shaban

شارك على مواقع التواصل

لعلك تستغرب الآن من عنوان تلك المذكرات...
ولكن اجعل بالك طويلًا، وخذ نفسًا عميقًا.. واستلق على أريكتك، وأدِرْ بعض الموسيقى الهادئة.. وإن كانت تشغل عقلك عمَّا تقرأ، فلا بأس من أن تذهل عنها، وتنعم بالهدوء أثناء تصفُّحك أوراقي..
عليك أن تلحظِّ أنِّي كنت متفوّقًا في دراستي، وحصلت على امتياز في البكالوريوس، ممَّا أهَّلني أن أكون معيدًا بالكلية.. ومن ثمَّ حضَّرتُ للماجستير، ثم حصلت على الدكتوراه في الأمراض الباطنة.. وفي تخصُّص دقيق، وهو " وظائف البنكرياس".. هل تعرف البنكرياس؟! اعذرني، فأنا لا أختبرك، لكنِّي قضيت عشر سنوات من عمري أدرس الكبد والبنكرياس.. ووظائف كليهما..
كانت الأطروحة الكبرى في أمراض الكبد والبنكرياس كما قلت لك.. سافرت واغتربت من أجلها. قطعت سبع ساعات كاملة في الطائرة، وخمس سنوات ذقت فيها العذاب. حتى ظفرت بها..
اسمح لي بأن أعرفك بنفسي.. اسمي محمد.. ولا تعجب؛ لأني سوف أحدثك عن مرحلة مهمَّةٍ من حياتي تبنَّيْتُ فيها نظرية الإلحاد!..
نعم، كنت ملحدًا!.. لا أريد اختيار الكلمات، أو تنميقها. أو اختيار المحسِّنات البديعية المتكلّفة.. ولن أستعرض ثقافتي، أو أتحاذق.. فأنا أشفق عليك من الملل..
حسنًا، سوف أدخل في الموضوع..
وُلِدت في بيتٍ قاهريٍّ مُرَفّه، فأبي طبيب للقلب.. عيادته تقع في قلب القاهرة، منطقة الزمالك، حيث الثقافة والعلم، والمباني الكلاسيكية العتيقة، والبرستيج، وحفلات المجتمع الراقي..
لم يكن أبي يشرب الخمر. ولم يكن محافظًا على الصلاة! بل هو يصلي في العيد، ورمضان فقط..
أمي سيدة مجتمع تهتمّ بالجمعيات، والوجاهة الاجتماعية!
أدخلني أبي مدرسة "كلية فيكتوريا"، ذلك المعهد العريق الذي لا يقبل إلّا أبناء الأغنياء.. ففيه تعلم العديد من الرؤساء، والملوك، والوزراء...
اضطررت للابتعاد عن والديّ- بالمناسبة كنت وحيدًا- فكنت أقضي فترة الدراسة في القسم الداخلي. وأحضر إلى القاهرة في فترة الإجازة.. لكني رغم ذلك لم أنعم بِبِرّ أبَوَيّ، فكلاهما مشغولان دائمًا.. أبي مشغول بأبحاثه ومؤتمراته، وضيوفه.. نعم، كان يعقد صالونًا طبّيًّا كل أسبوع يفرغ له نفسه، ويمتد من الساعة الثامنة إلى قبيل الساعات الأولى من الصباح..
كان أبي مستقيمًا، فلم أعهد عليه شرب الخمر، ولم أكن أراه يمسك سيجارة.. نظرية الالتزام يقدّسها حرفيّا. إنه ملتزمٌ تُجاه مرضاه في العيادة.. والمستشفى الذي يملكه، والمؤتمرات وووو إلّا التزامه تُجاهي أنا!
لا أذكر أنه أخذني في رحلة ما.. هو أسبوع واحد فقط نقضيه في الغردقة، أو شرم الشيخ.
لم يمنّ عليَّ بحضن واحد!.. هو يفهم الالتزام تُجاهي بتوفير المأكل والمشرب، والعلاج إذا أصابني مرض ما.. أما المحبة والحُنُوّ، والإشفاق. والنصح، فتلك أمور ثانوية لا تعنيه! مع أنها تعني كلّ شيء بالنسبة لي..
أمي... ماذا أقول عنها؟ إنها سيدة المجتمع التي تبذل من وقتها وحياتها للفئات المحرومة، والمهَمّشة في العشوائيّات.. بينما أنا.. مطروح من حساباتها.. كلما ناديت عليها.. لا ترد.. وإذا ردَّتْ.. أجدها سريعة الأنفاس.. تلهث، فهي تريد أن تلحق اجتماع الماريوت، حيث مؤتمر" رعاية أطفال الشوارع"! أو أجدها منهمكة في وضع الكريمات المرطِّبة على وجهها، فبشرتها حساسة!
أو تكتب خطبة منمَّقة ستلقيها في اجتماع الحزب، فهي أمينة المرأة بحزب "الحضارة والتنمية".. منذ سنوات حصلت على عضوية "البرلمان" ضمن النسبة التي يعيّنها الرئيس!
وكانت قد تقدّمت للترشُّح في الانتخابات في الدورة السابقة في حيٍّ من الأحياء الشعبية التي تقدّم لها خدماتها، ولكنها للأسف لم تحصل إلّا على نسبة ضئيلة جِدًّا، كانت كفيلة بخسارتها! نعم خسرت بعد كل هذه الخدمات المدفوعة، وغير المدفوعة لأبناء الدائرة التي كانت مرشحة فيها.. يبدو أن المال الذي دفعته لكثير منهم قبل دخول اللجنة والتصويت بنعم على اسمها لم يجدِ نفعًا!
تقدّمت إلى الثانوية الإنجليزية.. وحصلت على مجموع أهَّلني للالتحاق بالجامعة الأمريكية بقلب القاهرة..
وقتها احتجت إلى أن أتفاهم مع كلٍّ منهما في رسم مستقبلي، فلم أجد أحدًا منهما يستمع إليّ، جملة واحدة قالها أبي لي.. عندما قلت له: أريد أن أستشير حضرتك فيما أنا مُقدِمٌ عليه، فأنا أفضِّل كلية الطب لاستكمال الدراسة.. قال لي وهو يهمّ بالانصراف: أنا واثق في اختياراتك!
هكذا دون زيادة..
ذهبت لأمي، فوجدتها لديها موعد في أمانة الحزب، قالت لي على عَجَلٍ: أنا ليس لَدَيّ وقت لك.. استشر "بابا"!
أذكر عندما بدأت مرحلة المراهقة عندي، اضطررت إلى قراءة كتب علم النفس حتى أتعرف على تلك التغييرات التي سوف تحدث لي، ولما احتلمت للمرة الأولى كنت حائرًا جِدًّا لم أعرف ماذا أفعل مع حالتي تلك! بحثت عن أبي حتى يفسر لي بعض الأشياء. لكنه- كالعادة- لم يكن موجودًا.. كان في مؤتمر بالولايات المتحدة. ومكث بعدها أسبوعًا آخرَ يتفاوض على استيراد جهاز للرنين المغناطيسي للمستشفى!
خجلت من أن أتحدث في هذا الموضوع مع أمي، فليس من عادة الصبيان أن يتحدثوا لأمهاتهم في مثل تلك الأمور الحساسة!
كان معي بالمدرسة بعضٌ من أصدقائي اضطروا إلى أن يبحثوا عن هذا الأمر في المجلات، فوقعت في أيديهم مجلة "طبيبك الخاص" التي كانت تنشر موضوعات خاصة بالتربية الجنسية..، فأورثتهم تأثيرًا عكسيًّا، فكانوا يشترون من ضعاف النفوس الأفلام والمجلات "إيّاها"، ولما وجدت فساد أخلاقهم... ابتعدت عندهم.. إنه الالتزام الخلقي يا صديقي!
لم يكن "الدين" يشغل لي حيّزًا في مرحلتي الأولى حتى دخلت الجامعة الأمريكية..
فلم أهتم بالصلاة، أو الصيام.. أعرف أن جدي لأبي كان أزهريًّا. لكني لم أكن أرى أبي يذهب لزيارته أبدًا.. ويوم أن مات اضطرّ اضطرارًا للذهاب إلى القرية التي هي مسقط رأس العائلة.. اضطر إلى الذهاب إلى هناك حتى لا يتكلم الناس في حقِّه.. ورغم ذلك ظلُّوا يتهامسون في العزاء.. على ذلك الطبيب المشهور من القاهرة الذي لم يسأل عن أبيه طوال حياته!.. ويوم أن حضر.. أتى ليأخذ فيه العزاء!
عرفت بعدها السر في ذلك.. حيث كان أبي قد اختلف ذات مرة حول مسألة القدر مع الجد الأزهري المتمسك بتعاليم الدين بدرجة كبيرة، حيث كانت آراء الأئمة عنده مقدسة وغالية.. لم يحتمل جدي النقاش.. واتهم أبي بالكفر! وطرده من البيت.. خرج أبي بعدها من القرية مطرودًا.. وقاسى في ربوع القاهرة.. مرارة الحرمان من الطعام، والشراب، والمسكن..كل ذلك خلق منه إنسانًا آخر. سكن في غرفة تعاف الكلاب أن تسكن فيها.. وصبر على شظف العيش، وكافح حتى حصل على بكالوريوس الطب بامتياز، وكان يستعين على تدبير شؤونه بالعمل حتى ساعات متأخرة من الليل. اعتاد على النوم ثلاث ساعات فقط.. نعم لقد ضبط ساعته البيولوجية على هذا القدر فقط .. ساوموه على أن يكون معيدًا. لكنه رسم لنفسه خطًّا آخر.. أن يبني مستشفاه الخاص، وعيادته الخاصة في أفخم مكان بقلب القاهرة... وبعد سنوات حصل على الدكتوراه.. وذاع صيته بين الناس.. فكان يطلبه الوزراء والسفراء؛ لأنهم كانوا يثقون في براعته.. فقد كان من المعدودين في مجال جراحات القلب...
لاحظت عليه في إحدى الليالي.. في الأسبوع الأول من وفاة جدي.. أنه يبكي.. نعم كان يبكي.. أبي الذي كان صامدًا كالجبل الأشمِّ.. لا يهزُّه أيُّ شيءٍ..يبكي!
عمل أبي بوصية أبيه الوحيدة.. فقد أوصى بألَّا تباع مكتبته العامرة بالكتب الدينية، والأدبية، ودواوين الشعر..
فقرَّر أن يفرِّغَ لها غرفة من الفيلّا، وتركها بحالتها من الإهمال، والأتربة..
في السنة الأولى من دراستي الجامعية.. تملَّكني الفضول بأن أدخل لغرفة المكتبة
" المهملة"، فدلفت إليها.. لم يضع أبي قفلًا على الباب، فمن الذي يريد شيئًا من مكتبة مليئة بالكتب العتيقة!..
في منتصف الثمانينيات، لم يكن لدينا محمول، أو تابلت، أو وسائل اتصال اجتماعي.. والتلفاز كان يعرض أفلامًا عتيقة بالأبيض والأسود، وأخرى ملونة من نوعية شاطئ الذكريات، والتعويذة!
اضطررت هروبًا من الملل إلى الدخول دون إذنٍ لأرى الكتب، وأستكشف ما فيها..
وجدت تلالًا منها مكوَّمة، ومربوطة بأربطة عتيقة.. تعلوها الأتربة.. كلّما فككت واحدة من تلك الأربطة يتناثر التراب على ملابسي. وتصيبني "كُحّة" غريبة!
وجدت العديد من تفاسير القرآن الكريم.. كلها مكتوبة بلغة عتيقة لم أفهمها.. لغة تستخدم مفردات تحتاج قاموسًا حتى أفكّ طلاسمها.. أنا الطالب في الجامعة الأمريكية، الذي لم يقرأ طوال ثمانية عشر عامًا إلّا بالإنجليزية، أو الفرنسية أو الألمانية.. ها أنا حائر أمام بضع جمل في تفسير لا أستطيع أن أفهمه..
ما بين كتب ابن تيمية، الذي نطقته في أول الأمر" ابن تميممة"، وابن القيّم، وابن كثير.. تهت، وحرت.
قررت أن أتصفَّحَ كتب الفقه، فوجدت كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة"، فتحته لأعرف بعض أحكام الصلاة لعلِّي أتعلم شيئًا، لكني وجدت تفريعات، وأقوالًا يتوه فيها المتخصص نفسه، فما بالك بطالبٍ لم يركع في حياته في الصلاة إلَّا في العيد!
ثم... وقعت عيناي على كتاب "فقه السُّنّة" لأحد الشيوخ نسيت اسمه الآن، هنا وجدت ضالتي، فتحته، واستغرقت في قراءته.. باب الطهارة والوضوء كانا ممتعَيْن.. حتى دخلت إلى باب الصلاة.. عرفت أن الصلاة فرضٌ على كلِّ مسلم، وأن المسلم الذي لا يصلي يعَدُّ مرتكبًا لكبيرة من كبائر الذنوب..
تبحرت قليلًا، فوجدت مناظرة بين إمامين من أئمة الفقه، لكني وجدت أن أحدهما يكفر تارك الصلاة!
نعم، لقد استند كلاهما على أحاديث للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكن هناك آيات تقول إن الله: "لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" هكذا هو مذكور في القرآن الكريم.. ولكن ما هذا التعارض( وتلك كانت أول بذرة للإلحاد زرعها الشيطان في نفسي). طاردت تلك الفكرة من نفسي، فكيف يكون بين القرآن الكريم، والأحاديث النبوية تعارضٌ.
لا بُدّ أن فهمي مختلط، ومشوَّش، وآثم..
قررت أن أتوقف حتى أبحث في هذه المسألة..
ذهبت لمكتبة الجامعة، وأرشدني الموظف إلى القسم العربي.. فتوجَّهت إليه.. وجدت هدوءًا غريبًا، فلم يكن بالقسم إلّا عدد قليل جِدًّا يُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة.. كنت أنا خامس واحد أجلس بينهم!
ستسألني وماذا عن مكتبة جدك.. سأجيبك..
لما وجدت أن أسلوب الكتب "صعبًا" على مثلي.. قررت أن أدع تلك المكتبة بما فيها.. وأن أبحث عن كتب بسيطة تشرح الدين بأسلوب سهل..
كان عليّ أن أسأل أحد الدكاترة الذين يهتمُّون بالدراسات العربية، والإسلامية بكلية الآداب، لكني آثرت الطريق الآخر أن أبحث بنفسي
( وذلك هو الخطأ الأول، بل الكارثي.. وهو الإعجاب بالرأي، وتغليب العقل على الرغبة في التعلم عن طريق الأستاذ.. أو الشيخ).
جلبت بعض الكتب، وقرأت كثيرًا..
استغرقني الوقت، فلم أحسّ.. حتى حضر الموظف بعد بضع ساعات، وقال: يا دكتور نحن أوشكنا على أن نغلق المكتبة.. آسف يمكنك أن تأتي باكرًا في اليوم التالي.. أعتذر لك، فيجب أن نغلق المكتبة.. يمكنك ترك الكتب التي قرأت فيها جانبًا، فسوف أعيدها مكانها في الأرفف.. اختتم كلامه: على فكرة أنت أول طالب من كلية الطب يحضر إلى القسم العربي هنا!
الجوّ العام في مصر كان مكهربًا.. مطلع التسعينيات، والجماعات الإسلامية في صدام مباشر مع الحكومة.. عمليات كرٍّ، وفَرٍّ هنا وهناك.. قتل للغفراء، ورجال الشرطة.. يقابلها عمليات دَهْمٍ، ومطاردة في الزراعات.. في الدلتا، والصعيد والقاهرة.. استهداف السياح الأجانب بهدف إحراج الحكومة.. تكررت هذه العمليات كثيرًا..
في هذا الجوّ.. كان عقلي مشتّتًا، فهؤلاء الذين يرفعون راية الإسلام.. يستخدمون القتل.. هل أمر الإسلام بهذا..هل استخدم الرسول الكريم السلاح في الدعوة للإسلام؟! ولماذا القتل حينما تدعو لفكرتك؟ لماذا لا تدعو لله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالحسنى كما قال القرآن الكريم؟!
كلّ هذه الأسئلة كانت تطنُّ في أذُنَيّ.. وغيرها، ولم يُتَحْ لِيَ البحث عن إجابات لجميعها؛ نظرًا لانشغالي بدراستي الجامعية.. فما بين الدراسة في كلية الطب، والعملي.. والمعامل.. كل هذا شغلني وقتها عن استكمال البحث والقراءة لإيجاد إجابات لأسئلتي..
لم يُتَحْ لي كذلك الذهاب لأحد الشيوخ؛ كي أسأله عمَّا يدور في رأسي.. أن يكون لك شيخ تطمئن إليه، وتسأله عمّا يحيِّرك في دينك، هذا أمرٌ مُهِمٌّ جِدًّا..
قلت لك إن الالتزام الخلقي- وليس الديني- هو الذي منعني من الوقوع في الإثم، فلم أشرب الدخان، ولم أقرب الخمر، ولم أزْنِ بالطبع..
أما عن الميل للمرأة، فقد ورد على ذهني، فأنا لست جمادًا.. قررت أن أخطب إحدى زميلاتي، وكلمت أبَوَيّ، فوجدت ترحيبًا منقطع النظير.. كأنهما يريدان أن يريحا عقليهما من عناء التفكير بانحرافي.. فأتى لهم موضوع الخطبة على طبق من ذهب!
لقد آثر والدايَّ السلامة، فبدلًا من الانحراف، وجلب الفضيحة.. آثرا أن يوافقا على "الخطوبة" حتى يأمنا جانبي! كأنني عَلَقَة فاسدة يريدان التخلص منها! رغم أني ابنهما الوحيد الذي خرجا به من الدنيا.. والمفروض أن جميع ما يفعلانه من مجد مادِّيٍّ هو لي أنا- بعد عمر طويل طبعًا- فما يحققه أبي من كَسْبٍ. لن يأخذه معه القبر مثلًا، بل إنه لي.. المال والسمعة الطيبة.. والمكانة الاجتماعية.. كل هذا لي.. أنا لست أنانِيًّا.. لكنها الحقيقة بكل بساطة.. كل أبٍ، وأمٍّ يبنيان مجدًا للأبناء.. فما يشتريانه من سيارات، أو أراضٍ، أو عقارات.. سيؤول بالتبعِيَّة للأبناء، والبنات.. أليس كذلك؟ إنه ألف باء الميراث في أيِّ نظامٍ اجتماعيٍّ في الدنيا!
أما موضوع الفضيحة، فتلك قصة أخرى، وأمر مستبعد؛ لأنهما يعرفان أخلاقي جيّدًا، ولو كنت ميّالًا للانحراف.. لفعلت، فقد كان الأمر متاحًا في الثانوي، أو خلال سنوات الدراسة بالجامعة الأمريكية، حيث ملكات الجمال لدينا في الحرم الجامعي!
ولكن كان لوالدَيَّ وجهة نظر أخرى، فالمجتمع من حولنا يتحلَّلُ شيئًا، فشيئًا..ويجب أن يضمنا بهذه الخطبة ألّا أقع في الحرام- رغم معرفتهما بأخلاقي. والتزامي.. وعفَّتي..
المجتمع في التسعينيات بدأت تظهر فيه بعض الجرائم الخلقية على السطح، فكان هذا سببًا وجيهًا لحمايتي من تلك الهَبَّاتِ الآثمة من الانحلال الخلقي، والتفسُّخ الاجتماعي!
نعم الحجاب الظاهري. والتمسك الظاهري بالدين ينتشر، ولكن الناس معظمهم منافقون! نعم إنهم منافقون.. في الجامعة الأمريكية القائمة على التحرُّر، تجد الحجاب قد بدأ في الظهور.. واللّحية تعلن عن نفسها.. أنا لا أستطيع أن أعترض على هذا- فكل إنسان حرٌّ فيما يلبس، أو يفعل- رغم أن هذا منافٍ لتقاليد الجامعة الأمريكية.. فالجامعة لا تحثُّ طالباتها على الالتزام بلباس معيّن، كذلك لم تحظر عليهم عدم ارتداء غطاء الرأس، أو الحجاب..
أما عن النفاق، فلأننا في مصر اعتدنا أن نجد الموظفين في المصالح الحكومية يصلون، ثم يفتحون الأدراج لتلقّي "الرشاوى"! الرجال والنساء من الموظفين معظمهم كذلك.. لا تركِّزْ في ردودهم" راتبي لا يكفيني".. فهذه الجملة الغبية يمكن مَحْوُها بشيءٍ بسيطٍ، وهو البحث عن وظائف أخرى لتحسين الدخل في الفترة المسائية!
الفساد منتشر حتى النخاع في المصالح، والمدارس، والمستشفيات.. العلاج المجاني للمواطنين يتقلص، بل يكاد أن ينعدم!
لسنا هنا في مجال التَّعاطي مع الشَّأن السياسِيّ، لكني أريد أن أصل بك إلى أن معظم من يتحدثون عن الدين منافقون!..
أقول " معظم"، وليس كل.. لاحظ أني دقيق في استخدام المصطلحات..
طبعًا هذا ليس مدعاةً للتفلُّت، أو الانحلال، لكنِّي أريد أن أبيّن الفجوة الحاصلة بين الأقوال، والأفعال!
أنا لا أبرّئ نفسي، فأنا لي عيوبي، لكني أضع "الميكروسكوب" على مشكلات مجتمع بأسره..
المهمُّ.. تمَّتِ الخطوبة.. ارتبطت بإنسانة جميلة، ومثقفة، وهادئة الطباع.. رومانسية حالمة، تقرأ لموليير، وبريخت، وفولتير. وغيرهم .. لكني وجدتها بعد حفل الخطوبة إمَّعَة! نعم إمَّعة.. كريشة في مهبِّ الرِّيح!
لم يكن لها رأيٌ خاصٌّ بها، كلَّما حدَّثْتُها في مسألة، وطلبت رأيها أجدها موافقة على طول الخطّ!
قررت أن أنسحب من حياتها، فقد يكون لها حظٌّ أوفرُ مع شخص آخر غيري تتوافق طباعه مع طباعها..
"الزواج قرار يُقدِم عليه الإنسان؛ كي ينعم بحياة ملؤها الحب والسعادة، أما أن يتزوج ويرتبط بإنسان، فتصبح حياتهما تتّسم بالرَّتابة والمَلَل، والواجبات الزوجية المعتادة.. فهذا أمرٌ لم أحتمله!".
إنّ هناك مثلًا يشرح نفسه أمامي..
أمي وأبي.. الحياة بينهما ترزح تحت سَيْلٍ من الرتابة، والملل والكآبة.. لم أرهما يتناجيان في وقت ما، ولم أرهما يتضاحكان، أو يتهامسان. أو يناقشان أمرًا من أمور الأسرة أمامي!..
لم أرِدْ أن أكون نسخةً مكرَّرةً منهما، فتكرار النّسخ شيءٌ مزعجٌ للغاية!..
تركت خطيبتي هكذا ببساطة!
لم يزد أبي عن قوله: كل شيء نصيب.. ربما تُرْزق بواحدة أفضل منها، وربما تجد هي إنسانًا أفضل منك..
أما أمي، فقالت: كدة أحسن! لا ندري ما المخبوء في مستقبل الأيام.. عوَّضَكَ الله بأفضل منها..
خرجت من هذه التجربة، ولم أخسر كثيرًا!
من يدري؟ فربَّما لو كنت ارتبطت بهذه الفتاة، لحدث ما لا يُحْمد عقباه.
عرفت بعد عدة أشهر من فسخ الخطوبة أن الفتاة قد خُطِبَتْ لأحد الملحقين الثقافيين بسفارتنا في فرنسا، وسافرت معه بعدما تم الزواج في أحد الفنادق الشهيرة..
لم تخسر كثيرًا بتركها لي! المعادلة لم تنتج أيّ مُخْرَجات بالنسبة لي، أو لها! رغم أن هذا غير معهود في الكيمياء..
قررت أن أستأنف حياتي كما هي.. وألَّا أشغل بالي بالأسئلة القديمة التي كنت أبحث عن إجابات لها..
مرَّتْ سنوات دراستي بالجامعة الأمريكية على خير ما يرام، فكانت معدّلاتي ممتازة طوال فترة الدراسة.. وهذا هو المتوقع، فلا يوجد ما يشغلني، ولم يكن لي هَمٌ سوى متابعة آخر المستجدّات في حقل الطبّ..
في السنة الأخيرة.. كان هناك حفلٌ كبيرٌ بأحد المدرجات المشهورة لتكريم المتفوقين والجريجين بوجه عام.. حضره مدير الجامعة، والسفير الأمريكي..
خريجو الطب الثلاثة الأوائل قررت الجامعة لهم منحة مدفوعة لدراسة الماجستير والدكتوراه بالولايات المتحدة الأمريكية. كنت أحد هؤلاء الثلاثة، أما الاثنان الآخران، فواحد من الأردن، والثالث من لبنان..
لم تكن المصروفات الدراسية تمثل عائقًا لأسرتي، فأبي كان يعمل حسابًا لهذا الأمر، ولما عرف بتفوقي، وحصولي على امتياز، قال: خير وبركة.. وفَّرْنا المصروفات، والله كنت أريد شراء أحد الأجهزة المتقدمة لفحص القلب من فرنسا!
هكذا أنا بالنسبة له.. أقوم مقام أحد الأجهزة لفحص القلب!
لم أدَعْ لتلك الحادثة أن تؤثِّرَ في نفسي، فأنا هامشيٌّ بالنسبة لأسرتي الصغيرة، أو هكذا خُيِّلَ إِلَيّ...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.