mohamedibrahim

شارك على مواقع التواصل

ولم أفق من ذهولى إلا وهى تقول:
ـ لو أن الأيام تسير وفق إرادتنا لا إرادة القدر، لكنت الآن سيدة إيطالية تمشى فى أحد شوارع روما، أو تتنزه فى حديقة من حدائق نابولى، أو تطفو بجندول فوق مياه فينيسيا، لكنى ها أنا معك فى الإسماعيلية، أجالس رجلا لا أعرفه فى كافيتيريا فاخرة على ضفاف بحيرة التمساح، أضحك فى نفسى من ومضة صائد النساء فى عينيه أنه نجح بسهولة فى الإيقاع بإحدى بائعات الهوى
أمعقول تعترف بنفسها أنها بائعة هوى؟
ثم التفتت تتطلع حولها وتقول:
ـ أليس من الأفضل لو ذهبنا نجلس فى مكان آخر غير هذه الكافيتريا، الناس هنا نظراتهم لا تحتمل
فقلت ضاحكا:
ـ أنتِ التى اخترتها
ـ نعم.. ولكنها فى الماضى لم تكن هكذا
ـ للأسف كل شئ تغير للأسوأ
ثم أردفت مترددا:
ـ ما رأيك لو.. لو نذهب إلى فيللتى؟
قلتها كالمغامر، أو كالمقامر يلقى بورقة قد يكون فيها المكسب كله أو الخسارة كلها، فامرأة بمثل شخصيتها لا يمكن توقع رد فعلها، ولكنها قالت:
ـ مؤكد سنذهب.. ولكن ليس الآن
قالتها بثقة أثارت إعجابى.. وأيضا حيرتى!
فقلت لنفسى لعلها الثقة التى من الضرورى أن تتحلى بها أستاذات الجامعة، وإن كنت على يقين أن هذه الثقة ستتلاشى عندما تعرف أن الفيللا مهجورة ونائية، تكاد تجاور القرية الأوليمبية حيث لا عمران تقريبا، أى لو قررت اغتصابها هناك فلن ينقذها أحد مهما صرخت أو استغاثت.
الحقيقة منذ رأيتها وثقتها بنفسها تثير إعجابى، وإن كانت ثقة تستفز رجولتى.. نعم.. فمثل معظم الرجال لا أحب المرأة الواثقة من نفسها، فالمرأة الواثقة من نفسها يصعب السيطرة عليها..
أو لعلها ليست ثقة أستاذات الجامعة.. بل لامبالاة بائعات الهوى!
وقبل أن أسألها ولماذا لا نذهب إلى الفيللا الآن، إذا بها تهب واقفة تقول:
ـ هيا بنا
ـ إلى أين؟
ـ إلى الفيللا
فأوشكت أن أصرخ فيها مندهشا: معقول بهذه السرعة؟
ولم تعطنى فرصة، التقطت حقيبتها وسبقتنى إلى الخارج، حتى انتبهت أن الشابين اللذين جاءا من لحظات وجلسا فى مواجهتنا، هما السبب، نظراتهما لها كانت فى منتهى الوقاحة.
وبهرتنى فخامة سيارتها الجيب شيروكى موديل العام، واقترحت عليها أن تتركها ونذهب بسيارتى، فوافقت..
وأثناء الطريق لم أكف لحظة عن التفكير، فمنذ قدمت لى بطاقتها وصراع يستعر بداخلى، أستاذة جامعة أم بائعة هوى؟ بطاقتها هى الأصدق أم حسابها على الفيسبوك؟ الحقيقة أن الصراع كان بين ضميرى والضبع بداخلى، ضميرى يريدها أستاذة جامعة، والضبع يريدها بائعة هوى، أو بائعة هوى تنتحل شخصية أستاذة جامعة، أو أستاذة جامعة بالفعل لكنها تبيع الهوى، بالطبع هو كضبع لا يعنيه إلا لحم الفريسة..
وكنت أنحاز لضميرى..
فمنذ كنت طالبا بكلية الزراعة وحلمى الأثير هو أن أصبح أستاذ جامعة، وتحديدا فى علم الزهور التى أعشقها، ولكن للأسف فشلت حتى فى الحصول على درجة البكالوريوس، ومن وقتها وأنا ألعن حظى الذى جعلنى فى النهاية مجرد منتج مانجو ودواجن، فهل ضميرى يرى فيها حلمه القديم؟ يرى فيها القيمة النبيلة لرمز أستاذ الجامعة؟ ويعز عليه أن تسقط القيمة ويتحطم الرمز فى شخـص امرأة يُحتمَل أن تكـون بائعـة هوى.. أى عاهرة؟
على أية حال ها أنا فى طريقى بها إلى الفيللا، رغم علمى أن الفيللا باعتبارها وكر ملذاتى الأول الذى شهد معى الكثير، لم تعد صالحة لاستقبال أستاذة جامعة أو بائعة هوى، فقد أهملتها لأكثر من عامين، آخر مرة زرتها وجدتها مرتعا لأحجام غير معقولة من الفئران، ولكن من الآن لابد أن أعود أهتم بها، إذ يبدو أنها ستعود تشهد معى الكثير.
منذ ركبنا السيارة لم تكف لحظة عن الحديث فى هاتفها، ألغت مواعيدا كثيرة وأعادت ترتيب أخرى، واطمأنت على طفليها بكلمات قليلة، ولكن فهمت منها أنها ستقضى معى وقتا طويلا، واستنتجتُ من مكالماتها مدى تشعب نشاطها الاجتماعى، جمعيات نسائية ومؤتمرات وندوات، بخلاف دهشتى لهاتفها نفسه، إنه الشذوذ الوحيد فى ( اللوك) الخاص بها! فرغم ثرائها الواضح، هاتفها يبدو من حجمه وشكل أزراره أنه من طراز عتيق جدا مكانه الآن المتحف!
ولم تفرغ من مكالماتها إلا ونحن نجتاز باب الفيللا، وعلى عكس توقعى، بمجرد نزولها من السيارة صاحت:
ـ الله.. مكان رائع
وكما يلقى التلميذ حقيبته بمجرد عودته من المدرسة، ألقت حقيبتها وانطلقت تستطلع وتستكشف، حتى وقفت أمام حمام السباحة تحملق فى مياهه الآسنة القذرة.. تحملق وتسرح! ثم تطلب أن نجلس بجواره، والحقيقة لم يكن من مكان يصلح للجلوس إلا بجواره، فالتراب والقذارة يكسوان كل شبر، ولم تتقزز من أرض الحديقة العطنة، ماسورة مياه معطوبة حولتها لمستنقع كريه الرائحة، فوجدتنى أسألها:
ـ معقول الفيللا عجبتك؟
ـ جدا
ـ رغم قذارتها؟
ـ يكفى أن بها حمام سباحة.. والهدوء هنا يريح الأعصاب
ثم أردفت قائلة:
ـ كم أعشق الهدوء.. هل تعرف ما هو أكثر شئ يثير أعصابى؟
ـ لا
ـ إنه ضجيج الطلبة فى الجامعة
وشعرت بكلمة الجامعة تخرق أذنى!
جلسنا على مقعدين متهالكين أصلحتهما بالكاد، وبمجرد جلوسنا إذا بها تنظر فى ساعتها وتقول كأنها تحدث نفسها:
ـ حسنا.. الساعة لم تتجاوز الخامسة.. ما زال أمامى وقت
فقلت مستنكرا:
ـ ما زال أمامك وقت؟ وهل تفكرين فى الانصراف؟ هل جلسنا معا بما يكفى؟
ـ الأيام قادمة وسنجلس كثيرا
قالتها بمنتهى التلقائية..
ومرة أخرى أتلقائية أستاذات الجامعة أم استهتار بائعات الهوى؟ وعادت تنظر لحمام السباحة بشغف.. إلى أن قالت:
ـ آه لو كان هذا الحمام صالحا للسباحة
ـ ولنفرض.. ماذا كنت فاعلة؟
ـ كنت قفزت فيه فورا.. فالجو اليوم حار جدا
لم يكن الجو حارا للدرجة، فالطقس لا يزال فى بدايات الصيف والهواء به شيئ من البرودة، وضحكت فى نفسى حين تذكرت كثيرات ممن كنت آتى بهن إلى هنا، مزاجهن كان حمام السباحة، يفضلن أن تكون البدايـة منـه والنهايـة فى حجرة النوم.. لا العكس!
وحرك كلامها عن القفز فى حمام السباحة غريزة الضبع، فذهب عقلى يتخيلها بالمايوه، كم سيكون مثيرا على قوامها.. قوامها بالذات.. لاسيما وأنا من عشاق إثارة المايوهات.. البكينى بالذات.. لذلك رحتُ أنعى حظى فى سرى وألعن غبائى، أنعى حظى لأن بالداخل يوجد مايوه كان لإحداهن، لكنها لم ترتده، ويقينى أنه لا يزال جديدا فى علبته لم يمسسه سوء، نعم هو مايوه القطعة الواحدة، لكن لا بأس فشيئ أفضل من لا شيئ، وألعن غبائى لأننى كثيرا ما قررت إصلاح حمام السباحة، ولكن الكسل كان يمنعنى، وإلا لكنت الآن أقضى وقتا لا يمكن حسابه من الزمن.
من باكر يجب أن يأتى عم بشير ليباشر بنفسه إصلاح كل شئ، وليبدأ بحمام السباحة.. هكذا قررت..
ـ أعدك أن يكون الحمام صالحا للسباحة فى أقرب وقت
فلم تهتم، كانت تتابع باهتمام سرب يمام عند أقصى الحديقة، الهدوء هناك كان يغريه ليهبط ويقلع بأمان، فقلت أجذبها عنه:
ـ ما حكاية إيطاليا التى قلت لو أن الأيام تسير وفق إرادتنا لكنتِ الآن تمشين فى شوارعها؟
ـ هه؟ آه.. ستعرف كل شئ فى وقته
ثم ما لبثت أن أردفت:
ـ ولكن الآن أنا جائعة جدا.. تقريبا لم أفطر
مثلها كنت جائعا لم أفطر، إلا فنجان قهوة فى الكافيتيريا، وللأسف لم يخطر ببالى أن أشترى طعاما ونحن فى الطريق إلى هنا، أعرف أن الثلاجة بالمطبخ فارغة، وحتى لو بها شئ فلن يكون صالحا للأكل، فقررت أن أطلب الطعام ديليفرى، ولكن من سوء الحظ أن هاتفى وهاتفها وبحكم طبيعة المكان كانا بلا شبكة، حتى الهاتف الأرضى كان معطوبا مثل كل شئ هنا.
وقامت تجذبنى وتقول:
ـ هيا إلى المطبخ.. فربما نجد به ما يؤكل
ـ لا أظن
ـ أى شئ ولو كسرة خبز.. فالسجائر على معدتى الخاوية ستسبب لى الصداع
وهنا هتف الضبع بداخلى: " اذهب معها حالا، إنها ليست جائعة، بل هى بائعة الهوى تدعوك إليها بطريقتها "
ولكنها فى المطبخ فتحت الثلاجة بلهفة الجائع، وكانت كما توقعت فارغة، فشعرت بأسف حقيقى لها، وأيضا بشيئ من الخجل، الخجل أن تكون جائعة فى بيتى ولا تجد ما تأكله، وزاد أسفى حين رأيتها تذهب تسلى نفسها بتأمل التابلوهات على الحوائط، واستغرقت تتأمل تابلوه لفتاة صغيرة تلمع دموعها فى ضوء الشموع، فرأيت من باب مواساتها عن الجوع أن أذهب أشاركها التأمل، وبحكم فوضى المكان والأشياء المبعثرة فيه، وبحسن نية حقيقى، لم أجد موضعا للوقوف إلا خلفها مباشرة.
والحقيقة لم أكن حسن النية تماما.. إذ رحت أملأ أنفى عن عمد بأريج عطرها، حتى انتشيت من رأسى لإخمص قدمى.. العطر كان ساحرا لدرجة كادت تفقدنى صوابى!
كان أريج زهرة الأوركيد..
وأريج الأوركيـد بالذات لـه معـى ذكرى.. أو ذكريات.. وإن كانت ليست كلها ذكريات جميلة، ولكن الأريج الآن لا يثير فى نفسى إلا الذكريات الجميلة..
وانتهزت انشغالها بالتابلوه والتصقت بها أكثر، وعجبا لرد فعلها، فقط استدارت لى بثبات تـُحسد عليه، ثم أزاحتنى من أمامها بدفعة واحدة من يدها، نعم دفعة رقيقة لكنها حازمة، ثم تركتنى بكل بساطة إلى تابلوه آخر تتأمله! فعاد الصراع بداخلى يستعر.. أستاذة جامعة أم بائعة هوى؟
حتى قلت لنفسى ولماذا لا تكون البطاقة التى قدمتها لى مزورة؟ فما أسهل طباعة آلاف البطاقات بآلاف الاسماء والمهن، شئ آخر، هل تقاليد الجامعة تسمح لعضوات هيئات التدريس أن تطلق الواحدة منهن على نفسها إسم بائعة الهوى؟ حتى لو على حسابها الشخصى وعلى موقع كالفيسبوك؟ لا أعتقد.
ولكن.. نعم تزوير البطاقات شئ ليس بمستبعد على ألاعيب بائعات الهوى، ولكن هل يعقل أن تخلو بطاقة بائعة هوى من رقم تليفون؟ أرقام التليفونات هى رأس مال بائعات الهوى، وبطاقتها كانت غفلا من أى رقم تليفون!
ولكن ماذا يهمنى إن كانت بائعة هوى أو أستاذة جامعة؟ سأنالها أيًا كانت، ثم أنها أخذت منى وقتا أكثر مما تأخذه غيرها، غيرها كانت بمجرد أن تلج من باب الفيللا، فورا تسألنى أين حجرة النوم.
كانت لا تزال تتأمل التابلوه، وكان لرجل يختلس قبلة من امرأة، وعدت أتحايل لألتصق بها، حقيقة لكى أشم أريج الأوركيد، وهذه المرة لم تكن الدفعة من يدها حازمة وفقط، بل متأففة أيضا، وأيضا تركتنى بكل بساطة! لا إلى تابلوه آخر تتأمله، بل إلى حمام السباحة تجلس بجواره.. وعجبا أن قالت تسخر منه وهى التى تمنت من لحظات أن تقفز فيه:
ـ حمام السباحة هذا يستحق أن تنسفه ثم تعيد بنائه من جديد
ـ من أجلك مستعد أنسف الفيللا كلها وأعيد بنائها من جديد
قلتها بابتسامة ذات مغزى، ولكنها لم ترد، أو كالعادة لم تهتم، إذ عادت تنشغل باليمام عند أطراف الحديقة، وعدت أنشغل بجوعها، لعله سبب انصرافها لمراقبة اليمام.. فقلت:
ـ سأذهب أشترى طعاما
ـ وتتركنى هنا وحدى؟
ـ بل ستأتين معى
ـ إذن فمن باب أولى أن أذهب أتغدى فى بيتى
ووجدتها فرصة لأستدرجها:
ـ وأين بيتك؟
فانتبهت فقالت:
ـ صدقنى ستعرف عنى كل شئ فى وقته
ثم أسرعت تقول حتى لا أسترسل:
ـ انس تماما فكرة أن تذهب وتتركنى هنا وحدى
فاحترت ماذا أفعل.. حتى وجدتها تقول:
ـ اسمع.. هل عندك بندقية صيد بط؟
فقلت ضاحكا:
ـ لا.. عندى لاصق صيد فئران
ـ هايل.. أحضره بسرعة
ـ لماذا؟
ـ سأصطاد يمام كما علمونا فى الكشافة
وجئتها باللاصق، فقالت بلهجتها الواثقة.. أو شبه الآمرة:
ـ اذهب واحضر بعض الديدان الحية
ـ ديدان حية؟ كيف ومن أين؟
ـ من أرض الحديقة الرخوة
فذهبت بلا مناقشة.. فقط من لهجتها شبه الآمرة! وجئتها بالديدان تتلوى، ولم تشعر بالاشمئزاز وهى تمسكها بأصابعها ثم تضعها على قطعة خشب بعد أن غطتها باللاصق، وذهبت تضعها فى أقصى الحديقة حيث يهبط اليمام، ثم عادت وجلسنا نتحدث:
ـ دكتورة نغم
فقاطعتنى:
ـ نغم فقط بدون ألقاب كما اتفقنا
ـ وهو كذلك.. فهمت من كلامك أن لقاءنا سيتكرر كثيرا.. فهل هذا صحيح؟
ـ نعم
ـ إذن متى لقاؤنا القادم؟
ـ فى أى وقت تشاء.. تستطيع أن ترانى كلما أردت
ـ كل يوم مثلا؟
ـ نعم
ـ عظيم.. ما رأيك أن نلتقى غدا فى منتجع أبو سلطان؟ حمام السباحة هناك رائع
ـ لا.. دائما سنلتقى هنا
ـ ولكن المكان هنا كما ترين.. فى منتهى السوء
ـ لا يهم.. ما يهمنى هنا هو الهدوء وفقط
ـ عجبا! وهل منتجع أبو سلطان ينقصه الهدوء؟
قالت كأنها لم تسمع:
ـ قد لا يكون مناسبا أن نلتقى كل يوم، ولكن تأكد أننا سنلتقى كلما أردت كما قلت لك
ثم قالت تؤكد:
ـ ولكن لقاءنا لن يكون إلا هنا
ثم رن هاتفها بما يعنى أن شبكة الاتصال الآن متاحة، ولكنها نظرت فى الهاتف ولم ترد، فلم أهتم وأسرعت أتصل بخادمى بشير:
ـ اسمع يا عم بشير.. من الغد تأتى إلى فيللا القرية الأوليمبية ومعك شركة صيانة، ستقوم بتجديد كل شيئ فى الفيللا وسأتسلمها منك تسليم مفتاح، أما حمام السباحة فسأتولى أمره بنفسى مع شركة متخصصة
ثم أسرعت أتصل بمحلات الطعام، ولكن شبكة الاتصال عادت تنقطع، فعاد جوعها يشغلنى.. أو يعذبنى..
ولكن الضبع بداخلى لم يكن يعنيه جوعها، فلم يبرح يؤزنى أزًا لأراودها عن قبلة.. ولكن هل أراودها وهى جائعة؟ أليس من الرجولة.. أو على الأقل من باب الإنسانية.. أن أطعمها أولا؟ لولا أن قامت تجرى فجأة وتصرخ مثل طفلة:
ـ يمامة.. يمامة
لاصق الفئران كان قد أمسك بيمامة، وراحت المسكينة تنظر لنا مذعورة، حتى أن صائدتها رق لها قلبها وكادت تطلق سراحها، فأسرعت أمنعها بكلمة واحدة:
ـ إياكِ
ثم عدت أقول:
ـ يجب أن نصطاد يمامة أخرى فهذه لن تكفى
فقالت بعناد:
ـ بل ستكفى
ثم عادت تقول بلهجتها شبه الآمرة وهى تنطلق إلى المطبخ:
ـ ورائى
وفى المطبخ لم تجد ما تذبح به اليمامة، كل السكاكين يعلوها الصدأ والجلخ، وطلبت منى المساعدة، فرفضت عقابا لها على رفضها صيد يمامة أخرى.. فقالت بنفس العناد:
ـ لا أريد منك شيئا.. سأتصرف
وبعد بحث عثرت على شفرة حلاقة قديمة، ووقفتُ أراقبها وهى تطهرها بلهب ولاعتها ثم تذبح بها اليمامة، ثم تنظفها، وأرادت أن تشعل البوتاجاز، أعرف أنه معطوب واسطوانة الغاز فارغة، فرأيت أن أتمادى فى عقابها، فجعلتها تكتشف بنفسها أنه لا موقد ولا وقيد، وكم كنت سعيدا وأنا أراها حائرة لا تدرى ماذا تفعل، حتى قلت لها متهكما:
ـ هيا تصرفى كما علموك فى الكشافة
ـ سأتصرف يا ثقيل الدم
ثم عادت تقول باللهجة شبه الآمرة التى أصبحت تستفزنى:
ـ ورائى إلى الحديقة ومعك هذه وهذه
وأشارت إلى جريدة قديمة وقطعة من ورق الكرتون..
وفى الحديقة أشبعت قطعة الكرتون بالماء، ثم لفت بها اليمامة، ثم لفتها بالجريدة وأشعلت فيها النار، وبعد وقت فتحت قطعة الكرتون التى لم تحترق بفعل الماء، لنجد اليمامة بداخلها وقد نضجت على أحسن ما يكون، وعقابا لى التهمتها كلها إلا نثيرة صغيرة تركتها لى، ثم أشعلت سيجارة وجلست تدخن بتلذذ وتطلق الدعابات، ثم تضع ساقا فوق ساق ولا تهتم بالهواء يعبث بطرف فستانها، فعاد الضبع يؤزنى لأراودها عن قبلة.
ويبدو أنها قرأت على وجهى ما يفضح سريرتى، فأسرعت تلملم طرف فستانها وتكف عن دعاباتها، ليحل محلها صمت ثقيل، وحسبته صمت خوفها منى، وكنت واهما، فنظراتها لم تخل لحظة من ومضات الثقة، أما صمتها فكان صمت التفكير فى الانصراف:
ـ سأنصرف الآن
فوجدتنى أقول بصدق حقيقى وندم:
ـ آسف يا نغم
وببرود قالت:
ـ آسف على ماذا؟
فلم أجد إلا الكذب:
ـ آسف أن المكان هنا لم يساعدنى لأقوم تجاهك بواجب الضيافة
فردت بنفس البرود:
ـ لا عليك
ثم اختفى البرود من صوتها وحل محله المرح وهى تنظر للشمس الغاربة وتقول:
ـ آه لو أبقى هنا إلى الأبد، الهدوء هنا يخلب اللب حقا
ـ إذن أرجوك أن تبقى
ـ للأسف مرتبطة بمواعيد
ـ ولكنى سمعتك تؤجلين كل مواعيدك؟
ـ إذن سأبقى لوقت يسمح فقط بتدخين سيجارة
وكانت فرصتى الأخيرة لأراودها عن قبلة:
ـ نغم
ـ نعم
ـ أريد....
ولم أجرؤ.. عيناها الواثقتان وهى تنظر لى، وقوة شخصيتها الطاغية، منعانى أن أكمل.. فقلت:
ـ أريد رقم هاتفك
ـ لا.. لن نتواصل إلا عبر الفيسبوك، وهذا شرطى الوحيد لتستمر علاقتنا، هذا إن كانت ستستمر، وإن كنت أتمنى من أعماق قلبى أن تستمر
ثم إذا بها وهى تقوم، تمد لى يدها لأساعدها، فمددت لها يدى، ثم تعمدتُ أن أجذبها نحوى ليلفح أريج عطرها وجهى، ولكنها عند المسافـة الحرجـة قبـل أن يمس صدرها صدرى.. دفعتنى.. دفعتنى بنفس الحزم كالعادة، ودفعتنى ثانية وأنا أفتح لها باب سيارتى لتركب، وثالثا عند الكافيتيريا وأنا أفتح لها باب سيارتها لتركب، وهذه المرة دفعتنى بحزم وتأفف وضيق، لأقضى ليلتى بلا نوم من فرط التفكير.. بائعة هوى أم أستاذة جامعة.. أم الإثنان!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.