3aberorg

شارك على مواقع التواصل

لم يكتموا الأمر، واندفعوا لتحذيرنا من أن الطريق سوف يكون شاقًّا، وأن بعض المفاجآت ربما تصادفنا على غير انتظار؛ لكن النصائح تلك كانت قد أبلغت لنا في اللحظات الأخيرة، عندما لم يعد أمامنا، إلا أن نواصل ما كنا قد قررنا فعله.
كنا قبل اليوم الأخير لانتهاء مهمتنا قد توجهنا إلى مقر السفارة، أردنا تقديم عبارات الشكر للسفير، على ما قدمه لنا من تسهيلات، ساهمت كثيرًا في تيسير المهمة الصحفية، التي انشغلنا بها طوال أسبوعين، في ذلك البلد الإفريقي.
وبينما كنا جالسين في مكتبه، دخل أحد مساعديه، وراح يخبره بأن السلطان، يطلب منحه تأشيرة لزيارة بلد السفير.
أدهشني ذلك، فلم تكن قد مرت على الذهن أية معلومة تشير إلى أن هناك سلطنة أو سلاطين، منذ أن نالت معظم دول إفريقيا استقلالها؛ لكن السفير ما إن لمح ذلك الانطباع الذي ارتسم على ملامحي، حتى سارع قائلًا:
- هذا هو آخر السلاطين، وحين سينقضي أجله سوف يتم تقسيم السلطنة بين ثلاث دول في القرن الإفريقي.
في تلك اللحظة، لمع في الذهن وميض، وخطرت لي عندئذ فكرة أن أقوم بزيارة للسلطان وللسلطنة التي يحكمها، صارحت السفير بإمكانية إرجاء الموعد المقرر سابقًا لمغادرتنا، حتى يتم إنجاز هذا التحقيق الصحفي.
رد مرحبًا، مع الوعد بتقديم المساعدة اللازمة لنا، بما في ذلك عمل ترتيبات للزيارة مع مساعدي السلطان، وقد ساهمت تلك الأقوال في مضاعفة حماسي وزميلي المصور لإنجاز هذا المهمة.
في نفس الليلة، ذهبنا إلى مقر السلطان، كان له قصر قديم، يحتل مساحة مترامية، في أحد الأحياء التي تقع على أطراف العاصمة، وكان الطريق إليه مزدحمًا.
التقيناه في وقت متأخر، وأجرينا معه حوارًا للمجلة التي نعمل بها، وخلال الحديث أمر السلطان أتباعه بتجهيز كل شيء يساعد على تيسير إنجاز تلك الرحلة، التي كان ينبغي أن ننطلق خلالها نحو عاصمة سلطنته البعيدة في الرابعة والنصف صباحًا؛ لأن الوصول بالسيارة إلى هناك سوف يستغرق سبع ساعات على وجه التقريب.
ظلت سيارتنا ذات الدفع الرباعي تمضي، على طريق جبلي، ظل يبدو لنا وكأنه بلا نهاية؛ لكن الأمر الذي جعل شعورنا يتأرجح بين القلق والطمأنينة كان تواجد رئيس أركان حرب تلك السلطنة معنا في نفس السيارة، بعد أن أمره السلطان بمرافقتنا.
كنا قد أصبحنا في الحادية عشرة ظهرًا، عندما توغلت بنا السيارة، وسط غابة كانت تتوزع فيها شجرات صحراوية ضخمة، ظلت تبدو كثيفة لدرجة أن المرور من وسطها كان يرغم السائق على إضاءة مصابيح سيارته الأمامية، وما إن كنا نعبر تلك الظلمة حتى كانت تلوح لنا خيوط خافتة من ضوء النهار، وعندها كنا نلمح أشجارًا أخرى عتيقة، ظلت تبدو أشبه ببنايات كبيرة، وهي تتمدد فوق مساحات متباعدة.
حين ازداد توغل السيارة راح الطريق ينحني بنا من وقت إلى آخر، حتى راودتني ظنون بأننا نمضي داخل متاهة، أو ندور على حواف حلقة متسعة وغامضة، إلى أن صاح زميلي المصور فجأة:
- هناك فيلة تسير على البعد.
نظرت في الاتجاه الذي أشارت إليه سبابته، لمحت ثلاثة أفيال من ذوات الأحجام الضخمة، كانت تتهادى عند الطرف البعيد، وعندئذ سارع رئيس الأركان إلى بث الطمأنينة:
- هذه سفاري مفتوحة، وتواجد الحيوانات فيها من الأمور المتوقعة.
* ولكن أية حيوانات تتواجد في هذا المكان؟
سألت على عجل، وسارع هو بالرد، بينما كان يبتسم:
- إنها من جميع الأنواع، وكلها تتعايش هنا.
حديثه الذي كان قد انطلق، عبر بضع كلمات ظل يرددها في هدوء، نجح في امتصاص تلك الارتعاشات القلقة التي راودتني، وقت أن سمعت صيحة زميلي فيها؛ لكني شعرت بعدها بحدقتي عينيَّ وقد اتسعتا، وبدت أذناي جاهزتين لسماع دبيب النمل، إن مر على هذا الطريق.
لم يمض وقت حتى لاحت لي زرافة ممتلئة، كانت تمضي على البعد في خيلاء، وكأن أحدًا في تلك الغابة لم يكن يعنيها، ثم رأيت عددًا من الزرافات الأصغر حجمًا، وحدقت أكثر على البعد فرأيت غزالات تتقافز برشاقة، وتواصل دورانها، مُشكِّلةً نصف دوائر، وقد بدت لي في هذا المشهد وكأنها تهرب من مطاردات محمومة.
دارت الهواجس في رأسي، وسيطرت عليَّ مخاوف هائلة، وعندئذ شعرت بالندم على أني فكرت في المجيء إلى تلك السلطنة، التي لم يعد الوصول
إليها مضمونًا، رغم مضي أكثر من ست ساعات على انطلاقنا نحوها من العاصمة.
وما إن توغلت السيارة أكثر حتى لمحنا كلنا هذه المرة قطيعًا من الضباع، كان كل حيوان فيه يتهادى في استعلاء، وكأنه هو الذي يسيطر وحده على ساحة المكان، اتجهت بنظري إلى رئيس الأركان؛ لكنه هز رأسه، ومن طرف عينيه دعاني إلى عدم الخوف، ولما لم يجد أي طمأنينة على ملامحي تحدث هذه المرة، راح يؤكد أنه لهذا السبب كان اختيارهم لسيارة من ذوات الدفع
الرباعي، مغلقة بشكل جيد للدرجة التي يستحيل معها على أي حيوان شرس اقتحامها.
هذه المرة، كان السائق يواصل طريقه في هدوء، ودون أن تظهر عليه أي علامة تردد، ظل يقود سيارته وكأن شيئًا لم يتغير، وهذا على وجه التحديد
ما كان له أبعد الأثر في امتصاص بعض مخاوفنا.
فجأة قال رئيس الأركان:
- خلال نصف ساعة سنكون قد خرجنا من هذه الغابة، وسوف نحتاج
إلى قطع ساعة أخرى على طريق البحيرة الوردية للوصول إلى قلب عاصمة السلطنة.
غير أنه لم تمض سوى خمس دقائق حتى انفجر الإطار الخلفي الأيمن للسيارة، انتظرنا فيها بينما هبط السائق ثم رئيس الأركان، وراحا يحاولان استبدال الإطار الاحتياطي، ثم طلبا مني وزميلي النزول من السيارة.
أثار هذا الطلب مخاوفنا؛ لأننا حتى ونحن في داخل السيارة ذات الأبواب المغلقة بإحكام كنا نشعر بالرعب، من احتمال اندفاع أحد الحيوانات الشرسة، التي كانت تتجول في الغابة نحونا. غير أننا هبطنا في النهاية بحذر بالغ، وفي اللحظة التي حطت فيها أقدامنا على الأرض، رأينا كائنين بشريين بالقرب من مقدمة السيارة، ما إن رأيانا نهبط حتى سارعا بدس جسديهما، في أكياس من القماش الأبيض، بدت لنا كل واحدة منها أشبه بكفن، وعندما باتا في داخلها شدا الحبال المجدولة، وأغلقا الفتحة بإحكام، فأخفت رأسيهما مع الجسدين.
شعرت بالرعب من هذا المشهد، وسألت رئيس الأركان؛ لكنه ابتسم هذه المرة أيضًا وراح يؤكد لي أنهما من البشر، الذين يعيشون في هذا المكان، ويتعايشون مع حيواناته. بعدها راح يتحدث بنبرة أكثر هدوءًا.
- أي ظهور لبشر مثلكما ببشرتكم غير السوداء، كفيل بأن يدفع الخوف في أبدان سكان هذه الغابة.
كانوا هم الذين خافوا منا، بينما في الوقع كنت أنا وزميلي اللذين عشنا كل تفاصيل الرعب في تلك الرحلة. رحت عندئذ أحاول رسم الابتسامة على وجهي، كي أمنح لهما قسطًا من الطمأنينة؛ لكنهما ظلا داخل الأكفان البيضاء، رافضين تمامًا الخروج منها، حتى بعدما تحدث إليهما رئيس الأركان بلهجتهم المشتركة، نظرت إلى زميلي المصور وتبادلنا الدهشة، كنا نحن المرعوبان حتى النخاع قد أرعبناهما.
وبعد أن انتظرنا نحو نصف ساعة أخرى، كان السائق يبذل خلالها محاولاته لإصلاح السيارة؛ عاد ليؤكد لنا أن الإطار الاحتياطي بات غير صالح هو الآخر، وأنه في حاجة للوصول إلى أقرب محل لإعادة إصلاح الإطارات.
عندئذ لم يكن أمامنا إلا أن نصيح فيه معًا:
- عليك أن تزحف، حتى لو سارت تلك السيارة على هياكل الحديد، لا بد أن نخرج من هذا الجحيم بأي ثمن… لا بد.
نظر السائق نحونا في صمت، ثم أعاد تشغيل السيارة، بعد أن انطلقت ظلت تمضي وهي مائلة على أحد جانبيها، وكانت أجسادنا تميل معها في كل متر راحت تقطعه، كان ذلك الخيار هو الأفضل لنا في كل الأحوال من الانتظار لوقت أطول داخل الغابة.
وبعد أن مرت علينا ساعة أخرى بدت لنا ممطوطة مثل دهر؛ لمحنا أخيرًا طريقًا مُعبدًا، ولم تمض دقائق، حتى انزلقت السيارة نحوه في بطء، كان السائق بارعًا وهو يتحلى بأقصى درجات الحذر، إلى أن وصلنا عند منطقة تمتد فيها بحيرة، كانت لمياهها ألوانًا ذات حمرة متماوجة، هناك لمحنا مجموعة من الرجال تحمل نعشًا وتسير به على حافة المياه، ما إن لمحه رئيس الأركان حتى أمر السائق بالتوقف، نظر إلينا بعد ذلك وراح يخبرنا أنه سوف يصلي على الميت، ثم يشارك في دفنه، قال ذلك، وهو يشير بيده إلى ساحة قريبة، كانت تتوزع فيها العديد من شواهد الموت.
قبل أن يهبط، راح يقول لنا: يمكنكما المشاركة.
هبطنا معه، واتجهنا إلى حيث كان الحشد، انتظمنا في الطابور الأمامي للصلاة على الميت، لمحت الكفن الأبيض يتمدد أمام الحشد، سيطر على ذهني مشهد الرجلين الذي كان كل منهما قد اندس في كفن داخل الغابة، أربكني المشهد، حتى اندفعت نحو رئيس الأركان، ورحت أسأله:
- «هل أوصلتنا تلك السيارة العرجاء إلى غابة أخرى؟».
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.