3aberorg

شارك على مواقع التواصل

يجري كالمجنون ساعيًا نحو الخلاص، زيد ذو الثلاثين عامًا طاف القرية مستعرًا بلظى النار التي لم يعرف أحد كيف استعرت بجسده، كالعداء يجري دون أن تستوقفه صرخات الناس وتوسلاتهم بأن يتوقف ليستطيعوا مساعدته، حاول والده كرم اللحاق به وإخماد تلك النار التي أذابت جسده؛ ولكن دون جدوى، وصل إلى منحدر في نهاية طريق جبلي على أطراف قريته، توقف قليلًا، نظر إلى الأسفل، ومن العدم ظهرت ابنة جارته مها، مدت يدها له، أخبرتهُ بأنها ستساعده؛ ولكنه أخذ يبكي، طلب المغفرة قبل أن يرمي بنفسه من الأعلى، وصل إليه سكان القرية بعد فوات الأوان، شعر الجميع بالأسى عليه، لم يطلب من أحد أن ينقذه، ولم يسمح لأحد بفعل ذلك، كأنه أراد إنهاء حياته!
بعد شهرين من تلك الحادثة استلم كرم إدارة أعمال ولدهِ في معمل الخشب الذي أنشأه بجهوده الفردية، وتضحياته، وبينما كان يراجع بعض ملفات ووصولات المعمل شعر بأن هنالك شخصًا معه في المكان، بدأ إحساسهُ بالمراقبة يزداد يومًا بعد يوم، وفي أحد الأيام جاء مبكرًا إلى المعمل، فتح البوابة الأمامية ليرى جثث فتيات يتشحن بملابس بيضاء رثة، ووجوه مغبرة تتدلى بمشانق من سقف المعمل، وكن يبتسمن له بشكل مخيف، لم يستطع تحمل المنظر وفر هاربًا على وجهه، ليلتقي بحارس البوابة وهو قادم من سوق القرية، سأله الأخير عن ما يفزعه، فأخبره بما رأى، عادا معًا إلى المعمل، دخل الحارس بحذر، ثم عاد وخرج مؤكدًا لكرم عدم وجود أي شيء مما ذكره سلفًا، دخل الأخير وراح يبحث ويجول بعينيه في المكان، أقسم للحارس على ما شاهده، وبأنه لم يكن يحلم، وفي اليوم التالي قرر أن يأتي مبكرًا مرة أخرى، جلب معه كاميرته ودخل متعوذًا من الشيطان، بدأ يصور كل شيء من حوله، وفجأة مرَّ من أمامه شيء ما بسرعة خاطفة، صرخ والرعب يستبد به:
- من هناك؟ اُخرج فورًا، من يختبئ في الظلام؟
لم يحصل على أي جواب، بدأ ذلك الشيء يتحرك بكل مكان من حوله، حاول كرم الفرار لكن الباب أُوصد بوجهه، عم الصمت والهدوء، وريح صفراء عصفت بأطناب ورشة المعمل الكبيرة، وإذا بأطياف فتيات تحيط به، حمل ساق خشب كانت بالقرب منه وبدأ يلوح بها لإبعادهن عنه؛ لكن دون جدوى، أمسكت إحداهن برقبته وضغطت عليها وكادت تكسر عنقه لولا أن الحارس فتح البوابة، وجرى إليه بعد أن سمع صوت استغاثته، حمله إلى الخارج وهو بحالة يرثى لها، الكاميرا كانت ما تزال تعمل في الداخل، اتصل الحارس بابنة كرم والتي جاءت من فورها، ولسوء حالة كرم نقل إلى مشفى القرية، بينما عاد الحارس وأقفل المعمل لذلك اليوم.. استمر رقود كرم خمسة أيام في المستشفى، وفي اليوم الأخير، وبينما غادر الجميع من حوله، شعر بكف باردة تتلمس جسده، ثم أصبحت كفين وزادت تباعًا، قفز من السرير صارخًا:
- ابتعدن عني، أنا لم أفعل لكن شيئًا، ماذا تردن مني؟ ابتعدن!
حضر أحد الممرضين حين سمع صراخه، فوجده يحدث نفسه كالمجنون، هدَّأه وطلب منه الاستلقاء على السرير؛ لكنه أقسم عليه بأن لا يتركه وحده، وتحت إصرار كرم بات الممرض تلك الليلة عنده، صباح اليوم التالي خرج برفقة ابنته فوز، قص لها ما جرى معه في المعمل، تذكر حينها الكاميرا، فاستدرك قائلًا:
- أرجوكِ يا ابنتي، خذيني إلى المعمل، سأثبت لكِ كلامي.
ورغم خوفها من انتكاسته مره أخرى إلا أنها قادت بسيارتها إلى المعمل، نادت على الحارس لكنه لم يجب، لتتفاجأ بوالدها قد وصل إلى باب المعمل الداخلي، جرت خلفه ودخلت على إثره، بدأ يبحث عن الكاميرا فوجدها بين أكوام الخشب، أراد أن يشغلها هناك ولكن صراخ ابنته أوقفه، هرع إليها فوجدها تطير في الهواء وكأن شيئًا ما يرفعها إلى الأعلى، أمسك بقدمها وسحبها إلى الخارج عنوةً، لتغلق بعدهما أبواب المعمل بقوة، وإذا بصوت عالٍ يصدر من الداخل، وصوت عويل وبكاء مخيفين، ركب كرم وابنته السيارة وهربا من هناك بسرعة، وحين أصبحا بعيدين عن ذلك المكان أوقفت فوز السيارة لتلتقط أنفاسها وتستوعب ما كان يجري، شغل والدها الكاميرا، ليصدما بما شاهداه، سألت الأخيرة والدها إن كان هذا حقيقيًّا، وإن ذلك الرجل الذي يضرب بسياط من نار في التسجيل هو أخوها زيد، فأومأ لها برأسه أنه كذلك، سألته عن سبب هذا العذاب، فلم يعرف ماذا يقول لها، سمعت أخاها يستنجد بهم ويطلب المساعدة، وقبل أن تكمل لمحت من بين تلك الفتيات اللواتي يضربن أخاها من ألفت وجهها، حاولت أن تتذكر أين رأتها من قبل، ليقشعر بدنها حين أيقنت أنها ابنة جارهم المفقودة مها، أعادت شريط التسجيل لتتأكد، وكان الأمر كما رأته، نظرت إلى والدها فرأته يبكي بمرارة، أمسكت بكتفه وقالت:
- هل تعرف شيئًا عن ما يجري أبي؟ هل تخبئ عني سرًّا ما؟
بدأ يضرب على صدره قائلًا:
- كان يفعل ذلك دون وعي، لطالما بكى عليهن من قلبه، حاول مرارًا منع نفسه من فعل ذلك ولكنه لم يستطع.
- عمَّ تتكلم أبي؟ لا تردد عليًّ الألغاز، أُريد أن أفهم ما يجري.
- إنهن كثيرات يا ابنتي، كان زيد يجلب واحدة في كل مرة يذهب إلى المدينة لتوقيع صفقة خشب لمعمله، يأتي بهن إلى المعمل، ويبدأ بطقوس التضحية التي علمها له أحد السحرة الملاعين، يعتدي عليهن، يقطعهن، يدفن كل جزء في مكان في حضائر الخشب، بينما يقوم برش الدماء حول معمله ليزدهر وتكبر تجارته.
ودون وعي سألته فوز:
- ومها؟
راح كرم يصرخ بصوت عال وكأنه يحاول إخراج ما بداخله من قيح، نزل من السيارة، راح يضرب رأسه بجدار بالقرب منهم حتى شج رأسه، جرت إليه فوز وترجته إخبارها بالحقيقة، جلس على الأرض، أسند ظهره إلى السياج ونكس رأسه والدم يسيل على وجهه وقال:
- في آخر رحلة قرر زيد أن يتوقف عن قتل الفتيات، لذا لم يجلب أي أضحية معه، دخل إلى المعمل، ورأى أن الأمور سارت على خير ما يرام دون أن يلجأ إلى القتل؛ ولكن ما هي إلا ساعتان حتى اتصل به الحارس ليخبره بأن الخشب قد تلف بسبب دودة «الأرضة» التي عاثت فيه تخريبًا بشكل غريب ومفاجئ، اتصل بي وأخبرني بما يجري، طلبتُ منه أن يهدأ، وقبل أن يكمل اتصاله انقطع الخط، وفي صباح اليوم التالي ذهبتُ إلى المعمل فوجدتُ الأمور على خير ما يرام، سألته عن تلف الخشب فأخبرني أنه تدارك الأمر؛ ولكنه لم يخبرني كيف، وفي ذلك اليوم شاع خبر اختفاء مها، حزنت كثيرًا، ورحت أبحث مع فريق البحث عنها ولكننا لم نجدها، قررت أن أبحث بالقرب من النهر المجاور للمعمل؛ ولكن دون جدوى، وبينما أنا هناك جاء زيد، وجدني أبكي، وحين سألني أخبرته بأكبر أسراري.
جلست فوز بجانبه وطلبت منه أن يكمل، فأردف قائلًا:
- مها كانت أختكم، كانت ثمرة حبي الأبدي.
- يا إلهي، مها أختن!
- نفس الجملة قالها زيد، ثم انهار على جرف النهر واعترف لي بقتلها، في ذلك اليوم عرفتُ سره القاتم الذي يخفيه منذ سنين، لتتدهور بعدها حالته العقلية، وصار يرى تلك الفتيات حوله في كل مكان، حاولتُ أن أساعده ولكن الأمر انقضى قبل ذلك.
- إذن زيد انتحر..
- أراد أن يرتاح.
بدأت فوز تبكي، لم تعرف ماذا تقول، وأي تبرير من الممكن أن يقال لتبرئة أخيها، أمسكت الكاميرا لمحو التسجيل، لفت انتباهها الحارس بعيون حمراء يقف خلف أحد النوافذ يراقب حضيرة الخشب بينما كانت تلك الأطياف تحاول قتل والدها، سألت الأخير عن الحارس ومدى معرفته بما يجري، فأخبرها بأنه لا يعرفه، وأن زيد قام بتعيينه، اتصلت فوز بزوجها الضابط أحمد، وروت له كل شيء، حاول والدها أن يثنيها عن فعل ذلك؛ ولكنها أخبرته بأن زيد سيبقى معذبًا ما دامت أوصال تلك الفتيات مبعثرة في كل مكان في المعمل، جاءت الشرطة وقامت بنبش المكان وتم العثور على بقايا الكثير من الفتيات وأوصالهن، سأل رجال الشرطة عن الحارس المزعوم فأخبره أحد سكان القرية بأن الحارس توفي منذ سنين، ولم يعين من حينها حارس جديد!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.