3aberorg

شارك على مواقع التواصل

لم يكن قد حان بعد وقت انتهاء العمل، حينما ألقى تاجر الأسماك السيد صالح القلم والدفاتر من يده وجلس في مكانه يلهث، بل لم تكن الشمس قد انخفضت حتى إلى حدود البحر من الغروب. غير أن حالة الإجهاد بسبب مرضه، والتي أصابته قبل ذلك بيوم؛ لم تدعه يستطيع المثابرة على العمل أكثر من هذه الفترة القصيرة، لقد شعر بدوار في رأسه وقدماه تتخاذلان عن حمله، وأحس بكابوس الإعياء يتهادى ثقيلًا فوق كل جسده، فأعرض عن دفاتر عملائه من التجار وحساباتها وتمدد حيث هو، ينشد لحظات راحة يستعيد بها قوة جسده، وذكره ألم مرضه بما كان العمل قد أنساه إياه، فقد ترك ابنته الصغيرة رنيم خارج متجره مع الصيادين وشباكهم بين مراكب الصيد التي يمتلكها، تلعب وتلهو بما حولها، ثم انشغل عنها ولم يدر ما شأنها.

ومع تذكره لابنته، نسي أو تناسى الإعياء الجاثم فوق جسمه، وانطلق نحو المرفأ، لقد كان من الممكن أن لا يتحمل مشقة حمل ابنته معه إلى العمل، خصوصًا وهي صغيرة لم تكمل عامها الرابع بعد وأن يتركها في المنزل، لو أنه اطمأن ووثق من أن ابنته ستلقى العناية اللازمة هناك. غير أنه لا يطمئن ولا يثق؛ فإن تلك التي تركها في المنزل إنما هي زوجته الثانية وليست أم ابنته، أما أمها فقد توفيت وهي تضعها، وقد لاحظ السيد صالح منذ أن تزوج زوجته الجديدة أنها لا تُعنى بشيء غير زينتها، إذ هي جميلة من غير شك، مع أنه كان يأمل أن تكون أكثر عناية بابنته الوحيدة التي لم تعِ بعد، وإذ قد خاب ظنه
بما أمله في امرأته الجديدة؛ فليس أمامه وهو يهوى وحيدته الهوى الشديد
إلا أن يُعنى هو بها ويضعها تحت ملاحظته حتى عندما يكون منهمكًا بعمله في المتجر.

ولشدة ما استخفه الفرح حينما وجد صغيرته جالسةً في أحد المراكب منهمكة في اللعب بالأسماك المتناثرة حولها من شباك الصيادين، وسرعان ما جلس إليها وراح يداعبها في متعة وسعادة، ويلعب معها كما لو كان طفلًا مثلها يشاركها متعة اللهو، غير أن متعته تلك لم تستطع أن تلهيه طويلًا عن ألمه الذي أقعده عن مواصلة العمل، وعبثًا فكر أن يجد في تلك المتعة ما ينفض عنه إعياءه ويهبه نشاطًا يستعين به على تتميم حسابات الدفاتر في نهار ذلك اليوم، بل لم يجد بدًّا من العودة إلى المنزل حيث قد يجد أسباب الراحة فيها أوفر.
وحينما غادر متجره عائدًا في طريقه إلى البيت، كان يتحرى وهو يمتطي حصانه وصغيرته رنيم في حجره، أن يتقي وهج الشمس ويحتمي بفيء الأشجار الكثيرة التي تملأ ما بين بيته وحلقة السمك، وإن أطال ذلك مسافة الطريق. ولما وصل إلى المنزل كان وقت العصر قد أوشك على الدخول، وكانت رنيم قد غرقت في رقاد هانئ في حجر أبيها من طول ما اهتز بها الحصان في الطريق، أما أبوها فقد كان الإعياء قد أخذ منه كل مأخذ.

في ردهة المنزل نزل السيد صالح عن حصانه وهو يحتضن ابنته، وأفلت زمامه من بين يديه وتركه يأخذ طريقه إلى الإسطبل، وانطلق هو نحو أقرب حجرة إليه وهو يصيح متطلعًا في أطراف المنزل:
- سعدية.. سعدية..
ولكن سعدية لم تسعمه، فقد كانت تجلس في حجرتها العليا منصرفة إلى إعداد معجون الحنَّاء لتصبغ به شعرها.

وعاد السيد صالح يصيح: أين أنت يا سعدية.. سعدية.
وسمعت في هذه المرة صوت زوجها فأجابته وهي منهمكة في إعداد معجون الحنَّاء:
- نعم.. ماذا تريد؟
- تعالي خذي الطفلة إلى سريرها، وأعدِّي لي شيئًا من الحساء، إنني متعب.
وتراخت وهي تجيبه: حسنًا.. حسنًا.
ثم تمتمت مع نفسها تقول: ما هذا؟ في كل يوم تزداد الأدلة على أن هذا الرجل إنما جاء بي خادمة له ولابنته لا زوجة له، بل يبدو لي أنه لولا وجود ابنته هذه لما تزوجني!
وعادت إلى الانشغال بما بين يديها.

وارتفع الصوت من الأسفل مرة ثالثة:
- يا سعدية.. قلت لك تعالي خذي الطفلة، إنها نائمة في المجلس، احمليها إلى غرفتها أنا لا أستطيع حراكًا.. إنني متعب..

ونزلت سعدية في هذه المرة وحملت الطفلة وهي تقول لزوجها:
- لقد كنت مشغولة يا صالح.. كنت أعد حنَّاء لشعري، أنت تعلم أنني منذ حين لم أصبغ شعري بالحناء.

ووضعت الطفلة في سريرها ثم عادت إليه تقول:
- ولكنك لم تقل لي لماذا عدت اليوم من عملك باكرًا..
- ذكرت لك أنني متعب.. أليس في هذا ما يدل على سبب عودتي باكرًا؟
- سأعد لك الطعام حالًا.
- حساء.. قلت لك وأنت في الأعلى مشغولة عني، إنني أريد شيئًا من الحساء.

وذهبت سعدية تعد لزوجها حساءً وقد ضايقتها لهجته، بينما راحت تواصل حديثها مع نفسها:
- خذي الطفلة.. أعدي لي الحساء.. ائتيني بكذا.. ثم هذه النبرة في لهجة الحديث، وهل يكون شأن الخادمة إلا هكذا؟ متى أستطيع أن أفرغ لشأن نفسي إذن؟ ولكني لست أدري لماذا لم يفلح هذا الرجل ويحضر إلى بيته خادمة لتتلقى أوامره وترعى شأنه وشأن ابنته، ولو لم يكن أغنى أهل هذه المدينة لكان له في بخله هذا بعض العذر؛ ولكن لا، عليَّ أن أقتصد.. فهذا المال سيؤول إليَّ، وسيصبح ملكي أنا إن عاجلًا أو آجلًا.

وحينما عادت إليه بالحساء كانت تتخيل أن رائحة أفكارها هذه تفوح منها أمامه، ولذلك حرصت على أن تغطي هذه الرائحة بحديث من المجاملة والنفاق.
قالت له في لهفة بادية وهي تضع طبق الحساء بين يديه:
- لا أفهم سببًا لهذه الوعكة المفاجئة التي داهمتك يا صالح!
ووضعت يدها على جبينه تتحسس حرارة جسمه، ثم واصلت حديثها تقول:
- إن حرارة جسمك غير طبيعية اليوم.

فأجابها وهو منصرف إلى تذوق طعم الحساء:
- بل إنها ليست مفاجئة، لقد شعرت بمقدماتها البارحة حينما اضطررت أن أتعرض للفح الشمس، كان الحر شديدًا وكانت أرض المرفأ تلتهب تحت قرص الشمس وأنا أنتظر المراكب والصيادين.
- لقد كان عليك أن تفضل صحتك عن المراكب والصيادين ومشاكلهم التي لا تنتهي.
- وماذا أصنع؟
- تغير الطبيب ليصف لك دواء آخر يقطع عنك هذا المرض قبل أن يستفحل.

وكان وهو يسمع كلامها يشعر بنبرات النفاق واضحة في حديثها، فلا جرم أنه كان يفهم من كلامها نقيض ما تؤكده!
لذا فإنه لم يجبها على كلامها بأكثر من قوله:
- ليس المهم بالنسبة إليَّ أن أبحث عن طبيب آخر ودواء يشفيني، فالموت لا بد منه؛ ولكن ما يشغل بالي هو طفلتي الصغيرة.
قالها وأرخى جفنيه على دمعة حارة حبسها عن الانطلاق.

فبادرته قائلةً وقد تجلت على شكلها علامات الامتعاض:
- طفلتك؟! ما أظن إلا أن مرضك هذا ناتج من هذا الاهتمام الشديد بطفلتك، لست أدري ما عليها حسرات، ألا يوجد في الدنيا طفلة ماتت أمها وتركتها إلا طفلتك؟

فأجابها في هدوء:
- وأي دليل على التهاون أنتظره بعد اضطراري إلى أخذها معي إلى حلقة السمك كل يوم لأجعل من نفسي إلى جانب مشقة عملي أمها التي ماتت وأباها؟
- وماذا أفعل إذا كنت تحبها إلى درجة أنك لا تطيق فراقها حتى خلال ساعات عملك؟ وعلى كلٍّ فإن عليَّ أن أذكرك أنك أتيت بي زوجة وليس خادمة لابنتك.
أطلق صالح آهة طويلة من صدره، ثم اتكأ على وسادته، كأنما يستنجد السكينة أن لا تفارقه، وقال لها في هدوء:
- لم أطالبك يومًا ما بخدمة لابنتي، ولو أردت ذلك لما قمت أنا بكل شأنها، إنني أقوم على أمرها كله راضيًا؛ ولكن الذي يشغل بالي أن مرضي يشتد، فماذا ستفعل بعد أن أمضي في سبيلي المقدر؟ أما أنتِ فقد أخذتك زوجة لا خادمة لابنتي كما تقولين، ولا أريد أن أعلق آمالًا عليكِ في هذا الموضوع، وهذه هي الحقيقة التي تجعلني أفكر كثيرًا.

فقالت له وهي تباسطه:
- كأن ألمك يا رجل ليس كافيًا حتى تزيد إليه الهواجس والأخيلة الوهمية، إنك بحاجة إلى راحة، فهلا أرحت جسمك وأعصابك قليلًا؟
وأغمض عينيه وهز رأسه وهو يقول: سأحاول.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.