shaban

شارك على مواقع التواصل

حسناء.. تلك الثمرة اليانعة.. والسوسنة البهية، والبدرالمكتمل.. تلك المحسودة على نبوغها بالمدرسة.. المتفوقة في الجامعة.. العزيزة بين إخوتها.. المحبوبة من أبويها.. ماتت..
نعم، ماتت قبل أن تُزَفَّ إلى فارسها.. ذلك الذي أحبّته، وحَلُمَتْ معه بالعُشِّ الذي يجمعهما كعصفورين رقيقين.. لم تعد بين الأحياء الآن، فقد أسلمت روحها لبارئها.. واستردّ مالك الملك وديعته..
ما الذي يحدث في هذه الدنيا؟
علامات الساعة تتحقق.. كأنها مسلسل من العُقَدِ.. انحلَّتْ عقدة. فتَبِعَتْها أخواتها.. وانفرطت!
أخبر الصادق المصدوق عن انتشار موت الفجأة.. كأنه قد انكشفت له سحب الغيب بإذن ربِّه.. هذا النبي الأمي صلوات الله عليه.. حذَّر الناس من علامات الساعة.. لكن الناس في غيِّهم يعمهون، فلا يزال الرجل يأكل ميراث الأخت؛ بحجة أنها مسئولة من زوجها، ولا تحتاج للمال.. والرجل يبيع ذهب زوجته بحجة أنه هو الذي اشتراه لها.. والأعمام، والأخوال يأكلون أموال اليتامى ظلمًا، فلا يخافون سعيرًا.
لا يزال الناس يظلمون، ويقتلون، ويأكلون الحقوق، ويضيِّعون الأمانات يا حسناء!
أنت أيتها الزهرة اليانعة، وطائر القمري الجميل.. والكروان الصدَّاح في ملكوت الله تموتين؟
نعم ماتت حسناء..
كانت منذ عشر سنوات فقط تلعب مع صديقاتها في المدرسة الابتدائية.. ترسم المربعات، وتنط "الأولى"، وتحجل بقدميها.. متفوقة حتى في لعبها ولهوها.. متميزة في بسمتها، وضحكها.. الغمازتان علامتا البهاء والحسن.. كانتا تُخْجِلان نظرات العيون.. والفم لا يملك سوى التسبيح لرب الجمال الذي خلق الجمال.
خرطها خراط البنات، فاستوت أنثى مكتملة الأنوثة في الثانية عشرة.. خلبت عقول الشباب في الحيِّ. ولكنها كانت أميرة متوَّجة بجمالها، وخفرها، وحيائها..
ها هي تدخل المرحلة الإعدادية، ويأتيها الخُطّاب.. هذا المدرس، وذاك المحامي، وذاك الطبيب، لكن أباها ضنَّ بها عليهم، فهو يريد أن يعلمها أوّلًا.. ثم هو لم يشبع من ابنته وحنانها، وضحكها، ولهوها.. طلباتها أوامر.. تطبع على خَدِّه قبلة حانية، فيحس أنه امتلك الدنيا.. أهذه هي ابنتي؟!.. الحمد لك يا ربّ أن أنعمت عليّ بهذه التفاحة الفواحة.. الحمد لك يا رب أن تفضلت، وأكرمتني بحبَّة الكريز التي تأسر القلوب والأسماع..
صوتها سلاسل عقيق.. وحنانها ظلٌّ وارفٌ من الرحمة، والحبور، والسعادة.. ما هذا النعيم. الحمد لله.. الشكر لك يا صاحب النعم..
البنت تكبر بسرعة.. "ما شاء الله، لا قوة إلّا بالله".. ولا يزال الطابور الطويل من الخطّاب يأتون..
ماذا أفعل يا رب؟..
إنهم لا يريدون أن يفهموا.. هذه ابنتي.. حبيبتي وروحي، وعقلي، وكياني.. ربّيْتها على الأدب.. كانت تناديني باسمي مجرّدًا كنت أقبل منها ما لا أقبله من إخوتها الذكور ذوي الشوارب..
حبيبتي، ونور عيني.. رقّ قلبها.. ودقَّ لأحد طارقيه لم أستطع أن أرفض.. الولد محترم، ووسيم.. ومتديِّن، وعطوف... لم أجد فيه عيبًا.. أحرجني بأخلاقه.. ساعة حضر إلى بيتنا.. تصنَّعتُ تكشيرةً على وجهي، وزغدتني أمها في جنبي! كنت أريد أن يرحل.. لا أريده أن يستحوذ على جوهرتي, لا أريده أن يخطف مني عصفورتي التي ظللت السنين - طولًا وعرضًا- أرعاها..
لكني لم أجد فيه عيبًا.. دخلت لأسألها.. فوضعت وجهها في الأرض.. رأيت الخجل والفرح في عينيها.. تلك "العفريتة" تريده زوجًا وحبيبًا...
ما باليد حيلة.. تحطمتْ كلّ دفاعاتي.. طمأنتني أمها بأنها ستكون سعيدة معه..
منذ أسبوع أحِسُّ وخزًا مرعبًا في صدري... خطيبها يسابق الزمن من أجل أن يخطفها مني!
أشهد أن الولد لا يقصِّر في شيءٍ.. يجهّز الشقة التي اشتراها له أبوه.. نعم، إنها بعيدة عن مسكننا، لكن هذه "العفريتة" أقنعتني بأنها سوف تأتينا كل يوم.. أعرف أن ذلك وعد لن يتحقق.. لكني راضٍ بزيارة منها كل شهر.. لكني سأصدع دماغها كلّ يوم برنَّاتي.. سأكلمها عندما تنام، وعندما تصحو.. وعندما تكون في مطبخها.. إنها ابنتي يا ناس!

اليوم هو الخميس.. وخزُ صدري يزيد..
صَحَوْتُ على صوتها.. قم سأتأخَّر!
- ماذا تريدين مني؟!... اتركيني أنام... يوم إجازتي..
- أنت أخذت هذا اليوم إجازة من أجلي.. الآن أريدك..
أفزع من على سريري، وتنطّ بجواري.. تمطرني بقبلاتها.. "بابا هذا آخر يوم لي معكم هنا"...
الوخز يزيد!
- روحي، نور عيني.. "عاوز نسكافيه"..
أستعطفها:
- علشان خاطري...
تزمُّ شفتيها.. وتعقد "مئة وأحد عشر" على قورتها... ثم تنفرج تقاطيعها عن قمر صحا منذ الفجر..
- ولو أني مش فاضية، فورائي مليون حاجة... إنما علشان خاطرك مفيش مانع..
تقفز من على السرير إلى المطبخ، وخلال خمس دقائق أجد النسكافيه على "الكومود" تفوح رائحته العبقة، فتملأ الغرفة..
أما هي، فكالنحلة تطنُّ في الشقة... تنادي على أمها؛ كي تسرع في لبْسِهَا عباءَتها.. حتى توصِّلها إلى "محل الكوافير القريب".
أعدت فستانها منذ البارحة.. لم تشتره جديدًا، بل قامت بتأجيره من المحل الكائن على ناصية الشارع، وأرسلته للتنظيف.. اختلف معها عريسها في هذا الأمر.. وقالت: نوفر لك "ثمن البدلة".. قال لها: وهل شكوت لك؟!
تتأفَّف.. يستعطفها، ويختطف من ورائي قبلة على خدِّهَا المرمري الأبيض.. تهشُّ ويحمرُّ وجهها كله.. كالفروالة الخارجة من المزرعة توًّا.
ينظر لي بعد القبلة المسروقة، وعيناه تقولان لي: إنها زوجتي يا عمي..
أمها أوجعت قلبي.. منذ بداية الأسبوع لم تتوقف عن البكاء.. كانت تبكي من خلفها.. لا تريدها أن تحزن بسبب فراقنا.. ولكنها سوف تفارقنا فعلًا!
في نهاية اليوم المشؤوم.. قبل زفافها بساعة..
آه يا قلبي! آه يا وجعي، وفقدي!
مادت الدنيا بي، وارتفع ضغطي، وأغْمِيَ عليَّ..
ماتت... نعم ماتت.. عروس بنها .. جميلة الجميلات ماتت..
هكذا.. دون وجع، أو ألم.. أو شكوى........
ماتت
لم أصدق الخبر في أول الأمر..
حسبت أنهم يمزحون.. استحلفتهم بالله مرات تلو مرات..
- هل ماتت عصفورتي؟ ههههل ماتت فعلًا؟ لماذا هذا المزاح السخيف..
إنها لا تشكو من أيّة عِلَّة!
جسمها بخير.. قلبها كالحديد..
ماتت؟
كيف؟
لا لا كُفُّوا عن ذلك!
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا صغيرتي..
ثم أُغْمِيَ عليّ..
أفقت بعد يوم كامل في الغيبوية..
غسلوها.. وكفّنوها.. رأيتها... كانت عروسًا تحفها الملائكة.. وجهها يشع نورًا وبهاء..
وضعت المصحف فوق الكفن..
وركبت معهم السيارة للمقابر.. تبعنا أبناء شارعنا.. شققت طريقي بينهم هناك في صعوبة.. الكل يبكي عروس بنها..
المواقع الإخبارية تسابقت لنشر قصتها..
الكل يرثيها..
إلى الجنة يا عصفورتي.. يا أغرودة روحي.. يا عيني..
إلى الجنة يا جميلتي...
مع السلامة يا حسناء..
فقدت أمها النطق!
حدثت بالفعل أغسطس 2020م
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.