعتذرت قائلًا
«. أقاوم
«؟ لا أرى شيئًا يستدعي المرح والضحك، هل تقصد لَمَعاني » : ردَّ بجدِّية
حثَّني ما أبداه من عدم وعي شديد بالأمر على الضحك مجدَّدًا، وبعد ذلك، حين اعتدت
على ظاهرة الضوء المنتشر في كل مكان، بدت جميع الألوان المضيئة طبيعية للغاية، ولم
أعد أرى ما يستدعي الضحك والمرح، مثله تمامًا.
لقد كان هذا » : التفتُّ إليه متحدثًا كي أغير مجرى الحوار؛ إذ بدا عليه بعضالاستياء
البراندي الذي تفضَّلت بتقديمه لي رائعًا للغاية يا صديقي، ولعلك لا تمانع في أن تخبرني
«. أين أنا الآن
أستطيع أن أطمئنك أنك بين مَن نَحْدَبُ عليهم بالرغم من حماقاتك ومثالبك المخزية. »
«. وسوف نحاول أن نجعلك تكفُّ عن الندم على ذلك العالم العبثي الذي غادرته للأبد
«. إنكم في غاية الكرم، لكن عليَّ أن أعود إلى كانان بأسرع ما يمكن » : رددت قائلًا
«. لن تعود أبدًا إلى كانان. إنَّ الطريق الذي أتيت منه يسير في اتجاه واحد فحسب »
«؟ وأنتم تعتزمون إبقائي هنا في هذا الكهف الملعون »
«. هذا لصالحك »
«. من المدهش حرصكم الشديد على سلامتي المعنوية » : رددت عليه ببعضالحدَّة
أظنُّ أنه قد مر عليَّ أسبوع بأكمله وأنا محبوس بين هذه الستائر المضيئة، بالرغم
من أنني لم يكن لديَّ أي وسيلة لقياس الوقت؛ إذ كانت ساعتي تأبى بعناد أن تسير.
كان حارسيالمضيء يزورني على فترات منتظمة، ويحضرلي الطعام، الذي كان يضيء هو
الآخر وكأنه ذو وميض فسفوري، لكنني كنت آكله باستمتاع لا مثيل له؛ إذ كان شهيٍّا
للغاية. كان يبدو عازفًا عن الحديث، لكنه كان دومًا عطوفًا ومهذبًا، وكان دائمًا ما يحيِّيني
ويودِّعني بابتسامة هادئة ممتزجة بالتعالي، لكنها أصبحت في النهاية مزعجة إلى أبعد حدٍّ.
اسمع، أنت تعرف جيدًا » : في أحد الأيام كنت قد فقدت كل صبري، وخاطبته قائلًا
أنَّني أستطيع أن أخنقك وأهرب من هذا المكان إيابًا إلى ضوء النهار الحقيقي. غير أنني
ضعيف، وما زال بداخلي من الإنسانية ما يكفي لأخبرك بأنني سأكون ممتنٍّا للغاية إن
أفصحت لي عن هويتك وأخبرتني بسبب ابتسامك الدائم لي بمثل هذا التعالي، وماذا تنوي
«؟ أن تفعل بي. من أنت على أي حال
كل هذا ستعرفه قريبًا جدٍّا؛ فلديَّ تعليمات بأن أقدمك فورًا إلى » : أجابني بأدب جمٍّ
«. سيدي
«؟ سيد الاسبلرجلز »
أجل، الاسبلرجلز، إن كان هذا هو ما تختاره. أعتقد أنَّ هذا هو الاسم الذي يطلقونه »
علينا في ذلك العالم البائس الذي هربت منه لحسن حظك. تعالَ معي من فضلك إلى القاعة
«. التي يعقد فيها سيدي المقابلات
كان زعيم الاسبلرجلز ذا شخصية في غاية الجاذبية، وكان يشبه حارسيومستشاريه
وخدمه المحيطين به في القاعة المجهزة بوسائل الراحة (فيما عدا استثناءً واحدًا)؛ فقد كان
مضيئًا هو الآخر. أما الاستثناء، فهو ذلك الشخصالذي كان حاضرًا بين خدمه والذي كان
يبدو أنه مثلي من البشر، لكنه بذل كل ما في وسعه لكي يعالج هذا العيب الطبيعي. فقد
مسح وجهه ويديه وثيابه بالفسفور؛ وراح يشع بضوء صناعي في محاولة رديئة لتقليد
تلك الإضاءة الأصلية التي تميز عالم الاسبلرجلز. كان يبدو من تصرفاته ونظراته أنَّ هذه
المحاكاة، في حالته، هي أصدق محاولات الإطراء. كانت جميع تصرفاته تجاه الاسبلرجلز
تدل على الخنوع الشديد. فقد كان يتحرك رهن إشارتهم، ولا يبتهج إلا إذا أذنوا له بذلك،
وبدا ينتفخ فخرًا وأهمية حين يتكرم سيد هذه الكائنات الغريبة بمنحه كلمة أو نظرة
توحي بالاستهجان.
يا دودة الأرض! هل أنت مستعد للقبول بفرصة » : تحدث زعيم الاسبلرجلز قائلًا
«؟ عظيمة
«. إنني مستعد لأن أزحف عائدًا إلى حياتي الحقيرة في أقرب فرصة » : أجبت
«! أيها المغفل البائس » : تحدث زعيم الاسبلرجلز دون أدنى إشارة تدل على فراغصبره
«؟ شكرًا لك. وبمَ أدعو جلالتك » : أجبته بانحناءة قصدت بها السخرية
أنا أهريمان العظيم، الشيطان الجبار أهريمان. يرتعش » : ثم كرر قائلًا ،« أنا أهريمان »
البشرإن وردت بخاطرهم، ولا يجرءون على ذكر اسمي. كنت أحكم في عهدي إمبراطورية
شاسعة من الديفا، وأنزلت بفارس وما حولها الكثير من الأذى والخراب. إنني صديق
«. مروِّع، صدقني، أبثُّ الكثير من الرعب في النفوس
عفوًا أيها العم أهريمان، لكن أأنت متأكد من أنك لا تزال » : قلت معلقًا على حديثه
«؟ مرعبًا كما كنت من قبل
تسلَّل إلى ملامحه تعبير يدل على كبريائه الجريحة، ثم أجاب متردِّدًا بعض الشيء:
ربما، ربما توقفت عن الممارسة قليلًا؛ فالسنوات والظروف قد حدَّت من مجال عملي، »
«؟ لكنني لا أزال مرعبًا. بيلزباب، أَوَلستُ مرعبًا للغاية
سيدي أهريمان، إنك مرعب على نحو يفوق » : تحدَّث صوت مألوف من خلفي
نظرتُ حولي فرأيت أنَّ هذا الرأي قد صدر من حارسيورفيقي القديم. «. الوصف
أسمعت بيلزباب؟ إنه يقول إنني مرعب على نحو يفوق الوصف. » : تابع أهريمان
يمكنك أن تصدق بيلزباب؛ فهو من أصدق الشياطين في مجتمعنا ويقظ الضمير. صحيح
أنه يحتقر الطبيعة البشرية، لكنَّ رأيه لا يختلف عن رأي أي فرد آخر في مثل هذه الأمور.
«؟ أجل، إنني مريع بلا شك. أليس كذلك يا ستاكبول
رأيتُ الرجل الذي كنت قد لاحظت من قبل أنه بشري مثلي، والذي كان منصاعًا لجميع
رغبات الاسبلرجلز وأهوائهم، وقد تقدم من بين الحشد، ورفع عينَيه من الأرضحتى التقتا
بعينَي أهريمان، ثم راح يهتز ويرتعش كمن صعقه الرعب فأخرسه عن الكلام. وحينها
عرفت أنَّ الخسيس كان يتمثَّل كل ذلك؛ حتى إنني أعتقد أنه قد غمز لي غمزة ماكرة حين
عاد إلى مكانه، وكان قد انتهى من الارتعاش.
أرأيت! يا له من تأثير عظيم هذا الذي يبثه حضوري » : التفت أهريمان لي بفخر وقال
«. في صديقنا الموقر جيرميا ستاكبول، بالرغم من أنه قد اعتاد رؤيتي لقرابة عشرين عامًا
كان هذا البشري إذن هو ذلك الشاب الملحد من كانان، والذي عرفت بقصة اختفائه
الغامض عام ١٨٥٨ في متجر الشمَّاس بليمبتون، وقد عرفت بعد ذلك أنَّه قدم إلى كهف
الاسبلرجلز بالطريقة نفسها التي قدمت بها إليه، غير أنه على خلافي، تصالح مع الأمر
بسرعة. كان مجتمع الشياطين المتقاعدين في أعماق الأرضمناسبًا لميوله تمامًا؛ فإذ اطمأن
أنهم سيكفلون له حياة مريحة طوال عمره، لم يحاول أن يهرب من الكهف على الإطلاق،
ووجد أنَّ من مصلحته أن يكتسب ثقة آسريه بالتملُّق لهم ومجاراة غرورهم الذي لاضرر
منه.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.