hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

لا داعي للإسهاب في وصف الهَرج والمَرج الذي أثارهما ذلك الحدث في مدرسة
ساسيكسفيل الخاصة ومقاطعة ساسيكسفيل وغيرهما، فمن غير المستبعد حقٍّا أن يذكر
بعضٌ من قراء تلك الصفحات استماعهم إلى نسخة باهتة واهنة من ذلك اللغَط خلال
العطلات الصيفية الأخيرة. يبدو أن ليدجت بذل كل ما في وسعه للتكتم على القصة والتقليل
من أهميتها، واستحدث عقوبة تقضي على كل من يذكر اسم بلاتنر من الطلاب بكتابة
خمسة وعشرين سطرًا على السبورة، وأعلن في الفصل أنه على دراية تامة بمكان مساعِده،
بلاتنر، وأوضح أنه بالرغم من الاحتياطات الدقيقة والمحكمة التي اتخذها للتقليل من
التدريس العملي للكيمياء إلى أدنى حد ممكن، فإنه كان يخشى من أن احتمالية وقوع
انفجار قد تسيء إلى سمعة المدرسة؛ وهو ما قد يسببه اختفاء بلاتنر بأي كيفية غامضة.
لقد بذل الرجل بالفعل قُصارَى جهده لكي يبدوَ الحدث عاديٍّا قدرَ الإمكان، بل عكف على
استجواب الشهود الخمسة الذين عاينوا الواقعة بتحرٍّ واستقصاء شديدَين حتى إنهم بدءوا
يرتابون فيما رأتْه أعينُهم، لكن بالرغم من كل هذه الجهود، بقيت القصة، بعد أن شهدت
قدرًا من التحريف والمغالاة، محل تعجب سكان المقاطعة لمدة تسعة أيام. وأقدم العديد من
أولياء الأمور على إخراج أبنائهم من المدرسة متذرِّعين بحُجج بدَتْ معقولة. لم تنتهِ غرائب
تلك القصة عند هذا الحد؛ فقد رأى عدد كبير من سكان الحي رؤًى لبلاتنر يثير وضوحُها
العجب، وذلك في فترة اللغط التي سبقت عودته، وكانت جميعها تتسم بقدر غريب من
التماثل، ويتجسد بلاتنر في أغلبها وهو يَهِيم وسط طيف متلألئ من الأضواء الملونة بألوان
قوس قزح، منفردًا أحيانًا وفي صحبة آخرين أحيانًا أخرى، لكن وجهه في جميع الحالات
كان شاحبًا مغتمٍّا، وفي بعض تلك الرؤى كان يشير ويومئ لصاحب الرؤيا، بينما تخيل
فتًى أو اثنان — تحت تأثير كابوسبالتأكيد — أن بلاتنر اقترب منهما بسرعة خاطفة وبدا
كأنه يُمعن النظر في عينيهما، في حين رأى آخرون أنفسهم وهم يفرون معه من ملاحقة
مخلوقات غريبة غامضة كُرَوية الشكل، بَيْد أن كل هذه التخيلات قد طواها النسيان في
خِضَمِّ التساؤلات والتخمينات التي أثارتها عودة بلاتنر يومَ الأربعاء من الأسبوع الذي تلا
الانفجار، الذي وقع يوم الإثنين.
لم تكن ملابساتُ عودته أقلَّ غرابة من ملابسات اختفائه، فحسبما يشير الموجز
الغاضب الذي أدلى به السيد ليدجت—والذي تكمله عبارات بلاتنر المترددة—يتضح أنه في
مساء الأربعاء، قُبيل ساعة الغروب، بعد أن أَذِنَ السيد ليدجت لأصحاب الواجبات المدرسية
المسائية بالانصراف، انهمك في حديقته بقطف حبات الفراولة والتهامها، فهو مولَع بها
إلى حد الإفراط. إنها حديقة واسعة، وقديمة في طرازها، يخفيها عن الأعين، لحسن الحظ،
سورٌ عالٍ من الطوب الأحمر تغطيه نباتات اللَّبْلاب. وبينما كان السيد ليدجت ينحني فوق
واحدة من تلك النباتات وافرة الثمار، إذا بحركة خاطفة في الهواء وصوت ارتطام شديد
يمزقان خلوة السيد ليدجت، وقبل أن يستدير ليرى مصدرهما، فوجئ بجسم ثقيل يرتطم
به بعنف من الخلف، فانكفأ على وجهه، وانسحقت حبات الفراولة التي كان يحملها.
وكان الارتطام من القوة بحيث أَسقط قبعته الحريرية — فالسيد ليدجت ملتزم بالأفكار
القديمة المتعلقة بالزي الأكاديمي — على جبهته؛ فغطت إحدى عينيه تقريبًا. لم تكن تلك
القذيفة الثقيلة التي انزلقت فوقه وحطَّت في وضع الجلوس وسط ثمار الفراولة سوى
السيد جوتفريد بلاتنر الذي طال غيابه، وقد بدا في حالةٍ أبعد ما تكون عن الْهِندام؛ فقد
كان ثوبُه بلا ياقة، ورأسه حاسرًا، وثيابه الْكَتَّانية قذرةً، وعلى يديه آثار دماء. سيطرت على
السيد ليدجت حالة من السخط والذهول أبقته جاثيًا على أطرافه الأربعة، وقد مالت قبعته
على عينه، وأخذ يحاجج بلاتنر بشدة لسلوكه غير المسئول الذي لا يُنْبِئ عن أيِّ احترام.
إن مثل هذا المشهد الفريد في إثارته يتمم ما قد أَصِفه بالرواية الظاهرية لقصة
السيد بلاتنر؛ أي الجانب الخارجي المتداول منها. ليس هناك أدنى ضرورة للخوض في
جميع التفاصيل الخاصة بفصل السيد ليدجت لبلاتنر من المدرسة، فتلك التفاصيل مدونة،
بالأسماء الكاملة والتواريخ والمصادر، في التقرير المطول لتلك الوقائع الذي طُرِح أمام
جمعية التحقيقات في الظواهر الخارقة للعادة. لم يكن التبدل العجيب في شِقَّيِ السيد
بلاتنر يَلْفِت الأنظار في الأيام القليلة التي أعقبت ظهوره، لكن أول ما لُوحظ هو نزوعه
للكتابة على السبورة من اليمين إلى اليسار. عمد بلاتنر إلى إخفاء تلك القرينة العجيبة
المؤيدة بدلًا من الجهر بها؛ خشية أن يضرَّ ذلك بفُرَصه في الحصول على وظيفة جديدة.
ولم يُكشف عن تغير موضع قلبه إلا بعد بضعة أشهر حين اضطُرَّ إلى خلع إحدى أسنانه
تحت تأثير المخدِّر. وسَمح بعد ذلك، على مَضض، بإجراء فحصجراحيسريع على جسده
إن ما سبق يتناول التفاصيل المتعلقة بالحقائق .« دورية علم التشريح » لعرضه بإيجاز في
المادِّية، وقد يسعنا الآن المُضيقُدمًا في النظر في رواية بلاتنر للواقعة.
لكنْ بادئَ ذي بَدْءٍ، دعْني أفرِّق بوضوح بين ما سبق من القصة وما نحن مقبلون
على سرده؛ إن كل ما أوردْتُه حتى الآن تؤيده قرائنُ وأدلة، سيقرُّها أيُّ مُحامٍ جنائي.
لا يزال جميع الشهود على قَيد الحياة، وإذا كان لدى القارئِ متسعٌ من الوقت، فبإمكانه
مقابلة الفتية غدًا أو حتى الإقدام على تحمل إزعاج السيد ليدجت الرهيب واستجوابه
لسَبْر أغوار صدره، بل يمكن رؤية السيد جوتفريد بلاتنر نفسه بقلبه المنقول من مكانه
وصوره الفوتوغرافية الثلاث. كما يمكن اعتبار الوقائع التالية بمنزلة حقائق ثابتة بالأدلة
القاطعة: لقد اختفى السيد بلاتنر لمدة تسعة أيام إثرَ انفجار، ثم عاد في ظل ظروف لا
تقِلُّ عنفًا ومفاجأةً عن ظروف اختفائه، وأيٍّا كانت تفاصيلها، فقد أثارت ضيقَ السيد
ليدجت وسخطه. عاد بلاتنر وقد تبدل جانباه تمامًا، كما ترتد انعكاسات الصور من
سطح المرآة. مِن شبه الحتمي أن يترتب على الحقيقة الأخيرة، كما ذكرتُ سَلفًا، أن بلاتنر،
خلال أيام اختفائه التسعة، كان بلا شك في حالةٍ ما من الوجود خارجَ نطاق الزمان
والمكان. إن القرائن الدالَّة على تلك الأقوال تَفُوق في قوتها ورُجْحانها تلك التي تَسوق أغلب
القتلة إلى الْمِقْصلة. لكن بالنسبة إلى روايته الخاصة للمكان الذي انتقل إليه، بتفسيراتها
المضطربة وتفاصيلها التي تكاد تُناقض ذاتها، فليس لدينا دليلٌ على صحتها سوى كلام
السيد جوتفريد بلاتنر نفسه. لا أود الطعن في مصداقية ما سيلي ذِكره، لكن يتعين عليَّ أن
أَلفِت النظر إلى ما أَخفق في الإشارة إليه الكثيرون من الكتَّاب المعنيين بالظواهر الرُّوحية
الغامضة والخارقة للطبيعة، ألا وهو أننا نجتاز في هذه المرحلة ما يكاد يكون من المسلَّمات
إلى تلك الأمور التي يحق لأيِّ امرئ عاقل أن يَقبلها أو يرفضها حَسْبما يراه مناسبًا. إن
كل ما سبق يجعل الأمر معقولًا ووجيهًا، غير أن تَعارضه مع التجارِب والخبرات المشتركة
يَجنح به نحو غير المعقول. إنني أحبذ ألَّا أميلَ بحكم القارئ نحو أيٍّ من الجانبين، بل
أفضل فقط أن أسرد القصة كما رواها لي بلاتنر. من الجدير بالإشارة أن بلاتنر حكى لي
قصته في منزلي في ضاحية تشيزلهورست، وبمجرد مغادرته لمنزلي ذلك المساء توجهت إلى
مكتبي، ودونت كل شيء كما تذكرتُه، وقد تفضل السيد بلاتنر لاحقًا، مشكورًا، بالاطلاع
على نسخة مكتوبة، فلا مجال لإنكار مطابقتها القطعية لروايته.
يذكر بلاتنر أنه في اللحظة التي وقع فيها الانفجار راوده اعتقاد واضح بأنه لَقي
حَتْفه، وأَحس أن قدميه ترتفعان عن الأرض، وأن هناك ما يدفعه بالقوة إلى الخلف. من
الحقائق العجيبة بالنسبة إلى علماء النفس أنه كان يفكر بكل وضوح خلال رحلته إلى
الخلف، وتساءل عما إذا كان سيرتطم بخزانة الأجهزة المعدة للتجارِب الكيميائية أم بحامل
السبورة. اصطدم عَقِبَا قدمَيْه بالأرضفترنَّح ثم هَوَى بقوة إلى وضع الجلوس فوق شيء
صُلب أملس. أبقت الصدمة بلاتنر مَشدوهًا لوهلة، لكنه سُرعان ما ميَّز على الفور رائحة
قوية لشعر محروق، وبدا له أنه يستمع إلىصوت السيد ليدجت باحثًا عنه. لعلك ستستنتج
أن عقله كان في حالة ارتباك شديد للحظات.
كان لديه انطباع واضح في البداية أنه لم يَزل داخل قاعة الدراسة، وأبصربجَلاءٍ تامٍّ
دهشة الفتية، ودخول السيد ليدجت إلى القاعة، وهو متيقن تمامًا من تلك الحقيقة، لكنه لم
يسمع تعليقاتهم، وهو ما عزَاه إلى التجرِبة وتأثيرها المُصِمِّ للآذان. بدت له الأشياء المحيطة
به قاتمةً وباهتة على نحو عجيب، لكن عقله فسَّرهذه الظاهرة استنادًا إلى الفكرة البديهية
القائلة بأن الانفجار أحدث كمٍّا هائلًا من الدُّخَان المعتِم، لكنها كانت فكرةً مغلوطة.
رأى بلاتنر أطياف ليدجت والفتية وهي تتحرك وسط العتمة، وكانت باهتةً وصامتة
تمامًا كالأشباح، وظل يشعر بوخز في وجهه من أثر الحرارة اللاسعة التي صاحبت وَهج
الانفجار. يصف بلاتنر حالته حينئذٍ بالتشوش التام. يبدو أن أوُلى الخواطر المحددة
والواضحة التي راودته هي تلك التي تتعلق بسلامته الشخصية. ظن بلاتنر أنه فقد بصره
وسمعه وراح يتحسسأطرافه ووجهه بحذر، ثم ما لبثت إدراكاته أن اتضحت أكثر فأكثر،
واندهش لافتقاده المكاتب وغيرها من أثاث القاعة القديم المألوف له، ولم يرَ مكانها سوى
أشكال باهتةضبابية مصطَبِغة باللون الرَّمادي. ثم وقع حدثٌ دفعه للصراخ بأعلىصوته،
وأيقظ قواه العقلية من الذهول إلى النشاط في غمضة عين. رأى اثنين من الفتية يشير كلٌّ
منهما إلى الآخر، ويسيران متتابعيْن خلالَه مباشرة! لم يُبدِ أيٌّ منهما أدنى إدراك بوجوده.
من الصعب أن تتخيلَ شعوره آنَذاك. يذكر بلاتنر أن احتكاكَهما به لم يكن أقوى من مرور
دفقة من هواء السَّدِيم.
أول ما فكر فيه بلاتنر بعدَها هو أنه في عِداد الموتى. رغم أن نشأته كوَّنت لديه آراءً
صائبة تمامًا بشأن تلك المسائل، فإنه كان مندهشًا بعضَالشيء حين وجد جسده لم يزَل
موجودًا، فكان استنتاجه الثاني أنه لم يمُت، بل مَن حولَه هُم الموتى؛ أي إن الانفجار تسبب
في تدمير مدرسة ساسيكسفيل الخاصة، ووفاة كلِّ من فيها عَداه. بَيْد أن ذلك الاستنتاج
أيضًا لم يُرضِه تمامًا، فاضطُرَّ ثانيةً إلى اللجوء إلى ملاحظاته المغرِقة في الدهشة.
كان كل ما حوله في ظلام دامس: بدا وكأن عَتمة دهماء قد غشيَتْه. حين تطلع إلى ما
فوقَه رأى سماءً سوداء، ولا يقطع ظلامَ هذا المشهد سوى وميضواهن مائل إلى الاخضرار
ينبعث من حافَّتها في اتجاهٍ واحد، ويَفتح أمامَ الرائي أفقًا من التلال السوداء، بَدت وكأنها
أمواج متدرجة. أقول إن هذا كان انطباعه في بادئ الأمر، لكن مع اعتياد عينه على العتمة،
بدأ يميز في ذلك الليل المحدق به درجة باهتة من لون مميز ضارب إلى الخُضرة، وبرزت،
مقابل هذه الخلفية، قطعُ الأثاث ومن كانوا داخل قاعة الدراسة كأشباح فسفورية شاحبة
هلامية. وسط هذا المشهد المذهل، مد يدَه وأولجها عبر أحد الجدران المجاورة للمدفأة،
فمرت خلاله بلا أدنى مجهود.
وصف بلاتنر نفسه حينَها بأنه كان يبذل جهدًا مُضنيًا لجذب انتباه الحاضرين؛
فقد صاح مناديًا ليدجت، وحاول الإمساك بالفتية وهم في ذهابهم وإيابهم، ولم يكُفَّ عن
محاولاته تلك إلا حين دخلت القاعة السيدة ليدجت، التي كان (باعتباره مدرسًا مساعدًا)
يَمقتها بطبيعة الحال. أخبرني بلاتنر أن الإحساس بأنه موجود في هذا العالم دون أن
يكون جزءًا منه، إنما هو شعور بشع إلى أقصىحد، وشبَّه مشاعره بمشاعر قطة تراقب
فأرًا من وراء زجاج نافذة، وهو تشبيه في محله، فكلما حاول التواصل مع ما حوله من
عالم معتم مألوف، وجد حاجزًا غير مرئيٍّ وغير مفهوم يَحُول بينه وبين هذا التواصل، فما
كان منه إلا أن وجَّه انتباهه إلى البيئة المجسَّمة حولَه. وجد بلاتنر قارورة الدواء لم تَزل
سليمة في يده، وبداخلها بقية المسحوق الأخضر، فوضعها في جيبه، وبدأ يتحسس الأشياء
حولَه. بدا له أنه كان يجلس فوق جلمود صخر تكسوه طحالب رخوة ملساء، لكنه كان
عاجزًا عن تبين ملامح البلدة الحالكة حوله؛ إذ كان طيف قاعة الدراسة الباهت الضبابي
يحجبها عن ناظرَيْه، لكنَّ شعورًا داخله (لعله بسبب الريح الباردة) كان يُنبئه بأنه بالقرب
من قمة تل، وأن واديًا شديد الانحدار يمتد أسفلَ قدميه. التفت بلاتنر إلى الوميضالأخضر
الممتد على طول حافَّة السماء، وأحس أن نطاقه يتسع وقوته تشتد، فنهضمن فوره فاركًا
عينيه.
يبدو أنه خطا بضع خطوات، نازلًا من التل الشديد الانحدار، ثم تعثر، وكاد يسقط،
فجلس ثانية فوق صخرة ذات نتوء لمشاهدة بزوغ النور. أدرك بلاتنر أن العالم من حوله
في حالة سكون مطبِق، وكان السكون يُضاهي في شدته حُلْكة الظلام، ورغم وجود ريح
باردة تهب عاصفةً على جانب التل، لم يكن ثَمَّ حفيفٌ للعشب ولا أَطِيط لأغصان الأشجار،
وكلاهما عادةً ما يصاحب هبوب الريح؛ لذلك فإنه، وإن انعدمت رؤيته، استنبط أن جانب
التل الذي يعلوه إنما هو مكان مُقفِر لا تُغطيه سوى الصخور. كان الضوء الأخضريزداد
سطوعًا كل لحظة، وبينما هو كذلك، إذا بلون أحمر قانٍ، لكنه باهت وشفاف، يختلط بسواد
السماء فوقَه وبالقفار الصخرية حولَه، دون أن يخفف من وحشة أيٍّ منهما. وبالنظر إلى
ما سيلي ذكره، فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن تلك الحُمرة ربما كانت تأثيرًا بصريٍّا ناجمًا عن
تباين الألوان. مر شيء أسودُ مرفرفًا في لمح البصر عبر اللون الأخضر الشاحب الضارب
إلى الصُّفرة الذي تتشح به السماء الدنيا، وبعدها اخترق ذلك السكون صوتُ جرس رفيع
وحاد انبعث من الوهدة السوداء أسفله. اشتد الضوء المنبعث، واشتد معه ترقب موحِش
قابضللنفس.
لعل ساعة أو يزيد انقضت وهو جالس هناك، وكل لحظة تمر يزداد معها الضوء
الأخضرالغريب سطوعًا، وكان مداه يتسع ببطء، مادٍّا أشعة وهاجة نحو أعالي السماء. مع
تصاعد شدة الضوء، صارت الرؤية الطيفية لعالمنا أضعف نسبيٍّا أو مطلقًا، وربما كليهما
معًا، فلا بد أن الوقت في ذاك العالم الغريب كان مقاربًا لوقت الغروب في عالمنا الأرضي.
رأى بلاتنر، بقدر ما مكنته رؤيته لعالمنا، أنه اجتاز، بخطواته القليلة المنحدرة من أعلى
التل، الطابق الذي توجد فيه قاعة الدراسة، وبدا له أنه جالس الآن في الهواء داخل قاعة
الدراسة الكبرى في الطابق السفلي، وهناك استطاع أن يرى الطلاب المقيمين بوضوح لكنه
أقل من وضوح رؤيته للسيد ليدجت. كان الطلاب منهمكين في أداء واجباتهم المسائية،
ولاحظ باهتمام أن العديد منهم كانوا يغشُّون في حل المسائل الهندسية مستعملين قُصاصة
للغش، وهو أمر لم يتوقعه مطلقًا حتى رآه بعينيه. بدا مشهد الطلاب يَذوِي ويتلاشى
باطِّرادٍ يناظر وتيرةَ تنامي ضوء ذلك الفجر الأخضر.
صوَّب بلاتنر بصره إلى الوادي فرأى الضوء أوغل في زحفه أسفلَ جوانبه الصخرية،
وأن السواد الحالك الذي يكتنف الهُوَّة يقطعه الآنَ وهَج أخضرضئيل، يُشبه ذلك المنبعث
من يراعة، وفجأة سطع طرَفُ جِرْم سماويٍّ هائل ذي لون أخضروهَّاج فوق التضاريس
البازلتية المتموجة للتلال البعيدة، وبزغت كُتلها الرهيبة حولَه مقفرةً موحشة في أطياف
سوداء مائلة إلى الحُمرة، تتراوح خلفَها درجات اللون الأخضر بين داكن وفاتح. ثم ميَّز
بلاتنر عددًا هائلًا من الأجسام الكُرَوية وهي تنجرف كأكوام زغب الشوك فوق الآكام،
ولكن جميعها كان على الجهة المقابلة من الوادي السحيق. تسارع رنين الجرسأسفلَ منه
أكثر فأكثر، وفيهشيء من الإصرار الملح، تصحبه أضواء عدة تتحرك من مكان إلى آخر، أما
مشهد الفتية العاكفين على واجباتهم فقد خَفَتَ الآنَ حتى كاد يغيب عن ناظرَيْه.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.