Nashwa

شارك على مواقع التواصل

عندما هبطنا درج الطائرة، أطلقت نظراتي نحو المدرج وأرجاء المطار، وتملكني إحساس غامر بالتقدير لهذا الابتكار العظيم الذي وفّر لنا الوقت والجهد. قلت لأبي، وقد كانت مشاعري تنساب بحرية: "أوه عجبًا، يا أبي، لقد قصّرت الطائرة المسافات وربطت بين أجزاء العالم حتى أصبح بالفعل كقرية صغيرة. أتعلم؟ لقد أصبح بإمكان الإنسان الآن أن يلف العالم كله في أيام معدودة، بل ويصل إلى الفضاء في مكوكات وصواريخ."

 

ابتسم أبي وأجابني بصوت هادئ وهو يضع يده على كتفي: "هذا صحيح يا بني. الحياة قد تغيرت كثيرًا. كان الناس في الماضي يسافرون بالجمال والبغال، وكانت رحلاتهم تستغرق شهورًا وأحيانًا سنوات للوصول إلى مقاصدهم. ثم ظهرت العربات الخشبية والقطارات، لكنها لم تصل بنا إلى هذه السرعة والراحة التي نعيشها اليوم." 

 

ضحكت وأنا أقول: "تخيّل، يا أبي، لو لم تكن لدينا هذه الاختراعات. ربما كنا الآن نسير على أسنمة الجمال وسط الرمال الساخنة، والشمس تحرق جلودنا، في طريقنا إلى الحدود الجنوبية لمصر ومنها إلى السودان ومن ثم الكونغو!" 

 

انفجر أبي ضاحكًا وقال، وهو يتخيل المشهد: "وربما كنا نتوه في تلك الصحراء الجرداء التي لا ماء فيها ولا زرع، أو نخاف على حياتنا من ذئاب الصحراء المتوحشة. ومن يدري، قد نكون قصة تُروى في خبر كان!" 

 

أدركت في تلك اللحظة أن أبي يحمل ذكريات عن الماضي والقصص التي كان يسمعها ممن سبقوه. شعرت أننا، رغم تقدم الزمان وتغير الأوقات، لا نزال نحمل ذلك الاحترام والرهبة للرحلات الطويلة وتجارب الأجداد الذين مهدوا لنا طرق الحياة الحديثة.

***

بينما هبطنا درج الطائرة، كانت الابتسامات ترتسم بوضوح على وجوهنا، وكأنها انعكاس لحماسة اللحظة. كنت أسمع ضحكاتنا تتعالى، تكسر الصمت المهيب الذي كنت أشعر به منذ بداية الرحلة. وعندما لامست قدماي أرض كينشاسا، كان هناك شعور لا يمكن وصفه. كل شيء كان يوحي بأنني أضع قدمي على بداية طريق جديد. 

 

مطار كينشاسا الدولي بدا أمامي مذهلًا؛ تصميمه العصري، والأضواء التي تنعكس على الجدران الزجاجية، والحركة المستمرة للأشخاص داخله أعطتني انطباعًا بأنه عالم لا يهدأ. بدا وكأن كل شخص هنا يحمل حكاية خاصة، البعض في عجلة للحاق بطائرتهم، والبعض الآخر ينهي إجراءات وصوله. شعرت أنني في خلية نحل عملاقة، حيث الحياة تستمر بلا توقف ولا انتظار. 

 

أثناء سيرنا في طريقنا إلى صالة الوصول، كانت هذه الأفكار تتوالى على رأسي كأمواج صغيرة. كنت أتأمل في الزمن الذي يمضي دائمًا للأمام دون أن ينظر خلفه، وكيف أن الحياة تشبه إلى حد كبير هذا المطار؛ مليئة بالحركة، دائمًا في تقدم. 

 

وما إن وصلنا إلى صالة الوصول حتى رأيت عمي مراد واقفًا هناك. بمجرد أن التقت أعيننا، كان الأمر وكأن الزمن عاد بنا إلى الوراء، إلى اللحظات التي كنا نقضيها معًا في الماضي. عانقنا عناقًا طويلًا، ذلك النوع من العناق الذي يحمل في طياته سنوات من الشوق. 

 

لكن لا شيء يُخفي علامات الزمن. يا إلهي، كيف تغير عمي! شعره الذي كان أسود اللون تحول الآن إلى خليط من الأبيض والرمادي، ووجهه الذي كان مشرقًا دومًا ارتسمت عليه تجاعيد الزمن. ورغم ذلك، عيناه كانتا تحملان نفس البريق الذي عرفته دائمًا، نفس الروح المرحة التي تملأ المكان. 

 

قال عمي وهو يبتسم ابتسامة واسعة: "أهلاً يا معاذ! لقد كبرت وأصبحت شابًا وسيماً! أين ذهبت تلك الأيام التي كنت فيها صغيرًا تركض حولي بلا كلل؟" 

 

ضحكت وأجبته: "وأنت يا عمي، لم أكن لأعرفك لولا ضحكتك. كيف تحملت كل هذه التغيرات؟" 

 

ردّ بحماسة: "العمل هنا يا بني، يعلمك الكثير. يجعلك ترى الحياة كما هي، بحلوها ومرّها، لكنه يعيد تشكيلك بطريقة ما. لا تقلق، الروح هي ما يظل كما هو." 

 

كنت أستمع إلى كلماته وأنا أشعر بمزيج غريب من الهدوء والرهبة. هذا العالم الجديد الذي أكتشفه يحمل الكثير، وأعرف أن هناك المزيد ينتظرني.

 

ومع ذلك، لم أستطع تجاهل شعور داخلي بدأ يتصاعد شيئًا فشيئًا. هذا المكان، المكتظ بالناس من كل جنس ولون، جعلني أشعر بالاختناق. الجموع تتحرك بلا توقف، كل شخص يبدو أنه يعيش في عالمه الخاص. الأصوات من حولي تداخلت بشكل أصبح يصعب عليّ تحمله. شعرت بحاجة ملحة إلى المغادرة، إلى الخروج من هذا الصخب الذي يبدو وكأنه يبتلعني. 

 

كنت أحتاج إلى السكينة. إلى لحظة أكون فيها بعيدًا عن كل هذا الضجيج، حيث يمكنني أن أتأمل الطبيعة الحالمة كما أحبها. الطبيعة لا تحتاج إلى كلمات تافهة أو أحاديث فارغة؛ هي تتحدث بلغة التناغم. صوت الرياح بين الأشجار، غناء الطيور، وهدوء المياه الجارية يملأني بالطمأنينة. في تلك اللحظات، أجد نفسي كما أنا حقًا، بعيدًا عن كل قيود العالم الخارجي. 

 

كلما زادت ضوضاء الناس حولي، شعرت برغبة أشد في الانسحاب، في الجلوس تحت ظل شجرة ومراقبة أشعة الشمس وهي تتسرب بين الأوراق. أعلم أن هذه اللحظة ستأتي قريبًا، وستكون بمثابة علاج لي، تُعيد لقلبي وروحي التئامهما الذي فقدتهما وسط هذا الصخب.

هممنا بالرحيل تاركين خلفنا أجواء المطار الصاخبة، وتبعني كل من أبي وعمي إلى الخارج، حيث كان النسيم البارد يُلامس وجهي برفق، وكأنه يُهنئني ببداية هذه المغامرة. ركبنا جميعًا إحدى سيارات الأجرة التي كانت تنتظرنا، وانطلقت بنا نحو منزل عمي مراد، القريب من الغابات حيث يزاول عمله. 

 

منذ أن بدأت السيارة تتحرك، لم أستطع أن أمنع نفسي من إخراج رأسي من النافذة، وكأنني أحاول احتواء كل ما أراه أمامي. شوارع كينشاسا كانت واسعة بشكل لافت، تُحاكي في سعتها الحلم الكبير الذي يسكن المدينة. لكنها كانت مكتظة بالسكان، يعبرون الطرق هنا وهناك بلا توقف، يملأون كل زاوية؛ بعضهم مستعجل يعبر الشارع بحذر، وبعضهم ينتظر بصبر عند المحطات، وآخرون يتجولون بين المحال التجارية التي تزين جانبي الطريق بواجهاتها الملونة. 

 

كل تلك الحيوية ذكرتني بمدينة القاهرة، حيث يعرف الشارع نفس الازدحام ونفس الروح الصاخبة التي لا تهدأ. لكن في كينشاسا، كان هناك شيء مختلف. لم أستطع منع نفسي من التساؤل بصوت مسموع: "لماذا تُعد هذه المدينة مزدحمة جدًا بالسكان؟ يبدو أن الحياة هنا لا تتوقف أبدًا!" 

 

كان عمي مراد يراقب الطريق أمامه، لكنه لم يتأخر في تقديم الإجابة، وبصوته الهادئ قال: "الأمر بسيط يا معاذ. سكان القرى الكونغولية يأتون إلى المدن هربًا من الفقر والجوع، والبحث عن فرص حياة أفضل. يتطلعون إلى وظائف في المصانع أو القطاع الحكومي، ومع ذلك، البطالة تنتشر هنا بسرعة بسبب العدد المتزايد للسكان." 

 

ثم أضاف بنبرة يملؤها التفكير: "تعداد السكان في كينشاسا وصل إلى حوالي سبعة ملايين ونصف نسمة، مما يجعلها ثالث أكبر مدينة في إفريقيا بعد لاجوس والقاهرة من حيث عدد السكان. هنا، تُعاد صياغة قصص الكفاح اليومي."

 

كلامه أثار لدي شعورًا غريبًا، كأن مشاكل المدينة تختصر حكايات ملايين الأشخاص الذين يكافحون لأجل البقاء. لكن في داخلي كنت أخاطب نفسي، دون أن يسمع أحد: "مشكلات مثل الفقر والنزوح ليست حكرًا على كينشاسا. إنها مشكلات عالمية، تحملها المدن الكبرى في كل مكان."

 

وفي أثناء انشغالي بهذه الأفكار، لفت انتباهي تصميم المباني السكنية في كينشاسا. كانت بعض المنازل عبارة عن شقق سكنية فاخرة، مكونة من طابقين أو أكثر، تحيط بها حدائق خضراء تُضيف لمسة من الجمال والرفاهية. كانت تلمع تحت ضوء الشمس كأنها جواهر مبعثرة وسط المدينة. تحديقي الطويل بها لم يخفَ عن عمي، الذي ابتسم وقال وهو يشرح: "هذه المساكن يا معاذ، يسكنها الأثرياء فقط، من رجال الدولة أو كبار التجار. أما غالبية السكان من الفقراء والفلاحين، فإنهم لا يقتربون منها، بل يكتفون بالنظر إليها من بعيد، تمامًا كما ينظرون إلى متاحف أثرية."

 

كلماته كانت صادمة بالنسبة لي، لكنها كانت واقعية. جعلتني أدرك الفجوة الكبيرة التي تفصل بين طبقات المجتمع، تلك الجدران العالية للمنازل الفاخرة التي تحمل بداخلها معاني النجاح لبعضهم، لكنها تبدو حلمًا بعيد المنال للآخرين.

 

السيارة استمرت بالسير، وأنا أُحاول أن أجمع بين كل ما رأيته وما سمعته. كنتُ على يقين بأن هذه المدينة تخفي الكثير من القصص، بعضها يُحكى بصوت عالٍ في الشوارع، وبعضها الآخر يبقى مدفونًا خلف جدران المنازل أو تحت ظلال الغابات التي تنتظرنا.

تركنا وراءنا شوارع كينشاسا المزدحمة وصخبها الذي يملأ الأفق، وكأننا ننتقل من عالم مضطرب إلى آخر يسوده الهدوء لكنه مليء بالغموض. عندما انعطفت السيارة يمينًا ودخلنا إلى أحد الطرق الفرعية الضيقة، شعرت على الفور بالتغيير. الطريق كان مليئًا بالالتواءات والانحدارات، أرضيته غير ممهدة، تحمل آثار المطر والحياة اليومية التي تمر فوقه بلا هوادة. 

 

السيارة بدأت تتخبط وكأنها تحاول التكيف مع المطبات والحفر الكثيرة التي تغمر هذا الطريق. مع كل قفزة أو هبوط، كنت أشعر بالاهتزاز يسري في جسدي، حتى أنني أحيانًا كنت أنزلق إلى أسفل المقعد، أو أقفز للأعلى مع حركة السيارة وأصطدم بسقفها الضيق. رأسي بدأ يؤلمني من كثرة الاصطدامات، لكنني اخترت الصمت. لم أرغب في إظهار أي نوع من الاستياء أو التعب، فهذا كان اختياري منذ البداية، ولم أكن على استعداد للتراجع الآن.

 

رغم كل هذه الصعوبة، كانت هناك لحظات من السكينة تتسلل إليّ. عندما نظرت من النافذة، بدأت أشجار كثيفة تظهر على جانبي الطريق، وكأنها حراس للطبيعة يراقبون كل من يمر عبر هذا المكان. النسيم البارد الذي يُلامس وجهي كان يحمل معه رائحة الأرض الرطبة بعد المطر، رائحة تحمل في طياتها نوعًا من السلام الذي كنت أبحث عنه. 

 

بينما كانت السيارة تستمر في تخبطها، وجدت نفسي أفكر في الطريق ذاته. الطريق كان صعبًا، مليئًا بالتحديات، لكنه يقودنا إلى وجهة تستحق العناء. شعرت بأن هذا الطريق يشبه الحياة نفسها؛ لا تخلو من الانحدارات والمطبات، لكنها في النهاية تأخذنا إلى حيث نجد أنفسنا، إلى حيث نحقق ما نريد. 

 

بدا لي أن الطبيعة كانت ترحب بي بطريقتها الخاصة. أشجار الموز الشاهقة، والنباتات البرية التي تنبت بحرية، وحتى الطيور التي تحلق فوقنا، كلها كانت وكأنها تقول لي: "مرحبًا بك في عالم مختلف، عالمنا." 

 

استمر الطريق في اختبار صبري، لكنني كنت ممتنًا لكل لحظة، ولكل ارتداد. كنت أعلم أنني أقترب من شيء أعظم، شيء كنت أبحث عنه منذ وقت طويل.

ما إن وصلنا إلى منزل عمي حتى شعرت باندهاش لم أتمكن من إخفائه. لم أكن أتوقع أن يكون المنزل بهذه البساطة التي تحمل في طياتها لمسة من الجمال المتواضع. بدا أمامي كأنه كوخ صغير يشع دفئًا، مبنيًا من الطوب الطيني الذي يلتصق به الزمن، وسقفه المكون من الخشب والقش وأعواد حطب الذرة يمنحه مظهرًا ريفيًا أصيلًا. كان للمكان نافذتان زجاجيتان أماميتان، تعكسان ضوء الشمس كأنهما عينان للمنزل تتطلعان إلى الخارج. 

 

عندما دخلت المنزل، استقبلتني رائحة مميزة للخشب والتراب الطيني، رائحة تمنح إحساسًا بالراحة رغم تواضع كل شيء. الأثاث كان بسيطًا للغاية؛ بعض الكراسي المصنوعة يدويًا، طاولة صغيرة، وأسرّة خشبية مغطاة بأغطية مزركشة بألوان هادئة. كان المكان مرتبًا ونظيفًا بشكل يثير الإعجاب، وكأن كل قطعة في هذا المنزل الصغير قد تم ترتيبها بحب وعناية.

 

لكن، حين نظرت عبر النافذة، رأيت شيئًا مختلفًا. منازل الجيران كانت أبسط بكثير، بعضها يشبه الخيام، متراصة في الخلاء كأنها لوحات صامتة تحكي عن قسوة العيش. شعرت بأن منزل عمي كان خطوة متقدمة بالنسبة لما رأيته حوله، لكنه لا يزال يحاكي بساطة الحياة هنا.

 

ابتسم عمي وهو يلاحظ نظراتي المتأملة وقال: "أعلم أن المنزل يبدو بسيطًا، لكنه يكفيني. هنا، لا يحتاج الإنسان للكثير كي يعيش. الحياة بسيطة، والطبيعة من حولنا تعوض عن كل شيء."

 

كلماته كانت صادقة، تحمل معها فلسفة تُذكرني بأن البساطة غالبًا ما تكون مفتاح السعادة. شعرت بنوع من الاحترام لهذا المكان، لهذا الكوخ الصغير الذي رغم تواضعه، يحمل روحًا تسكنه تجعل كل زاوية فيه تنبض بالحياة.

 

تناولنا عشاءً خفيفًا، كان بسيطًا ولكنه محمّل بالنكهات اللذيذة والرائحة العطرة التي ملأت المكان وأثارت شهيتي المتأججة بعد ذلك اليوم الطويل المرهق. مع كل لقمة، شعرت بأن هذا الطعام ليس مجرد وجبة بل كان دعوة للراحة والسكينة بعد كل ما مررنا به. 

 

بعد انتهاء العشاء، تركت أبي وعمي في الصالة يتبادلان أطراف الحديث. بدا الحديث بينهما وكأنه لقاء بين عالمين؛ أحوالنا في مصر وقصصه في الكونغو.

 لكنني كنت قد وصلت إلى نقطة الإنهاك ، حيث لم تعد قدماي قادرة على حملي ولا عيناي تستطيعان مقاومة ثقل النعاس. 

 

توجهت إلى الغرفة الصغيرة التي كانت تفتح بابها على الصالة من جهة اليمين. كانت بسيطة جدًا، لكنها بدت وكأنها ملاذ مثالي لعزلة قصيرة بعد يوم مليء بالأحداث. عندما خطوت نحوها، شعرت وكأن كل ركن فيها يهمس لي بدعوة لطيفة للراحة.

 

الجدران الطينية التي تغطي الغرفة تضفي عليها دفئًا عتيقًا وكأنها تحتضنني، بينما السقف المنخفض يعزز الإحساس بالسكينة. الفراش الصغير، الذي بالكاد يسع فردًا واحدًا، بدا وكأنه ملاذ لي لألقي عليه عبء يومي. استنشقت الهواء الذي يحمل عبق الطين والرطوبة، فشعرت وكأنني عدت إلى زمن أكثر بساطة وجمالاً.

 

بينما كنت أتحرك ببطء، أرهقتني أفكاري التي كانت تدور في رأسي: "أبي وعمي سيتكيفان بالطبع في الغرفة المقابلة لغرفتي. منزل عمي صغير جدًا، غرفتان فقط للنوم، ولكنني متأكد من أن عمي، بروح الضيافة التي يُعرف بها، سيتنازل عن فراشه لأبي وينام على الأريكة المريحة في الصالة."

 

لم أشغل نفسي كثيرًا بهذه الأفكار، فقد كان الإرهاق يغلبني، بينما كنت أتأمل كل تفاصيل الغرفة الصغيرة. رأيت المروحة القديمة معلقة في السقف تدور ببطء، وسمعت صوت الرياح الخفيفة وهي تتسرب من النوافذ الصغيرة المطلة على حديقة مليئة بالنباتات البرية. رغم بساطة المكان، شعرت أنه يحمل نوعًا من الحميمية والدفء الذي يطلب مني أن أترك وراءه كل همومي وقلقي وأسترخي تمامًا.

 

بإرهاق ثقيل، ألقيت بجسدي على الفراش، فكانت كل ألياف جسمي تطالب براحة مستحقة. لم أستطع منع نفسي من إغلاق عينيّ تدريجيًا، بينما تلاشت ملامح الجدران الطينية والسقف المنخفض من ذاكرتي.

 

مع ذلك، وصل إلى أذني صوت خافت من الصالة؛ حديث أبي وعمي الذي يتخلله ضحكات خفيفة دافئة. شعرت أن تلك الضحكات تنساب عبر الغرفة، تضيف دفئًا آخر إلى المكان، وتُغرقه بروح عائلية لطالما كانت مصدرًا للأمان.

 

رغم الألم الطفيف الذي ما زال عالقًا في رأسي نتيجة الاصطدام بسقف السيارة أثناء الرحلة، شعرت براحة لا توصف. كنت أعلم أنني عبرت تحديات اليوم، وها أنا على أعتاب بداية جديدة.

 

وبينما أغلقت عيناي، بدأ النوم يجذبني سريعًا إلى أعماقه، دون أن أتمكن من مقاومته. لم يكن هناك مجال لأي تأملات طويلة أو قلق حول اليوم التالي. رحلت إلى سبات عميق، تاركًا خلفي عالم اليقظة ليحملني عالم الأحلام، لا أسمع إلا همسات الليل الهادئة وصدى تعب الرحلة في جسدي. حتى أشرقت شمس اليوم الجديد، شقّت خيوط الضوء طريقها عبر النافذة الصغيرة، وكأنها تعلن بداية مغامرة جديدة تنتظرني.

 

بدأ اليوم الجديد يتسلل بهدوء إلى غرفتي، حيث كانت أشعة الشمس الذهبية تخترق نافذتها الصغيرة برفق، وكأنها تُداعبني برغبة لطيفة للاستيقاظ. لم يكن بإمكاني تجاهل هذا الدفء، شعرت أن الشمس تحمل معها دعوة مفعمة بالحيوية والانطلاق. رغم استسلامي لبعض الكسل الذي أثقلني في البداية، بدأت جفوني تتفتح تدريجيًا، لتُعلن استعدادي لمواجهة هذا اليوم بكل نشاطٍ وإرادة. 

 

وبينما كنت لا أزال ممددًا على الفراش، تسلّل إلى مسامعي صوت الأطفال في الخارج، يملأ المكان بالحيوية والمرح. كانوا يلعبون كرة القدم بشغف واضح يُشعر كل من يسمعهم وكأن الحياة بأكملها تدور حول ملعبهم البسيط ، كنت أسمع صراخهم وضحكاتهم تعلو وتختلط بأصوات الكرة وهي تصطدم بالأرض والجدران، كأنها جزء من سيمفونية صباحية مليئة بالنشاط.

أصواتهم المرتفعة وضجيجهم العفوي عبر نافذتي كان يردد حكايات شعبية عن حبهم لهذه الرياضة. كرة القدم، هذه اللعبة التي تجمع بين الجميع، كانت بالنسبة لهم ليست مجرد هواية، بل جزءًا من طقوس يومهم المعتادة.  

 

لم يكن ذلك الضجيج مزعجًا بالنسبة لي، بل كان مثل محفزٍ خفي. شعرت أن هذه الأصوات تحمل معها نوعًا من التشجيع الصارخ، وكأنها تقول لي: "انهض الآن! لا مجال للتباطؤ هنا." كان لهذا الحماس أثره؛ سرعان ما وجدت نفسي أنهض من الفراش باندفاع، مدركًا أنه لا يمكنني أن أسمح لضجيج يومي أن يتأخر عن هذا الحماس المحيط بي.

 

أثناء ذلك، كانت الكلمات الإنجليزية التي تعجبني تتردد في ذهني: *Time is money*. حكمة صادقة تحمل في طياتها حقيقة الحياة؛ قيمة الوقت لا تُقدر بثمن، وهو مفتاح كل إنجاز ونجاح. شعرت أن هذه المقولة تعكس تمامًا شعوري تجاه أهمية اغتنام الفرص والبقاء مستعدًا لما سيأتي. 

 

وهكذا، بدأت يومي الجديد، حاملًا في داخلي حماسة الأطفال بالخارج وحكمة الشمس التي أشرقت على غرفتي. كنت أعلم أن هذا اليوم يحمل الكثير ليكتشفه، وأنني سأعيش كل لحظة فيه وكأنها ثمينة كالنور الذي أضاء بدايته.

 

جلسنا حول مائدة الفطور المستديرة المصنوعة من الخشب، وسط أجواء يغلب عليها الدفء والبساطة. كانت المائدة زاخرة بأطباق تعكس نكهة الصباح المصري المألوفة؛ طبق الفول المدمس مع قطرات عصير الليمون التي أضافت نكهة منعشة، والبيض المقلي إلى جوار الطحينة الناعمة، وكوب الشاي باللبن الذي كان بخاره يتصاعد وكأنه يرسم خطوطًا واهنة في الهواء. رغم أن عمي بعيد عن مصر منذ سنوات، إلا أن عاداته في الطعام بقيت وفية لوطنه، كأنه يأخذ معه جزءًا صغيرًا من هويته أينما كان. 

 

تأملت الأطباق أمامي للحظة، ثم رفعت نظري نحو عمي، وأفصحت عن رغبتي بوضوح: "أريد مرافقتك اليوم إلى الغابة، حيث تعمل. أحتاج إلى التقاط بعض الصور وتسجيل مقاطع فيديو للحياة البرية هناك. سيكون هذا مهمًا جدًا لمقالتي عن غابات الكونغو، تلك التي تُعرف بلقب 'رئة العالم الثانية'." 

 

ابتسم عمي ابتسامة خفيفة، ووضع كوب الشاي على الطاولة قبل أن يقول بصوت هادئ: "ولماذا الآن يا معاذ؟ الغابة ليست مكانًا سهلًا، ولست معتادًا عليها بعد." 

 

كنت أعرف أنني سأحتاج إلى تبريرٍ جيد لإقناعه، فتابعت بنبرة مليئة بالحماس: "هذه الغابات، بما تحتويه من أشجار ونباتات، لها دور عظيم. تمامًا كما تفعل الرئة في أجسامنا، تقوم هذه الغابات بتنقية الهواء من ثاني أكسيد الكربون الضار، وتمنحنا الأكسجين. أعتقد أن توثيق هذا الجانب سيكون له أثر كبير في إبراز أهميتها على الصعيد العالمي." 

 

بينما كنت أنتظر رده، كان أبي ينظر إلي بنظرة تعكس مزيجًا من الاهتمام والتحفظ. بادر بالحديث بنبرة هادئة ومتفهمة: "ربما من الأفضل أن نؤجل هذه الرحلة إلى الغد، يا معاذ. نحن ما زلنا متعبين من عناء السفر، والراحة اليوم ستكون خطوة ذكية قبل أن نخوض رحلة مثل هذه."

كان الانتظار يزداد ثقلاً على قلبي، وكأن كل دقيقة تمر تحمل معها إحساسًا بعدم القدرة على البقاء صامتًا. شعرت أن الوقت يمضي، وأنني بحاجة إلى أن أكون هناك، وسط غابات الكونغو الشاسعة، حيث الحياة البرية تنتظر عدستي وأفكاري لتوثيقها. 

 

لم أعد أطيق الجلوس وانتظار قرار أبي أو عمي. حملت حقيبة الظهر التي كنت أضع فيها أدواتي؛ هاتفي، دفتر الملاحظات، وبعض المستلزمات الضرورية، ثم انطلقت خارجًا من المنزل بخطوات سريعة، كأنني أهرب من أي تأجيل أو تردد قد يثنيني عن رغبتي الملحة. 

 

وقفت أمام المنزل، تحت الشمس التي بدأت تصعد تدريجيًا في السماء. كنت أحمل في داخلي حماسًا عارمًا، وأراقب الباب منتظرًا خروج أبي وعمي. كان هدفي واضحًا؛ أن أقطع عليهم أي تفكير طويل أو نقاش إضافي، وأن أُحفزهم على تجهيز أنفسهم والانطلاق معي إلى الغابة سريعًا. 

 

بينما وقفت خارج المنزل، كانت الشمس تواصل صعودها في السماء، ترسل أشعتها الذهبية لتضيء المشهد أمامي. الكونغوليون كانوا يمضون في حياتهم اليومية، بعضهم يتحرك بخطوات ثقيلة، والبعض الآخر يقف في مجموعات صامتة كأنهم يناقشون أحوالهم. الرجال يرتدون قمصانًا وسراويل طويلة تغطي أجسادهم الهزيلة، أما النساء، فكنّ يرتدين فساتين طويلة، تلفّ أجسادهن بوقار، لكنها تخفي في طياتها قصصًا من الكفاح. 

 

كان كل شيء في مظهرهم يشير إلى الفقر المدقع. بشرتهم فاحمة السمرة تحمل آثار الشمس والحر، وأجسادهم الهزيلة تروي صراعًا طويلًا مع الجوع والحرمان. العظام البارزة من تحت الجلد كانت كأنها علامة صامتة تنطق بحجم المعاناة التي يعيشها هؤلاء الأشخاص. ورغم بساطة مظهرهم، كان في عيونهم بريق يحمل شيئًا من الأمل أو ربما مجرد انتظار صامت.

 

شعرت بخيبة أمل ثقيلة عندما تذكرت أن هذه الأرض الغنية بالخيرات الطبيعية تُعد من أغنى دول العالم بالموارد. الكونغو هي أكبر منتج للكوبالت الخام، ذلك المعدن الرمادي الصلب الذي يعتبر عنصرًا أساسيًا في الصناعات الحديثة. إلى جانب ذلك، هي من أكبر منتجي النحاس والألماس الأبيض، والمصدر لثاني أكبر غابة مطيرة استوائية في العالم، غابات الكونغو التي تُعرف بلقب "رئة العالم الثانية"، لأنها تُنقي الهواء وتُسهم في التوازن البيئي العالمي. 

 

ولكن أمام هذا التناقض، كان سؤال داخلي يُراودني: "لماذا لا تُستغل هذه الموارد لتغيير واقع سكانها؟ لماذا يُسمح للجوع والمجاعات بأن تستمر بينما تمتلك هذه الأرض كل ما يحتاجه شعبها للنهوض بحياتهم؟ هل هو الفساد؟ أم سوء إدارة؟ أم تاريخ طويل من الاستغلال والصراعات التي استنزفت إمكاناتها؟"

 

كانت الأفكار تتصارع في رأسي بينما أراقب المكان حولي. رائحة الأرض، وأصوات الحياة البسيطة، وصور الأشخاص الذين يعبرون أمامي، كلها كانت تُغذي هذا الشعور بالاضطراب. حملت حقيبة ظهري بإصرار وأحكمت غلقها، لأستعد لتوثيق ما أراه. كنت أعرف أن هذه اللحظة تستحق أن تُوثق، ليس فقط لتُكتب في مقالتي، بل لتُروى كجزء من القصة الإنسانية لهذه الأرض.

كانت أصوات الأطفال القادمة من داخل الخيام كأنها نداء خفي يختصر معاناة تلك الأرواح الصغيرة. لم تكن مجرد ضوضاء، بل كانت صرخة للمساعدة، صرخة تحمل أوجاع الجوع والضعف. وقفوا في تلك الخيام المتناثرة التي بالكاد تحميهم من قسوة الطبيعة، وعيونهم تبحث عن أمل قد لا يعرفونه. شعرت بشيء غريب في داخلي، مزيج من الحزن والغضب والإنسانية التي رفضت أن تقف متفرجة.

 

دفعني هذا الإحساس إلى التحرك نحوهم، محاولة التواصل معهم بلغتي الفرنسية المتواضعة. كلمات بسيطة خرجت من شفتي، محملة بالنية الصادقة لفهم احتياجاتهم. أخرجت بعض الجنيهات المصرية من حقيبتي، معتقدًا أنها قد تحمل لهم شيئًا من الراحة، لكنها كانت بلا جدوى. نظرت إلى وجوههم المرتبكة، وعرفت سريعًا أن هذه العملة لا تساوي شيئًا هنا. الفرنك الكونغولي هو العملة المتداولة، والجنيه المصري بالنسبة لهم مجرد أوراق غريبة لا قيمة لها.

 

شعرت بالعجز في تلك اللحظة، لكنه لم يكن عجزًا يُثنيني عن المحاولة. عدت إلى المنزل بسرعة، خطواتي تحمل تصميمًا لا يُقهر. كنت أتحرك بعفوية، كأن قوة داخلية تقودني نحو هدف واحد: إيجاد طريقة أخرى لمساعدة هؤلاء الأطفال الذين يُصارعون الجوع. دخلت المنزل كالإعصار، حيث كان عمي وأبي يستعدان للخروج. تفاجئا برؤيتي وأنا أندفع مباشرة نحو المطبخ، دون حتى أن أشرح لهم ما يحدث.

 

بدأت أفتح الخزائن وأجمع كل ما تقع عليه يدي. أكياس من الأرز، والدقيق، والذرة، وزجاجات اللبن للصغار. لم يكن هناك مجال للتردد أو طلب الإذن. كنت أضع كل شيء داخل أكياس بلاستيكية بسرعة، وكأنني أحاول اللحاق بفرصة لن تُتاح مرة أخرى. لمحت عمي يقف في الزاوية، ينظر إليّ بدهشة، لكنه لم يقل شيئًا، ربما لأن ملامحي كانت تتحدث بصوت أعلى من أي كلمات.

 

خرجت من المنزل محملًا بتلك الأكياس، شعرت بثقلها لكن الروح داخلي كانت خفيفة. عندما وصلت إلى الأطفال، قدمت لهم الطعام، وكانت نظراتهم تحمل دهشة عميقة، كأنهم لم يتوقعوا أن يحمل اليوم لهم شيئًا مختلفًا. بدأت أسمع كلماتهم الفرنسية البسيطة، "Merci pour votre aide, monsieur." تلك العبارة الصغيرة كانت كافية لأن تُشعل في داخلي إحساسًا بالرضا، وكأنني وجدت معنى أعمق لهذه الرحلة.

 

وفي تلك اللحظة، لم يكن الطعام الذي قدمته مجرد مساعدة مؤقتة، بل كان جسرًا صغيرًا يربطني بهؤلاء البشر الذين يعيشون في عالم مختلف عن عالمي. عالم مليء بالتحديات، لكنه يحمل في داخله روحًا لا تنطفئ، تبحث دائمًا عن بصيص أمل.

تلك اللحظة، حين وقفت أمام وجهيّ عمي وأبي، كانت مثقلة بالصمت الذي حمل معه كل المعاني. لم أستطع رفع نظري إلى عينيهما، إذ كانتا تُطوقانني بنظرات مليئة بالدهشة والذهول. ربما كانا يحاولان استيعاب المشهد: المطبخ الذي تركته شبه فارغ، وشغفي الذي استحوذ على تصرفاتي دون استئذان. كنت أعرف أنني تسببت في فوضى عاطفية وعملية، لكن داخلي كان مقتنعًا أن ما قمت به كان ينبع من حاجة صادقة للمساعدة.

 

بينما كنت أحاول جمع أنفاسي، كسر عمي الصمت بكلماته، التي لم تحمل أي عتاب، بل جاءت كعادته مليئة بالود والحكمة. قال بصوته الهادئ الثابت: "هوّن عليك يا معاذ، ليست هناك مشكلة على الإطلاق. ما قمت به يُظهر قلبًا طيبًا وروحًا معطاءة، ولكن، يا بني، العطاء وحده لا يكفي. أنا أساعد هؤلاء الناس بما أستطيع دائمًا، طعامًا ومالًا، لكن هذا لن يُغنيهم عن العمل. يحتاجون إلى وسيلة لتغيير حياتهم بأنفسهم. العطاء الحقيقي ليس في ملء بطونهم ليوم أو يومين، بل في تعليمهم كيفية كسب لقمة عيشهم بجهدهم."

 

توقف للحظة، ثم تابع بنبرة تحمل وزن الحكمة: "أتذكر مثلًا صينيًا قديمًا يقول: *'لا تعطني سمكة؛ ولكن أعطني شبكة أو علمني كيف أصطاد.'* علينا أن نقدم لهم الأدوات والمعرفة ليتمكنوا من الاعتماد على أنفسهم. وهذا هو السبيل الوحيد للتغيير الحقيقي."

 

شعرت بالخجل يتضاعف داخلي، ولم أستطع منع احمرار وجنتي. لم تكن كلمات عمي توبيخًا، لكنها كانت مثل مرآة عكست لي جوانب لم أكن أفكر بها. قلت بصوت منخفض، محاولًا تمالك نفسي: "معك حق يا عمي. هذا يتفق تمامًا مع تعاليم ديننا الحنيف، حيث قال الله تعالى: *'إن الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم.'*"

 

نظرت إلى أبي، الذي كان يستمع بصمت، لكن وجهه كان يعكس موافقة هادئة على ما قاله عمي. ربما كان يراقبني، ليرى كيف سأتعلم من هذه اللحظة. أدركت أن ما قمت به لم يكن خطأ، ولكنه كان مجرد جزء صغير من صورة أكبر. العطاء العاطفي لحظة، لكن العطاء العملي الذي يبني حياة الناس هو الذي يبقى.

 

بدا لي أن هذه اللحظة كانت أكثر من مجرد موقف عابر. كانت درسًا في الحياة. فهمت أن الرحمة وحدها ليست كافية إذا لم تكن مصحوبة بتخطيط وإدارة. شعرت بثقل الدرس، لكنه كان ثقلًا مريحًا، لأنه دفعني لإعادة التفكير في معنى العطاء وفي طريقة تأثيري على حياة الآخرين.

 

***
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.