Zajelpublishing

شارك على مواقع التواصل

اللغة من حيث هي أصوات يعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم؛ واختُلف في نشأة اللغة: أهي من الأوضاع الإلهية؟ أم من الموضوعات البشرية؟
(١) فذهب ذاهب إلى أنها توقيف وإيحاء من الله.
(٢) وذهب آخر إلى أنها مواضعة وتواطؤ من الناس.
(٣) وقال ثالث: إنها مأخوذة من الأصوات المسموعات كزفيف الريح، وحفيف الطائر، وخرير الماء، وجعجعة الرحى، وأزِّ القِدر، وصهيل الفرس، ونعيق الغراب، وبغام الظبية، ومواء الهِر، وخشخشة السلاح، وصلصلة الحديد … وغير ذلك مما يطول تعداده. ولما اختلف اعتبار الصوت عند السامعين تولدت ألفاظ متقاربة النطق لمدلول واحد: كغطيط النائم وخطيطه، وقهقهة الضاحك وقرقرته وكركرته. ويمكن الجمع والتوفيق بين هذه الأقوال المتضاربة الظاهر، وذلك بأن يلقي الله في صدور بعض خلقه علومًا بديهية بأخذ أسامي الأشياء من أصواتها، ثم يحرِّك نفوسهم إلى الاصطلاح والتواطؤ على التسمية؛ ليسهل التفاهم فيما بينهم، وألفاظهم الموضوعة يتناقلها قوم، ويزيد فيها آخرون وهكذا حسب ما تقتضيه ضرورات التخاطب. وصاحب القول الثالث يقول: إن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع.
والسبب في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحده لا يستقل بجميع حاجاته، بل لا بد له من التعاون، ولا تعاون إلا بالتعارف، ولا تعارف إلا بأسباب، كحركات أو إشارات أو نقوش أو ألفاظ توضع بإزاء المقاصد، وأيسرها وأفيدها وأعمها الألفاظُ؛ أما أنها أيسر فلأن الحروف كيفيات تعرض لأصوات عارضة للهواء الخارج بالتنفس الضروري الممدود مِن قِبل الطبيعة دون تكلف اختياري؛ وأما أنها أفيد فلأنها موجودة عند الحاجة، معدومة عند عدمها؛ وأما أنها أعمها فليس يمكن أن يكون لكل شيء نقش، كذات الله تعالى والعلوم أو إليه إشارة كالغائبات، ويمكن أن يكون لكل شيء لفظ، فلما كانت الألفاظ أيسر وأفيد وأعمَّ صارت موضوعةً بإزاء المعاني.
ولا يجب أن يكون لكل معنًى لفظ؛ لأن المعاني التي يمكن أن تُعقَل لا تتناهى، والألفاظ متناهية لأنها مركبة من الحروف، والحروف متناهية، والمركَّب من المتناهي متناهٍ، والمتناهي لا يَضبط ما لا يتناهى، وإلا لزم تناهي المدلولات، قالوا: فالمعاني منها ما تكثر الحاجة إليه فلا يخلو عن الألفاظ؛ لأن الداعي لوضع الألفاظ لها حاصل والمانع زائل فيجب الوضع، والتي تندر الحاجة إليها يجوز أن يكون لها ألفاظ وألا يكون.
ولم تجئ اللغة مرة واحدة، بل جاءت تِباعًا سائرة مع الاجتماع الإنساني، وكانت مركَّبة في الأصل من مقاطع ساذجة؛ أي كلمات غير متصرفة ولا متغيرة الأواخر يُنطق بها دفعة واحدة مشابهة لأصوات الأشياء المنقولة عنها، وكانت تستعمل أسماءً وأفعالًا في آنٍ واحد ويعين المراد منها سياقها في الكلام وقرينة الحال. ثم دخل في أبنية هذه الكلمات حروف زوائد للدلالة على اختلاف المراد، وترقَّت شيئًا فشيئًا في التصرف وتغير الأواخر إلى أن بلغت ما بلغت من الكمال. وكانت اللغة كما قيل واحدة قبل تفرُّق بني آدم في أرجاء البسيطة وأقاصيها، فلما تفرقوا اختلفت لهجاتهم لاختلاف طبائع الأقاليم التي سكنوها، فإن كل إقليمٍ له مشاهدات ومسموعات ومؤثرات خاصة به؛ ومن هذا نشأ اختلاف اللغات.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.