استيقظت من نومي متأخرًا على غير عادتي. بالأمس كان وداع آخر أيام الامتحانات في مدرستي الإعدادية، واليوم أستقبل أول أيام الإجازة الصيفية التي أطلّت بشمسها المتوهجة وحرارتها الحارقة، محملةً بالحماس والحيوية التي تدفعني للتفكير في استغلال الوقت. وأين يمكنني أن أجد هذا الاستغلال أفضل من السفر! السفر الذي يفتح أبوابًا نحو المغامرة، حيث يلتقي الإنسان بثقافات جديدة ولغات غريبة ويكتشف أفقًا مختلفًا تمامًا عن واقعه اليومي.
أنا معاذ، مُحبٌّ لكل ما يحمل معنى المغامرة، متعطش لتجربة أشياء لم أعتد عليها. لا أفضّل البقاء ساكنًا دون تغيير أو استكشاف، لذا بدأت أخطط لقضاء إجازتي الصيفية بين أحضان الطبيعة الخلابة لجمهورية الكونغو الديمقراطية. كان لدي حلم أن أزور هذا البلد الذي طالما سمعت عنه الكثير، حيث يعمل عمي مراد في الغابات الاستوائية المطيرة. هناك، يقوم بقطع أشجار الماهوجني اللامعة والمشهورة بجودتها – بالطبع بطرق مشروعة – ليحولها إلى أثاث متين وقوي.
لطالما شعرت بالفخر بعمي مراد، فهو نموذج للعصامية، شخص استطاع أن يواجه التحديات ويعمل في بلد بعيد وظروف صعبة. في أحد الأيام، شاهدت برنامجًا وثائقيًا في التلفاز يروي قصصًا عن الكونغو، مملوءًا بصور عن الغابات العميقة والجبال الشاهقة والحيوانات النادرة التي لم أراها إلا في الكتب أو الأفلام. لكنّ البرنامج لم يخلُ من الإشارة إلى الصراعات الدائرة هناك، والحروب التي تترك آثارها على البلاد، إضافة إلى ما يُرتكب بحق الطبيعة من قطع للأشجار وتجريف للتربة وصيد غير مشروع للحيوانات. أثارتني هذه القضايا كثيرًا، وقررت أن أكتب مقالًا عنها بعنوان "إفساد الإنسان لغابات الكونغو"، لنشره في موقعي الإلكتروني الذي أنشأتُه مؤخرًا كنشاط مفيد أقتل به السأم والملل وأملأ به أوقات الفراغ الطويلة، فأنا لا أحب أن أضيع أوقات فراغي في أمور تافهة وغير مجدية . كما كنت أرى أن هذه القضايا تستحق أن تُروى وأن تصل للناس.
لم يكن والدي متحمسًا لفكرة السفر عندما طرحتها عليه بعد ظهور نتائج الامتحانات – والتي كانت مبهرة! إذ حصلت على المركز الأول في مدرستي عن جدارة واستحقاق. حاولتُ إقناعه قائلًا: "يا أبي، الطبيعة هناك ساحرة للغاية! الجبال الشاهقة التي تزدان قممها بفوهات البراكين النشطة والأنهار الممتدة، الغابات التي تعج بالحيوانات النادرة مثل الغوريلا الجبلية ووحيد القرن وفيل الأدغال. أريد أن أكتب عنها مدعومة بصور وفيديوهات حصرية التقطها بنفسي." لم يقتنع والدي بسهولة، فقد كان قلقًا من المخاطر الأمنية والصحية، فقال وهو يهز رأسه بالنفي:
"لا أعتقد أنها فكرة سديدة يا معاذ. فعلى الرغم من جمال الطبيعة وجاذبية التضاريس هناك في الكونغو، إلا أنها لا تزال خيارًا مستبعدًا بالنسبة لي، بسبب اضطراب الأمن، وانتشار الجرائم، وتفشي الأمراض والأوبئة. ولا تنسَ، أيها الحاذق، أن تلك القمم البركانية التي تتحدث عن جمالها تثور وتفور وتنطلق منها الحمم البركانية الحمراء الملتهبة، مُخلّفةً خسائر كبيرة في الأرواح، والأموال، والمنشآت. وذلك ليس بالأمر الهيّن، صدقني."
لم أكن أُلقي بالًا لحديث أبي؛ فلن تقوم الحروب وتثور البراكين بمجرد دخولنا إلى تلك البلدة. أعتقد أن أبي يبالغ بعض الشيء، ولكنني حاولت إقناعه بشتى الطرق والحيل الممكنة. قلت له: "ولكنها أيضًا فرصة عظيمة يا أبي لتلبية رغبة عمي في الذهاب إليه وزيارته. لقد مضى وقت طويل منذ آخر زيارة له هنا في قريتنا الصغيرة بالدلتا، ولم نره منذ ذلك الحين. وأظن أنه سيفرح كثيرًا بذهابنا إليه وزيارتنا له هناك في الكونغو الديمقراطية.
لم يجد أبي مفرًا من الموافقة على طلبي أمام ضغطي الشديد وإلحاحي المستمر عليه. ظل صامتًا لبرهة، ينظر بعيدًا وكأنه يُقيم كلماتي في عقله. شعرت بأن هذا الصمت يحمل في طياته صراعًا داخليًا بين رغبته في الحفاظ على أماننا وخوفه من أن يخذلني.
فقطعت الصمت قائلًا بحماسة: "أبي، أعدك أن أكون على قدر المسؤولية. هذه الرحلة تعني لي الكثير. أريد أن أرى عمي وأستمع إلى قصصه عن الكونغو التي طالما تحدث عنها بحماس. إنها فرصة لن تتكرر، ولن نخاطر بأي شيء دون تفكير."
عاد والدي يلتفت نحوي ببطء، وبدت ملامح وجهه متجهمةً، لكنه في النهاية تنهد بعمق وقال: "حسنًا، كما تشاء." ثم أضاف بنبرة يملؤها الحزم، مع عقد حاجبيه ورفع إصبعه للتأكيد: "لا أحب أن أرفض لك طلبًا، ولكنني أحذرك: هذه الرحلة لن تكون خالية من التحديات. عليك أن تتحمل عواقب قراراتك، وألا تنسى يومًا أن اختيارك هذا قد يجلب معه نتائج لن تكون دائمًا في صالحك."
شعرت بالانتصار عندما سمعت كلماته، ولكن ذلك الحزم الذي استقر في صوته ذكرني بأن المسؤولية التي أتحملها الآن أكبر مما تصورت.
نظرت إلى أبي بابتسامة مليئة بالامتنان وقلت: "أعدك يا أبي، لن تندم على موافقتك. سأكون حريصًا وسأفكر في كل خطوة نتخذها." ثم أسرعت خارج الغرفة لأبدأ التخطيط للرحلة، وقد شعرت بأن فصلاً جديدًا من حياتي على وشك أن يبدأ، مليئًا بالمغامرة والمسؤولية.
وبناءً على ما سبق، قام أبي بحجز تذكرتين لنا عبر الإنترنت للسفر إلى الكونغو الديمقراطية جوًا عن طريق الطائرة. كانت تلك اللحظة بمثابة شعلة أشعلت في قلبي حماسة غير مسبوقة، فقد تحول حلم السفر بالطائرة من مجرد خيال أراه على شاشة التلفاز إلى حقيقة بدأت تتجسد أمامي.
لأول مرة في حياتي، سأقترب من تلك الطائرات الضخمة التي كنت أتابعها بإعجاب ودهشة على شاشات التلفاز. شعرت بمزيج من المشاعر المتباينة، بين الفرح الذي يطفو فوق السطح، والخوف الذي يتسلل من زوايا العقل. تساءلت في داخلي: "هل سيكون التحليق فوق الغيوم ممتعًا كما يبدو؟ أم أن رهبة الارتفاع والهواجس المجهولة ستطغى على تلك المتعة؟"
لم أستطع إلا أن أستسلم لأفكاري، متخيلًا نفسي جالسًا بجوار النافذة، أراقب العالم وهو يتضاءل شيئًا فشيئًا تحت جناحي الطائرة. تخيلت كيف ستكون الأصوات، وكيف سأشعر مع أول حركة للإقلاع، ومع كل ارتعاشة خفيفة للطائرة في الهواء.
بدأت التحضيرات فور حصولي على موافقة أبي. اشتريت لوازم السفر ورتبت أمتعتي، لكنني شعرت بحاجتي الماسة إلى هاتف ذكي مزود بكاميرا جيدة. لجأت إلى أخي الأكبر، مالك، طالب الجامعات الذي يتمتع بجسد قوي وقامة طويلة، بخلاف شكلي النحيف وصورتي الأصغر من عمري. ولكنه يشبهني في العديد من الصفات الوراثية الأخرى؛ فهو يحمل نفس لون بشرتي وشعري وعينيّ، وشكل وجهه دائري كالبدر المنير. بمجرد أن سمح لي بدخول غرفته فور سماعه صوت نقرات يدي على الباب، بدا وكأنه قد تنبأ باحتياجي لأحد أشيائه الشخصية. فهو يعرفني خير معرفة، خاصة من نظرات عيني المتوسلة المتجهة إلى الأرض. اختصر عليّ الطريق وبادر بسؤاله الحازم:
"هيّا، أنجز يا معاذ. أخبرني ماذا تريد؟ فأنا على عجلة من أمري وليس لديّ مُتسع من الوقت."
لم أنبس بكلمة واحدة، واكتفيت بالنظر لأعلى نحو الهاتف الذي يحمله مالك في يده، وأشرت إليه دون أن أقول شيئًا. فرد مالك فورًا، وهو يزداد تصميمًا:
"لا... انس. أنت تطلب المستحيل، هذا الهاتف لا يفارقني أبدًا، فحياتي تتوقف بدونه."
شعرت بخيبة أمل كبيرة، وطأطأت رأسي للأسفل وهممت بالانصراف ومغادرة الغرفة، معتقدًا أن الأمر قد انتهى. لكن مالك لحق بي قبل أن أفتح باب الغرفة، ومد يده وربت على كتفي بحنان، ثم ناولني هاتفه قائلًا:
"ولكن من حقي أن أعرف لماذا تريد هاتفي، أليس كذلك؟"
رفعت رأسي وبدأت أشرح له أسباب طلبي. أخبرته بقصة السفر لزيارة عمنا في الكونغو الديمقراطية، وكشفت عن خطتي لتوثيق الرحلة بالتقاط الصور والفيديوهات من داخل غابات الكونغو. أوضحت له أن هذه المواد ستساعدني في كتابة أحد المقالات التي أنوي نشرها على موقعي الإلكتروني، وهو موقع يركز على قضايا البيئة ومشكلات المجتمع.
تأمل مالك حديثي للحظات قبل أن يبتسم بدوره ويقول: "حسنًا، أعتقد أن هذا سبب مقنع بما فيه الكفاية. لكن أرجو أن تعيد لي الهاتف سالمًا!"
طبعتُ قبلة صغيرة على جبين أخي، ذلك الجبين الذي طالما عكس حكمته وطيبة قلبه. كان مالك دائمًا مصدرًا للقوة والحنان في حياتي، ذلك الصديق الذي لم يتردد يومًا في مد يد العون لي. استرجعت لحظات عديدة وقف فيها بجانبي، يشجعني على النهوض بعد كل كبوة، ويوجهني نحو الطريق الصحيح بحكمة وهدوء.
شعرت برغبة غامرة في التعبير عن امتناني العميق له، فقلت له بصوت امتزج فيه الحنان والعرفان:
"لن أنسى لك هذا الجميل يا مالك، ولا المعروف الذي أسديته لي، مهما طال العمر وتوالت السنون. أنت دائمًا نبع دعم لا ينضب بالنسبة لي."
ابتسم مالك ابتسامته الدافئة التي لطالما أشعرتني بالاطمئنان، وربت على كتفي قائلاً: "أنت أخي يا معاذ، وما أفعله لك ليس سوى واجبي. المهم أن تستفيد من هذه الفرصة وتحقق أفضل ما يمكن، لأنني أؤمن بك وبما تستطيع تحقيقه."
شعرت بتلك الكلمات تغمرني بالطاقة والحماس، وكأنها شحنة إضافية من الثقة. كان أخي بالنسبة لي نموذجًا للوفاء والتفاني، ومصدرًا دائمًا للإلهام في حياتي. وداخل أعماقي، عقدت العزم على رد الجميل له يومًا ما، وعلى أن أجعل كل فرصة أحظى بها تُثبت صحة إيمانه بي.
خرجت من الغرفة ممتلئًا بالفرحة والانتصار، وكأنني أحرزت نصرًا عظيمًا في معركة طويلة. كنت أحمل الهاتف بين يدي بحذر وكأنني أحمل كنزًا ثمينًا، أتفحصه بعيني بدهشة وامتنان. شعرت بسعادة غامرة عندما أدركت أن الهاتف مزود بتطبيق **GPS**، ذلك النظام العالمي لتحديد المواقع الذي يعمل عن طريق الأقمار الصناعية المنتشرة في مدار الأرض، مما يضمن تغطية شاملة لكل مكان.
بدأت الأفكار تزدحم في رأسي، وأنا أتصور كيف سيكون لهذا التطبيق دور أساسي في رحلتي القادمة. تخيلت استخدامي له أثناء التنقل بين الغابات والمناطق غير المعروفة، يساعدني على تحديد الاتجاهات والوصول إلى الأماكن بدقة وسهولة. بدا الأمر وكأنه قطعة من التقنية الحديثة التي ستكون رفيقتي في مغامرة لا تُنسى.
كلما اقترب موعد السفر، زادت حماستي. كنت أُفكر في تفاصيل الرحلة وما قد أواجهه هناك من مغامرات ومفاجآت، وأخطط لكل خطوة. لم يكن الأمر مجرد رحلة، بل بداية لتجربة ستُضيف إلى شخصيتي وخبرتي في الحياة.
***
لم أكن أجرؤ على إخبار أبي بما خبأته في حقيبتي. كان أبي يضع قواعد صارمة لا يمكن مناقشتها، ومنها أن الهاتف الذكي لا يليق بشاب في مثل سني، فكيف بالقوس والأسهم؟ بالنسبة له، هذه الأمور تأتي فقط مع "النضج"، عندما يدخل الابن الجامعة ويصبح رجلاً في أعين العائلة. لكن بالنسبة لي، حمل القوس كان يعني أكثر من مجرد مغامرة؛ كان يعني التعبير عن شجاعتي وقدرتي على الاستقلال.
أخفيت القوس والأسهم بين ملابسي في الحقيبة، مغلفًا إياها بعناية كي لا تُكتشف بسهولة. كنت أخطط لاستخدامها لصيد أرنب بري، وأردت أن أعود بهذا الأرنب كدليل على نضجي ومهارتي، ليعلم أبي أنني لم أعد طفلاً كما كان يعتقد.
فرغت من تجهيز الحقيبة مبكرًا، ووجدت نفسي أمام وقت فراغ. قررت أن أستغله بأكبر شكل ممكن، فتوجهت إلى مكتبتي الصغيرة والتقطت أحد الكتب المخصصة لتعلم اللغة الفرنسية. كنت أعلم أن الكونغو الديمقراطية هي من أكبر الدول الناطقة بالفرنسية، وكنت أرغب في التواصل مع سكانها والاندماج في ثقافاتهم.
استغرقني الأمر ساعات من الغوص في القواعد ومتابعة فيديوهات تعليمية على الإنترنت، وتكرار الكلمات والعبارات حتى أتقنتها بشكل مقبول. شعرت أن كل لحظة في تعلم اللغة كانت تهيئني لمغامرتي الكبرى.
حين حان موعد السفر، تجمع أفراد عائلتي لتوديعنا. كانت أمي تحمل مزيجًا من الفخر والقلق في عينيها. احتضنتني بشدة وقالت بصوت خفيض: "يا معاذ، أنت تعلم أنني أثق بك، لكنني أخاف عليك. أرجوك لا تتخذ قرارات متهورة. اسمع كلام أبيك، فهو يعرف أكثر."
ابتسمتُ رغم شعوري بثقل كلماتها، وحاولت طمأنتها: "لا تقلقي، يا أمي، سأكون على قدر المسؤولية."
لكنها أضافت، وكأنها تخشى أن أنسى: "أعلم أن علاقتك مع أبيك ليست على أفضل حال الآن، لكن ثق بي... يوماً ما ستفهم أن خوفه عليك هو دافع كل شيء يفعله."
ألقت هذه الكلمات عبئًا لطيفًا على قلبي. شعرت بالحب والقلق يمتزجان في نصائحها. رفعت يديها إلى السماء ودعت لنا بالسداد والسلامة، بينما بدأت دموعها تنساب على وجنتيها، ممزوجة بابتسامة دافئة.
غادرنا الشقة في هدوء الصباح الباكر، حيث كانت الشوارع لا تزال نائمة إلا من بعض المارة والسيارات التي تكسرت أضواء مصابيحها على الأرصفة الرطبة. كنتُ أحمل حقيبتي بإحكام، وكأنني أخشى أن أترك وراءها جزءًا من شجاعتي التي حاولت أن أخفي بها ارتباكي. جلس أبي بجواري في سيارة الأجرة، وكانت ملامحه مغلفة بالهدوء المعتاد، لكنه ألقى نظرات خاطفة تجاهي، كما لو كان يحاول قراءة ما يدور في رأسي.
عندما اقتربنا من مطار القاهرة الدولي، تنفّستُ بعمق، وكأن الهواء الذي استنشقه يحمل معه نبضات مغامرتي القادمة. رأيت المطار لأول مرة، وكانت واجهته الزجاجية تتلألأ تحت أضواء الفجر المبكرة، أشبه بلوحة فنية تنبض بالعظمة والجمال. شعرت برهبة اللحظة وأنا أتأمل التصميم الذي يجمع بين العصرية والعظمة، وكأنني أعيش لحظة سينمائية على أرض الواقع.
تسللت نظراتي بين الحشود المتحركة، مزيج من العائلات تودّع أحبابها بعناق دافئ، ومسافرين من مختلف الجنسيات والأعمار، يجرّون حقائبهم وكأنهم على وشك بداية جديدة. كانت نظراتهم تتحدث بلغة لا أفهمها، لكنها تحمل بين طياتها قصصًا لم تُحكَ بعد. أما أنا، فكنت أشعر وكأنني أخطو نحو عالم مجهول تمامًا، عالم يتخطى كل توقعاتي.
داخل المطار، وقفنا أمام مكتب تسجيل السفر حيث كان الموظف ينهي إجراءاتنا بسرعة ودقة. حاولت أن أضبط نظراتي التي كانت تتجول في المكان بلا توقف، تلاحق كل التفاصيل، من عجلات الحقائب التي تلمع تحت الأضواء، إلى زيّ الموظفين الرسمي الذي بدا وكأنه يعكس هيبة المكان ونظامه.
حتى صوت الإعلانات الذي يتردد في أرجاء المكان كان له وقع خاص عليّ، وكأنه يخاطبني شخصيًا، يحفز في داخلي تلك المشاعر المتناقضة بين الحماس والخوف. شعرت بأنني جزء من هذه اللوحة الحيّة، وأن كل زاوية في المطار تحمل نبضًا ينتظر أن يُكتشف.
عندما نادى المذيع عبر النظام الداخلي على رحلتنا، شددت قبضتي على حقيبتي ، وشعرت بدقات قلبي تتسارع. تبعت أبي نحو بوابة الصعود إلى الطائرة، وهناك، وجدت نفسي وجهًا لوجه أمام هذا الجسد المعدني العملاق الذي يتحدى قوانين الجاذبية. كنت أنظر إلى الطائرة كما ينظر طفل إلى لعبة متقنة الصنع، مليئة بالأسرار. تصميم الطائرة بدا وكأنه تجسيد لعبقرية العقل البشري؛ مقدمة زجاجية تلتمع تحت أشعة الشمس، جناحان يمتدان بثقة يحتضنان المحركات، وذيل طويل يوحي بالقوة والاتزان.
صعود الطائرة كان لحظة مهيبة بالنسبة لي. شعرت أن كل خطوة على السلم تأخذني أبعد عن الأرض وأقرب إلى أحلامي. عندما دخلت كابينة الركاب، بدا الأمر وكأنني انتقلت إلى عالم آخر، إلى صالة سينما فاخرة. المقاعد المصفوفة كأنها صفوف جنود مستعدين لأخذنا إلى السماء، النوافذ الدائرية الصغيرة، والأجواء المنضبطة جعلتني أشعر بالرهبة والفضول في آنٍ واحد. لم أفوّت فرصة اختيار المقعد المجاور للنافذة، فقد كنت أرغب في رؤية العالم من منظور لم أعهده من قبل.
عندما اقلعت الطائرة وبدأت بالارتفاع، شعرت كأن روحي ترتفع معها. نظرت عبر النافذة ورأيت السحب تتراقص خلف جناح الطائرة، وهي تسبح في سماء بلون أزرق صافٍ، وأشعة الشمس تنساب برفق بين تلك الوسائد البيضاء. كان المشهد مدهشًا، أشبه بحلم يتحقق. إلى جانبي، كان أبي منشغلاً بقراءة صحيفته، يحرك صفحاتها ببطء بينما تظهر على وجهه ملامح التركيز الصارمة التي اعتدت عليها. شعرتُ بحضور والدي بجواري يبعث في نفسي خليطًا من الطمأنينة والتوتر. كنت أقدر قربه، لكنه الصمت الذي يشبه جدارًا غير مرئي بيننا كان يُربك أفكاري.
ترددت للحظة وأنا أُفكر: "هل يجب أن أفتح موضوعًا معه؟ كيف سيستجيب؟ هل سيقدر محاولتي لكسر هذا الجمود؟" استجمعت شجاعتي، أزحت بصري عن النافذة، وقلت بنبرة خافتة وكأنها محاولة لاختبار الأرض: "أبي، أتعلم؟ رؤية هذا المشهد تجعلني أفكر كم هي كبيرة الحياة هناك... في الكونغو، وفي هذا العالم."
رفع أبي عينيه عن الصحيفة ببطء ، وابتسامة صغيرة تملأ وجهه، وعلق قائلاً : "أجل يا معاذ، الحياة دائمًا أكبر مما نتخيل، والسفر يجعلنا نرى ذلك بعين أخرى." شعرت أن كلماته تحمل في طياتها رسالة عميقة، وكأنها جسر صغير بدأ يُبنى بيننا وسط هذا الصمت. ربما لم يكن يعبّر عن مشاعره كثيرًا، ولكنه في هذه اللحظة كان يفعل، حتى لو بشكل غير مباشر. قلت بحماس: "أعلم يا أبي، وأنا ممتن لهذه الفرصة. أريد أن أثبت لك أنني أستطيع تحمل المسؤولية."
نظر إلي للحظة، وكأنه يحاول قراءة ما وراء كلماتي، ثم قال: "المسؤولية لا تعني فقط أن تُثبت شيئًا لي أو لغيري. هي أن تكون قادرًا على اتخاذ القرارات الصحيحة حتى في أصعب الظروف."
هززت رأسي موافقًا، وأنا أعده داخلي أن أكون على قدر توقعاته. كانت هذه اللحظة الصغيرة، بين الطائرة والسحاب، أشبه بجسر يربط بين جيلين، بين تجربة الأب وطموح الابن.
في تلك الأثناء، مرّت المضيفة بابتسامتها الودودة تسأل الركاب إن كانوا بحاجة إلى شيء. رفعت يدي بحذر وطلبت كأسًا من العصير. ردّت بابتسامة قائلة: "هل هذه رحلتك الأولى؟"
ابتسمت بخجل وأجبت: "نعم، وهي أكثر مما توقعت. الطائرة... كل شيء مذهل."
قالت وهي تضع الكأس أمامي: "رحلتك الأولى دائمًا تكون استثنائية. استمتع بكل لحظة."
شعرت بدفء كلماتها وكأنني لم أغادر بيتي، بل كنت ضيفًا في عالم مضياف وكأنها جزء من الحكاية التي بدأت للتو. لم يكن التفاعل معها مجرد طلب بسيط، بل رسالة ضمنية بأن هذه الرحلة تحمل في طياتها الكثير من المفاجآت.
خلال الرحلة، استسلمت إلى الراحة تدريجيًا. شغلت الشاشة الصغيرة أمامي، واخترت فيلمًا كرتونيًا ليذكرني بجزء من طفولتي. شعرت بالحنين، لكن ذلك الحنين كان ممزوجًا بحماسة لما هو قادم.
بعد ساعات طويلة ، بدأت الطائرة في الانخفاض استعدادًا للهبوط. أعلنت المضيفة عبر مكبر الصوت أننا نقترب من كينشاسا، عاصمة الكونغو الديمقراطية. عندها، ربطت حزام الأمان كما طُلب. لم أكن أعي أن الساعة تجاوزت الخامسة مساء عندما تطلعت من النافذة، فرأيت المدينة تضيء كنجوم صغيرة متناثرة على بساط أسود . كان الليل قد أقبل بهدوء، ومعه شعرت بقشعريرة تجتاحني، مزيجًا من رهبة المجهول وفضول المغامرة التي تنتظرني في هذه الأرض الجديدة .
***
استيقظت من نومي متأخرًا على غير عادتي. بالأمس كان وداع آخر أيام الامتحانات في مدرستي الإعدادية، واليوم أستقبل أول أيام الإجازة الصيفية التي أطلّت بشمسها المتوهجة وحرارتها الحارقة، محملةً بالحماس والحيوية التي تدفعني للتفكير في استغلال الوقت. وأين يمكنني أن أجد هذا الاستغلال أفضل من السفر! السفر الذي يفتح أبوابًا نحو المغامرة، حيث يلتقي الإنسان بثقافات جديدة ولغات غريبة ويكتشف أفقًا مختلفًا تمامًا عن واقعه اليومي.
أنا معاذ، مُحبٌّ لكل ما يحمل معنى المغامرة، متعطش لتجربة أشياء لم أعتد عليها. لا أفضّل البقاء ساكنًا دون تغيير أو استكشاف، لذا بدأت أخطط لقضاء إجازتي الصيفية بين أحضان الطبيعة الخلابة لجمهورية الكونغو الديمقراطية. كان لدي حلم أن أزور هذا البلد الذي طالما سمعت عنه الكثير، حيث يعمل عمي مراد في الغابات الاستوائية المطيرة. هناك، يقوم بقطع أشجار الماهوجني اللامعة والمشهورة بجودتها – بالطبع بطرق مشروعة – ليحولها إلى أثاث متين وقوي.
لطالما شعرت بالفخر بعمي مراد، فهو نموذج للعصامية، شخص استطاع أن يواجه التحديات ويعمل في بلد بعيد وظروف صعبة. في أحد الأيام، شاهدت برنامجًا وثائقيًا في التلفاز يروي قصصًا عن الكونغو، مملوءًا بصور عن الغابات العميقة والجبال الشاهقة والحيوانات النادرة التي لم أراها إلا في الكتب أو الأفلام. لكنّ البرنامج لم يخلُ من الإشارة إلى الصراعات الدائرة هناك، والحروب التي تترك آثارها على البلاد، إضافة إلى ما يُرتكب بحق الطبيعة من قطع للأشجار وتجريف للتربة وصيد غير مشروع للحيوانات. أثارتني هذه القضايا كثيرًا، وقررت أن أكتب مقالًا عنها بعنوان "إفساد الإنسان لغابات الكونغو"، لنشره في موقعي الإلكتروني الذي أنشأتُه مؤخرًا كنشاط مفيد أقتل به السأم والملل وأملأ به أوقات الفراغ الطويلة، فأنا لا أحب أن أضيع أوقات فراغي في أمور تافهة وغير مجدية . كما كنت أرى أن هذه القضايا تستحق أن تُروى وأن تصل للناس.
لم يكن والدي متحمسًا لفكرة السفر عندما طرحتها عليه بعد ظهور نتائج الامتحانات – والتي كانت مبهرة! إذ حصلت على المركز الأول في مدرستي عن جدارة واستحقاق. حاولتُ إقناعه قائلًا: "يا أبي، الطبيعة هناك ساحرة للغاية! الجبال الشاهقة التي تزدان قممها بفوهات البراكين النشطة والأنهار الممتدة، الغابات التي تعج بالحيوانات النادرة مثل الغوريلا الجبلية ووحيد القرن وفيل الأدغال. أريد أن أكتب عنها مدعومة بصور وفيديوهات حصرية التقطها بنفسي." لم يقتنع والدي بسهولة، فقد كان قلقًا من المخاطر الأمنية والصحية، فقال وهو يهز رأسه بالنفي:
"لا أعتقد أنها فكرة سديدة يا معاذ. فعلى الرغم من جمال الطبيعة وجاذبية التضاريس هناك في الكونغو، إلا أنها لا تزال خيارًا مستبعدًا بالنسبة لي، بسبب اضطراب الأمن، وانتشار الجرائم، وتفشي الأمراض والأوبئة. ولا تنسَ، أيها الحاذق، أن تلك القمم البركانية التي تتحدث عن جمالها تثور وتفور وتنطلق منها الحمم البركانية الحمراء الملتهبة، مُخلّفةً خسائر كبيرة في الأرواح، والأموال، والمنشآت. وذلك ليس بالأمر الهيّن، صدقني."
لم أكن أُلقي بالًا لحديث أبي؛ فلن تقوم الحروب وتثور البراكين بمجرد دخولنا إلى تلك البلدة. أعتقد أن أبي يبالغ بعض الشيء، ولكنني حاولت إقناعه بشتى الطرق والحيل الممكنة. قلت له: "ولكنها أيضًا فرصة عظيمة يا أبي لتلبية رغبة عمي في الذهاب إليه وزيارته. لقد مضى وقت طويل منذ آخر زيارة له هنا في قريتنا الصغيرة بالدلتا، ولم نره منذ ذلك الحين. وأظن أنه سيفرح كثيرًا بذهابنا إليه وزيارتنا له هناك في الكونغو الديمقراطية.
لم يجد أبي مفرًا من الموافقة على طلبي أمام ضغطي الشديد وإلحاحي المستمر عليه. ظل صامتًا لبرهة، ينظر بعيدًا وكأنه يُقيم كلماتي في عقله. شعرت بأن هذا الصمت يحمل في طياته صراعًا داخليًا بين رغبته في الحفاظ على أماننا وخوفه من أن يخذلني.
فقطعت الصمت قائلًا بحماسة: "أبي، أعدك أن أكون على قدر المسؤولية. هذه الرحلة تعني لي الكثير. أريد أن أرى عمي وأستمع إلى قصصه عن الكونغو التي طالما تحدث عنها بحماس. إنها فرصة لن تتكرر، ولن نخاطر بأي شيء دون تفكير."
عاد والدي يلتفت نحوي ببطء، وبدت ملامح وجهه متجهمةً، لكنه في النهاية تنهد بعمق وقال: "حسنًا، كما تشاء." ثم أضاف بنبرة يملؤها الحزم، مع عقد حاجبيه ورفع إصبعه للتأكيد: "لا أحب أن أرفض لك طلبًا، ولكنني أحذرك: هذه الرحلة لن تكون خالية من التحديات. عليك أن تتحمل عواقب قراراتك، وألا تنسى يومًا أن اختيارك هذا قد يجلب معه نتائج لن تكون دائمًا في صالحك."
شعرت بالانتصار عندما سمعت كلماته، ولكن ذلك الحزم الذي استقر في صوته ذكرني بأن المسؤولية التي أتحملها الآن أكبر مما تصورت.
نظرت إلى أبي بابتسامة مليئة بالامتنان وقلت: "أعدك يا أبي، لن تندم على موافقتك. سأكون حريصًا وسأفكر في كل خطوة نتخذها." ثم أسرعت خارج الغرفة لأبدأ التخطيط للرحلة، وقد شعرت بأن فصلاً جديدًا من حياتي على وشك أن يبدأ، مليئًا بالمغامرة والمسؤولية.
وبناءً على ما سبق، قام أبي بحجز تذكرتين لنا عبر الإنترنت للسفر إلى الكونغو الديمقراطية جوًا عن طريق الطائرة. كانت تلك اللحظة بمثابة شعلة أشعلت في قلبي حماسة غير مسبوقة، فقد تحول حلم السفر بالطائرة من مجرد خيال أراه على شاشة التلفاز إلى حقيقة بدأت تتجسد أمامي.
لأول مرة في حياتي، سأقترب من تلك الطائرات الضخمة التي كنت أتابعها بإعجاب ودهشة على شاشات التلفاز. شعرت بمزيج من المشاعر المتباينة، بين الفرح الذي يطفو فوق السطح، والخوف الذي يتسلل من زوايا العقل. تساءلت في داخلي: "هل سيكون التحليق فوق الغيوم ممتعًا كما يبدو؟ أم أن رهبة الارتفاع والهواجس المجهولة ستطغى على تلك المتعة؟"
لم أستطع إلا أن أستسلم لأفكاري، متخيلًا نفسي جالسًا بجوار النافذة، أراقب العالم وهو يتضاءل شيئًا فشيئًا تحت جناحي الطائرة. تخيلت كيف ستكون الأصوات، وكيف سأشعر مع أول حركة للإقلاع، ومع كل ارتعاشة خفيفة للطائرة في الهواء.
بدأت التحضيرات فور حصولي على موافقة أبي. اشتريت لوازم السفر ورتبت أمتعتي، لكنني شعرت بحاجتي الماسة إلى هاتف ذكي مزود بكاميرا جيدة. لجأت إلى أخي الأكبر، مالك، طالب الجامعات الذي يتمتع بجسد قوي وقامة طويلة، بخلاف شكلي النحيف وصورتي الأصغر من عمري. ولكنه يشبهني في العديد من الصفات الوراثية الأخرى؛ فهو يحمل نفس لون بشرتي وشعري وعينيّ، وشكل وجهه دائري كالبدر المنير. بمجرد أن سمح لي بدخول غرفته فور سماعه صوت نقرات يدي على الباب، بدا وكأنه قد تنبأ باحتياجي لأحد أشيائه الشخصية. فهو يعرفني خير معرفة، خاصة من نظرات عيني المتوسلة المتجهة إلى الأرض. اختصر عليّ الطريق وبادر بسؤاله الحازم:
"هيّا، أنجز يا معاذ. أخبرني ماذا تريد؟ فأنا على عجلة من أمري وليس لديّ مُتسع من الوقت."
لم أنبس بكلمة واحدة، واكتفيت بالنظر لأعلى نحو الهاتف الذي يحمله مالك في يده، وأشرت إليه دون أن أقول شيئًا. فرد مالك فورًا، وهو يزداد تصميمًا:
"لا... انس. أنت تطلب المستحيل، هذا الهاتف لا يفارقني أبدًا، فحياتي تتوقف بدونه."
شعرت بخيبة أمل كبيرة، وطأطأت رأسي للأسفل وهممت بالانصراف ومغادرة الغرفة، معتقدًا أن الأمر قد انتهى. لكن مالك لحق بي قبل أن أفتح باب الغرفة، ومد يده وربت على كتفي بحنان، ثم ناولني هاتفه قائلًا:
"ولكن من حقي أن أعرف لماذا تريد هاتفي، أليس كذلك؟"
رفعت رأسي وبدأت أشرح له أسباب طلبي. أخبرته بقصة السفر لزيارة عمنا في الكونغو الديمقراطية، وكشفت عن خطتي لتوثيق الرحلة بالتقاط الصور والفيديوهات من داخل غابات الكونغو. أوضحت له أن هذه المواد ستساعدني في كتابة أحد المقالات التي أنوي نشرها على موقعي الإلكتروني، وهو موقع يركز على قضايا البيئة ومشكلات المجتمع.
تأمل مالك حديثي للحظات قبل أن يبتسم بدوره ويقول: "حسنًا، أعتقد أن هذا سبب مقنع بما فيه الكفاية. لكن أرجو أن تعيد لي الهاتف سالمًا!"
طبعتُ قبلة صغيرة على جبين أخي، ذلك الجبين الذي طالما عكس حكمته وطيبة قلبه. كان مالك دائمًا مصدرًا للقوة والحنان في حياتي، ذلك الصديق الذي لم يتردد يومًا في مد يد العون لي. استرجعت لحظات عديدة وقف فيها بجانبي، يشجعني على النهوض بعد كل كبوة، ويوجهني نحو الطريق الصحيح بحكمة وهدوء.
شعرت برغبة غامرة في التعبير عن امتناني العميق له، فقلت له بصوت امتزج فيه الحنان والعرفان:
"لن أنسى لك هذا الجميل يا مالك، ولا المعروف الذي أسديته لي، مهما طال العمر وتوالت السنون. أنت دائمًا نبع دعم لا ينضب بالنسبة لي."
ابتسم مالك ابتسامته الدافئة التي لطالما أشعرتني بالاطمئنان، وربت على كتفي قائلاً: "أنت أخي يا معاذ، وما أفعله لك ليس سوى واجبي. المهم أن تستفيد من هذه الفرصة وتحقق أفضل ما يمكن، لأنني أؤمن بك وبما تستطيع تحقيقه."
شعرت بتلك الكلمات تغمرني بالطاقة والحماس، وكأنها شحنة إضافية من الثقة. كان أخي بالنسبة لي نموذجًا للوفاء والتفاني، ومصدرًا دائمًا للإلهام في حياتي. وداخل أعماقي، عقدت العزم على رد الجميل له يومًا ما، وعلى أن أجعل كل فرصة أحظى بها تُثبت صحة إيمانه بي.
خرجت من الغرفة ممتلئًا بالفرحة والانتصار، وكأنني أحرزت نصرًا عظيمًا في معركة طويلة. كنت أحمل الهاتف بين يدي بحذر وكأنني أحمل كنزًا ثمينًا، أتفحصه بعيني بدهشة وامتنان. شعرت بسعادة غامرة عندما أدركت أن الهاتف مزود بتطبيق **GPS**، ذلك النظام العالمي لتحديد المواقع الذي يعمل عن طريق الأقمار الصناعية المنتشرة في مدار الأرض، مما يضمن تغطية شاملة لكل مكان.
بدأت الأفكار تزدحم في رأسي، وأنا أتصور كيف سيكون لهذا التطبيق دور أساسي في رحلتي القادمة. تخيلت استخدامي له أثناء التنقل بين الغابات والمناطق غير المعروفة، يساعدني على تحديد الاتجاهات والوصول إلى الأماكن بدقة وسهولة. بدا الأمر وكأنه قطعة من التقنية الحديثة التي ستكون رفيقتي في مغامرة لا تُنسى.
كلما اقترب موعد السفر، زادت حماستي. كنت أُفكر في تفاصيل الرحلة وما قد أواجهه هناك من مغامرات ومفاجآت، وأخطط لكل خطوة. لم يكن الأمر مجرد رحلة، بل بداية لتجربة ستُضيف إلى شخصيتي وخبرتي في الحياة.
***
لم أكن أجرؤ على إخبار أبي بما خبأته في حقيبتي. كان أبي يضع قواعد صارمة لا يمكن مناقشتها، ومنها أن الهاتف الذكي لا يليق بشاب في مثل سني، فكيف بالقوس والأسهم؟ بالنسبة له، هذه الأمور تأتي فقط مع "النضج"، عندما يدخل الابن الجامعة ويصبح رجلاً في أعين العائلة. لكن بالنسبة لي، حمل القوس كان يعني أكثر من مجرد مغامرة؛ كان يعني التعبير عن شجاعتي وقدرتي على الاستقلال.
أخفيت القوس والأسهم بين ملابسي في الحقيبة، مغلفًا إياها بعناية كي لا تُكتشف بسهولة. كنت أخطط لاستخدامها لصيد أرنب بري، وأردت أن أعود بهذا الأرنب كدليل على نضجي ومهارتي، ليعلم أبي أنني لم أعد طفلاً كما كان يعتقد.
فرغت من تجهيز الحقيبة مبكرًا، ووجدت نفسي أمام وقت فراغ. قررت أن أستغله بأكبر شكل ممكن، فتوجهت إلى مكتبتي الصغيرة والتقطت أحد الكتب المخصصة لتعلم اللغة الفرنسية. كنت أعلم أن الكونغو الديمقراطية هي من أكبر الدول الناطقة بالفرنسية، وكنت أرغب في التواصل مع سكانها والاندماج في ثقافاتهم.
استغرقني الأمر ساعات من الغوص في القواعد ومتابعة فيديوهات تعليمية على الإنترنت، وتكرار الكلمات والعبارات حتى أتقنتها بشكل مقبول. شعرت أن كل لحظة في تعلم اللغة كانت تهيئني لمغامرتي الكبرى.
حين حان موعد السفر، تجمع أفراد عائلتي لتوديعنا. كانت أمي تحمل مزيجًا من الفخر والقلق في عينيها. احتضنتني بشدة وقالت بصوت خفيض: "يا معاذ، أنت تعلم أنني أثق بك، لكنني أخاف عليك. أرجوك لا تتخذ قرارات متهورة. اسمع كلام أبيك، فهو يعرف أكثر."
ابتسمتُ رغم شعوري بثقل كلماتها، وحاولت طمأنتها: "لا تقلقي، يا أمي، سأكون على قدر المسؤولية."
لكنها أضافت، وكأنها تخشى أن أنسى: "أعلم أن علاقتك مع أبيك ليست على أفضل حال الآن، لكن ثق بي... يوماً ما ستفهم أن خوفه عليك هو دافع كل شيء يفعله."
ألقت هذه الكلمات عبئًا لطيفًا على قلبي. شعرت بالحب والقلق يمتزجان في نصائحها. رفعت يديها إلى السماء ودعت لنا بالسداد والسلامة، بينما بدأت دموعها تنساب على وجنتيها، ممزوجة بابتسامة دافئة.
غادرنا الشقة في هدوء الصباح الباكر، حيث كانت الشوارع لا تزال نائمة إلا من بعض المارة والسيارات التي تكسرت أضواء مصابيحها على الأرصفة الرطبة. كنتُ أحمل حقيبتي بإحكام، وكأنني أخشى أن أترك وراءها جزءًا من شجاعتي التي حاولت أن أخفي بها ارتباكي. جلس أبي بجواري في سيارة الأجرة، وكانت ملامحه مغلفة بالهدوء المعتاد، لكنه ألقى نظرات خاطفة تجاهي، كما لو كان يحاول قراءة ما يدور في رأسي.
عندما اقتربنا من مطار القاهرة الدولي، تنفّستُ بعمق، وكأن الهواء الذي استنشقه يحمل معه نبضات مغامرتي القادمة. رأيت المطار لأول مرة، وكانت واجهته الزجاجية تتلألأ تحت أضواء الفجر المبكرة، أشبه بلوحة فنية تنبض بالعظمة والجمال. شعرت برهبة اللحظة وأنا أتأمل التصميم الذي يجمع بين العصرية والعظمة، وكأنني أعيش لحظة سينمائية على أرض الواقع.
تسللت نظراتي بين الحشود المتحركة، مزيج من العائلات تودّع أحبابها بعناق دافئ، ومسافرين من مختلف الجنسيات والأعمار، يجرّون حقائبهم وكأنهم على وشك بداية جديدة. كانت نظراتهم تتحدث بلغة لا أفهمها، لكنها تحمل بين طياتها قصصًا لم تُحكَ بعد. أما أنا، فكنت أشعر وكأنني أخطو نحو عالم مجهول تمامًا، عالم يتخطى كل توقعاتي.
داخل المطار، وقفنا أمام مكتب تسجيل السفر حيث كان الموظف ينهي إجراءاتنا بسرعة ودقة. حاولت أن أضبط نظراتي التي كانت تتجول في المكان بلا توقف، تلاحق كل التفاصيل، من عجلات الحقائب التي تلمع تحت الأضواء، إلى زيّ الموظفين الرسمي الذي بدا وكأنه يعكس هيبة المكان ونظامه.
حتى صوت الإعلانات الذي يتردد في أرجاء المكان كان له وقع خاص عليّ، وكأنه يخاطبني شخصيًا، يحفز في داخلي تلك المشاعر المتناقضة بين الحماس والخوف. شعرت بأنني جزء من هذه اللوحة الحيّة، وأن كل زاوية في المطار تحمل نبضًا ينتظر أن يُكتشف.
عندما نادى المذيع عبر النظام الداخلي على رحلتنا، شددت قبضتي على حقيبتي ، وشعرت بدقات قلبي تتسارع. تبعت أبي نحو بوابة الصعود إلى الطائرة، وهناك، وجدت نفسي وجهًا لوجه أمام هذا الجسد المعدني العملاق الذي يتحدى قوانين الجاذبية. كنت أنظر إلى الطائرة كما ينظر طفل إلى لعبة متقنة الصنع، مليئة بالأسرار. تصميم الطائرة بدا وكأنه تجسيد لعبقرية العقل البشري؛ مقدمة زجاجية تلتمع تحت أشعة الشمس، جناحان يمتدان بثقة يحتضنان المحركات، وذيل طويل يوحي بالقوة والاتزان.
صعود الطائرة كان لحظة مهيبة بالنسبة لي. شعرت أن كل خطوة على السلم تأخذني أبعد عن الأرض وأقرب إلى أحلامي. عندما دخلت كابينة الركاب، بدا الأمر وكأنني انتقلت إلى عالم آخر، إلى صالة سينما فاخرة. المقاعد المصفوفة كأنها صفوف جنود مستعدين لأخذنا إلى السماء، النوافذ الدائرية الصغيرة، والأجواء المنضبطة جعلتني أشعر بالرهبة والفضول في آنٍ واحد. لم أفوّت فرصة اختيار المقعد المجاور للنافذة، فقد كنت أرغب في رؤية العالم من منظور لم أعهده من قبل.
عندما اقلعت الطائرة وبدأت بالارتفاع، شعرت كأن روحي ترتفع معها. نظرت عبر النافذة ورأيت السحب تتراقص خلف جناح الطائرة، وهي تسبح في سماء بلون أزرق صافٍ، وأشعة الشمس تنساب برفق بين تلك الوسائد البيضاء. كان المشهد مدهشًا، أشبه بحلم يتحقق. إلى جانبي، كان أبي منشغلاً بقراءة صحيفته، يحرك صفحاتها ببطء بينما تظهر على وجهه ملامح التركيز الصارمة التي اعتدت عليها. شعرتُ بحضور والدي بجواري يبعث في نفسي خليطًا من الطمأنينة والتوتر. كنت أقدر قربه، لكنه الصمت الذي يشبه جدارًا غير مرئي بيننا كان يُربك أفكاري.
ترددت للحظة وأنا أُفكر: "هل يجب أن أفتح موضوعًا معه؟ كيف سيستجيب؟ هل سيقدر محاولتي لكسر هذا الجمود؟" استجمعت شجاعتي، أزحت بصري عن النافذة، وقلت بنبرة خافتة وكأنها محاولة لاختبار الأرض: "أبي، أتعلم؟ رؤية هذا المشهد تجعلني أفكر كم هي كبيرة الحياة هناك... في الكونغو، وفي هذا العالم."
رفع أبي عينيه عن الصحيفة ببطء ، وابتسامة صغيرة تملأ وجهه، وعلق قائلاً : "أجل يا معاذ، الحياة دائمًا أكبر مما نتخيل، والسفر يجعلنا نرى ذلك بعين أخرى." شعرت أن كلماته تحمل في طياتها رسالة عميقة، وكأنها جسر صغير بدأ يُبنى بيننا وسط هذا الصمت. ربما لم يكن يعبّر عن مشاعره كثيرًا، ولكنه في هذه اللحظة كان يفعل، حتى لو بشكل غير مباشر. قلت بحماس: "أعلم يا أبي، وأنا ممتن لهذه الفرصة. أريد أن أثبت لك أنني أستطيع تحمل المسؤولية."
نظر إلي للحظة، وكأنه يحاول قراءة ما وراء كلماتي، ثم قال: "المسؤولية لا تعني فقط أن تُثبت شيئًا لي أو لغيري. هي أن تكون قادرًا على اتخاذ القرارات الصحيحة حتى في أصعب الظروف."
هززت رأسي موافقًا، وأنا أعده داخلي أن أكون على قدر توقعاته. كانت هذه اللحظة الصغيرة، بين الطائرة والسحاب، أشبه بجسر يربط بين جيلين، بين تجربة الأب وطموح الابن.
في تلك الأثناء، مرّت المضيفة بابتسامتها الودودة تسأل الركاب إن كانوا بحاجة إلى شيء. رفعت يدي بحذر وطلبت كأسًا من العصير. ردّت بابتسامة قائلة: "هل هذه رحلتك الأولى؟"
ابتسمت بخجل وأجبت: "نعم، وهي أكثر مما توقعت. الطائرة... كل شيء مذهل."
قالت وهي تضع الكأس أمامي: "رحلتك الأولى دائمًا تكون استثنائية. استمتع بكل لحظة."
شعرت بدفء كلماتها وكأنني لم أغادر بيتي، بل كنت ضيفًا في عالم مضياف وكأنها جزء من الحكاية التي بدأت للتو. لم يكن التفاعل معها مجرد طلب بسيط، بل رسالة ضمنية بأن هذه الرحلة تحمل في طياتها الكثير من المفاجآت.
خلال الرحلة، استسلمت إلى الراحة تدريجيًا. شغلت الشاشة الصغيرة أمامي، واخترت فيلمًا كرتونيًا ليذكرني بجزء من طفولتي. شعرت بالحنين، لكن ذلك الحنين كان ممزوجًا بحماسة لما هو قادم.
بعد ساعات طويلة ، بدأت الطائرة في الانخفاض استعدادًا للهبوط. أعلنت المضيفة عبر مكبر الصوت أننا نقترب من كينشاسا، عاصمة الكونغو الديمقراطية. عندها، ربطت حزام الأمان كما طُلب. لم أكن أعي أن الساعة تجاوزت الخامسة مساء عندما تطلعت من النافذة، فرأيت المدينة تضيء كنجوم صغيرة متناثرة على بساط أسود . كان الليل قد أقبل بهدوء، ومعه شعرت بقشعريرة تجتاحني، مزيجًا من رهبة المجهول وفضول المغامرة التي تنتظرني في هذه الأرض الجديدة .
***