Zajelpublishing

شارك على مواقع التواصل

في احتضار يوم ومولد آخر، بهتت أشعة الشمس بين الأغصان المتشابكة، في غابة خضراء مترامية فوق تلال تكريت، فارس يحمل رسالة مُنتَظرَة، يعدو بجواده، يطوي الأرض فتُهرع الغزلان، أخذت حوافر الفرس تنبشها بقسوة، لتثير نقعًا خلفها كالذي تُحدثه الجيوش. تقدم نحو قلعة واقعة على نهر دجلة، بُنيت على حجر عظيم من الجصِّ، تثلّث مدخلها في أعلاه، حولها تنبسط الأرض، ويتفرق النخيل حولها في مكانه، ويجتمع في ظلاله التي ذبلت برحيل مادة عافيتها. اقترب الفارس من مدخل القلعة، ثم نزل عن جواده ممسكًا بلجامه، تقدم نحو البوابة المفتوحة، حاملًا معه اليقين، ليشفي به عيَّ رجل جاء يسعى، لمّا أخبره الحراس بقدوم الفارس، رجل يرتدي خميصة تتحدث عن مكانته في علياء القوم، بشرته مائلة للحمرة، مستطيل الوجه واسع الجبين، تباعدت حواجبه، طويل أنفه، بارز الذقن تزينه لحية متوسطة تصدرت لرؤيتها ثلاث شعرات بيضاء، يتدلى شعره الأسود الناعم من قلنسوته. أسرع الفارس خُطاه لِما رأى من لهفة بادية وقال:
- مولاي نجم الدين أيوب، الرسالة من الأمير مجاهد الدين بهروز.
تناول نجم الدين الرسالة، وأذِن للفارس بالانصراف ثم شرع في قراءتها. الحروف طبيعتها صمّاء جامدة لا تعي ما تحمله من معانٍ، ولا تدري وقعها في نفس قارئها، وجه نجم الدين يكاد ينطق بدلالة ملامحه، التي اتخذت مجاري مختلفة من صدمة وحزن وغضب! قبض بيديه على الرّسالة في غيظ مكتوم، حيرة في نفسه لكربٍ غائب عن البال مفرّجه. استند إلى طرف البوابة بكفته اليسرى، جاءه نداءُ جارية من خلفه:
- مولاي.. مولاي، إن مولاتي تضع وليدها الآن.
يأتيه الخبر كنسيم الربيع، فلا هي تخفف صرّة الحزن، ولا تدفع فيح الخوف. أجهز وقع الرسالة على بشائر السرور، التي رافقت خبر الولادة، لم يدم ذلك الخليط العجيب من تلك المشاعر، البحث عن فرج للكرب الذي حلّ، يفرض استحواذه على عقل نجم الدين. لحظات من الإبهام المُطبِق، كرّرت الجارية المتوارية، خلف عمود خشبي أسفل المشربيات كلامها، علّه يخرج من صمته المريب، فأجابها بعد برهة:
- حسنًا، اذهبي وسألحق بك.
تبعها بخطواتٍ، آمرًا أحد الجند بإحضار أخيه أسد الدين، ثم توقّف مليًّا يقلب نظره بين الأبراج، والأسوار المنحرفة بانحراف محيط القلعة، يعلو ببصره ويخفضه، على الحديقة الغنّاء المحيطة بحصن القلعة، تعرّج سيره قليلًا بتعرج الأفكار في رأسه، ثم رفع بصره إلى المشربيات، بعدما سمع صراخ المولود، انتظم سيره نحو السلم، القائد للطابق العلوي في حصن القلعة، حيث فضاء ينتهي بنافذة تطلّ على النهر، حجرتان على اليمين ومثلهما على اليسار، ستائر حمراء مطرزة الأطراف بالأصفر الذهبي، تزين الفواصل بين الحجرات. عند كل باب من أبواب الحجرة مشعلان عن اليمين والشمال، عند الحجرة القريبة من النافذة يمينًا، يقف ولدا نجم الدين، شاهنشاه وتورانشاه، وخالهما شهاب الدين الحارمي، استقبل شاهنشاه والده بالبشارة:
- أبتِ، لقد أنجبت أمي ولدًا.
أومأ نجم الدين أيوب برأسه، مُخفيًا ما يدور بعقله، مفضلًا الصمت، خشية الكلام بلسان ما يستعِر من أوار داخله، مخفيًا تمنيه أن لو لم يولد وليده في هذه الأيام! بين جنبات القلعة وأركانها، تتردد عبارات التهنئة والحمد، وتنعكس لها الابتسامات على الوجوه، يتهيأ في دنياهم متّسعٌ جديد، لوافد من علم الغيب إلى عين الحاضر، لا يوجد لها صدى حقيقي على وجه نجم الدين، دخل على زوجته، وبجوارها الوليد الجديد، يملأ بصراخه الأرجاء، على سرير تتدلى الستائر البيضاء الشّفافة من أعمدته الأربعة، اقترب نجم الدين من موضعهما، نظرت إليه زوجته، ففطنت لِما به.
- ماذا بك يا نجم الدين؟
- لا شيء!
ظلّ صامتًا يسيرًا من الوقت، أخذ يقلّب بصره بين جدران الحجرة، المغطّاة بأنواع من المنسوجات، كأنما يوزع نظرات الوداع، على كل شبر وذراع، ثم فاء نظره إليها، وقال:
- أعلم أني لن أستطيع أن أخفي عليكِ، وكيف أخفي على نفسي يا كلّ نفسي؟
- لا تخشَ عليّ، فأنت تعلم أنّ نساء الكُرد كرجالها، لا تنال منهم المحن ولا الابتلاءات.
- نذير بهروز قد تحقق.
- أبعد هذه السنوات؟
- فعلة شيركوه، كانت الخاتمة لترقبنا هاته اللحظة.
- أظلَّ متذكرًا كلّ هذه السنوات، لأجل ماذا؟!
- لأجل أني أنقذت الرجل الذي يخشاه الفرنجة، دون سائر الأتابكة والأمراء!
- أحيانًا أرى أنك لم تفعل الصّواب.
- ماذا دهاكِ؟ أترين الصّواب في غير ما فعلتُ، مع الرجل الذي يسرق النوم من أعين الفرنجة؟!
- اهدأ يا عزيزي، لم أقصد إغضابك، اعذرْ جهلي فيما قلت.
- اعذري أنتِ انفعالي، ما حدث أفقدني التعقّل في قولي وفعلي.
- وماذا بعدُ يا نجم الدين؟
باستياء قال:
- لا أعلم.
أشاح بوجهه عنها خجلًا من قلّة حيلته، فقامت تُعاند الألم لتربّت على كتفه، ثم لم تلبث واستلقت كما كانت.
- أهناك مَن عجز عن الدعاء؟!
- لا، أدامكِ الله لي.
مال نجم الدين ليقبّل جبهة زوجته، كان لدى الباب من الخارج، طارقٌ أقرب إلى سواد البشرة، أجعد الشعر مهذّب اللحية، متوسط الأنف واسع العينين، عريض الحاجب والجبين، استأذن نجم الدين من زوجته، لعلمه بصاحب هذه الطرقات، قام فوجد الطارق أسد الدين شيركوه، المتلهف لرؤية المولود، جذبه نجم الدين أيوب من مرفقه، وسارا حتى انفردا بعيدًا عن الأعين، انتهى سيرهما تحت مشعل، بالممر المؤدي إلى سطح الحصن، أخرج نجم الدين الرّسالة من كُمّه، وهي متأثرة بقبضته، فألصقها بقوة على صدر أخيه، ليلتقطها، وأمره أن يقرأها.
لحظات، وفرغ شيركوه من قراءتها، ولم ينبس ببنت شفة!
ظل نجم الدين منتظرًا تعليق أخيه.
فصاح نجم الدين قائلًا:
- أفقدتَ القدرة على الكلام؟
- لا، ولكن أعلم جيدًا أنك لو كنت حاضرًا، لفعلتَ مثلما فعلتُ تمامًا.
- أنا لست مثلك، سيفي لا يسبقُ عقلي.
- أنت محِقٌّ، لكن لو كنت ناظرًا إلى تلك المرأة حينها وهي تستغيث بي؛ لأحفظ عِرضها من هذا المعتدي لقتلتَه أيضًا، وبدلًا من أن تشكر صنيعي حبستني! كنتُ أظنّ قدوم هذا المولود رقّق قلبك عليّ.
- حبسي لك لم أكن لأرتضيه، لكن كان لا بدّ منه، وما حدث قد حدث، فاستعد للخروج الليلة، سنستتر بالليل من الناس، وليفعل الله ما يشاء.
- سنخرج؟
- ألم تقرأ طلب بهروز مغادرتنا؟ أما ترى أنه لن يدفع عنا، ما يعلمه من شرور تجاهنا.
ترك نجم الدين أخاه يستعد للرحيل، ثم ذهب إلى أسرته فأخبرهم بنيته، أخذ يودّع مَن بالقلعة، وطفِق يجمع متاعه في عجلة؛ يسابق الفجر في البزوغ إلى الطريق حيث لا يدري، حتى أوقفه سيف والده، المعلق في غمده على الحائط، وطافت به ذكراه. صعب على النفس مفارقة ما ألفته، شقّ على نجم الدين مغادرته القلعة، رحيله سيكون هجرًا لذكريات قد نسجتها نفسه، مع أنفس محبيه وذكرى والديه.
في تلك الليلة خرج آل شاذي، تألف مسيرهم من نجم الدين على فرسه، تصحبه زوجته ووليدهما، ويشاركها ثلاثٌ من الجواري في عربةَ يجرُّها حصانان، وبجوارها ابناهما شاهنشاه وتورانشاه كلٌّ على فرس، واثنان من الخدم كذلك، وأسد الدين على جواد له، وزوجته وجاريتان من جواريه على النُّوق، وصهر نجمِ الدينِ شهابُ الدين الحارمي، وعشرة محاربين من خاصّة نجم الدين، كلٌّ على جواده.
أبت الرياح إلا أن تجعل الموصل قِبلتهم، وما إن لفظ بكلمة الموصل رفيقٌ من خدم نجم الدين، حتى نظر هذا الأخير إلى أخيه، فوجده يبادله نفس النظرة، ففطن كلٌّ منهما لما يفكر به الآخر، ثم قال نجم الدين:
- إلى الموصل إذن.
سار آل شاذي على أنوار المشاعل، يطوون الأرض من تحتهم، يستترون بالغابة تارة، ويتعرون بالفضاء أخرى، حتى بدأت طلائع النهار في محق فلول الليل، هاجس يراود نجم الدين، صراخ الوليد الجديد يثير جنونه، ويعطي لشيطانه السُّلطان على نفسه، كاد الإيمان يقف عند رأسه لما سيقترفه، وتوجّه قُبالة الهوْدج حيث المولود، وهمّ بإخراج سيفه من غمده، فرآه خادم له حظٌّ من الفقه، فقال:
- سيدي، نرى ما أنت فيه من التشاؤم بهذا المولود، لكن بمَ استحق ذلك منك، وهو لا ينفع ولا يضرّ، ولا يُغني شيئًا؟! فما يدريك لعلّه يكون ملِكًا عظيمًا له صيتٌ، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم!
بدا التأثر على نجم الدين، فأخذ يستغفر ربّه عمّا كان ينوي، خسأ شيطانه، ولكن تعاظم آخر في الفضاء بين التلال، على هيئة رجل ملثم لا يبدو لهم أنه من قُطّاع الطّرق، تتفاوت عضلات جسده في الظهور، يتعلق خنجره ببنده، ومن ورائه آخرون قريبون من هيئته، اعترض المسير، ولوّح بسيفه أمام الركب، ثم أخذ يصيح:
- والآن يا شيركوه مَن سيمنعك مني؟
توقف الركب، أشار نجم الدين لشهاب الدين الحارمي، أن يتولى الذود عن النساء، كان يفصلهم عن المهاجمين عشرون ذراعًا، تراصّ أسد الدين ونجم الدين، وولده شاهنشاه، والرفقاء المسلحون، بعدما ترجّلوا عن خيولهم، صاح قائدهم ذو اللثام الشريف، قائلًا:
- لا دخل لك بالأمر يا نجم الدين، تقهقر أنت وابنك هذا، وسلّمنا شيركوه.
تقدم شاهنشاه غير مُبالٍ بنداء أبيه، أحكم القبضة على مِقبض سيفه، وقال:
- إذن، عليك أن تتخطاني أولًا.
سخر منه قائدهم، ثم قال:
- لك ما أردتَ.
اندفع أسد الدين، فأوقفه نجم الدين بيده، لم يحوّل نظره عن قائدهم، الذي تبعث هيئته عقل نجم الدين على التفكير، علّها توافق صورة في عقله، تقدم شاهنشاه نحو غريمه، ظلا يدوران حول بعضهما، يترقب كلٌّ منهما الفرصة لضرب الآخر، بادر الغريم بضربة سيفٍ، تفاداها شاهنشاه، وردّ شاهنشاه الضربة، وصدّها الغريم، ظلا هكذا حتى تمكن الغريم من أن يجعل شاهنشاه، يولّي ظهره لباقي الملثمين، فركله بقدمه، ليقع في قبضتهم، ثم التفت إلى نجم الدين، وقال:
- ضعوا أسلحتكم جانبًا وإلا...
- نفعل.
بعد ما وضعوا أسلحتهم على الأرض، تقدم شيركوه نحو الملثمين، وبعدّ ثلاث خطوات، مرقت سهامٌ من جهة هودج للنساء، فألقت بعض الملثمين أرضًا متأثرين بجراحهم، استغل شاهنشاه الارتباك الحاصل، خطف من أحدهم سيفه، وأخذ يقاتل، استعاد نجم الدين سلاحه، وألقى لشيركوه سيفه، تقدموا، واشتبك الجميع، ظلت السهام تقوم بدورها، حتى أعجزت المهاجمين، تقدم شيركوه نحو قائدهم المطروح أرضًا، وكشف اللثام عن وجهه، ودنا منه، وقال:
- لن أصنع بكَ ما كنت تنوي فعله معي، انجُ بنفسك ولا تلحق بي، والأفضل لك أن تضمّد جراح رجالك، فهم لا ذنب لهم أن يموتوا بسبب حماقتك، وحماقة أخيك من قبلك.
فسأله نجم الدين عن هويّته، فأجاب شيركوه:
- إنه مساعد مجاهد الدين بهروز، وأخو المقتول إيّاه.
أسفر ذلك القتال عن جرح بليغ لشاهنشاه، وجروح خفيفة لبعض الرفقاء، أقاموا بعض الوقت لمداواة الجروح، واستعادة الأهبة لمواصلة السير.
مئة وواحد وأربعون ميلًا، قطعوها في طريقهم إلى الموصل، تابعوا المسير في يوم جديد، يشهد مولدًا آخر لهذه العائلة، حتى تراءت لهم قلعة الموصل. قلعة عظيمة، ينتظمها سور عتيق البنية، مشيد البروج، على ارتفاع خمسة وسبعين قدمًا، من مستوى مياه نهر دجلة، الواقع على بعد مئة وخمسين قدمًا من القلعة، تقدّم الركب، حتى بلغوا السور الأتابكي للمدينة، فدخلوها من باب العماد، واجتازوا السور الثاني للمدينة، السور العقيلي، إلى أن وصلوا للقلعة، قلعة يحيط بها سور محكم البنيان، يفصل بينها وبين البلدة شارع متسع من أعلى البلد إلى أسلفها، يحيط بها خندقٌ، يفصلها عما يجاورها من الأراضي.
توجه نجم الدين إلى الحراس، فألقى السلام، وقال:
- هل لي بمقابلة الأتابك؟
- معذرة، الأتابك تحرّك منذ قليل على رأس الجيش.
- إلى أين؟
- يكفيك ما علمته.
- شكر الله لك!
رجع نجم الدين إلى أهله، وقد مكثوا بالقرب منه، في أثناء إبلاغهم الخبر، أقبل رجلٌ يفوق نجم الدين طولًا، قويّ البنية، بشوش الوجه، خفيف اللحية، يرتدي قلنسوة معدنية، أحاطت بها عمامته، ويلبس خميصة، قبل أن يكمل خطواته نحو الحارس، التفت، وقال:
- نجم الدين؟!
رفع نجم الدين رأسه، فتلاقت أعينهما، بدت في عيني الرجل دهشة، ونجم الدين لا يُبالي، فقال الرجل:
- ألا تتذكرني؟
- معذرة!
- قد لا تتذكرني، لكن لا ينبغي لأحد ينعم بظلّ الأتابك، أن يُنكر فضلك!
- يا رجل، قد أرهقني الفكر وغيّب عقلي، لا أفهم ما تقول.
- أنا يا سيدي إبراهيم بن طَرغُت، والي بانياس، كنت حاضرًا كسرة الأتابك، أمام جيش الخليفة منذ سنوات، ونعِمتُ بالحياة مجددًا، لمّا يُسرت لنا سبل النجاة.
ظل نجم الدين معقود اللسان، لا يدري ماذا يقول، أردف إبراهيم:
- تعال في ضيافتي، حتى يعود الأتابك منصورًا إن شاء الله.
- لكنّ أهلي معي كما ترى.
- على العين والرأس، تفضلوا جميعًا.
فاستدار ابن طَرغُت إلى الحراس، وقال:
- احملوا عن مولاكم نجم الدين متاعه، وزاد أهله، ورافقوهم حيث ضيافتي، ووفّروا لهم مَن يقوم على خدمتهم.
اندهش الحراس، وأخذوا يتبادلون النظر، لم يمنعهم الفضول من امتثال الأمر، كان ذلك بمثابة البشارة لآل شاذي، رافقهم ابن طَرغُت والحراس إلى داخل القلعة، أخذ نجم الدين أثناء سيره، يقلب بصره في أبنية القلعة، برج عالٍ وحصن ومشاجب ومخازن للعتاد، التفت إليه ابن طَرغُت وقال:
- إن لم تمانع، سأقضي معك بعض الوقت، أتناول فيه معك بعض أخبار الأتابك، فلا شك عندي أنه سيحفل بك كثيرًا، عند عودته إن شاء الله.
- بالطبع لا أمانع.
- جيد، أستأذنك فقط أُبلغ وزير الأتابك بقدومي، وأعطيه خبرًا بحلولك الُمشرّف لنا.
- تفضل.
دمعت عينا نجم الدين فرحًا مما لقي، أول ما سأل كان عن مكان ليتوضأ، أمر جميع أهله بصلاة شكر لله، منهم من توضأ معه، ومنهم من كان محافظًا على وضوئه، من صلاتهم في السفر، منهم مَن تعذرت صلاتها من النساء، دخلوا إحدى حجرات القلعة، ووضعوا المتاع، أسلموا أجسادهم إلى الفرش، وناموا.
بقي نجم الدين متيقظًا هو وأخوه خارج الحجرة، وظلّ نجم الدين بالطُرقة، واقفًا ينظر عبر زجاج نصف شفاف، مزخرف بالألوان، لم يتحول عن وقوفه، إلا لما ربّت أسد الدين على كتفه، وقال:
- ما الذي يشغلك يا أخي؟
تحول نجم الدين بجسده إلى أخيه، وتنهد، ثم قال:
- لن نبقى هنا في القلعة طويلًا، علينا أن نبتاع بيتًا هنا.
- أثمة قلق يساورك؟!
- لا أرضى أن يكون إكرام الأتابك لنا، جزاءً لما فعلناه معه من قبل، ولا أتمنى أن يساوره هذا الظنّ.
- لكن ما حدث لنا سببه ما فعلناه معه!
احتدّ نجم الدين في نبرته، لمّا علا صوت أخيه، وقال:
- ولمَ فعلناه إذن؟
أطرق أسد الدين، وتابع نجم الدين:
- مَن لجهاد الفرنجة غيره؟ قل لي مَن؟
سكت نجم الدين هنيهة، ثم أردف:
- يتحتم علينا الآن أن ندبّر مُستقرًا ومُستودعًا.
- سأذهب وأقوم بالأمر.
سلك أسد الدين نهاية الطرقة المؤدية للخروج، لحظاتٍ، وسمع نجم الدين وقع خطوات خلفه.
- هل تسمح لي؟
التفت نجم الدين نحو صاحب الصوت، وقال:
- تفضّل.
تقدم صاحب الصوت، رجل في حُلّة الوزراء، يعادل في طوله نجم الدين، متوسط البنية، كثّ اللحية، يرتدي طيلسانًا، لا تفارق وجهه الابتسامة، تقدم بخطواته نحو نجم الدين، سلّم عليه وقال:
- مرحبًا بك يا نجم الدين.
- سلمت.
- أنا وزير الأتابك، بهرام.
ابتسم نجم الدين وقال مازحًا:
- سهل علي أن أقرأ اسمك من أكمام حلّتك.
تبسم الوزير ضاحكًا من قول نجم الدين، في هذه اللحظات تراءى لهما ابن طَرغُت، انضم إليهما، وساقتهم أقدامهم إلى الفناء، أعدّوا مجلسًا توسطه طبق معدني تزينه الفاكهة، جلسوا على الحشايا الدائرية، وتبادلوا أطراف الحديث، على استحياء من ضوء النهار المودّع، وكرّة ظلام الليل بعد فرّته، تطرق حديثهم إلى ذكر الأتابك وخروجه، فقال نجم الدين:
- عساه خيرًا، إلى أين توجه الأتابك؟
دنا أحد الحراس من الوزير، مما اضطره للاستئذان، عاد نجم الدين وابن طَرغُت إلى حديثهما، فقال ابن طَرغُت:
- الأمر جدّ خطير، وصلت الأنباء بتحالف الامبراطور البيزنطي مع فرنجة أنطاكية والرّها، توجهت جحافلهم إلى حلب، وأسقطوا في طريقهم كلًا من: بلاط وبزاعة، وما صوّره الفارّون ووصفوه، من جرائم هذا التحالف بالأهالي هناك، استفز الأتابك جدًّا، كنا بحمص وتأهبنا للتحرك إلى دمشق وقتها، لكن ما حدث جعل الأتابك يغيّر قِبلته.
- وهل للأتابك طاقة يدفعهم بها؟
- الأتابك كما علمت من الوزير، أرسل القاضي كمال الدين الشهرزوري، إلى السلطان مسعود لطلب المساعدة.
- لا بد وأنّ الأتابك يعي جيدًا، أنّ السلطان إن تمكن من حلب ملكها!
التفت الاثنان فور سماعهما صوت الوزير:
- فما كان قوله إلا أن قال: "وحلب إن ضاعتْ، فعلى أي حالٍ المسلمون أولى بها من الكفار!".
قالها ثم اقترب منهما، ووضع يده على كتف نجم الدين، ثم قال:
- والآن حيّ على الصلاة، فالمغرب قد آن أوانه.
قاموا لتلبية النداء، توجهوا إلى المسجد للصلاة، بعد الانتهاء اقترب ابن طَرغُت من نجم الدين، وسأله عن أخيه فأخبره، فقال ابن طَرغُت:
- لن يجد حتى خُفي حُنين ليرجع بهما!
- لمَ؟
- الأتابك حذر جدًّا من أن يسكن الموصل وافدٌ جديد، الأمر الذي سيُعجزكم عن بلوغ مرادكم، إلا بتزكية وشفاعة من الوزير بهرام.
- ليكن إذن.
جاء شيركوه من أقصى المسجد يسعى نحوهما، أخبره أخوه بخلوّ يده من تمام أمره، اتفقا على إبلاغ الوزير بحاجتهما فقضاها، منزل ذي ثلاثة طوابق، ثلاثي الحجرات في كل طابق، نوافذه نصف شفافة، تطل فتحاتها الأساسية على فناء البيت الداخلي حيث البئر، وسلالمه بالخارج من طابق إلى طابق.
طفِقوا في شراء أثاثٍ جديد، يشغل فراغ المنزل الواسع، تردّد عليهم المكارية في نقل الأمتعة، وجدوا سكينتهم المفقودة في منزلهم الجديد، مرت الأيام، ولم تخلُ من ترددهم على القلعة، وكذلك تردد الوزير، وابن طَرغُت عليهم، حتى جاء يوم، في صبيحته نُفخت الأبواق، وعلا صوت مؤذن الموكب: "الأتابك عماد الدين زنكي بن آق سنقر".
مرّ الموكب مرفرفَ الرايات السوداء، بلغ قدوم الأتابك أهل الموصل، وجاء مع غروب الشمس رسولٌ من الأتابك، يدعو آل شاذي إلى القلعة، غرُب مع شمس يومهم قلقُ نجم الدين، من التفكير فيما سيقرره الأتابك في أمرهم. ذهب نجم الدين، وأسد الدين، وشاهنشاه، مرتدين عمائمهم، وعباءاتهم المزينة بالأشكال الهندسية المتداخلة، دخلوا القلعة ورافقهم أحد الحراس، لما بلغوا حجرة الأتابك ووقفوا ببابها.
حجرة واسعة يقسمها بالكامل الموزايكو، الذي يحمل بصمات الفنّ الإسلامي البيزنطي ببوابة، للنصف الآخر من الحجرة، بوابة خشبية تتخللها الزخارف من وريدات وأشكال مجنحة، على الحوائط جلود للسّباع، ورايات مطرزة بآيات من القرآن، في مقابل باب الحجرة نافذة، نفذ غزو الشمس للحجرة من قبلها، يتوسط ما بين النافذة والباب خِوانٌ كبير، يقف عند طرفه رجلٌ معتدل الطول، أسمر اللون، مليح العينين، وخط الشيب لحيته، وجهه ناحية النافذة، قد شبك يديه خلف ظهره، أحاطت العمامة بقلنسوته، يرتدي حلّة من الصوف، أطرافها من الفرو، يجرّ ذيلها أرضًا، مزينة يتوسط ظهره نسرٌ ذو رأسين، على كمه الأيمن شريط أسود، تبرز عليه كتابة باللون الذهبي، والأيسر كذلك، على الأيمن ما نصه "الأتابك عماد الدين" والأيسر "زنكي بن آق سنقر"، التفت الرجل، وانتظر دخول الضيف، قفل الحارس عائدًا، ودخل نجم الدين الحجرة مخلِّفًا أخاه وولده خارجها، نظر نجم الدين إلى وجه الأتابك، فبادله نظرته، وفتح ذراعيه، وقال:
- نجم الدين.
- مولاي الأتابك.
تقدما فتعانقا، تطلع الأتابك بنظره خلف نجم الدين، عساه يجد أهله برفقته، فقطب جبينه، وقال:
- أين باقي أهلك؟
- في الخارج.
بدت لائمة نجم الدين على وجه الأتابك، الذي نادى الحراس ليُدخلوا شيركوه، وشاهنشاه، ثم التفت إلى نجم الدين في عتاب:
- ويحك! أظننتني مُنكرًا لصنيعك معي؟!
خجل نجم الدين منه، حتى كاد يغرق في ملابسه، وضع الأتابك كلتا يديه على كتفي نجم الدين، وقال في حنو:
- أيوب، دعني أجزيك أجر ما صنعت معي، ومعروفَ ما قدمت لي.
- واللهِ ما صنعتُ معك ابتغاء أجرٍ أراه في الدنيا، فكانت لله، والله لم يضيّعني، فجزاك الله عني خيرًا.
- يا رجل، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، قد بلغني ما قام به بهروز إزاءكم، لعل ما تكرهونه هو هو ما ترغبون به، لعله برداء الابتلاء قد التحف!
- هو ذاك إن شاء الله، هو ذاك.
دخل شيركوه وشاهنشاه، دعاهم الأتابك إلى المائدة، بعدما عمُر الخوان بالطعام، جلسوا وتناولوا طعامهم، أخذوا يتبادلون أطراف الحديث، انتهت تلك الضيافة بخبر سعيد، طار به نجم الدين حتى جنّ الليل، أخذ يتسامر مع زوجته؛ يخفف عنها من ألمها، ويداعب طفله، قالت:
- أراك سعيدًا على غير عادتك، منذ رحيلنا من تكريت، ووفودنا إلى هنا، أسعدني معك.
- لو لم تتعجلي لأخبرتك دون طلب منك، الأتابك أقطع لنا إقطاعًا، بجواره هنا في الموصل، لننصب فيه عُمُد الخيام لحياتنا الجديدة.
- الحمد لله، والله إني لأشعر بأنّ رحيلنا ووفودنا، لشيء دبّره الله لنا، فالله ليس مُضيّعًا من اتقاه، فالله الله في أبنائنا.
- صدقتِ يا عزيزتي، أعاننا الله على تربيتهم.
- آمين، نم إذن حتى تقوى على أعباء الغد.
- سلمتِ يا نفسي، سأقوم لأطفئ السراج.

*******

نادى منادي الأتابك فجرًا، لاجتماع القادة في دار المملكة، التي تجاور مسجد الموصل الجامع، متينة الأسوار، شامخة في بنايتها، تبرز منها الساقطات التي يقيم بها الرماة، الذين يتبادلون الأدوار في الرواح والمجيء على الأسوار، تتوسط الدار بناية عظيمة مستدير سقفها، فيها انعقاد الاجتماعات، يفصلها عن الأسوار مخازن للأسلحة، على السطح ترفرف راية الشهادة بصحبة حراس يتناوبونها، متدلٍ عليها شعار الدولة السلجوقية، يصنع تدجيجها بالجنود هالة، تعكس هيبة الأتابك في نفوس متأمليها.
اجتمع الأتابك وعدد من خواصّه، على منضدة مستطيلة اشتملت على خريطة، تراصّت عليها قطعٌ كقطع الشطرنج، تحمل أهلّة وصلبانًا مختلفة، على يمين الأتابك نصير الدين جقر نائبه في الموصل، وزين الدين علي بن كُجك، والقاضي كمال الدين الشهرزوري، والحاجب صلاح الدين الياغسياني، وعلى اليسار نور الدين محمود، ابن الأتابك زنكي، على مقربة من أبيه، وإبراهيم بن طَرغُت والي بانياس، وأبو بكر الدبيسي، كل منهم مرتديًا لأمته وسلاحه. دخل عليهم نجم الدين، وأخوه أسد الدين، ليقطعا حبل الشكّ بسيف اليقين، بعدما جاءهما منادي الأتابك بعد صلاتهما الفجر، أخذا ينظران إلى بعضهما البعض، وإلى لباسهما العادي الذي لا يناسب المقام، رحب بهما الأتابك، وأجلسهما ليشاركا في الاجتماع، فقال نجم الدين:
- سيدي الأتابك... لو أخبرتنا بوقت أبكر!
ثم أشار إلى لباسه، فابتسم الأتابك ثم قال:
- لا عليكما.
نظر الأتابك إلى الحضور، وقال:
- بسم الله، قد علمتم ما كان، من أمر تحالف بيزنطة والفرنجة، ولا يزال بقيّة من الفرنجة في إقليم شيزر، ولا زال أيضًا في أيديهم بعض ممتلكاتنا: بزاعة، والأثارب، لن نكتفي إن شاء الله باستردادهما، بل سنسترد منهم ما كان حقًا للمسلمين من قبل.
أمسك الأتابك بعصاه، وأشار بها على الخريطة، من إقليم شيزر إلى كفر طاب، وقال:
- هذه مهمة صلاح الدين الياغسياني، مطاردتهم، وفتح كفر طاب.
- أمرك أيها الأتابك.
أشار إلى مدينة صور، وقال:
- الإغارة على صور، مهمة إبراهيم بن طَرغُت.
- أمرك أيها الأتابك.
ارتكز الأتابك بعصاه على موقع الموصل، ثم قال:
- الشرطة والحسبة يحتاجان إلى تنشيط دائم، داخل الموصل وخارجها بقليل، سيتابع ذلك كُجك ومحمود، في صحبة القاضي كمال الدين.
بعد الانتهاء، مال الأتابك على قائده أبي بكر الدبيسي، وأسرّ إليه بحديث، ولما فرغ الأتابك التفت إلى الحضور، قائلًا:
- استعدوا، ستتحركون حالًا.
همّ الجميع بالمغادرة، أوقف الأتابكُ أسدَ الدين، وقال:
- هناك مهمة منوطة بك مع أبي بكر الدبيسي، سِر معه تحت إمرتِه حيث أمرتُه.
- أمرك أيها الأتابك.
انصرف الجميع عدا الأتابك ونائبه جقر، قال جقر بعد تردد:
- هل لي أيها الأتابك، أن أحيط علمًا بمغزى طلبك لنجم الدين، وأنت لم تسند إليه أي مهام؟!
نظر إليه الأتابك في صرامة، وقال بعدما اختفت آثارها عن وجهه:
- لا أعلم مبررًا لسقطتك تلك، فأنت أعلم الناس بأني إذا أردت إحاطتك بشيء، أحطتك دون طلب منك، غير ذلك لا.
- اعذرني أيها الأتابك لقد...
- لقد تأخرت يا جقر، عمّا أسندت إليك.
- وما هو أيها الأتابك؟
- سِر في طلب أهالي مَن حسِبناهم عند الله شهداء، واجمعني بهم اليوم.
- أمرك.
خرج جقر من الباب، فقابله محمود بن زنكي، الذي عاد إلى أبيه وحيّاه، تقدم محمود نحو أبيه، فبادره أبوه مبتسمًا، وقال:
- لا بدّ أنك أجلّت طلب استفسار، حتى تنفرد بي.
- دائمًا ما تكشفني يا أبتِ.
- هاتِ ما عندك.
- نجم الدين...
قاطعه الأتابك قائلًا:
- يومًا ما يا محمود، ستكون مكاني هنا، لن تجدني باخلًا عنك بشيء تود معرفته، لكن أريدك أن تفكر جيدًا، قبل أن تبدي استسلامك للحيرة، أعلم أنّ حفاوتي بنجم الدين حيّرتكم جميعكم.
- هو ذاك يا أبتِ.
- دعني أحلّ نفسي من ديْني له بحياتي، ما يعلمه رجل مسؤول في مكانه كنجم الدين من أمري، ويصنع معي ما صنعه، علام يدلّ هذا؟
لم ينطق نور الدين محمود، فأردف الأتابك:
- يدلّ على فقه ذلك الرجل لمآلات الأمور، لم يأبه بنفسه، وبما يجنيه من فعلته، آثر مصلحة جهادنا على نفسه ومكانته، إنه حقًّا فطنٌ وسياسي بارع.
- أهذا يكفي لشهادتك له بذلك؟
- كان يشهد الجميع لوالده بحسن السياسة، وشدة البأس، لقد ورث نجم الدين حسن السياسة عن أبيه، وورث شيركوه شدة البأس، وإن لم يكونا كذلك، لم يكن ليستعملهما مجاهد الدين بهروز أبدًا.
- الآن فهمتُ يا أبت.

*******

لحق أسد الدين بنجم الدين، فأخبره بما أُنيط به ثم غادر، رأى نجم الدين ابن طَرغُت، مسرجًا فرسه، فتقدم نحوه، وقال:
- فتح الله على يديك يا أخي.
- آمين، وإياك يا نجم الدين.
- أتعلم ما الذي آل إليه أمر تحالف الفرنجة وبيزنطة؟
- نعم، تحالف كهذا، كفانا الله شرّ قتالهم بالوقيعة بينهم، تحالف هشٌّ يجمع أضدادًا، وهكذا بدهاء الأتابك خذلهم الله، وطلبوا هدنة.
- وحلب؟
- حلب لا زالت تحت إمرة سوار بن أيتكين، وقد تعامل القاضي كمال الدين جيدًا، مع أمر حملة السلطان، وأثناهم عن التقدم.
- الحمد لله.
- أستودعك الله.
تعانقا، وامتطى ابن طَرغُت وجنوده الجياد، وتحركوا صوب بانياس.
مع طلائع اليوم الجديد، والموكب الذي يغزو السماءَ أنوارُه، تقلّد شيركوه مهمّته، واتجه مع أبي بكر حيث الجنود، لتسلم العتاد من خيمة، سار إليها بلباس البدو.
- أبا بكر، لِمَ لمْ يسمح لنا الأتابك، بإحضار عتادنا الخاص بنا؟!
- الأمر من السرّية بمكان، يا شيركوه.
- لهذه الدرجة؟!
- ستعلم إن كان الأمر يستحق أم لا.
استعد الجنود، ساروا حيث أُمروا، وعبروا الجانب الآخر من دجلة، لاح لهم من بعيد جمعٌ من الرجال الملثمين، باغتهم أبو بكر بجنده، فأصاب الجمع الفزعُ، حتى هُرعوا تاركين عُدتهم وعتادهم، لم يسلم من القتل منهم غيرُ قليلٍ، أفلحوا في الهروب، دنا أسد الدين من أحد قتلاهم، وكشف عنه اللثام، كرّر ذلك مع غير واحد من القتلى، والنتيجة في كل مرة واحدة: ملامح إفرنجية!
غنم المسلمون دون فقد أحد منهم، أمرهم أبو بكر بالانتظار، فدفع الفضول الكلمات من لسان شيركوه، فقال:
- لمَ علينا الانتظار؟
- لا تتعجل، لا بد أن نختبئ عن العيون، تفرّقوا.
لم يدم الانتظار طويلًا، حتى لاح من بعيد رجلٌ بثياب جند المسلمين، خرج الجند من أماكنهم وحاصروه، أمره أبو بكر بالاستسلام والرجوع معه في سلام، فأبى الرجل وأشهر سيفه واشتبك مع الجند، قتل من المسلمين واحدًا فظهر له أسد الدين، صافح سيف شيركوه عنق الرجل، ولم يقنع إلا بمصاحبة رأسه.
عاد الجند إلى القلعة، استقبلهم الأتابك وكان يرافقه نجم الدين، أخبروا الأتابك ما كان من أمر الرجل، فالتفت الأتابك إلى شيركوه قائلًا:
- عودًا حميدًا يا شيركوه، أرى في عينيك الفضول، لتعلم مَن الرجل الذي قتلته.
- دامت لنا فراستُك يا سيدي.
- سلمت، هذا خائنٌ شرى دينه بحفنة من جيف الدنيا، كان عينًا للفرنجة بيننا، وكاد يمهد لهم الطريق للتوغّل أكثر، ويكفيك علمًا لتدرك خطورة الرجل، بأنّ الجمع إياه كانت مهمته الخاصة، هي حماية ذلك الخائن!
تمتم أيوب:
- اللهم يا مقلّب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك.
أمّن على دعائه الأتابك وأخوه، ثم تركهم الأتابك، والتفت نجم الدين إلى أخيه مستفسرًا:
- إن كان الأمر كذلك، فما الذي دفع الرجل للاشتباك؟ فلربما نجا!
- يا رجل، هو يعلم جيدًا أنّ الأتابك لن يُفلته أو يرحمه، أما رأيت الأتابك إذا ما امتطى جواده، تخلف عنه الركبان، ولم يجرؤ أحد على تخطيه أو مساواته؟!
- رأيتُ، رأيت.
شرد نجم الدين قليلًا، وجعل يبتسم، فأثار عجب أخيه، فسأله:
- علامَ تبتسم يا أيوب؟!
- على تقدير الله الحكيم، أتعلم ما معنى أن نكون في خدمة الأتابك؟
سكت شيركوه برهة، وأعمل فكره ثم ابتسم، نظر لأخيه، وقال الاثنان في صوت واحد مسموع:
- سنجاهد ضدّ الفرنجة!
ضحك الاثنان وعلا ضحكهما، وختم نجم الدين ضحكاته:
- إن شاء الله.
- ستتحقق أمنيتنا أخيرًا، يا نجم الدين.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.