كان الزائرون الذين حضروا اليوم أقلَّ من المعتاد؛ فلم يأتِ سوى اثني عشر فقط
منهم. وكان من بين هؤلاء ثمانية أشخاصلم يَطرحوا سوى مشروعات غير قابلة للتطبيق.
في الواقع كان أحدهم يرغب في إحياء فن الرسم؛ وهو فنٌّ لم يَعُد له استخدام نتيجة التقدُّم
المحرَز في التصوير الفوتوغرافي بالألوان. وكان أحد الزائرين الآخرين طبيبًا تفاخر بأنه
اكتشف علاجًا للزكام! وقد قُوبلت هذه الطلبات غير العملية بالرفضالفوري. وفي مقدمة
المشروعات الأربعة التي حظيت بترحيب، جاء مشروعٌ لأحد الشباب الذي دلَّت جبهتُه
العريضة على تمتُّعه بمَلَكةٍ فكرية قوية.
«. سيدي، أنا كيميائي، وقد أتيت إليك اليوم بهذه الصفة نفسها » : بدأ حديثه
«! حسنًا »
كان عدد العناصرالأساسية في يوم من الأيام اثنين وستين؛ » : قال الكيميائي الشاب
ثم خُفضعددها منذ مائة عام إلى عشرة؛ والآن لم يبقَ إلا ثلاثة عناصرفقط لا تزال غير
«. قابلة للحل، كما تعلم ذلك
«. نعم هو كذلك »
حسنًا يا سيدي، أنا سأثبت أن هذه العناصرأيضًا مركبة، وفي غضون بضعة أشهر »
«. أو بضعة أسابيع سأكون قد نجحت في حلِّ المشكلة؛ بل قد يستغرق ذلك بضعة أيام فقط
«؟ وماذا بعد ذلك »
بعد ذلك يا سيدي، سأكون قد توصلت إلى الحقيقة المطلقة. كل ما أريده هو المال »
«. الكافي لإجراء أبحاثي؛ حتى أتمكَّن من إتمام المهمة المطلوبة بنجاح
«؟ حسنًا، وما الثمار العملية لاكتشافك » : قال السيد سميث
الثمار العملية؟ سيُساعدنا ذلك على إنتاج جميع الأجسام بسهولة، أيٍّا كانت، بما »
«… يشمل الحجر والخشب والمعادن والألياف
واللحم والدم؟ هل تزعم بأنك تتوقع النجاح في » : قاطعه السيد سميث مستفسِرًا
«؟ تصنيع إنسان بالكامل
«؟ لِمَ لا »
وهكذا أمر السيد سميث بصرف دفعةٍ مقدمةٍ قيمتها ١٠٠ ألف دولار للكيميائي
ليتمكَّن من تقديم خدماته. ؛« إيرث كرونيكل » الشاب، وكان حلقة وصل بينه وبين مختبر
أما عن المتقدم الثاني من المتقدمين الأربعة الناجحين، فقد بنى مشروعه المقترح على
الاستفادة من تجارب بدأ إجراؤها منذ فترة طويلة جدٍّا، وتحديدًا منذ القرن التاسع عشر،
وأعُيد إجراؤها مرارًا وتكرارًا منذ ذلك الحين؛ إذ تمحورت فكرته الرئيسية حول نقل مدينة
بأكملها مرة واحدة من مكان إلى آخر. كان مشروعه يُركِّز بالأخص على مدينة جرانتون
الواقعة، كما يعلم الجميع، على بُعد نحو خمسة عشر ميلًا للداخل. وقد اقترح نقل المدينة
باستخدام السكك الحديدية وتحويلها إلى منتجع يتميز بالمياه والينابيع العذبة. وسيكون
الربح الذي سيَضخُّه هذا المشروع هائلًا بالطبع. افتُتن السيد سميث بهذه الفكرة، فاشترى
نصف أسهمه.
كما تعلم سيدي، نحن قادرون بمساعدة الِمرْكَمات » : بدأ المتقدم الثالث حديثه قائلًا
والمحولات الشمسية والأرضية، على جعل جميع فصول السنة متشابهة. وأنا أقترح أن نفعل ما هو أفضل من ذلك عن طريق تحويل جزء من الطاقة الفائضة الموجودة تحت تصرفنا إلى حرارة، وإرسال هذه الحرارة إلى القطبَين؛ ومن ثَمَّ سيقلل ذلك من القمم الثلجية بالمناطق القطبية، وستصبح مساحةٌ واسعةٌ منها متاحةً للاستخدام البشري، فما رأيك في مخطَّطِ
«؟ هذا المشروع
«. اترك المخطَّط معي، وعُد في غضون أسبوع، وسأكون قد درسته في هذه الأثناء »
وأخيرًا، أفصح المتقدم الرابع عن حلٍّ مبكر لمشكلة علمية عويصة. الجميع يَتذكرون
التَّجرِبة الجريئة التي أجراها منذ مائة سنة الدكتور ناثانيال فيثبيرن؛ إذ كان الطبيب
مؤمنًا إيمانًا راسخًا بالسبات البشري؛ أي إنه بعبارة أخرى كان مؤمنًا بإمكانية تعليق
وظائفنا الحيوية لفترة من الزمن، ثم تشغيلها مرة أخرى بعد انقضاء هذه الفترة، وكان
قد قرَّر إخضاع نظريته للاختبار العملي. وتحقيقًا لهذه الغاية، اختبَر بلا تردُّد النظريةَ
على نفسه لإثباتها بعد أن كتب وصيته الأخيرة وترك شرحًا مفصلًا للطريقة الصحيحة
لإيقاظه من سباته، وبعد أن أعطى تعليماتٍ بتركه في سباته مدة مائة عام بالضبط من
تاريخ موته الظاهري.
أصبح الدكتور فيثبيرن في صورة مومياء؛ إذ كُفِّن ووُضع في القبر، وتعاقبت عليه
السنون. كان التاريخ المقرَّر لإحيائه هو ٢٥ سبتمبر ٢٨٨٩ ، واقترح المتقدم على السيد
سميث أن يسمح له بأن يستكمل الجزء الثاني من التجربة التي يتعيَّن إجراؤها في مسكن
السيد سميث هذا المساء.
وبهذا اختُتمت المقابلات «. أنا موافق. احضر هنا في العاشرة » : أجاب السيد سميث
المقررة في ذلك اليوم.
بعد أن اختلى السيد سميث بنفسه أخيرًا، حلَّ عليه الشعور بالتعب، فاستلقى على
كرسي متعدِّد الاستخدامات، وبلمسة مقبض اتصل بقاعة الحفلات الموسيقية الرئيسية؛
حيث يُرسِل أعظم قائدي الفرق الموسيقية توليفاتٍ موسيقية مُتتابعة ومبهجة للمشتركين،
مؤلَّفةً على أساسصيغٍ جبرية تستعصيعلى الفَهْم. كان الليل قد أوشك على الاقتراب، ومن
شدة افتتان سميث بالموسيقى التي يسمعها، نسيمراقبة الوقت، ولم يَلحظ أن الظلام آخذ
في الازدياد. كان الظلام دامسًا عندما أفاق على صوت الباب وهو يُفتح. سأل وهو ممسك
«؟ مَن هناك » : بجهاز المبدل الكهربائي
فجأة، ونتيجة للاهتزازات التي أحدثها الجهاز، أضُيء المكان.
«؟ آه! أهذا أنت أيها الطبيب »
«؟ نعم، كيف حالك » : أجاب
«. أنا على ما يرام »
«؟ حسنًا! اسمح لي أن أفحصلسانك. جيد جدٍّا! ونبضك منتظم. وشهيتك »
«. شهيتي لا بأس بها »
نعم، المشكلة تكمن في المعدة؛ فأنت تُفرط في العمل. إذا كانت معدتك تحتاج إلى علاج »
«. فيجب أن نعالجها؛ هذا الأمر يتطلب الدراسة، ويجب أن نفكِّر فيه مليٍّا
«. أما الآن فستَتناول العشاء معي » : قال السيد سميث
وكما كانت الحال في الصباح، خرجت طاولة من الأرض، ومثلما حدث في الصباح،
قُدِّم عليها الحساء والمشويات واليخنة والبقوليات من خلال أنابيب الطعام. وقبل أن يوشك
السيد سميث على الانتهاء من تناول وجبته، أجرى اتصالًا عن طريق جهاز الفونوتليفوت
بباريس. رأى سميث زوجته جالسة وحدها على طاولة العشاء، وتبدو مُتضايقة من
وحدتها.
أنا آسف يا عزيزتي لأنَّني تركتك بمفردك؛ فقد كنتُ برفقة » : قال لها عبْر الهاتف
«. الدكتور ويلكنز
«! آه، الطبيب الفاضل » : قالت السيدة سميث وقد تهلَّل وجهها
«؟ نعم. لكن لعمرك متى ستعودين إلى المنزل »
«. هذا المساء »
«؟ حسنًا. هل ستُسافرين عن طريق الأنابيب الهوائية أم القطار الجوي »
«. أوه، عن طريق الأنابيب الهوائية »
«؟ وفي أي ساعة ستصلين »
«. أظن أنني سأصل في الحادية عشرة تقريبًا »
«؟ أتقصدين الحادية عشرة بتوقيت سنتروبوليس »
«. أجل »
ثم قطع الاتصال بباريس. «. وداعًا إذًا إلى أن نلتقي بعد قليل » : قال السيد سميث
أتوقع » : انتهى العشاء وأبدى الدكتور ويلكنز رغبته في المغادرة. وقال السيد سميث
أن تحضرإلى هنا في العاشرة. يبدو أن اليوم سيشهد عودة الحياة للدكتور فيثبيرن الشهير.
أنت لم تفكِّر في الأمر من قبلُ على ما أعتقد. سنُوقظه من سباته هنا في بيتي. يجب أن تأتي
«. وتشاهد، وأنا سأعُوِّل على وجودك هنا
«. سأعود » : أجاب الدكتور ويلكنز
شغل السيد سميث نفسه في الفترة التي قضاها وحده بمراجعة حساباته؛ وهي مهمة
ضخمة تتعلَّق بمعاملات تتضمن إنفاقًا يوميٍّا يصل إلى ٨٠٠ ألف دولار. ولحسن الحظ
فإن التقدُّم الهائل الذي شهده عالَم الأجهزة الميكانيكية في العصرالحديث جعل هذا الأمر
سهلًا نسبيٍّا؛ فبفضل الآلة الحاسبة الإلكترونية التي على شكل بيانو، يمكن إجراء أكثر
الحسابات تعقيدًا في بضع ثوانٍ. وفي غضون ساعتين أكمل السيد سميث مهمَّته؛ أي في
الموعد المناسب بالضبط. ولم يكد ينتهي من قلب الصفحة الأخيرة حتى وصل الدكتور
ويلكنز، وأعقب وصوله وصول جثمان الدكتور فيثبيرن، برفقة مجموعة من رجال العلم،
وبدءوا العمل من فورهم. وُضع التابوت وسط الغرفة، وأحُضرالتليفوت وجُعل في وضع
الاستعداد. كان العالم الخارجي، الذي أبُلِغ بالفعل بهذا الحدث، مترقِّبًا بحماس؛ فالعالم
كله سيكون شاهد عِيان على تنفيذ هذه التجربة، مع وجود مراسل يعلِّق بالتزامن مع ذلك
— مثل جوقة في دراما قديمة — على الحدث ويشرح جميع تفاصيله شفهيٍّا عبْر الهاتف.
والآن يُخرِجون فيثبيرن منه؛ نراه الآن مومياء حقيقية، «. إنهم يفتحون التابوت » : قال
صفراء اللون ومتيبِّسة وجافة. عندما يَطرقون على الجثمان يَصدُر صوتُ دويٍّ كأنه قالب
من الخشب؛ وهُمُ الآن يستخدمون الحرارة، ثم الكهرباء، لكن بلا جدوى. أوُقفت هذه
التجارب فترةً من الوقت حتى يَفحصالدكتور ويلكنز الجثمان. يُعلن الدكتور ويلكنز بعد
يجيب «! ميت » : الانتهاء من الفحصأن الرجل ميت؛ فيتعجب جميع الحاضرين ويهتفون
فيُجرِي الدكتور «؟ وكم من الوقت لبث ميتًا » : ويسألون «! نعم … ميت » : الدكتور ويلكنز
«. مائة سنة » : ويلكنز فحصًا آخَر ثم يجيب
كان الوضع على النحو الذي وصَفه المراسل تمامًا. كان فيثبيرن ميتًا؛ ميتًا بكل تأكيد!
نحتاج إذًا إلى إدخال بعض التحسينات على الطريقة » : قال السيد سميث للدكتور ويلكنز
في حين كانت اللجنة العلمية المَعنية بحالة السُّبات تَحمل التابوت إلى الخارج. «. المُتَّبعة
لقد فشلت التجربة، لكن إذا كان فيثبيرن البائس قد مات، فعلى الأقل هو يَنعَم » : وأضاف
بالنوم. أتمنى لو أنني استطعت الحصول على قسط من النوم؛ فأنا مُتعَب أيها الطبيب؛
«؟ متعَبٌ جدٍّا! هل تعتقد أن الحيوية ستعود لي إذا أخذت حمامًا منعشًا
بالتأكيد، ولكن يجب عليك ارتداء ملابس ثقيلة قبل أن تَخرج إلى الرَّدهة؛ فلا يجب »
«. أن تعرِّضنفسك للبرد
الرَّدهة؟ أنت تعرف جيدًا أيها الطبيب أن كل شيء تُؤدِّيه الآلات » : قال السيد سميث
ثم ضغط على زر. بعد «! هنا؛ فأنا لن أذهب إلى الحمام، بل هو الذي سيأتيني، انظر
بضع ثوانٍ صدر صوت خافت أخذ يعلو شيئًا فشيئًا؛ وفجأة فُتِح الباب، وظهر حوض
الاستحمام.
وهكذا، وفي عام ٢٨٨٩ المبارَك، شهدنا معًا أحداث يوم واحد في حياة رئيس تحرير
وأحداث هذا اليوم لا تختلف عن أحداث ال ٣٦٥ يومًا الباقية ؛« إيرث كرونيكل » صحيفة
من كل عام، فيما عدا السنوات الكبيسة التي يبلغ عدد أيامها ٣٦٦ يومًا؛ فلم تُبتكر بعدُ
وسيلةٌ لزيادة مدة السنوات الأرضية.
في فبراير عام ١٨٨٩ ، صفحة « المنتدى » ملحوظة من المحرر: نُشرت هذه القصة للمرة الأولى في
٢٦٢ . وقد نُشرت في فرنسا في العام التالي. وبالرغم من نشرها باسم جول فيرن، يُعتقد حاليٍّا
أن أغلبها، إن لم يكن كلها، من إبداع نجل جول، واسمه مايكل فيرن. وعلى أيِّ حال، فإن
كثيرًا من الموضوعات المعروضة في هذه القصة تعكس أفكار فيرن. (المصدر: مشروع جوتنبرج:
(.http://www.gutenberg.org/files/19362/19362-h/19362-h.htm