RH

شارك على مواقع التواصل

كان يومًا دراسيًّا عاديًّا، لم يختلف عن غيره في شيء.
كانت جالسةً على المقعد القرب من النافذة، بينما ماري بجانبها، تتحدّث كعادتها عن الواجبات والاختبارات القادمة، تُحرّك يديها وهي تشرح، وخُضْرُ عينيها تلمعان بذلك الحماس الذي اعتادت عليه... لكنها لم تكن تستمع، نظراتها كانت شاردة، معلّقة على نقطةٍ ما خلف النافذة.
مرّت دقائق، ثم فجأة قالت ماري بنبرةٍ منزعجة، وهي تُلوّح بيدها أمام وجه صديقتها :"سوزي! هل تسمعينني؟! إلى أين ذهبْتِ بعقلِك؟!"
رمشت سوزي ببطء، وكأنها تعود من حلمٍ بعيد، ثم أدارت رأسها نحو ماري وقالت بصوتٍ منخفض :"ماذا؟ آسفة... بماذا كنتِ تتحدّثين؟"
تنهدت ماري بحدّة، لكنها لم تُعلّق، فقط اكتفت بهزّ رأسها، فقد اعتادت هذا الشرود الجديد.

أثناء خروج الطالبات من الفصل، كانت سوزي تمشي في الرواق، رأسها منخفض،
توقَّفتْ فجأةً، ونظرَتْ خَلْفها حينَ انتابَها شُعورٌ بأنَّ أَحدًا يراقِبُها....
لكن لا أحد...
عادت للواقع عند اِرْتِطامِها بفتاةٍ  كانت تندفع بسرعةٍ من الاتجاه المعاكس، سقط كتابُ سوزي على الأرض، وكاد هاتفُها ينزلق من يدها، توقفت للحظة، ثم استدارت إليها بوجهٍ متجهم، وصرخت :"هل تُعانين من العمى؟!"
كان صوتُ سوزي حادًّا... حادًّا لدرجة جعلت الصمتَ يُخيّم على الممرّ للحظة.
الفتاةُ التي اصطدمت بها لم تعرف ماذا تقول، اكتفت بجمع كتبها بسرعة وتابعت طريقها دون أن تعتذر أو تلتفت مرةً أخرى. بينما ظلّت ماري واقفة، تُحدّق بسوزي بذهول.
وقفت سوزي للحظات، تُحدّق في الفراغ، ثم انحنت تلتقط كتابها بصمت، قبل أن تنضمّ إليها ماري التي كانت تُراقب الموقف من بعيد بقلق.
"سوزي... أنتِ بخير؟" سألتها ماري، وعيناها تتفحّصان وجهها بتركيز.
لكن سوزي لم تُجِب مباشرة، فقط رفعت نظرها نحو صديقتها وقالت بصوتٍ خافت:"بخير... فقط متعبة."
"متعبة؟! أنتِ لستِ على طبيعتك سوزي، ماذا حدث؟"
سوزي، التي كانت لا تزال غاضبةً دون سببٍ واضح، نظراتها حائرة، وضعت يدها على جبينها، ثم همست:
"لا أعرف... صدقيني، لا أعرف لماذا قلتُ هذا. شعرت فقط... أنني لا أستطيع التحكُّم."
تقدّمت ماري نحوها خطوة، وضعت يدها على كتفها، وقالت بنبرةٍ أكثر ليونة:
"سوزي، هذا ليس أنتِ... ما الذي يحدث؟ أخبريني."
ظلّت سوزي صامتةً لثوانٍ، ثم ابتلعت ريقها بصعوبة وقالت بصوتٍ خافت:
"أعتقد... أنّني خائفة."
كانت تلك أولَ مرةٍ تعترف فيها سوزي بشيءٍ من هذا القبيل.
لم تستطع ماري أن تفهم ما تعنيه سوزي بالخوف... لم يكن خوفًا عاديًّا، ولم تكن الإجابة سوى بدايةٍ لانهيار شيءٍ أكبرَ ممّا كانتا تتصوّران.
ثم مرّ اليوم... طويلًا... صامتًا، وكان الليل ينتظرها...
*****
لم تستطع سوزي النومَ بسهولة تلك الليلة، كانت تتقلب في سريرها يمينًا ويسارًا فوق الفراش،
"مرحبًا".
كانت تتكرّرُ في أُذنيها كصدىً بعيد، يقتربُ شيئًا فشيئًا، حتى أصبحتْ تهمسُ بها شفَتاها دونَ وعي.
فَتَحَتْ عيْنَيْها فجأةً عندَ سَماعها ذلكَ الصَّوْت، نظرتْ إلى سقفِ الغرفةِ المُظلِم، كانت الساعةُ تُشيرُ إلى الثانيةِ بعدَ منتصفِ الليل.
زفرتْ ببُطء، تُحاولُ أن تستجمعَ شجاعتها، مدّتْ يدَها إلى الهاتفِ الموضوعِ بجوارِ الوسادة، وضغطتْ على زرِّ الإضاءة...
رسالةٌ جديدةٌ كانت قد وصلَتْ... لم تكنْ كلمةً هذه المرّة، بل صورة.
تصلَّبت ملامحها وهي تُمعِن النظر، ثم شهَقت بصمت، واتسَعَت عيناها حين اتَّضح لها المشهد....إنّه بيتُها.
الواجهةُ الأماميةُ للمنزل، كما تبدو من الشارع.
الزاويةُ التي أُخذَتْ منها الصورةُ جعلتْها تشعرُ أنّ شخصًا ما يقفُ الآن بالخارج، في الظلام، يلتقطُ تلك الصورة، ويُراقبُها...
ضغطتْ على زرِّ الإقفالِ، وألقَتِ الهاتفَ بعيدًا عنها، لكنَّ الهاتفَ ارتطمَ بالحائط، ثم سقطَ أرضًا، ورنينُ إشعارٍ جديدٍ تردّدَ في الغرفة.
لم تجرؤْ على لمسه مرّةً أخرى تلك الليلة، بل سحبَتْ الغطاءَ على جسدِها، وأغلقتْ عينيها بقوّة، في محاولةِ إقناعِ نفسِها بأنّ هذا مجرّدُ وَهْم... أو حُلم.
*****
كان يومًا جديدًا في المدرسة... لكنه خالٍ من سوزي.
بقيت في المنزل، مستلقية على سريرها، تُحدّق بعسليّتيها في السقف، وكأنّ شيئًا ثقيلًا يُقيّد صدرها.
حتى مكالمات ماري، التي لم تتوقف منذ الصباح، تجاهلتها تمامًا.
كانت ماري قَلِقَةً... و سوزي تعرفُ ذلك؛ تعرفُ كم تكرهُ صديقتُها الغموضَ والصَّمتَ، خاصّةً بعدَ تجاهُلِها سُؤالَها عن سببِ خوفِها يومَ أمس، وها هي تُغرقها فيه بلا رحمة.
أخيرًا، بعد أن رنّ الهاتف للمرة الخامسة، التقطته سوزي ببطء، وضغطت زرّ الإجابة،:"مرحبًا..."
جاء صوت ماري سريعًا، قلقًا، يكاد يصرخ:
"سوزي! أخيرًا! أين أنتِ؟ لمَ لم تأتِ اليوم إلى المدرسة؟!"
سَكنت سوزي للحظة، لا تعرف ماذا تقول...
هل تُخبرها عن الرسائل التي لا تزال تظهر رغم حذف التطبيق؟
أم عن تلك الصورة... صورة بيتها التي وصلتها الليلة الماضية؟
أم عن ذلك الإحساس الثَقيل الذي لا يفارقها، بان شيئًا ما يطاردها...؟
لا... لا يمكن أن تُشرك ماري في هذا. لا يجب أن تجرّها إلى هذا الجنون.
"سوزي؟!" نادتها ماري مجددًا، بعدما طال صمتها بشكل مريب.
أخذت سوزي نفسًا عميقًا، ثم قالت بصوتٍ خافت :"لا شيء، ماري... فقط شعرتُ ببِعض التعب. غدًا سأكون في المدرسة، أعدكِ."
أغلقت الخط بسرعة، تُحاول الهروب من أَسْئِلة ماري. ألقت الهاتف بجانبها على السرير، وضمّت الوسادة إلى صدرها، تحاول أن تُقنع نفسها أن كلّ ما يحدث... لا يستحق القلق.
********
في مكانٍ آخر...
كان الظلام يلفّ المكان، إلا من وهجٍ باردٍ ينبعث من عشرات الشاشات المتراصّة، كل شاشة تعرض وجهًا مختلفًا، اسمًا، سيرةً ذاتيّة، تفاصيلُ حياةٍ صغيرة... أشخاصٌ، في نظر مارك، لا يساوون أكثر من ملفات... بياناتٍ تنتظر أن تُفتح.
جلس على مقعده المعدني، ظهره ويداه تتحرّكان فوق لوحة المفاتيح بحركاتٍ رتيبة، دقيقة كجراحٌ يستعد لشقّ جسدٍ تحت مشرطه.
مرّت الصُور أمام عينيه: رجلٌ أربعيني، متزوّج... امرأةٌ في منتصف العشرينات، تعيش مع أسرتها... شابٌّ جامعيٌّ محاطٌ بالأصدقاء... جميعهم لا يصلحون.
علاقاتُهُم المعقّدة تجعلهم عبئًا على التجربة، ورقابة الآخرين ستكون حتميةً إذا غابوا.
توقّفت الشاشة عندها، اسمها يتوهّج بخفوتٍ أعلى صورتها: جيسي مورغان.
مارك لم يطرف... نظرته لم تتغيّر، لكن أنفاسه... هدأت أكثر ممّا كانت.
ضغط بزرّ الفأرة، فانبثقت أمامه تفاصيل حياتها:
السن: 24
الحالة الاجتماعيّة: وحيدة
تاريخ نفسي: قلق اجتماعي، عزلةٌ اختياريةٌ بعد انتقالها للمدينة، زياراتٌ متقطّعةٌ لطبيبٍ نفسي... توقّفت منذ عامين.
معارفها: محدودون، لا زياراتٍ دوريّةٍ من أحدٍ، لا نشاطٍ اجتماعي يُذكر.
مارك مال للأمام قليلًا، حتى كادت الشاشة تعكس ظلّ عينيه الباردتين، "وحيدة... مكسورة... لن يفتقدها أحد."
ظلّ للحظةٍ ينظر إلى صورة جيسي، عيناها في الصورة كانتا تحملان بريقًا خافتًا من الأمل،كانت تبتسم للحياة بتردّد.
لكن بالنسبة له... كان ذلك دليله الأخير.
"أمل... تحطيمه سهل."
مدّ يده إلى زرٍّ بجانب الشاشة، ضغطه، فتغيّر الضوء في الغرفة إلى لونٍ داكنٍ أكثر، وظهر ملفٌ جديدٌ أعلى الشاشة:
Subject #1: Jessie Morgan
Status: Selected.
ثم همس يخاطب نفسه "هذه المرة... لن تخذلني.."
 
____________
ملاحظات ؟
كيف هو الفصل ؟
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.