3aberorg

شارك على مواقع التواصل

لم يستطع السيد صالح أن يذهب في اليوم التالي إلى عمله؛ فقد ازداد عليه الإعياء، وزوجته قد ضايقته بحديثها وما كشفته له من ذات نفسها في اليوم السابق، فقد تبدى له منها أنها تنتظر نهايته؛ كي تتقدم هي فتضع يدها على سائر أمواله وثروته، أما طفلته الصغيرة فما لها إلا أن تنتظر الشقاء والحرمان.

وحين أقبلت إليه زوجته في اليوم التالي تسأله عن حاله وعن ما يشتهيه من طعام؛ كان هو غارقًا في التفكير بابنته وبمن يمكن أن يجعله وصيًّا عليها بعد مماته، وكانت أفكاره تجول وتكلّ ثم لا تنحط على شيء، فليس له في المدينة أخ ولا أخت، ليس له أي قريب ما عدا طفلته، وحتى الأصدقاء كان حظه منهم غير ذي جدوى، إذ كان هو أغنى أهل المدينة على الإطلاق، فكانت نظرات أكثرهم إليه مشوبة بالحسد والحقد، خصوصًا بعد أن تزوج الفتاة التي كانت حلمًا في رأس كل شاب من شبان المدينة، إذ استطاع أن يبدد أحلامهم جميعًا بماله الذي أغراها به، والذي وجد هوًى أكثر من طبيعي في نفسها هي،
ولا ريب أنه كان يدرك كل هذا الذي يكمن بينه وبين قلوب أهل المدينة، ولذلك فقد كان تفكيره في البحث عن وصي أمين على ابنته وأمواله لا يرسو عند أي شخص يطمئن إليه، وانتبه من تفكيره هذا إلى صوت زوجته تسأله عن حاله وعن ما إذا كان يحتاج شيئًا، فنظر إليها مليًّا ثم سألها:
- أين رنيم؟
- رنيم؟
رنيم تلهو أمام باب البيت كأسعد ما تكون وليس لها شأن بك، أما أنت فابحث عن حالك وصحتك.
- ائتيني بها، أريد أن أراها.
- كما تشاء، سأبحث لك عنها.

ثم خرجت من الغرفة وأغلقت وراءها الباب لكنها ذهبت ولم تعد، كانت غاضبة لأنها تشعر أن زوجها لم يعد يهتم بها، وهي التي منذ استفاقت على شبابها وجمالها تنتظر أن تختال تيهًا حول الرجل الذي يفيض فؤاده بحبها وهواها، وينتشي سكرًا بفتنتها وجمالها؛ ولكنها اليوم تجد نفسها مسؤولة عن مداراة الرجل الذي يفيض قلبه حبًّا وهوًى لابنته الصغيرة، بل إنها تعتقد أنه إنما اختارها زوجة له من بين بقية النساء ليوضح لابنته عندما تكبر كيف أنه اختار زهرة الفتيات بعد أمها لخدمتها ورعايتها، فذلك من أهم واجبات الدلال على أب تعز عليه ابنته إلى درجة أنه يهواها الهوى المبرح، بل وينتابه المرض في سبيلها.
وطبيعي أن هذه الأفكار التي أغضبت سعدية ليست صحيحة إلى هذا الحد، إذ هي ولا ريب خيالات اشتعلت بضرام غيرتها العارمة، أما صالح فهو بالفعل يحب ابنته الوحيدة التي فقدت أمها؛ ولكن ليس أبعد من الحد الطبيعي، ولقد كان من السهل عليه أن يبرهن على هذا الاعتدال في حبه لابنته لو أن زوجته أيضًا برهنت على عنايتها الطبيعية بها.

ولبث صالح ينتظر من غير جدوى، حتى إذا طال به الانتظار داخله القلق، ونهض من فراشه قاصدًا ردهة المنزل ليبحث بنفسه عن ابنته، فقد قالت له زوجته إنها تلهو هناك؛ ولكن لم يجد ابنته أمام باب المنزل، وإنما وجد هناك صبية صغارًا يلعبون، فسألهم إذا ما رأوا ابنته رنيم على مقربة منهم، فأجابه أحدهم:
- لقد حملتها جارتكم الخالة أم رافع منذ قليل وأخذتها إلى بيتها.
فاتجه صالح مسرعًا إلى باب دارها وطرقه ثم دخل، وإذا به يبصر ابنته جالسةً في حجر الخالة أم رافع وهي تطعمها الرقاق بالحليب في حنان وعطف، فجثا أمامها وراح يشكرها بامتنان بالغ لإنسانيتها وكم هي رائعة وعظيمة،
ثم استقر في مجلسه وبدأ يتذكر الخالة أم رافع بعد نسيان، فقد كانت
الصديقة المخلصة لزوجته الأولى أم صغيرته، وكانت منها بمثابة أمها،
وحينما توفيت زوجته كانت الخالة أم رافع هي صاحبة القلب الثاني الذي يفيض عطفًا وشفقةً على ابنته الوحيدة رنيم، فهي تتفقد حالها دائمًا في
هدوء وتكتم، بل كثيرًا ما تسترق الفرص لرعايتها استراقًا، ولعلها تقصد من ذلك أن لا تثير حفيظة سعدية، وأن لا يكون في شيء من عملها ما يسبب استفزازها.

وعندما كرر عبارات الشكر لوفائها ونبلها قالت له وهي تمسح رأس الطفلة المُستريحة إلى حجرها:
- إن هذه الصغيرة قطعة عزيزة من ذكرى أمها في قلبي، وسأرعى هذه الذكرى جهد طاقتي ما دامت في جسمي بقية من روح.

جاء كلامها هذا بشرى عظيمة زفت إليه، في وقت هو أحوج ما يكون إلى مثلها؛ فلقد ظل يتيه في دوامة من التفكير الحائر، بحثًا عن من يستطيع أن يعهد إليه برعايتها إذا ما نزل به الموت، دون أن يهديه خاطره إلى أحد.
ولكنه عاد ينظر إليها وإلى ثقل ما تحمله على ظهرها من سنين وتساءل في نفسه: ولكن أنى للأقدار أن تضمن امتداد عمر هذه السيدة إلى أن تصبح رنيم مالكة لرشدها فيما إذا قدر عليه أن يموت قريبًا؟

ولذلك فقد كان جوابه على البشرى التي نالها منها أن رفع يديه قائلًا:
- إنني أتضرع إلى الله تعالى أن يطيل في حياتك، كي تجدي السبيل إلى تحقيق إنسانيتك المجيدة، أما أنا فلا أظنني إلا على وشك الارتحال، إنني أشعر بالموت يطل عليَّ ويسرع في الاقتراب مني، وكل ما يؤرقني هذه الطفلة، فليس لها من ورائي عم أو خال أو أي قريب يحتضنها، ولا أجد لي صديق يرى في رعاية ابنتي حقًّا للصداقة عليه.
أدعو الله عز وجل أن يبارك في عمرك من بعدي.

فقالت له:
- لا تقل هذا يا سيد صالح، أطال الله في عمرك، وإن حدث مكروه لا سمح الله فسأكون أنا أمها ما امتدت بي الحياة، وسيكون ابني رافع أباها الراعي الشفوق، ولا شك أن زوجتك ستكون عونًا لكلينا في ذلك، إنها اليوم شابة صغيرة لا تفقه بعد قيمة الأسرة ولا تشعر بمعنى الأمومة والشفقة اللتين تربطان ما بين الأمهات وأولادهن، فلا تسرف الآن في لومها والعتاب عليها؛ ولكن تأكد أنها عما قريب ستشعر بما لا تشعر به اليوم، وستجمع بين التكفير عن ما مضى والقيام بواجب ما هو آت.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.